أحمد ملاح: في مقاربة فلسفة الدين والتأويل والعقلانيَّة نحو استعادة إيجابيَّة للرّشديَّة
فئة : حوارات
د. إسماعيل نقاز: سعيد أن أرحّب بكم دكتور أحمد ملاح في هذا الحوار.
د. أحمد ملاح: شكراً لكم على إتاحة مثل هذا الفضاء الحواري الفكري.
د. إسماعيل نقاز: أودُّ في البداية أن تقدّموا لنا محطَّات من مساركم الأكاديمي والعلمي.
د. أحمد ملاح: أشتغل أستاذاً باحثاً، أستاذ التعليم العالي، جامعة وهران، ولي عدَّة كتب صادرة وتحت الطبع ومقالات من بينها: المختصر في تاريخ الفلسفة الغربيَّة من طاليس إلى باشلار (2006). المختصر في تاريخ الإبستمولوجيا (2010). الأمير عبد القادر المتصوّف والمصلح (2007). البُعد الفلسفي للنقد المنهجي الرشدي، قيد الطبع.
د. إسماعيل نقاز: كيف تنظرون بصورة مجملة التوجُّه بكثافة نحو الاشتغال على فلسفة الدين، والقراءة التأويليَّة المعاصرة وتجديد الخطاب الديني؟ وهل هناك مبررات فعليَّة لذلك؟
د. أحمد ملاح: أعتقد أنَّ الفكر الإسلامي ماطل كثيراً قبل الخوض في هذه المسائل الحسَّاسة، ربَّما الأمر يرجع إلى ما يحيط بهذه المسائل من المخاوف التي ترهن الحريَّات. أمَّا اليوم فمن الضروري أن نخوض ـ وبسرعة ـ في هذه المسائل، هذا إن لم يكن قد فات الأوان. إنَّ الفكر الإسلامي حبيس الفكر الأشعري الذي استقبح العلوم العقليَّة واعتبرها كفراً وزندقة، ولمَّا استولى على الأذهان فإنَّه أغرقها في التقليد المقفل. واليوم، فإنَّه حري بنا أن نعود إلى فلسفة الدين لا لاستدراك ما فات، ولكن لنعمل بجد على البحث في تراثنا الفكري، ونتحرَّى ما قدَّمه أعلام الفكر وهم على دراية بما أوجبه الدين. فحين يكتب ابن رشد بلهجة شديدة الثبات "إنَّ الشرع قد أوجب النظر بالعقل" (فصل ص 25) فهذا معناه أنَّ فلسفة الدين أمر لا نقاش فيه، بل يجب الإسراع في مزاولة هذا البحث واستنباط الكثير من الكيفيَّات التي هي بحاجة إلى تفعيل. إنَّ الحياة المعاصرة تتميز بالسرعة في الإبداع وبانعكاساتها السلبيَّة على الإنسان ممَّا يرهن مستقبل الإنسانيَّة. لذلك فإنَّ فلسفة الدين عليها أن تترقَّب هذا التطوُّر المتسارع لتجد له "الدرع" التي تحفظ الإنسان من ضياع إنسانيته.
إنَّ فلسفة الدين يجب أن تعمل على أن تكون عامل تطوُّر لا ركود، وعامل تنشيط لا خمول. وإذا أرادت النجاح عليها أولاً أن تحدث ثورة في ميدانين حيويين: السياسة والتعليم. إنَّ التغيير ليس معناه التهليل والتصفيق والصخب الشعبي، ولكن صناعة الفرد اليقظ الذي يتميَّز بخصوصيَّة فكريَّة متوقدة تنبذ التسلط والعنف، وتستأصل من الذات روح الاستبداد الراكنة فيها. إنَّ فهم الدّين على شكله التقليدي أضرَّ بالأمَّة وبالفرد، فالأسلوب السياسي فيه يقوم على تمجيد الحاكم وإحاطة شخصه بهالة من التقديس، والأسلوب التربوي فيه يقوم على الحفظ الآلي المغلق الذي يجمّد الذهن ويحجزه في دوامة من التخمينات والابتهالات التي تبارك التباهي بالذات وتبعد العقل كلَّ البعد عن البحث النظري الخصب. إنَّ فلسفة الدين بحاجة إلى منهجيَّة إجرائيَّة جريئة تصنع العقل اليقظ الذي ينير طريق الأمَّة نحو المستقبل. إنَّ التأخر المفزع الذي تعانيه الأمَّة العربيَّة الإسلاميَّة ناجم عن عدم إدخال هذه الأساليب المنهجيَّة الجريئة التي تخرج الأمَّة من سباتها الدوغمائي.
د. إسماعيل نقاز: قبل الولوج إلى فلسفة ابن رشد، بحكم تخصُّصكم في فلسفة ابن رشد، أين تضعون الفيلسوف الحفيد في مسار الفكر الإسلامي؟ هل هو إضافة نوعيَّة حقيقيَّة في الفكر الإسلامي والإنساني؟ أم مجرَّد شارح لفلسفة أرسطو كما يعتقد البعض؟
د. أحمد ملاح: إنَّ كلمة الشارح التي أطلقها الفلاسفة اللاتينيون على ابن رشد ليست كلمة صادقة، إنَّها تدلُّ على قراءة سطحيَّة مبتذلة تحمل كثيراً من الأحكام القبليَّة الجاهزة. إنَّ ابن رشد لم يشرح أرسطو، بل أعاد بناء منظومته الفكريَّة وأثراها بالشرح والتعليق، وما يستدعي وقفة تأمل هو أنَّ الفيلسوف لم يعرف اليونانيَّة واعتمد في بنائه للمنظومة على ترجمات عربيَّة مهلهلة غامضة تحمل أخطاء في مضامينها من المفاهيم والدلائل والأسماء. وقد نوَّه إسحاق قوسيوس بهذا الإنجاز لمَّا قال عن ابن رشد: "إنَّك نفذت إلى روح أرسطو مع جهلك اللغة اليونانيَّة، فماذا كنت تفعل لو كنت تعرف اليونانيَّة"؟ إنَّ ابن رشد علاوة على كونه فيلسوفاً، فهو أيضاً معلم، فقد علم فلاسفة الغرب اللاتيني ما كانوا يجهلون من تقنيات البحث النظري. فالتحليل الفلسفي والنقد المنهجي ومنهجيَّة البحث، أساليب أعدَّها الفيلسوف لأبناء ملته دون أن يعلم أنَّها ستكون من حظ الغرباء عن ملته.
إنَّ المنظومة العلميَّة الكبيرة التي أنجزها ابن رشد إنَّما الغاية منها تعليم المسلمين وتزويدهم بترسانة من القواعد العلميَّة التي تصنع التفكير الجاد والمثمر. ولإنجاح هذه العمليَّة التعليميَّة أبدع الفيلسوف منهجيَّة عمل تحمل صبغة إسلاميَّة خاصَّة، منهجيَّة مرنة تُهيّئ الجو التعليمي الملائم، حتى يتكيَّف معها القارئ ويتمثلها أحسن تمثل.
د. إسماعيل نقاز: لا شكَّ أنَّ كتابات ابن رشد تحمل توجُّهاً عميقاً في مراجعة كثير من أدبيات الفكر الإسلامي والفلسفي، ما المحاور الكبرى التي اشتغل عليها ابن رشد في مشروعه الفكري والفلسفي؟
د. أحمد ملاح: من خلال أعماله الفلسفيَّة التعليميَّة، عمل الفيلسوف على ترسيخ نمطين من التفكير العلمي.
أولاً: تعليم المنطق، يرى الفيلسوف أنَّ المنطق علم تتأدب به الأذهان، أي أنَّ الذهن يستقيم على جادة الصواب لما يخضع في تفكيره لجملة من المراحل الفكريَّة التي ينتقل فيها من مقدّمة إلى مقدّمة إلى نتيجة. أي أنَّ التفكير المنطقي يتعقل القول ويراعي الرابطة المنطقيَّة التي تربط القضيَّة الأولى بالقضيَّة الثانية، كما يراعي القضيَّة الثالثة التي تلزم عنهما، وهي النتيجة. إنَّ هذا النمط من التفكير عوَّل عليه الفيلسوف كثيراً ليستبعد كلَّ أنماط التفكير العشوائي اللَّاعلمي، وهو التفكير الخرافي والسحري. والغاية من تعليم هذا النوع من التفكير هو ترويض القارئ المسلم على تبنّي الاستدلال في المطالبة بالبرهان.
أمَّا المنهجيَّة فهي تصنع التفكير المنظّم الذي يستبعد العشوائيَّة والتضليل، فهي تقوم على مبدأ أنَّ لكلَّ شيء طريقة لمعرفته، وأنَّه يتوجَّب على القارئ تعلم الطرق التي تفضي إلى بيان الحقيقة. والمنطق وثيق الصلة بالمنهجيَّة، إذ تستمدُّ أصولها المبدئيَّة منه، وإذا كان ابن رشد يلحُّ كثيراً على أهميَّة المنهجيَّة، فلأنَّه كان يعلم مقدار الفائدة التي تجلبها للمعرفة. يقول الفيلسوف: "كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمَّ، كانت المعرفة بالصانع أتمَّ" (فصل المقال ص 24). والغرض من تعليم المنهجيَّة هو الكشف عن الحقيقة، وأنَّ أيَّة حقيقة ترتبط بخطوات معلومة يجب انتهاجها.
د. إسماعيل نقاز: في دراستكم المنشورة سنة 2010 بمجلة الكلمة، حول شروحات ابن رشد على أرسطو، الشروح عمل فكري ضخم، تقولون إنَّه عن طريقها أحدث ابن رشد قطيعة مع المناهج العلميَّة واللَّاعلمَّية، فكيف ذلك؟ وتؤكدون أنَّ الشروح قدَّمت إضافة منهجيَّة عميقة لابن رشد، ما الإضافة المعرفيَّة الإبداعيَّة التي قدَّمها ابن رشد في الشروح؟ وأين تتجلّى الاستفادة المنهجيَّة في معاشرة النصّ الأرسطي؟
د. أحمد ملاح: لمَّا أنجز ابن رشد ما يُسمَّى بالشروح، فإنَّه عمل على إحداث قطيعة منهجيَّة بين فترتين: فترة ما قبل الشروح، وفترة ما بعد الشروح. الفترة الأولى ساد فيها التفكير الغيبي المبني على حقائق مجرَّدة غامضة يتلقاها العقل جاهزة ويتقبلها كما وردت عليه دون المطالبة بالبرهان، وإن افترض وجود برهان فهو غامض لا يتعقله العقل. أمَّا الفترة الثانية فهي التي دشَّنها الفيلسوف لمَّا وضع المنهج البرهاني، وقال إنَّه "المنهج الذي يستخرج المجهول من المعلوم"، ومفاد هذا القول أنَّ من المقدّمات المعلومة التي يتركب منها الاستدلال ينطلق التفكير في سلسلة من الخطوات المتتالية التي تلزم عنها نتيجة ضروريَّة هي الحقيقة المطلوبة. معنى هذا أنَّ التفكير يجب أن يتبنَّى طريقة علميَّة تبدأ باستقراء الحقائق واحدة تلو الأخرى إلى أن يستنتج النتيجة المشتركة العامَّة التي تنطبق على جميع الأشياء المستقرأة. وهذه النتيجة تكون بمثابة الحقيقة التي تُسمَّى اليوم القانون العلمي. كما أنَّ هذا المنهج منتج وخصب يستطيع استنتاج ما لا نهاية له من المعارف، إنَّه منهج يفيد البحث ويفتح آفاقاً واسعة أمامه.
د. إسماعيل نقاز: تطرحون في كتابكم "البُعد الفلسفي للنقد المنهجي الرشدي" أنَّ ابن رشد استطاع، عن طريق المنهج البرهاني العقلاني، أن يخترق المناهج الفيضيَّة والخطابيَّة البيانيَّة، ليحرّر منهجيَّة التفكير سواء على صعيد فلسفة الدين أو الفلسفة. إلى أيّ مدى يُعدُّ المنهج البرهاني توجُّهاً نقدياً في بعث التفكير وتجديد الخطاب الديني والفلسفي؟
د. أحمد ملاح: إنَّ التفكير الديني على شكله التقليدي يقوم على الإيفاء بالإيمان دون المطالبة بالبرهان. وعليه فهو تفكير مبني على قابليات التصديق بكلّ ما هو مستوحى؛ إمَّا من مرجعيَّة دينيَّة أو مرجعيَّة غيبيَّة. وتبنّي هذا النوع من التفكير يهيّئ الذهن إلى الاعتقاد فيما هو غير قابل للبرهان، مثل الإيمان بالمعجزات وخوارق العادات، كما أنَّ هذا النوع من التفكير يقوم على الاعتقاد الجازم بأنَّه وافد من السماء، وأنَّ كلَّ ما سواه إنَّما هو ضلال وهرطقة. وإنَّ حرص ابن رشد على تعليم المنهج البرهاني غرضه التفتُّح على الغير بمراجعة الذات والاستفادة من البرهان، لأنَّه (أي ابن رشد) بيَّن في شروحه أنَّ الوحي الديني في تكامل منهجي ومعرفي مع العقل، حيث احتوى الفكر الإسلامي (الممثل في ابن رشد) الفكر الفلسفي العلمي الممثل في الفكر الأرسطي.
د. إسماعيل نقاز: هناك ترتيب منهجي في كتابات ابن رشد في صياغة مشروعه الفكري والفلسفي، وقد أصَّلتم لهذا الترتيب وركزتم عليه في كتابكم السابق، كيف يمكن استيعاب هذا الترتيب المنهجي الذي اقترحتموه؟ وما الإضافات التي يقدّمها على المستوى المنهجي والمعرفي؟
د. أحمد ملاح: من مبادئ ابن رشد العلميَّة الترتيب المنهجي، ففي الشروح أو في أعماله الخاصة وضع الفيلسوف ترتيباً محكماً، إنَّه ترتيب يدخل ضمن السياق المنهجي الذي عمل على تأسيسه في منظومته الفكريَّة. فقد رتَّب المشاكل المطروحة على الساحة الفكريَّة الإسلاميَّة، وقابل كلَّ واحدة منها بكتاب. المشكلة الأولى هي الفراغ المنهجي، أو غياب بنية عقلانيَّة تشكّل قاعدة علميَّة تأسيسيَّة لمنظومة الفكر في مقابل المنظومة الشرعيَّة وقواعدها التأسيسيَّة. فهذه المشكلة عالجتها الشروح ووضعت لها القاعدة التأسيسيَّة للتفكير لتكون مرجعاً للعقل. والمشكلة الثانية هي أزمة الخلاف بين الفلسفة والدين، فقد أعدَّ لها كتاب فصل المقال، وهو كتاب وضع حلاً نهائياً لمشكلة الأزمة حتى لا يبقى الفكر الفلسفي حبيس أغوارها. أمَّا المشكلة الثالثة فهي عدم وضوح المبادئ الشرعيَّة التي تحثُّ على ممارسة الفلسفة، عالج المشكلة بكتاب الكشف عن مناهج الأدلة ليبين من خلاله الأصول العلميَّة الكامنة في الشريعة. ولمَّا أنهى هذه المشاكل، جهَّز الفيلسوف نفسه وأعدَّ العدَّة لمواجهة المشكلة الكبرى التي أحطت من الفلسفة والفلاسفة، وهو كتاب أبي حامد الغزالي "تهافت الفلاسفة". فجاء كتاب "تهافت التهافت" يردُّ عليه ويبدّد أطروحاته واحدة تلو الأخرى معتمداً في ذلك على ما يقوله القرآن وما يقوله البرهان بصيغة منهجيَّة محكمة.
د. إسماعيل نقاز: يأخذنا الحديث في مقاربات فلسفة الدين إلى شروط ذلك وآليات التأويل في المسألة الدينيَّة، وإشكالات الفهم. كيف استطاع ابن رشد أن يستثمر ذلك كله انطلاقاً من الخلفيَّة الأرسطيَّة؟ أو بعبارة أخرى فلسفة الدّين، ومقاربة المسائل الدّينيَّة عند ابن رشد كانت انطلاقاً من التوجُّه نحو تأكيد ضرورة التكامل المعرفي بين الشريعة والحكمة، إلى أيّ مدى يعتبر التوفيق بين الحكمة والشريعة مدخلاً رئيساً لتجديد التفكير الإسلامي والفلسفي؟
د. أحمد ملاح: إنَّ الممارسة الفوضويَّة للتأويل أضرَّت كثيراً بالفكر الإسلامي، ورمت به كما يقول الفيلسوف: (في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع وفرَّقوا الناس كلَّ التفريق) (فصل ص 60). إنَّ استعمال التأويل دون احترام قواعده سيؤدي لا محالة إلى فساد علمي وأخلاقي. وعليه فالعلماء أولى بالتأويل، لأنَّ هؤلاء كما يقول "هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة، وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرّح به لأهل الجدل فضلاً عن الجمهور" (فصل ص 56). إنَّ التأويل البرهاني الذي يعوّل عليه الفيلسوف هو الذي يكشف عن الحقيقة الخفيَّة التي لا يراها العامَّة، وعلى العالم المتبصر أن يكتمها ولا يصرّح بها. إنَّ التأويل من هذا المستوى هو منهج الكشف العلمي بعينه، سواء كان متعلقاً بالنص الديني، أو مرتبطاً بالكشف عن الحقائق التي تختفي وراء ظواهر الأشياء، (إذا أردنا إسقاطه على الأشياء). هذا ما يريد أن يبلغنا إيّاه الفيلسوف عندما يقول: (من أراد معرفة الله حقَّ معرفته، عليه أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات. لأنَّ من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع). والاختراع معناه البناء العلمي الذي يكتشفه العقل من البحث في الأشياء ويستفيد منه في إنشاء منظومة علميَّة تسخّر لصناعة أشياء مماثلة للصناعة الإلهيَّة.
د. إسماعيل نقاز: معروفة سجالات ابن رشد مع الغزالي في تهافت التهافت، لقد ناقش ابن رشد كتاب تهافت الفلاسفة بمنهج برهاني، ووقف على تهافت التهافت، أين يضع ابن رشد كتاب تهافت الفلاسفة؟ وهل هناك صراع حقيقي في مناقشة ابن رشد للغزالي؟ بمعنى هل يُعدُّ تهافت الغزالي التأسيس لقطيعة فعليَّة بين الشريعة والحكمة؟ كيف نقيّم نقد ابن رشد للغزالي؟
د. أحمد ملاح: يقول ابن رشد في مطلع كتاب تهافت التهافت: "فإنَّ الغرض من هذا القول، أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد، في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان". (تهافت التهافت ص 59) فحوى هذا القول أنَّ أطروحات الغزالي مجرَّد أقاويل جدليَّة لا ترقى إلى مراتب البرهان. وعلى الرغم من ذلك وقع الصراع بين مفكرين غير متساويين، فالأوَّل (أبو حامد) تبحَّر في الدين ولم يتبحَّر في علوم الفلسفة والمنطق، والثاني (ابن رشد) تبحَّر في علوم الدين وعلوم الفلسفة والمنطق، ولهذا فالكفَّة غير متوازنة بين الرجلين. فالأول قال إنَّ غرضه هو التشويش على دعاوى الفلاسفة، والثاني يردُّ عليه قائلا: "إنَّ العالم بما هو عالم، إنَّما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول" (تهافت التهافت ص416). إنَّ طريقة أبي حامد الغزالي في التفكير طريقة تباعد بين الدين والفلسفة وتجعلهما أعداء، بينما طريقة ابن رشد طريقة دمج وتكامل تسعى إلى مقاربة تكافئيَّة ترجّح الحل الأنجع للخروج من الأزمة وتعمل على بعث حركة فلسفيَّة جديرة بالنجاح.
د. إسماعيل نقاز: سؤالي السابق يقودني إلى إشكاليَّة تجديد الخطاب الديني، وبعث الخطاب الفلسفي أيضاً، وهو سؤال مهم وضروري في الوقت نفسه، ولكم دكتور اهتمام جوهري بالموضوع، كيف يمكن استثمار الخطاب الديني وتجديده، خاصة في ظلّ المرجعيات الظلاميَّة التي تتكلم باسم الإسلام، خاصة ما يُسمَّى داعش؟، وهل التوجُّه المقاربي للفكر الإسلامي بالفكر الغربي المعاصر على اختلاف مجالاته هو وحده الكفيل للخروج من المأزق الحضاري، كما كان مع ابن رشد في السابق؟
د. أحمد ملاح: يمكن استثمار الخطاب الديني وتجديده بإحداث تغيير جذري في أساليب التفكير التقليديَّة الجاثمة على الفكر الإسلامي. فعوض أساليب المدح والثناء والتباهي بما لا يجدي نفعاً، لا بدَّ من تبنّي الصيغ المنهجيَّة الإجرائيَّة التي تخرج النص الديني من جمود القراءة الأحاديَّة. وأوَّل ما نبتدئ به هو العمل على دمج العقل الإيماني بالعقل البرهاني، أي أن نبدأ بترويض العقل الإيماني على أدوات المنهج البرهاني ليوظفها في قراءة وتحليل النص. وأن يبدأ هذا العمل في الزوايا والكتاتيب والمدارس. بمعنى أنَّ التلميذ لا نعلمه حفظ النص وتكراره الآلي، بل ندرّبه على تحليل النص لفهمه، واحتواء معانيه، والفحص عن أبعاده، وإسقاطاته المفاهيميَّة. وإذا كان للعقل مبادئ أساسيَّة لا يخرج عنها البحث النظري لأنَّها تشكّل جادَّة الصواب، فكذلك للنص القرآني مبادئ لا يخرج عنها البحث النظري لأنَّها تشكّل جادة صوابه الأخلاقي. إنَّ الجمود الذي تشهده الأمَّة الإسلامَّية في فكرها إنَّما مردُّه إلى القراءات الجامدة التي لا تقبل التحليل والتركيب والنقد والتدليل.
د. إسماعيل نقاز: ختاماً في هذا الحوار العميق معكم دكتور، ما هو جديدكم في المستقبل بخصوص مشاريعكم الفكريَّة؟
د. أحمد ملاح: الاستمرار في تقصي الحقائق التي تميز واقع الفكر الإسلامي إلى غاية الوقوف على معايير تطوره. الأكيد أنَّ هناك صيرورة جدليَّة تتحكَّم في مسار تاريخه المثقل بالصراعات.
د. إسماعيل نقاز: شكراً لكم دكتور أحمد ملاح على إتاحة هذا الحوار معكم، وتفاعلكم. تحياتي لكم.