أزمة مشروعية فلسفة التاريخ أزمة أسس حداثية: راينهايت كوزيليك
فئة : أبحاث محكمة
أزمة مشروعية فلسفة التاريخ أزمة أسس حداثية: راينهايت كوزيليك
نزهة بوعزة
ملخص:
خلال نهاية النصف الأول من القرن العشرين، عرف العالم الغربي أزمة ناتجة عن اللااستقرار السياسي والاجتماعي خلال فترة ما بين وما بعد الحربين العالمين، فترة بصمها صعود أنظمة شمولية كليانية، وكذا النتائج المترتبة عن هذه الحروب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وكذا التقدمية، كل هذا جعل من هذه الأزمة لحظة لزعزعة مجموعة من المعتقدات والإطلاقيات التي بنيت سابقا مع فترة الحداثة، ومنها الاعتقاد بصيرورة تاريخ تقدمي أو قدرة الإنسان على صنع التاريخ، ومن تم إمكانية التنبؤ بمساره المستقبلي. لذلك، حاول راينهايت كوزيليك مساءلة هذه الأسس الحداثية بمعايير معاصرة مركزا بالأساس على تاريخ المفاهيم السوسيوسياسية لمساءلة خصوصيات ما أسماه فرنسوا هارتوغ بتدابير التاريخانية.
مقدمة:
سياق العودة إلى أنساق فلسفة التاريخ الحداثية، فرضته الأزمة السياسية الغربية خلال القرن العشرين، باعتبارها لحظة تتويج لاختبار التنبؤ التقدمي الحداثي، هذا البراديغم الذي أغفل معطى مفهوم الأزمة داخل المسار التاريخي، وهنا نشير إلى أن مفهوم الأزمة كان حاضرا كمفهوم لكنه، لم يتم استيعابه بما هو مؤشر مؤثر على المسار التاريخي، قد ينذر بإيقاف هذا المسار التقدمي، فهو لم يكن مدرجا في معجم فلسفة التاريخ على الأقل، في حين تبين أن هذا المسار التاريخي للفاعلية البشرية الذي نحاول التنبؤ به ينفلت دوما عن التخطيط البشري وتوقعاته.
قد يكون واقع هذه المساءلة المعاصرة لما آلت إليه التوقعات الحداثية شبيها بالمساءلة الحداثية للعصر الوسيط، وكأننا نشيد وعيا جديدا يرتبط بحقل تجربة تاريخية مختلفة عن الأزمنة الحديثة، وعي رسم عتبته التاريخية فلاسفة أمثال: هوسرل، هايدغر، جادامير، حنا أرندنت، ماكس فيبر، كارل شميث، اريك فوجلين، راينهايت كوزيليك، هانس بلومنبرغ ثم كارل لوفيث، وإن كان كوزيليك واريك فوجلين لم يعرفا في الأوساط الفرنسية إلا بشكل متأخر على عكس بلومنبرغ وكارل لوفيث، هذا السجال قد عرف تداخلا لعدة مجالات: السوسيولوجيا، الثيولوجيا، تاريخ الأفكار، المورفولوجيا، الهستوغرافيا....
وعي ساهم في بلورة سجال فكري أساسه إعادة قراءة الأزمنة الحديثة، انطلاقا من واقع الأزمة المعاصرة؛ فالمشكل ارتبط بطبيعة البناء الحداثي لا بنتائج التشييد أو أشكاله، وبما أن أنساق فلسفة التاريخ الحداثية يغلب عليها طابع التنبؤ التفاؤلي بمسار التاريخ، باعتباره صيرورة تقدمية، فهي أزمة تحيل أيضا على معنى التاريخ، فقدان المعنى بعدما اعتقد بامتلاكه، هي محاولة لتقديم قراءة نقدية بمنظور أنثروبولوجي يعتمد البنية المفهومية في إطار زمنيتها، المؤسسة لحقل التجربة الحداثية، تجربة حقل ممتد في خطية المسار الزمني؛ أي منذ اعتبر العصر مرادفا لعتبة تاريخية تتجاوز العصر الوسيط إلى أفق يرسم انتظاراته التقدمية الما بعدية.
فعلى غرار باقي المفكرين الشباب الألمان الذين عانوا ويلات الحربين، كانت انطلاقة كوزيليك من خلال البحث عن الأسباب التي توجت الأفق المعاصر بالأزمة بدل المزيد من التقدم، هذه الأزمة التي تجد جذورها حسب راينهايت كوزيليك في القرن الثامن عشر[1]. لذلك اتصف عمله بالصبغة الفلسفية وكذا الاقتصادية والسياسية، مادام أن فلسفة التاريخ تكشف بشكل صريح عن القوى السياسية[2]، إذ قدم عملا دقيقا ومفصلا، محاولا من خلاله تأمل التشكل التاريخي للمفاهيم، ومن تم إخضاعها لفحص نقدي، وقد استهل عمله بتناول أهم مفهوم استعمل كذريعة أداتية وتأويلية لمحاكمة الأزمنة الحديثة، وهو مفهوم فلسفة التاريخ، عبر أنساق فلسفية تقدم نفسها على شاكلة أنساق معلمنة sécularisée، هذا الأمر الذي تم عبر صيغ تعبر عن التوجه الزمني الخطي والغائي[3]، وهي خاصية تم استلهامها من التصورات الثيولوجية اليهودية والمسيحية، هذه الغائية هي التي سمحت لكارل لوفيث باستخدامها كمطية للبرهنة بأن فلسفة التاريخ ليست سوى علمنة سلبية تضمر تصورات مستلهمة بالأساس من التصورات الثيولوجية، فهل أزمة أسس الفكر التاريخي بالنسبة إلى راينهايت كوزيليك هي أزمة ناتجة عن علمنة التصورات الثيولوجية كما قدمتها أطروحة كارل لوفيث وكارل شميث؟ أم إن الأزمة تتعلق بطبيعة المفهوم في سياق التجربة الحداثية؟ وما ميزة مفهوم التاريخ بما هو مفهوم حداثي، هل استطاع كوزيليك رسم جدته التأصيلية؟ ثم أمر مساءلة الوظيفة المفهومية الحداثية، ألا يمكن القول عنها عملا يقرب كوزيليك لمصاف هانس بلومنبرغ؟
1) التاريخ الحداثي: صيغة الجمع المفرد* collectif singulier
يؤكد راينهايت كوزيليك* أنه إلى غاية القرن الثامن عشر، حافظ مفهوم التاريخ Geschichte على معناه الما قبل حداثي؛ ففي سنة 1748 حسب جابلونسكيJablonski كان التاريخ لايزال يحتفظ بصيغة الجمع بما هو مرآة لكل الفضائل والرذائل، فانطلاقا من التجارب المستمدة من التاريخ يمكن أن نتعلم ما يناسب فعلنا، أو ما لا يناسبه. إنه بمثابة نصب تذكارية للأفعال السيئة والنبيلة[4]، من خلال هذه الدلالة حصر معنى التاريخ بما هو مجال للاستفادة والتعلم من أخطائنا، معلمة حية يمكن النهل منها بكل ما قد يفيدنا ويقينا تكرار نفس الأخطاء، هذا المعنى هو الذي سيتم التخلي عنه خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إذ صار الأمر يتعلق بالجمع المفرد collectif singulier الذي يحيل على التاريخ في كليته بالأخص كونه جوهرا لكل ما يقع في العالم[5]. ومن تم، فإن مهمة المفهوم في صيغته الحداثية هي ربط سلسلة الأحداث بشكل متماسك ومترابط، ضمن الصيغة التي تحمل طابعا كليا: المتعدد في صيغة المفرد، أو المفرد العاكس للتعدد: تواريخ/تاريخ، تقدمات/تقدم، إذ مصطلح التاريخ يحيل على دلالة تتجاوز الوقائع الفردية. إنه يرمي إلى التعبير عن دلالة التاريخ في شموليته؛ فالأمر يتعلق في اللغة الحداثية ببرنامج يمثل الجانب الأنثروبولوجي والسوسيوتاريخي، برنامج ملزم بتفسير ولادة الانسان العقلاني[6]، وبذلك منح كوزيليك عبر تحليلاته الأساس الأنثروبولوجي لنظريته حول التاريخ، عبر ولادة تجربة تخص عالما جديدا، يُعبر عنه من خلال مفهوم التجربة التاريخية، التاريخ بما هو تاريخ أو التاريخ بشكل عام، لقد صار الإنسان الحداثي يفكر في التاريخ دون أن يربطه بموضوع معين يحيل على سلسلة من الأحداث تسمى تاريخا، لكن هنا كلمة سلسلة لا تعني فقط تعددا أو كمية، بل تشير أيضا إلى العلاقة المتبادلة فيما بينها.[7] إنها نوع من الهيستوغرافيا البنائية، وهي لحظة تحيل على نهاية القرن الثامن عشر، انطلاقا منها صار بالإمكان التفكير في التاريخ بمنطق وصيغة "سلسلة"، وهو أمر ارتبط بسياق هذا القرن، فكل سلسلة تخضع لنمط تحولات نسقية تنتمي إليها، في إطار تفاعلي بشكل متفاوت مع السلاسل الأخرى التي تشكل هيئة الأحداث في كليتها. ومن تم، فإن الأهم بالنسبة إلى التاريخ المفهومي هو إثبات أن العلاقة السببية لم تؤول فقط بما هي بناء عقلي، ولكن يتم تعريفها كمجال مستقل عام يخص التجربة الإنسانية في زمنيتها التاريخية، "إنه الإفراد الذي اكتشفه راينرات كوزيليك في فكر أواخر القرن الثامن عشر، حيث إن التواريخ، والتي وجدت سابقا بصبغة الجمع، بوصفها كافة التواريخ التي حدثت، تغدو التاريخ بالعموم والتقدم المتعدد في جميع الأفرع التقنية والفكرية تتجمع كلها في تقدم واحد وحيد، وهكذا دواليك"[8].
هذا المعنى المفهومي الذي صار التاريخ يشير إليه كفاعل مؤثر، معنى يرتبط بالأساس بهذا التاريخ المصاغ في صيغة الجمع المفرد، الذي صار شرطا لتحقق التاريخ في فرديته الشمولية، يمثل ببساطة حقل التجربة الذي يفتح أفق إمكانية إصدار الأحكام التاريخية، إذ من زاوية لغوية تخلص مفهوم التاريخ من مهمة مرافقة موضوع ما، لقد أصبح التاريخ هو وموضوعه شيئا واحدا، أو لنقل هما معا وجهان لعملة واحدة؛ فالتاريخ منذ بدايته، وهو في سيرورة لا تتوقف، هذه السيرورة لم يعبر عنها بمعنى ترابط متسلسل يحمل إلى نتيجة ما، بل فقط سيرورة تسير وفق الضرورة الطبيعية في غياب تسلسل مترابط يشكل خطية أو مسار ما. لذلك، فإن بنيته التي صار يعبر عنها خلال القرن الثامن عشر تعكس الأسس التنويرية للتاريخ المتجه نحو لحظات لاحقة، في مسار ممتد، ما أكسبه تميزه عن التاريخ في معناه الثيولوجي المرتبط بسقف محدد (الخلاص). لقد أصبح فاعلا في المصير الإنساني أو محددا في فاعلية التقدم المجتمعي، ومن هنا احتلت فلسفة التاريخ مرتبتها ضمن علوم الصفوة الخاصة بفلسفة الأنوار[9]. إذن، هذا التاريخ الذي يملك موضوعه الخاص صار قائم الذات يعبر في فرديته عن شمولية التاريخ البشري، صيغة المفرد التي تترجم كلية فاعلية الإنسان في التاريخ ككل، حالة الإفراد التي تخص تاريخ التاريخ، هذه الاستقلالية المفهومية التي حاز عليها مفهوم التاريخ الحداثي تصادفت مع ولادة فلسفة التاريخ، فكيف تم ذلك؟
التاريخ الحداثي المصاغ بصيغة المفرد الجمع صار بإمكانه التفلسف، فهو لم يصر تاريخا مستقلا، إلا عندما حاز على حقل التجربة الزمنية الخاصة به، لذلك فإن فلسفة التاريخ هي مؤشر لصيرورة هذه التجربة التاريخية، إذ التيمة الزمنية حازت على أرضية خاصة بها، تمنحها جراء ذلك فرصة كتابة تاريخ عالمي، ومن خلال تحقق هذه الإمكانية، يتموضع الامتياز الخاص بالأزمنة الحديثة، وكذا سبقها الخاص بحقل التجربة الزمنية مقارنة مع القدماء؛ فالعالم صار شعبا واحدا، لقد تحول تاريخ الشعوب إلى تاريخ يضم كل مواطني العالم الذين يشكلون تاريخا عالميا، وهي حقيقة تجد أسسها في التاريخ نفسه[10]. إن التاريخ في صيغته الحداثية يحاول أن يجد أرضية تطبيقية في التاريخ العالمي، وهنا يتواجد حقل الفعل الإنساني، حيث صرنا نفكر في عصر جديد عبر صيغ التقدم. لذلك، فإن الأزمنة الحديثة حازت على جدتها عبر شمولية زمنيتها المعبر عنها في صيغة التاريخ العالمي، ومن ثمة صارت هذه الصيغة هي شرط كل تاريخ ممكن، إذ كل التاريخ لا يفهم إلا عبر وضمن التاريخ العالمي[11]. فقبل القرن الثامن عشر يمكن أن نتكلم عن التاريخ بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد المستقل، الحامل لموضوعه الخاص، إذ المفهوم كان يرافق دوما موضوعا ما، لكن أن يكتسب التاريخ استقلالية خاصة به كتاريخ قائم الذات، هذا الأمر لم يكن مقبولا، نجد مثلا انه قبل 1770 مفهوم التاريخ يشير دوما لموضوع ما. أما التاريخ في فرديته واستقلاليته عن أي موضوع، فهذا الأمر ارتبط بشكل دقيق بفترة الأزمنة الحديثة، إن مصطلح التاريخ الذي نتكلم عنه اليوم له محتوى لم يحصل عليه إلا في نهاية الثلث الأخير من القرن الثامن عشر[12]. ومن تم كان من أولى أهداف كوزيليك هي الاشتغال على مفهوم التاريخ في حد ذاته، عملية تقوم على مفهمة مفهوم التاريخ في شكله التزامني، أو في صيغته المعبر عنها بالجمع المفرد KollektivSingular، مما رفع المفهوم إلى مستوى الصفة الميتا تاريخية[13]، مادام أن المفهوم هنا يعبر عن براديكم معرفي لعتبة زمنية ترسم حقل تجربة الفاعلية الانسانية، ومن تم "فالأسماء المفردة المجردة تتيح لنا التأليف والتعميم وهي بذلك لا تنفصل عن بناء المعرفة"[14].
في الحقيقة، إن هذه القراءة الكوزيليكية تمنح مشروعية لحقل التجربة الزمنية الحداثية. إنها ترسم حدودا أو عتبة زمنية تفصله عما سبق، إذ كان "الافراد Singularization حسب كوزيليك نتيجة التشابك المتزايد للأبنية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية، مما دفع بالنظرية الاجتماعية لزيادة درجة عمومية مقولاتها"[15]، عمومية تحمل استقلالية عكس ما كان سابقا، وهي قراءة تبعد كوزيليك عن مصاف الفلاسفة الذين سحبوا مشروعية الجدة الحداثية، وهي القراءة التي قدمها بالأخص كارل لوفيث، مما سمح له بإنكار التأصيل الحداثي لأنساق فلسفات التاريخ، لكن حسب كوزيليك من الآن فصاعدا يتعلق الأمر باستخلاص التاريخ كجمع. إنها صيغة الجمع التي تخص الزمن والطبقات الزمنية[16]، فإذا كان التاريخ يملك مشروعية حداثته، فكيف انتهى به الأمر إلى أزمة مفهومية تعيد مساءلة مشروعيته؟.
2) سجال مشروعية العلوم التاريخية[17]*: راينهايت كوزيليك/ كارل لوفيث/هانس بلومنبرغ.
أبرز آثار هذا السجال إزاء مفهوم الوعي التاريخي الحداثي، هو كارل شميت، وكارل لوفيث الذي استطاع عبر قراءة ماورائية لتاريخ الفكر الفلسفي الغربي، قراءة استهلت التاريخ الفلسفي من نهايته نحو بدايته، من الحاضر المتوج بأزمة إلى الماضي الراسم لأفق تقدمي، أن يسحب مشروعية مفهوم فلسفة التاريخ بما هي وعي ارتبط بالأزمنة الحديثة، من خلال كتابه "التاريخ والخلاص"*. مما هيأ أرضية خصبة لخلق سجال فلسفي حول القراءة التأويلية للأزمنة الحديثة، أو لنقل إعادة فحص الآليات المفهومية المؤسسة لهذا المعمار الذي شكلت الأزمة المعاصرة أفقا لإعادة مساءلته، سجال انتقل بين عدة حقول معرفية، فهل يمكن القول إن هناك نوعا من الحوار الضمني أو الصريح بين أطروحة كل من كارل لوفيث وراينهايت كوزيليك؟
راينهايت كوزيليك يُعرف قبل كل شيء كمؤرخ، لكن تملك البيئة الألمانية ميزة دمج كل من التاريخ والفلسفة على عكس السياق الفرنسي أو الإنجليزي، في حين أن كارل لوفيث هو فيلسوف مؤرخ للفلسفة الغربية، الأكيد أن فكر كل منهما أخذ يتشكل بشكل ما بعد الحرب العالمية، بعد أن عايشا التحولات الجذرية للمجتمع الألماني خلال القرن العشرين، إذ تأثر كوزيليك بشكل عميق بهذه التجربة. لذلك حاول فهم اختياراته عبر التوجه نحو مفهوم التاريخ[18]، فلوفيث ارتبطت أزمته بأزمة شخصية عاشها تحت وطأة النظام النازي التي عكست قراءته لتاريخ الفكر الغربي وبالأخص فلسفة التاريخ في صيغتها الحداثية.
إذن، يتشارك المفكران في تجربة معاناة الحرب ونتائج الأنظمة الشمولية، لذلك عملا معا على تقديم تحليل مستفيض لطبيعة علاقتنا مع التاريخ، وهما معا استهلا هذه القراءة انطلاقا من واقع حاضر الأزمة، إذ من الأفضل حسب لوفيث "البدء بما هو مألوف ومتفق عليه بالنسبة إلى العالم الحديث، ليتم فيما بعد المرور نحو فكر الأجيال القديمة السابقة لفكرنا الحالي"[19]، لكن مع ذلك تجدر الإشارة إلى أن لوفيث لعب دورا مهما في التكوين الفلسفي لكوزيليك، هذا الأخير الذي ظل لسنوات ملازما للوفيث، فقد كان أحد الممتحنين لأطروحته في الدكتوراه، إذ منذ 1949 انخرط كوزيليك بشكل فعلي في ترجمة بعض المقاطع الخاصة بكتاب لوفيث "التاريخ والخلاص"، فكان هناك بين الرجلين تفاهم أو لنقل نوعا من التجاذب الاختياري[20]، يتفاوت حضور هذا التجاذب انطلاقا من أولى منشوراته إلى حدود صياغة أطروحته المميزة عن مفهوم التجربة التاريخية، بناء على البنية المفاهيمية للإطار السوسيوسياسي للمجتمع الغربي منذ الأزمنة الحديثة إلى فترة ما بعد الحربين، مما جعل من عمل كوزيليك عملا جد معقد وفضفاض يمس عدة مجالات، إذ يتناول الإيديولوجيات واللغات السياسية الحديثة والتاريخ الاجتماعي والسياسي للدولة البروسية[21]، فما هو الدور الذي لعبه كارل لوفيث في تأثيث البيت الفكري لراينهايت كوزيليك؟.
هناك مرحلتان في الحياة الفكرية لراينهايت كوزيليك، إذ يمكننا أن نتكلم عن كوزيليك اللوفيثي، ثم فيما بعد عن كوزيليك الأقرب إلى هانس بلومنبرغ منه إلى لوفيث، هذا الأخير الذي وازى بشكل أساسي بين مفاهيم من قبيل التقدم والاستمرارية، والتغير والثبات، إثارة هذه المفاهيم يدخل في إطار تبيان أن مفهوم التقدم الذي حملت لواءه الأزمنة الحديثة لم يكن سوى غطاء لدرء التصورات المسبقة المنضوية تحت فلسفة التاريخ، فصار التقدم يرادف التكرار والثبات، إذ التقدم الفعلي يحمله المفهوم الإغريقي لتاريخ المفهوم الذي لم يحاول أن يبحث وراء الأحداث عن معنى يرسم مسارا تقدميا، وهنا ساءل لوفيث أرضية تحقق المفهوم من عدمه. أما كوزيليك، فأثار سياق المفهوم بما هو معبر عن حقل تجربة زمنية بغض النظر عن تحققه من عدمه، لذلك فإن هذا الالتقاء لا يتمثل ببساطة في توافق الأطروحات بشكل تام بينهما، هو التقاء في التناول، وليس في طبيعة استخلاص النتائج، التقاء من ناحية الانخراط في نقد أسس البناء الحداثي، باعتباره المرجع الأساس في قراءة الأزمة المعاصرة.
إذن، هي القراءة النقدية التي تحاول إعادة اكتشاف الأزمنة الحديثة بناء على مستجدات خلفتها الأزمة المعاصرة، وهو نهج صار على دربه العديد من الفلاسفة المعاصرين، أو لنقل جيل ما بعد النيتشوية، هذه الأزمنة التي أولت كامل اهتمامها نحو أفق المستقبل، وهنا تثار مسألة العتبات التاريخية الما قبل حداثية، باعتبارها أقل مرتبة في بناء الصيرورة التاريخية، إذ كان هناك نوع من الشعور بخاصية التسارع تخص تشييد فاصل أو عتبة عصر، وهو الأمر الذي أولاه إتيان جيلسون*Etienne Gilson كامل اهتمامه، محاولا إعادة تقييم العصر الوسيط بما يضمن وهجه الفكري داخل المسار التاريخي، مادام أن تقطيع التاريخ ونحن في خضمه، وكذا القول ببداية جذرية تتجاوز السابق لا يسمح أبدا ببناء مسار تاريخي، وهو أمر أشار إليه أيضا هانس بلومنبرغ، فما الذي يجعل كوزيليك ينفلت من القبضة اللوفيثة الساحبة لتأصيل الوعي التاريخي في صورته الحداثية؟
لقد تميز عمل كوزيليك بالتساؤل حول الإطار الزمني الذي يبني من خلاله الإنسان منظوره وخطاطته المفهومية تجاه هذا الزمن المعيش، وهو ما جعله يكتسب ميزة خاصة في خضم هذا السجال الفكري، إذ يتعلق الأمر بتناول السياق التاريخي من الناحية الفلسفية، وهو أمر سمح به التكوين التاريخي والفلسفي لراينهايت كوزيليك، فمشكل الوعي التاريخي الحديث أصله ليس فقط في التحدي الذي رفعته فلسفة التاريخ الحداثية، وإنما أيضا في تأويل التاريخ السيوسيو مفاهيمي للقرن الثامن عشر، لذلك "يتلخص النقد الموجه إلى التاريخانية في كونها لم تدرك أن تجربة التاريخ هي إحدى صور تجارب الإنسان مع الزمن، لم تع أنها هي نفسها محاولة للخروج من الزمان عبر تواتر القوانين ووحدة الغاية وحتمية التطور"[22]، بينما يكمن الإشكال حسب تأويل لوفيث في التاريخ وبشكل أعمق في التصورات المسيحية، فهذه الأزمة المرتبطة بالتاريخ أظهرت التناقض المتفاقم للأسس الحداثية، والتي وجدت اكتمالها حسب كارل لوفيث وستراوس، من خلال التاريخانية الراديكالية[23]، التي ظلت حاضرة بشكل ضمني داخل الأنساق الفلسفية الحداثية، إذ "كل فلسفات التاريخ تصبح بالكامل متعلقة بالثيولوجيا؛ بمعنى بالتأويل الثيولوجي للتاريخ بما هو تاريخ الخلاص"[24]. يؤكد لوفيث أن أطروحة الأصل المسيحي- الإسكاتولوجي للوعي التاريخي الحديث تطرح هنا وتطالب بصيغ المستحيل أو (اللامفكر فيه) - فبدون مسيحية ستكون الفلسفة الحديثة للتاريخ مستحيلة ولا مفكر فيها[25]، فما الذي أغفلته العلوم التاريخية لتتوج بأزمة بدل المزيد من التقدم؟.
3) مفهوم الأزمة/ الصيرورة التاريخية:
لقد استأثر سؤال الأزمة باهتمام كوزيليك منذ بدايته العلمية التي تبلورت من خلال أطروحته 1945، فانطلاقا من هذا المفهوم تحدد منظوره للعالم الحديث، مستهلا بوادره من الحروب الأهلية للقرن الخامس عشر، إلى عصر الثورات خلال نهاية القرن الثامن عشر، فقرن النقد والتقدم الأخلاقي لم يعرف مفهوم الأزمة كمفهوم مركزي[26]، ومن تم فإن مفهوم الأزمة* حسب كوزيليك في المعنى الخاص بالصيرورة التاريخية مرتبط بنوع ما بالفلسفة والسياسة، وبالتساؤل حول معنى الصيرورة التاريخية وآفاقها المابعدية، إذ المفهوم ينفلت بالأساس من أدبيات التخطيط القبلي الحداثي، المفهوم ينفلت أيضا من المراقبة العقلية المؤطرة بتوجه تقدمي مسبق، وفي الحقيقة "إن المصطلح لم يظهر في منشورات مفكري التقدم، لكن عند فلاسفة المفهوم الدائري للتاريخ، فقد ظهر عند روسو الذي رأى أن الدائرة التاريخية تنغلق إثر الاستبداد الذي يقود إلى حالة جديدة من الطبيعة"[27]، إن مفهوم الأزمة كما بلوره المشهد الغربي المعاصر يتعلق بالأسس الفلسفية الحداثية، التي آمنت بالمسار التقدمي الذي أغفل بالمقابل مفهوم الأزمة، ومن ثم فإن المفهوم في جوهره هو مفهوم معاصر؛ لأن صيغة أزمة بما هي تعبير عن تشخيص وتكهن، هي مؤشر لعلم جديد[28]. إن المفهوم قد اكتسب دلالته التاريخية خلال واقع الأزمة المعاصرة نفسها، مفهوم لم تدرجه أنساق الأزمنة الحديثة في تكهناتها المستقبلية، واعتبرت المسار التاريخي مسارا قابلا للمضي بدون توقف، لذلك "فعصر النقد والتقدم الأخلاقي لم يعرف مفهوم الأزمة بما هو صيغة مؤثرة"[29] في مسار التاريخ، هذا المفهوم الذي سيعيد ضرورة مساءلة مفاهيم حداثية قامت عليها فلسفة التاريخ أو أدمجتها ضمن تصوراتها المسبقة؛ لأن "فلسفة التقدم لا تقدم لا اليقين الديني ولا اليقين العقلي لكن تقدم اليقين الخاص بفلسفة التاريخ، حيث المخطط الذي يحمل صيغة غير مباشرة، هو تحقق للمخطط السياسي بشكل يعاكس المخطط العقلي والأخلاقي الذي يحدد بدوره تقدم التاريخ"[30]، وبهذا تكون الأزمة الغربية أزمة تتعلق بالجذور الفلسفية والسياسية الحداثية ولكنها، أيضا أزمة مرتبطة بمعنى التاريخ، إذن أزمتنا المعاصرة هي أزمة زمن، إذ نمطنا في التواجد ضمن الزمن هي التي تزعزعت بشكل عميق[31]، هذه الأزمة التي جاءت لتعبر بشكل كبير عن التناقضات التي بنيت من طرف الأزمنة الحداثية نفسها، فحتى إن اختلفت التأويلات يظل هناك ثابت أن أفق الانتظار التقدمي الذي رصدته الأزمنة الحديثة قد توج بأزمة، وليس اكتمالا لمسار تقدمي؛ لأن الإيمان بإمكانية تقدم بلاحدود، الذي ارتبط بالأزمنة الحديثة، عوض بفكرة الأزمة، إن فكرة الأزمة بالمعنى المتعلق بالصيرورة التاريخية ترتبط بشكل ما بالفلسفة والسياسة: مادام أن التساؤل حول معنى الصيرورة التاريخية له تأثير على رؤيتنا للتقدم السياسي في أوروبا. إنه ضمن هذا السياق ينخرط تفكير كل من كارل لوفيث وراينهايت كوزيليك وهانس بلومنبرغ، إذ هم لا يحملون فقط نظرة على المفهوم الفلسفي للتاريخ، ولكن أيضا على طبيعة التجربة الفردية والجماعية الغربية في اطار علاقتها بالتاريخ، وهو أمر عكسته الأزمة السياسية الغربية خلال القرن العشرين.
لذلك، كان توجه راينهايت كوزيليك، نحو مساءلة معنى الوعي التاريخي الحداثي، الاستفهام حول مدى حدود الأطروحة القائمة على المنحى التقدمي الخاص بالمسار التاريخي ودور اللامتوقع أو الطارئ في هذه الصيرورة التاريخية، الأمر الذي قاده إلى التساؤل حول إمكانية تسطير مسار تاريخي؟ هل بين الماضي والحاضر مسافة مشتركة، وهل هناك فعلا إمكانية لرسم هذه المسافة؟
كانت أولى أعمال راينهايت كوزيليك كتابه kritik und krise الذي يحمل طابعا فلسفيا أكثر منه توجها تاريخيا وبطبيعة الحال العمل الذي يقترب بشكل ما من أطروحة كارل لوفيث وكارل شميث دون أن تسايرها بشكل كامل، يشير إلى ذلك بالقول: "ففي اللحظة التي توجت الكوجيطو الديكارتي، يقين الإنسان في قطيعة مع الدين، فإن الاسكاتولوجيا تحولت إلى إيطوبيا"[32]، وهي خلاصة الأطروحة التي برع لوفيث في نسجها من خلال كتابه "التاريخ والخلاص"، ففي بدايات كوزيليك كان متعلقا بشكل ما بلوفيث، على الأخص فيما يتعلق بأطروحة علمنة فلسفة التاريخ، وإن لم ترادف العلمنة اللوفيثية العلمنة الكوزيليكية بشكل تام، إذ بينهما مساحة لبناء تقارب وتباعد على حد سواء، ومع ذلك يحضر بينهما أيضا خيط رفيع؛ لأنهما معا توجها نحو سؤال مشترك حول الطريقة التي نفهم بها الصفات الزمنية للماضي والحاضر والمستقبل[33]، فالأول توجه نحو التصورات الثيولوجية المسبقة التي أطرت أنساق فلسفات التاريخ الحداثية. أما الثاني، فركز على التجربة التاريخية في نسختها المتعلقة بحاضر التجربة الذي يعيد قراءة الماضي ويؤسس لانتظارات المستقبل، ومن هنا يكون كوزيليك أقرب إلى بلومنبرغ منه إلى لوفيث، هذا التوجه الكوزيليكي الذي ستلوح بوادره بفضل كتابات هانس بلومنبرغ 1975، حيث سينكب على الجانب الاستعاري المتعلق بالتغيرات التي اكتسبتها اللغة السوسيوسياسية الحداثية، فهل معنى ذلك أن هناك تقاربا بين أطروحة كل من هانس بلومنبرغ وراينهايت كوزيليك؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون قراءة تأويلية تنطلق من أفق ينحاز إلى شرعنة الوعي التاريخي وهو أساس الجمع بينهما؟
أهم ما عرف على هانس بلومنبرغ هو معارضته للتوجه اللوفيثي عبر إبراز المسافة الفاصلة ما بين علاقة الزمن المرسوم من طرف فلسفة التاريخ والزمن الإسكاتولوجي المسيحي، والاتجاهان اعتمدا مبرهنة العلمنة في التأصيل أو في نزع التأصيل، وهو الأمر الذي وضحه مونو J.C.Monod عبر التمييز بين نوعين من العلمنة فهناك: "1) علمنة بما هي تحويل محتوى مسيحي لمحتوى معلمن (إشكالية دنيوة -علمنة للمسيحية)، 2) العلمنة بما هي تصفية للمسيحية أو الدين بصفة عامة"[34]، فالأمر لا يتعلق بمفهوم العلمنة الذي يحتمل عدة دلالات، بل إن التأصيل الحداثي يٌعرف حسب بلومنبرغ بما هو التجاوز الثاني أو على الأصح التجاوز الناجح للغنوصية*[35]. لذلك، فإن "الأزمنة الحديثة تجاوزت الغنوصية، وهذا يفترض أن عملية تجاوز الغنوصية لم تكن ناجحة بشكل كامل في العصر الوسيط"[36]، إذن التجاوز الأول تم وفق دنيوة غنوصية حددت النمط الكنيسي الوسيطي، في حين أن الأزمنة الحديثة ستحقق التجاوز الثاني القائم على ضرورة التعامل مع عالم صار مهددا بعد فشل المسيحية الوسطوية، تتجلى هنا أولى نقط الالتقاء بين الرجلين، وهي الإقرار بالتجاوز/العتبة التاريخية، وإن اختلفا في كيفية إبراز هذا التجاوز.
لكن الجدير بالذكر أن الانتقادات التي خصها هانس بلومنبرغ* لأصحاب القراءة التي تسحب عن الأزمنة الحديثة ومفاهيمها تأصيلها الذاتي، هو اعتراض لم يشمل النقط التي تناولها كوزيليك، إذ يبدو أن قراءته تلائم مضمون أن العلمنة هي من مكونات الأنظمة التاريخية، مما يجعلها أقل من ادعاء قطيعة جذرية أو استمرارية أمينة بلا تحولات، وأكثر ميلا للقول بتحول على المدى البعيد لصيرورة الانتظار الحداثي وعقلانيته السياسية[37]، وفي هذا الميل امكانية شرعنة الخطاب الحداثي ومفاهيمه، وإن لم تجمع بين المفكرين علاقة مباشرة سوى "الرسالة المطولة لكوزيليك التي وجهها لبلومنبرغ بتاريخ 16 دجنبر 1975، بعد تسع سنوات من ظهور كتاب بلومنبرغ "مشروعية الأزمنة الحديثة" حاول فيها كوزيليك تفصيل القول في مجمل الانتقادات التي قدمها بلومنبرغ، وهي الرسالة التي ظلت بلا جواب"[38]، فكان حوارا أحادي الجانب.
إن التوجهات الكوزيليكية لاحت بوادرها مع صدور أطروحته سنة 1956 من خلال طبيعة التناول الكوزيليكي لمفهوم علمنة فلسفة التاريخ، سيليه أيضا مشروعه الضخم المعجم التاريخي المؤسس لأهم المفاهيم المركزية للأزمنة الحديثة، المعجم الذي حضر فيه التوجه التاريخي لراينهايت كوزيليك لكن، كان أيضا بمثابة وثيقة شاهدة على الأعمال اللاحقة حول طبيعة التجارب التاريخية وكذا الذاكرة الإنسانية، هذا التدرج في تكوين كوزيليك هو من منحنا مؤرخا بميزة خاصة، مؤرخ بصبغة فلسفية، إذ حاول تأمل الطريقة التي نفهم بها الزمنية التاريخية وأثارها، وكذا استيعاب طبيعة التجارب التاريخية البشرية بصفة عامة.
إذن، قد يختلف الفلاسفة حول أصل الأزمة السياسية المعاصرة، لكنهم يتفقون أن نقطة اكتمالها تكمن في المشهد الإنساني والسياسي لما بين الحربين. فهل فلسفة التاريخ لم تقدم سوى علمنة لتصورات الثيولوجية؟ أم باستدراجها لمفهوم التقدم/ التجاوز في صيرورة المسار التاريخي تكون قد رسمت تأصيلها الحداثي؟.
4) استقلالية فلسفة التاريخ رهين بامتلاك حقل تجربة
أثار كوزيليك مسألة الغموض الذي يرافق استعمال مفهوم التاريخ، بما هو مجال يحيل بمعنى مباشر على دراسة الماضي، لكن المفهوم يشير أيضا إلى صيرورة الأحداث إذن، التاريخ يعود في نفس الوقت على ما وقع وأيضا على نمط بناء الأحداث الماضية عن طريق عملية السرد[39]، عن شمولية ما يحدث أو مجموع ما حدث في مجرى التاريخ الإنساني في مقابل العالم الطبيعي، والتاريخ في هذا الإطار يشير إلى الصيرورة التاريخية كما أنه يتعلق بمفهوم يحيل على تعبير شامل جامع. أما مطلب التأمل الخاص بالفلسفة حول التاريخ، فهو مرتبط بظهور فهم جديد لمفهوم فلسفة التاريخ، إذ عملية إبعاد المعنى الخاص بالتاريخ في صيغته العامة تصادف مع ولادة فلسفة التاريخ[40]، التاريخ في صيغة الجمع المفرد، صار بإمكانه التفلسف، لقد اكتسب صبغة استقلاليته، هذه الاستقلالية المشروطة بتملكه لحقل التجربة، espace d’expérience. إن تأسيس فلسفة التاريخ هو دليل لهذه الصيرورة التي أوصلته إلى اكتساب حقل التجربة التاريخية التي تخصه، هذا الأمر الذي جاء حسب كوزيليك نتيجة ثلاث مراحل: بداية كان التأمل الاستطيقي. أما المرحلة الثانية، فتعلقت بإضفاء طابع أخلاقي على التاريخ، ثم انتهاء بتشييد فرضيات تبحث عن تجاوز التأويل الثيولوجي للتاريخ عبر الاستعانة بالتاريخ الطبيعي.[41]وهو أمر استفاض في تفاصيله عبر حفر جينيالوجي لأصوله الأولى من خلال نماذج لفلاسفة خصت كل طور من أطوار تشكله، ومن هنا، فإن هذا الفهم الحداثي يمكن أن يعبر عن شيئين: أولا بما هو تأمل أو تفكر إبستمولوجي حول الطريقة التي نكتب بها التاريخ، ثم بما هو تأمل نسقي حول التصورات المسبقة، التي قد يستدمجها مسار التاريخ وكذا توجهاته النهائية، أو لنقل الدلالة الخاصة التي تحيل عليها مفردة الصيرورة التاريخية[42]، ونكون هنا بصدد توجهين؛ الأول يخص نمط كتابتنا لتاريخ، منظور إبستمولوجي، والتوجه الثاني يخص التصورات الثيولوجية، هذا التوجه هو الذي استحضر واشتغل من خلاله كارل لوفيث، وأيضا كوزيليك في أطروحة الدكتوراه، والتي خرجت في عمله le règne de la critique، لكن الاشتغال على هذا البعد يثير مفهوما أساسيا هو مفهوم الغاية*، بما هي التيمة التي كانت تمثل أسس كل التصورات الحداثية، وهي التيمة التي تسمح له بالنهاية بتأكيد أطروحته القائمة على سحب مشروعية فلسفة التاريخ الحداثية، لذلك يؤكد لوفيث: "أنه ليس من الصدفة إن وجدت بمعاجمنا مصطلح (معنى) (sinn)، والنهاية zweck، والهدف ziel، وهي عادة معاني غير قابلة للتغير"[43]، إن المعنى الموجه نحو النهاية، هو من يحدد المعنى منذ البداية، ما دام أن كل الأشياء التي خلقت من الرب أو الإنسان ترى معناها عبر تحديد لأي غرض وجدت، Vue de quoi en، أو بعبارة أخرى، هناك دوما غرض ما لأجله يوجد الشيء، فمثلا الطاولة ينظر إليها على أنها كذلك؛ أي الغرض الذي صنعت له، لأجل أن تكون طاولة، معنى أبعد مما هي عليه ماديا وواقعيا، الأمر عينه يسري على الصيرورة التاريخية، لذلك "فالأحداث التاريخية تأخد معناها من توجهها نحو المستقبل (..) هذه الفكرة لا يمكن أن تأتي إلا من النموذج المسيحي"[44]. فهي أيضا لا تبني إلا بالنظر إلى النهاية التي ترمي لها وإليها، نهاية بعيدة عن الوقائع الحياتية في زمنيتها؛ "لأن التاريخ هو مسار لحركة في الزمان، لذلك فهذه النهاية، يجب أن تكون هدفا قادما منتظرا"[45]، لم يحدث لكنه في طور التحقق وفقا لانتظارات تجربة الحاضر.
فكل الأحداث إذن، تتم قراءتها انطلاقا من الغاية المستقبلية التي تحملها بداخلها، هي عملية امتلاء بالمعنى؛ لأن حتى الأحداث يتم استيعابها ضمن الحدث الكلي الذي يحدد الطبيعة الإسكاتولوجية، هذا الربط بين المعنى والنهاية لا يستثني أبدا الدلالة النسبية للأحداث. لذلك، فإن طبيعة النهاية والوسائل الممكنة لبلوغها تختلف، لكن مع ذلك يظل السؤال قائما كما هو، إذ "تم تصور اكتشاف التاريخ كأمر موجه من قبل اليد الخفية أو دهاء العقل أو من خلال الضرورة الدياليكية. الحقيقة أن هذه الحركة التي قد تم تصورها كحركة ضرورية أو مقدرة سلفا هي دلالة على الافتراضات اللاهوتية الكامنة داخل مثل هذه الرؤية للتغير"[46].
ومن واقع هذه التبعية الأصلية لفكرة التقدم إزاء التصورات المسيحية، فإن فكرة الحداثة حول التقدم هي فكرة مزدوجة. إنها مسيحية في أصلها وعدوة للمسيحية في نفس الوقت، لذلك فإن فكرة التقدم "بالنسبة للوفيث ماهي سوى فكرة حج لا يكل نحو هدف نهائي فوق أرضي"[47]، لقد سلك لوفيث طريق تحليل الأنساق الفلسفية التي توجت الصيرورة التاريخية بغاية نهائية مما سهل عليه نزع مشروعية هذه الأنساق، فمن "فولتير، وروسو إلى ماركس وسورل Sorel، التاريخ سواء كان تقدميا، أو يرسم تاريخ التدهور هو نتاج متأخر ممتلئ دائما وبقوة بالمذاهب الإنجيلية للخلاص والنهاية، أنساق لم تستطع أن تبدع خارج التصورات الثيولوجية المبطنة بلباس حداثي زائف، هذا الزيف الذي عبر عنه مفهوم العلمنة الذي لم تكن سوى ترجمة أمينة لمحتوى سابق في قالب يدعي الجدة والحداثة، هذا النقد الذي استهله في الحقيقة نيتشه وطوره جيل ما بعد النيتشوية، ومنهم كارل لوفيث....
في حين أن كوزيليك قد كرس في دراسته، خصوصا في أولى كتاباته kritik und krise حول مسلك نقدي للفكر الأنواري، النسخة الكلية للتاريخ الذي ينطوي على مصطلح متنبأ به بشكل مسبق، من خلال مذهب التقدم الذي يشير إلى أولوية للمستقبل مقابل تبخيس للماضي، وهي الفكرة التي بموجبها سيصير الكائن الانساني فردا كان أو جماعة رمزا لصنع التاريخ، بمعنى التحكم والسيطرة على لعبة القوى التاريخية. لقد سلك كوزيليك مسلكا مختلفا في البحث عن أسس الأزمة الفكرية المعاصرة، اذ استلهم طريقة مفاهيمية تخص تاريخ المفاهيم، فقد لاحظ وجود قطيعة من جهة لسانية، فلسفية وسياسية[48]؛ أي التحول من الناحية المفهومية الخاصة بالسياق السياسي والاجتماعي الحداثي، إذ لم يكن الأمر مجرد علمنة للتصورات الثيولوجية، بل لقد حمل جدة تهم سياق المفاهيم السوسيوسياسية فرضتها إلحاحية السياق الزمني، إذ التواجد بشكل انعزالي إزاء هذا العالم الخارجي أنتج شكلا من التواجد الاجتماعي، بل حتم وفرض أن نكون مؤهلين لنحكم هذا العالم الخارجي[49]، فحتى وإن توفرت تصورات مسبقة تسير وفق التصورات الثيولوجية لأنساق فلسفة التاريخ الحداثية، كما خلص إلى ذلك كارل لوفيث، فإنه في خضم التاريخ ينتج دوما شيئا مغايرا عما تضمنته الفرضيات[50]؛ لأن التاريخ ينفلت من التخطيط المسبق، فاللامتوقع يكسر على الدوام النمطية التي نبني بها تصوراتنا للتاريخ، إذ المستقبل يقدم كل التوقعات لكن الاعتراضات البشرية تظل في المقابل بلا جدوى، في حين أن الماضي لا يبتعد كثيرا، بل يظل على الدوام حاضرا[51]. ما دام أن المسافة ما بين الما قبل والما بعد تتقاطع بشكل تقدمي، وتصير المسافة نفسها هي الأزمنة الحديثة التي تعبر عنها بشكل أساس فلسفة التاريخ. لذلك، فإن العتبة الحداثية ارتبطت أولا بالتغير اللساني لمفهوم التاريخ من صيغته الجماعية إلى صيغته الفردية، وفي فقدان الموضوع المرافق لمفهوم التاريخ في صيغته الفردية، حدث نوع من التحول، حيث تم التعرف على مفهمة جديدة لمفهوم التاريخ بما هو تجربة[52]، وليس كما كان سابقا قبل الأزمنة الحديثة، بما هو سرد لمسار تفرضه الضرورة الطبيعية. إن أولى المعالم الرئيسية لهذا المفهوم الجديد للتاريخ يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط: إنه مجموع تواريخ بصيغة المفرد، مجموع في مفهوم عالمي لتاريخ، يعكس علما قائم الذات متميزا عن الفلسفة وعن الخطابة وعن الثيولوجيا، ومن تم صار عنصرا يشير إلى مجموع العالم الإنساني[53]، فاكتسب أهم التغيرات بالأخص الاستقلالية الخاصة بالتاريخ، بما هو علم قائم الذات، صحيح أن المفهوم قد ولد بعد مسار طويل من الأحداث، التي ساهمت في ولادته، لا يجوز فصلها عنه وهو أمر لا يستقيم تاريخيا لكن، انطلاقا من ذلك استطاع المفهوم فتح مجال للتجربة التي لم تفتح من قبل[54].
إذن، حتى وإن ظل في العمق يعبر عن نوع من العلمنة للتصورات الثيولوجية اليهودية المسيحية، كما أوضح ذلك كارل لوفيث، بشكل مستفيض، والتي عبرت عنها مجموعة من أنساق فلسفة التاريخ بالأخص في صيغتها الألمانية، إلا أنه بالمقابل فتح أفقا لحقل التجربة الزمنية بما هي تعبير عن الفاعلية الإنسانية، التي يعبر عنها المسار التاريخي بغض النظر عن طبيعة أو أفق هذا المسار، صحيح أنه لا يمكننا التخلص من القبضة اللوفيثية التي حاول أن يشيدها عبر تتبع المراحل المفضية للمنبع المعقد للفكر الغربي، منبع ملطخ بتلوينات التصورات الثيولوجية المسيحية اليهودية، لكن التشييد اللوفيثي نابع عن نية مسبقة تهدف إثبات أن المسيحية تسكن في فلسفة التاريخ بواسطة حجج نصية حداثية، وهو أمر يؤدي إلى رؤية غير مستقرة، رؤية مقطوعة من تصوراتها المسبقة التي تؤدي إلى فكر لا وثني ولا مسيحي إزاء الوعي المستقبلي عبر الميل لترصد نهاية التاريخ، وهو ترقب مصحوب بأمل ما، فأمر انهيار الأنساق الفلسفية الحداثية الكبرى لا يعزى لطبيعة فلسفة التاريخ، وإنما لطبيعة العصر ذاته، المرتبط بحدوده السياقية ككل، وهو الأمر الذي أشار اليه كوزيليك، إنه فقط في ثنايا الأزمنة الحديثة يمكننا التحقق من فشل الأزمنة الحديثة.
عند إثارة مركبين الإطار العام المتولد عنه عصر ما والتفكير حول هذا المناخ التاريخي في راهنيته، ندخل في غمار حقل التجربة المفهومية وأفق الانتظار المتولد عن هذا الحقل، مما يستدعي التمييز بينها، فماهي شروط تشييد صيرورة تاريخية أو مسار تاريخي؟ وما هو الموقع الذي يحتله كل من حقل التجربة وأفق الانتظار في المسار التاريخي؟.
5) شروط بناء التاريخ: حقل التجربة وافق الانتظار
عمل كوزيليك على إعادة تعريف الزمن التاريخي الحداثي من منظور مكونات الزمنية الحداثية نفسها، إذ يوضح بشكل جلي أنه انطلاقا من نهاية القرن الثامن عشر، تعامل الكائن الحداثي مع معطى الزمن بما هو صفة لتغير أو مؤشر يحيل على عتبة عصر آخر Sattelzeit، لكن استحضار التقدم حسب كوزيليك لايرادف تحققه، بل إثارة المفهوم ذاته تحيل على طبيعة التجربة الزمنية، بغض النظر عن وجهة هذا التجربة* الذي انعكس على مفهوم التجربة؛ فمنذ "القرن الثامن عشر مبدأ تجربة التسارع الزمني اكتسبت إن أمكن القول استقلاليتها"[55]، استقلالية أعادت صياغة علاقتنا بالآنية الزمنية، وهنا تكمن خصوصية القراءة الكوزيليكية، إذ خلال القرن الثامن عشر أخذت علاقة الإنسان بعناصر الزمن توجها في خضمه، تم إدراج التقسيم الخاص بالعتبة التاريخية لما قبل وما بعد، ولأجل رصد هذه العلاقة رسم راينهايت كوزيليك إطارا لتقديم تحليل مؤسس على قطيعة مفهومية بين الما قبل وما بعد، يصرح كوزيليك: "ففي الواقع أنه فقط خلال مئتي عام أنتج هذا النوع من التسارع الزمني الذي نعتبره نحن ما بعد مسيحي، يعرف عبر التقدم التكنو صناعي والخاص بالزمن التاريخي"[56]، وفي ربط ظهور مفهوم التسارع الزمني بالأزمنة الحديثة إشارة لرسم "عتبة عصر" أو "فاصل زمني" يخص كل تجربة سوسيوسياسية بهويتها الزمنية في حاضرها، هذه الصفة التي تمنحها التأصيل الذاتي، لكنها أيضا إمكانية لفهم تمثلاتنا حول الماضي والحاضر والمستقبل، هذا الفهم الذي يؤسس أولى ملامح التعارض المتواجد ما بين حقل التجربة وأفق الانتظار، ما هو متحقق وما نأمل في تحققه، مادام أن قراراتنا بصفة عامة تبنى على تراكم تجارب الماضي[57]؛ أي إننا ننطلق دوما من الحاضر نحو الماضي، فنحن نفكر انطلاقا من علاقتنا بالماضي، قراءة تتماشى مع مستوى تقييمنا لهذا الإرث الذي يظل بيننا وفق منظور تجربتنا الزمنية؛ أي تقييم ينطلق من حاضرنا الموسوم بأفق غائي مبني على تراكمات قدمها لنا الماضي، هذا الماضي الذي يتم وفق انتظاراتنا القادمة، إذ نحن كائنات غائية تطمح دوما لتسطير غاية نهائية وراء أفعالها، فنسطر شروط وجودنا وإطار علاقتنا بالعالم ككل، انطلاقا من غاية مستقبلية ما، أو أفق انتظار يخص أفق نشاطنا البشري مستقبلا. لذلك، فإن حقل الفعل الرئيس لنقد الدين المسيحي للتاريخ المقدس، هو إرث فهم في نسخة العالم القادم[58]، مادام أن صيرورة العلمنة sécularisation* تم عبرها تحويل الاسكاتولوجيا ضمن تاريخ التقدم، "إذ لم نعد نبحث عن الخلاص في نهاية التاريخ، بل في اكتمال هذا التاريخ ذاته"[59]، اكتمال ترجم الآمال إلى تجربة زمنية، وهذا ما جعل الأزمنة الحديثة ومفاهيمها تطالها شبهة التبعية الثيولوجية، إذ لم يعد الرب هو سيد اللعبة، بل إن الإنسان هو الذي صار يقود التقدم عبر تحقيق اكتمال التاريخ وفق شروط الهنا الزمني، يتعلق الأمر إذن بتغير الفاعل التاريخي.
إن مفهومي كل من حقل التجربة وأفق الانتظار، هما في قلب فهم التجربة التاريخية؛ لأنهما يحددان بشكل دقيق الطريقة التي نؤول بها الماضي، والتي من خلالها نتوجه نحو المستقبل[60]، وفي خضم حقل التجربة الخاصة بالحاضر يتأطر أفق انتظارنا وكذا قراءتنا للماضي، هذا الماضي الذي يظل حاضرا في ثنايا الحاضر على خلاف المستقبل، ففي إطار تغير العلاقة ما بين حقل التجربة وأفق الانتظار تتأسس الصيرورة الزمنية الخاصة بالحياة البشرية[61]، حيث ما بين الانفتاح على الحاضر والانتظارات التي يحملها هذا الحاضر، وكذا التوقعات الموجهة نحو المستقبل يتواجد حقل اكتشاف الزمن التاريخي الذي ترسمه حقل التجربة الخاصة بنا، أو بعبارة أخرى، الشدة التي انطلاقا منها يَتولَد الزمن التاريخي نفسه بطرق متباينة [62]، لذلك فحقل التجربة وأفق الانتظار ليسا بالمعنى الدقيق للكلمة مفاهيم تاريخية، لكنهما بالأحرى شروط إمكانية كل التاريخ. إنهما عناصر بنائية تأسيسية لكل فعل[63]، وهو الأمر الذي أشار اليه كوزيليك، ليس هناك تاريخ يمكن أن يؤسس باستقلال عن التجارب وآفاق الأفعال الإنسانية، فهذان المفهومان أو الصفتان الميتا تاريخيان يخدمان غرض تأويل التحول الرئيس لعلاقتنا الحديثة بالزمنية.[64]
ففي الفترة الحديثة، رسمت حقل تجارب الفعل الإنساني بناء على أفق تحقق انتظاراته المستقبلية؛ لأن المشكل التاريخي يعود إلى التحول الذي لمس تمثلاتنا عن مفهوم الزمنية، هذا التمثل الذي اكتسب دلالة مغايرة عما كان سابقا، يتعلق الأمر بتجربة زمنية محايثة للعالم، حيث الأنماط الزمنية ترتبط بوتيرة القانون الطبيعي، وهنا الزمن التاريخي يقدم بصفة خاصة بما هو منتوج بشري، مما سمح بترجيح مفاهيم مثل: التقدم، الصيرورة، التغير، على مفاهيم معاكسة لهذا التوجه وعلى رأسها الأزمة، التقهقر، الثبات، التدهور، التخلف...لأنه منظور يرتبط براهنية محايثة لتجربة الزمنية، لكن مع ذلك فحقل التجربة وأفق الانتظار ليسا سوى صفات شكلية، فهما صفتان تتداخلان على شاكلة تداخل الماضي والمستقبل، ومن تم فهما صفتان مؤهلتان لتكونا تيمة الزمن التاريخي[65]، على هذا الأساس يحيل حقل التجربة على الإمكانات المحددة بسياق ماضينا وحاضرنا، في حين أن أفق الانتظار موجه بشكل كبير نحو المستقبل، نحو الامتداد الزمني اللامحدد بأي سقف زمني، ومن هنا اختلافه عن الأفق الخلاصي، يقول كوزيليك: "التجربة الأولى لم تكن أبدا انتظارا خلاصيا مستمدا من الدين، لكنها تجربة تخص النجاح التقني الذي رفع شبكة الاتصالات البشرية، وزاد من مردودية الإنتاجية في فترات زمنية قصيرة"[66].
إن التحول الذي لاحظه كوزيليك، يتعلق برسم تواز بين حقل التجربة وأفق الانتظار، الذي يقدمهما بما هما تزمين للتجربة المفهومية، حيث تصير التجربة المفهومية تعكس واقع التجربة الزمنية، وواقع التجربة الزمنية يحدد أفق الانتظار المستقبلي، فحقل التجربة وأفق الانتظار يشير عبرهما كوزيليك إلى المنظور المستقبلي وكذا البعد البرجماتي لفلسفة التاريخ الأنوارية[67]، بذلك يعكس المفهوم سياق التجربة الزمنية للواقع السوسيوسياسي؛ فالمفاهيم التي كانت قبلا متأصلة داخل التجارب السياسية الماضية صارت تشير إلى وظيفة تخص استشراف المستقبل، كأن المفهوم يعكس هذه التجربة الزمنية، وبذلك يعبر عن الزمنية التاريخية انطلاقا من الخطاطة المفهومية المسيجة للواقع السوسيوسياسي الحداثي، إذ جوهر المفهوم هو جوهر مستقبلي، بمعنى موجه لتحقق المطلب الزمني وفق الحركة التقدمية لتاريخ[68]، ما يؤكده كوزيليك أن المفهوم، حتى وإن كان متواجدا كبنية لغوية بشكل مسبق عن حقل التجربة الجديدة، إلا أنه يكتسب بالمقابل دلالة مخالفة لما كان عليها قبلا، أو يتم خلق إضافات تكسب المفهوم جدته، فمثلا حسب راينهايت كل المفاهيم المنتهية ب isme، هي مفاهيم تم ابتكارها قبل أن يتواجد واقع يناسبها، إذ يلاحظ بشكل خاص أنه عبر الزمن في أمده البعيد المفاهيم تكتسب دلالات جديدة أو تتغير بنيتها اللسانية.[69]
إذن، فالمفاهيم تعكس الصيرورة التاريخية الممتدة من حاضرها، نحو أفقها المستقبلي، فلم يعد الاعتماد على دعامة التجارب الماضية هو المرجع في تحديد الفعل الإنساني، بل الاعتماد على الإمكانات المستقبلية القيد التحقق[70]، وهنا يصير واقع التجربة الزمنية الخاصة بالحاضر ممتد في زمنيته المستقبلية، خطية زمنية تعمل التجارب التاريخية على تقسيمها وفق أفقها الانتظاري، وفي تقسيمها تخلق فجوة زمنيتها، تزمين اللاتزامني؛ لأن الوعد التقدمي الذي تقدمه آفاق الانتظار الخاصة بفلسفة التاريخ تتجاوز التجارب الماضية والحاضرة. إنها ترمي إلى أبعد من الهنا الحاضر، إلى الهناك القيد التحقق أو اللاتحقق، بعبارة أخرى، الأمر يخص النبش عن الاختلافات الزمنية التي تحملها التعقيدات الزمنية لكل عصر، حيث المفاهيم تصير هي نفسها أعراض وعلامات للزمن التاريخي[71]. وهنا يكمن رهان كوزيلك؛ أي تبيان أن هذا التقدم ارتبط بشكل ما بالجانب اللساني المعبر عنه السياق السوسيوسياسي، حيث استعارة معجم جديد لوصف التغير السياسي والاجتماعي للتجربة الزمنية الحداثية، وفي هذا الخلق المفهومي تكمن جدتها الزمنية. ففي الأزمنة الحديثة تم نزع طابع الاستمرارية التواصلية بين الماضي والحاضر الذي كان سابقا والقائم على أن هناك ثابتا في الطبيعة، يضمن أن القادم سيتشابه مع ما كان سابقا، ومنه أساس القولة إن الماضي أفضل معلم للحياة، أو إننا يمكن أن نستفيد من تجاربنا الماضية l’historia magistra vitae، مادام لا جديد تحت الشمس. لذلك، فالزمنية التاريخية لا تتأسس على الثبات والاستمرارية، بل على التسارع، وهو الأمر الذي ترجمته فلسفة التاريخ عبر مفهوم التقدم والصيرورة التصاعدية لتاريخ، فتسارع التقدم سواء كان مأمولا أو واقعا، فهو يرجع لداخل الزمن الذي لا يتغير على عكس عملية التبطؤ الزمني الذي لا يقاد إلا من طرف الإله[72]، فعملية قيادة التاريخ التي كانت تقاد من خارجه، صارت خلال الأزمنة الحديثة بداهة تعكس مفهوم التسارع الزمني من الداخل، وهنا لا يحيل مفهوم التسارع على التقدم أو نمطية تصاعدية في حركة التاريخ، بل يستحضر بما هو نمط لمزامنة (تزامن) تجربة زمنية تعيش على وقع تسارع التحققات، وبذلك لا تكون فلسفة التاريخ مجرد علمنة بسيطة للتصورات الثيولوجية، بل هي منظور جديد لمفهوم التاريخ بما هو مسار ممتد قائم على التسارع داخل مسار زمني ثابت وهنا نصير أمام تزامن اللاتزامن، كأننا نخلق فجوة زمنية داخل الزمن نفسه، وهذا التزامن قد يحمل التقدم أو التقهقر، وقد يكسر بأزمة أو انفراجة، أو ينفتح على أزمات دائمة، إن كل الانتظارات ممكنة ولا سبيل للتوقع، مادام أن المستقبل منتفح على جميع الاحتمالات، هذه الاحتمالات التي تنفلت عن أدبيات التخطيط البشري المسبق. لذلك عمل كوزيليك على تحديد البنيات الثابتة الخاصة بالتجربة التاريخية المتواجدة على سطح التجارب، الآمال، والمعاناة الفردية[73]، هذه البنيات هي التي تحدد حقل التجارب البشرية، كما تؤطر بالمقابل أفق انتظاراته، وهي قراءة لا تسري على الأزمنة الحداثية دون غيرها، بل تخص طبيعة التجارب البشرية في إطار علاقتها مع المعطى الزمني، اليوم على طريق راينهايت كوزيليك هناك العديد من أعمال المؤرخين التي تستعمل هذه الثنائية المفهومية، حقل التجربة وأفق الانتظار، لأجل تأمل على حد سواء الزمن التاريخي، وبشكل أساسي محرك الفعل الإنساني[74]...
خاتمة:
إن الانتقادات الكوزيليكية للأزمنة الحديثة، فيما يخص مفهوم التاريخ قادته إلى إثارة أفق معرفي يخص مبادئ التغير الزمني، فإذا كان التاريخ قد شكل حيزا مهما لدى مفكري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن هذه الأهمية راجعة إلى التحولات التاريخية التي مست الأفق الانتظاري، الذي كان مأمولا من طرف الأنساق الحداثية، والعمل النقدي لراينهايت كوزيليك يندرج في هذا الإطار، فهو لم يسحب التأصيل الذاتي عن مفاهيم الأزمنة الحديثة، على غرار ما قام به لوفيث، بل استطاع رسم خصوصية لهذا العصر، رغم تشبيهه في عدة مناسبات تيمة الزمنية بتيمة أو مفهوم العلمنة، وبالأخص من خلال عمله الأول kritik une krise. وخلال هذا العمل، كان وفيا للتيار الذي حمل لواء المبرهنة النازعة عن فلسفة التاريخ أصالتها، على غرار كل من كارل شميث وكارل لوفيث، باعتبار تيمة العلمنة تحيل على تشخيص طبيعة العصر الحديث والمعاصر، علمنة للآمال الدينية عبر وساطة فلسفة التاريخ، لكن الاختلاف المسجل بين كل من كارل لوفيث وراينهايت كوزيليك وهانس بلومنبرغ، يتعلق بالأساس في طبيعة الحكم المتعلقة بمساءلة المفاهيم المؤسسة للهوية التأصيلية لهذه الأزمنة، فكوزيليك يقر بتحول على المستوى اللساني، وإن كانت مفاهيم تكتسب صبغة ايديولوجية تعكس الصورة السوسيوسياسية لتلك الأزمنة، وهو الأمر الذي تجلى في أعماله الأخيرة، هذه الأعمال التي بصمت بالطابع الأنثروبولوجي، وهو توجه بدا منذ 1972 من خلال عمله Historik und Hermeneutik[75] مبتعدا بذلك عن الرؤية اللوفيثية، التي تختصر التغير الذي حملت لواءه فلسفة التاريخ مجرد علمنة ألف إلى باء دون تحقيق تحول حقيقي، يشرعن اتصاف هذه الأزمنة بالحداثة والجدة، علمنة حافظت على الجوهر الثيولوجي للتصورات المسبقة التي تحملها فلسفة التاريخ، في حين أن الحداثة الحقة هي التي نجدها في الفلسفة الإغريقية؛ لأنها لم تنتج مفهوما للتاريخ في إطار تقدمي، وإنما في إطار دائري لا يدعي إمكانية التحكم في التاريخ وتوجيهه نحو نهاية خيرة على غرار التصور اليهودي المسيحي المؤسس على فكرة الخلاص النهائي، حداثته تكمن في غياب غائية نهائية وراء التاريخ.
تشكل هذه الاستنتاجات، إذن، تقاطعات ترسم شبكة الفاعلية البشرية، وهي تنظر للتاريخ وتتأمله وتحياه لتضع منظورها إزاء العالم وهي بداخله، ولعل ما نعيشه اليوم من تجربة الحدث اللامتوقع المتمثل في وباء كورونا خير مثال؛ فالأمل في أفق تاريخي يظل حاضرا ويبني انطلاقا من آمال هذه التجربة الزمنية، كما أنه يرسم خطاطة مفهومية خاصة بهذه التجربة السوسيوسياسية، فلا أفق يرسم نهاية التاريخ، سيمضي مضي الكائنات البشرية، إذ نحن بالنهاية كائنات غائية رهينة أفق انتظار أفضل مما نعيشه في حقل تجارب حاضرنا.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
_______________________________________________________________
المراجع بالعربية:
- مايكل ألين جيلسي، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة: فيصل بن أحمد الفرهود، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى 2019
- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة 2005
- فرانكو موريتي ودومنيك بيستري: لغة تقايري البنك الدولي (2من2)، لغة البنك الجزء الثاني، ترجمة: علاء بريك هنيدي، تم التحديث 6 يوليو 2020 www.mutalammes.com
المراجع والمصادر بالفرنسية والالمانية:
- Alexandre Escudier, « La crise sans fin de la modernité : naissance et avatars d’un thème chez Reinhart Koselleck », Fondation Nationale des sciences politiques, Revista de historiografia, Paris 29/05/2020.
- Alexandre Escudier, « Temporalisation et modernité politique : penser avec Koselleck », Annales, Histoire, Sciences Sociales, Editions de L’EHESS, 2009/6
- Bernard la croix, Xavier landrin, « la Begriffsgeschichte les usages conceptuels du médiéviste », laboratoire de médiévistique occidentale de paris(Lamap), Université paris1 panthéon-Sorbonne, Nov. 2011, France.
- Gennaro Imbriano, Krise und pathogenese in Reinhart Koselleck diagnose uber die moderne welt », Forum Interdisziplinare Begriffsgeschichte heraus gegeben von Ernst Muller, Zentrum fur literatur und Kultur for schung berlin, Journal 2013
- H. Blumenberg, la légitimité du temps moderne, traduit de l’allemand, marc sognol jean luois Schlegel et denistrierweiler avec collaboration de Marianne dautrey, nerf édition, Gallimard.
- Karl Lowith, Histoire et salut, les présupposés théologiques de la philosophie de l’histoire ; traduit de l’allemand par Marie, Christine Chalhol, Gillet, Sylvie Hurstel et Jean, François Kerjean, présentation d. kervégan, Gallimard
- Lukas Held, « Variation du dialogue idéal. Blumenberg, koselleck et l’iconologie politique », Revue germanique internationale, 25 | 2017
- Michéle Leclerc-Olive, « Entre mémoire et expérience, le passé qui insiste », C.E.R.AS, Revue Projet, 2003/1.
- Myriam Revault D’Allonnes, L’autorité des modernes, « les sciences de l’éducation-pour l’être nouvelle », 2009/3(vol42).
- Philippe Capelle, « trois Foyers de questions,histoire et providence », Idée et Idéalisme, coordinatrice Kim Song Ong-Van-Ung,vrin2006
- Reinhart Koselleck, Le règne de la critique, traduit de l’allemand par Hans Hildenbrand, Les Editions de minuit, paris 1979
- Reinhart koselleck, Raccourcissement du temps et accélération, contribution à l’étude de la sécularisation, traducteur Philippe Forget, Ecrire l’histoire, journals. Openedition, date de publication15 septembre2016, consulté le 23/septembre/2021
- Reinhart Koselleck,Expérience de l’histoire, traduit de l’allemand par Alexandre Escadier avec la collaboration de Diane Meur, marie claire, et Fochen hoock, Gallimard
- Robert Buch, Umbuchung. Säkularisierung als Schuld und als Hypothek bei Hans Blumenberg, Zeitschrift für Religions- und Geistesgeschichte 64, no. 4 (2012): 338–58.https://www.jstor.org/stable/23899016
- S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire », Presses de l’Université de Montréal, 2019, p.203
- Servanne Jallivert, « l’histoire au pluriel de Reinhart Koselleck », La vie des Idées, Septembre2020
- Stéphane Dirschauer, mythe et modernité dans l’anthropologie philosophique de Hans Blumenberg, thèse en vue de l’obtention dugrade de philosophiae doctor en philosophie et à l’université de paris Sorbonne، université de Montréal, juillet 2005
- Theo Jung, « Das Neue der Neuzeit ist ihre Zeit Reinhart Kosellecks Theorie der verzeitlichung und ihre kritiker », kulturwiqqenschaftlicher jahrbuch6, 2010
[1] Reinhart Koselleck, Le règne de la critique, traduit de l’allemand par Hans Hildenbrand, Les Editions de minuit, paris 1979, p.7
[2] ibid., p.114
[3] Servanne Jallivert, « l’histoire au pluriel de Reinhart Koselleck », La vie des Idées, Septembre2020, p.3
* صيغة مفهوم التاريخ الما قبل حداثي كان يحيل على المفهوم في صيغته التعددية/ فلكل موضوع تاريخه. أما في صيغته الحداثية، فهو يعبر عنن صيغة المفرد أو التاريخ بما هو مصطلح يعبر عن دلالة شمولية تخص مجموع النشاط البشري في التاريخ ككل أو المسار التاريخي بما هو نتيجة لشمولية الفاعلية البشرية، فكافة التاريخ يصبح تاريخ بصيغة العموم دون أن يرافق موضوعا ما، إذ يعكس مرضوع ذاته، وهنا يغدو التعدد واحد ووحيدا..
* راينهايت كوزيليكReinhart Kosellck الجندي الشاب الذي تجند بشكل طوعي في فايماخت Wehrmacht بسن الثامنة عشر أرسل إلى الواجهة الشرقية خلال 1941/1942، حيث سجن لدى الروس، لينتقل بعد ذلك إلى كازخستان التي ظل بها إلى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية، هناك حيث قضى حوالي خمسة عشر شهرا من السجن، فبكل تأكيد هذه التجربة المعاشة خلال سنوات الحرب تفسر نمط القراءة الكوزيليكية لمفهوم التاريخ، وكذا الطبيعة النقدية التي وجهها للعلوم التاريخية، اذ كان مدفوعا برغبة في فهم الأزمة المعاصرة التي امتدت من حربين إلى حرب ثالثة باردة، محاولة أرجعته إلى فترة الأزمنة الحديثة قصد البحث عن الأسس الأولى المسؤولة عن الوضع المعاصر والمولدة للأزمة العالمية التي يعيشها المجتمع الغربي، فأوكل بذلك مهمة جديدة لمفهوم التاريخ إنها مهمة سوسيوسياسية وبنيوية، فأعمال كوزيليك جددت الحقل الهستوغرافي بمقاربات متنوعة حيث تحضر عدة تخصصات منها الفيلولوجيا، وتحليل الصورة الزمنية من خلال مكوناتها البنيوية واللسانية، مما منح فهم أفضل لطبيعة التجربة التاريخية.
[4] Reinhart Koselleck, Expérience de l’histoire, traduit de l’allemand par Alexandre Escadier avec la collaboration de Diane Meur, marie claire, et Fochen hoock, Gallimard, p.16
[5] Reinhart Koselleck, Expérience de l’histoire, op.cit., p.17
[6] Ibidem.
[7] ibid., p.18
[8] فرانكو موريتي ودومنيك بيستري: لغة البنك الدولي (2من2)، لغة البنك الجزء الثاني، ترجمة: علاء بريك هنيدي، تم التحديث 6 يوليو 2020، www.mutalammes.com
[9] Reinhart Koselleck, Le Règne de la critique, op.cit., p.110
[10] Ibid., p.66
[11] Ibid., p.67/66
[12] Rheinhart Koselleck, L’expérience de l’histoire, op.cit., p.15
[13] Servanne Jallivert, L’histoire au pluriel de Reinhart Koselleck, op, cit., P4
[14] فرانكو موريتي ودومنيك بيستري، لغة البنك الجزء الثاني، مرجع سابق..
[15] المرجع نفسه..
[16] Ibidem.
* أزمة العلوم التاريخية التي ارتبطت بنهاية الحرب العالمية الأولى، جراء ظهور أنظمة كليانية شمولية ديكتاتورية، شيوعية وفاشية، "التي اتخذت من التاريخ، ووحدة وجهته وحتمية قوانينه، مبرارات لسياستها التسلطية. فلم تعد التاريخانية تبدو منهجا أو فكرا شموليا ناتجا عن تمحيص دقيق للتاريخيات، بل اكتست صفة أدلوجة مبسطة. لا يمكن فهم عنف الردة ضد فكرة التاريخ، بكل تفريعاتها وتشكيلاتها، إلا في هذا الإطار، أي باعتبار ما آلت اليه في أذهان الجمهور النزعة التاريخية بعد قرن أو يزيد من التوضيح والتبسيط". عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، ص 368
* قد يربط الكتاب في أغلب الأحيان بمصير صاحبه كارل لوفيث Karl Lowithالشاب المقرب من هايدغر، فتحت إشراف هذا الأخير سيهيئ رسالة habilitation schrift، وهي شهادة حضرها بعد الدكتوراه (التأهيل الجامعي)، استقر بالولايات المتحدة الأمريكية، وهنا بالضبط سيظهر الكتاب سنة 1949، تحت عنوان meaning in history، الذي سيترجم إلى الألمانية بفضل kannokesting، وهي الترجمة التي راجعها وأتمها "كارل لوفيت" بنفسه وظهرت خلال سنة 1953. لوفيث هرب من النازية خلال 1934 بفضل منحة من مؤسسة Rockfeller التي منحته سنتين إلى روما، بعدها سيغادر أوروبا نحو اليابان خلال (1936-1941)، ثم بالنهاية نحو أمريكا البلد الذي يمنح للمفكرين فساحة الكتابة إلى حين وفاته 1973
[18] ibid., p.1/2
[19] K. Lowith, Histoire et salut, op.cit., p.22
[20] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire », Presses de l’Université de Montréal, 2019, p204
[21] Alexandre Escudier, « La crise sans fin de la modernité : naissance et avatars d’un thème chez Reinhart Koselleck », Fondation Nationale des sciences politiques, Revista de historiografia, Paris 29/05/2020, p.54/55
* لقد اعتاد العديد من مؤرخي الفلسفة على تقطيع مسار التاريخ البشري إلى عتبات منفصلة كان من مخلفات هذا الفعل استعظام عصر والاستخفاف من شأن آخر، وهذا ما وقع في أمر تقسيم المسار الفكري: الفكر اليوناني، المسيحية الأولى، العصر الوسيط والأزمنة الحداثية، فكان هناك اتجاهان، اتجاه ينظر إلى العصر الوسيط كعصر خارج التاريخ، بل هو عصر الانحطاط والظلام الفكري، وهنا تجدر الاشارة إلى أن هذه النظرة تنطلق من منظور حداثي أو بعيون مابعد وسطوية، رؤية تغيب مسألة مراعاة الخصوصية الفكرية للعصر الوسيط في زمنيته التاريخية، هذا الاهمال هو من وجه اليه اتيان جيلسون Etienne Gilson كامل اهتمامه، إذ كل عتبة تاريخية تحمل تأثيرا فعالا على العتبة اللاحقة، فالعصر الوسيط أدى دورا فعالا في بناء الأسس الحداثية، لذلك عمل جيلسون إلى استنطاق النصوص والعودة للحقبة الوسيطية من خلال الأعمال الفنية والفكرية والابداعية التي تؤكد التأصيل الذاتي لهذه الحقبة؛ لأن العمل على تبخيس أي عصر والقول بانفصالية بين العتبات التاريخية لا يساهم في بناء أي تاريخ...
[22] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، مرجع سابق، ص390
[23] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op.cit., p.204
[24] Karl Lowith, Histoire et salut, les présupposés théologiques de la philosophie de l’histoire ; traduit de l’allemand par Marie, Christine Chalhol, Gillet, Sylvie Hurstel et Jean, François Kerjean, présentation d. kervégan, Gallimard, p.21
[25] ibid., p.63
[26] Gennaro Imbriano, Krise und pathogenese in Reinhart Koselleck diagnose uber die moderne welt », Forum Interdisziplinare Begriffsgeschichte heraus gegeben von Ernst Muller, Zentrum fur literatur und Kultur for schung berlin, E.Journal 2013, 13
* مفهوم الأزمة مفهوم حظي باهتمام كوزيليك منذ أعماله الأولى بالأخص من خلال رسالة الدكتوراه التي حصل عليها في هايدلبرغ heidelberg خلال سنة 1954 تحت عنوان critique et crise، فالمفهوم لم يكن حاضرا في قاموس فلسفة التاريخ ولا في الثيولوجيا، وإنما كان مقتصرا على المعجم الطبي، لذلك فالأزمنة الحديثة لم تدرج هذا المفهوم بما هو فاعل تاريخي، هذه الدراسة التي تحضر فيها ايضا أثار السجال الذي أثاره كل من كارل شميث وكارل لوفيث.
[27] Reinhart Koselleck, Le Règne de la critique, op.cit., p.134
[28] Ibidem.
[29] ibid., p.132
[30] Ibid., p112.113
[31] Myriam Revault D’Allonnes, L’autorité des modernes, « les sciences de l’éducation-pour l’être nouvelle », 2009/3(vol42), p.15
[32] Reinhart Koselleck, Le Règne de la critique, p10.11
[33] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op.cit., p. 206
[34] Jean Paul Willaime, « La sécularisation : une exception européenne ? retour sur un concept et sa discussion en sociologie des religions », Revue française de sociologie, 2006/4(Vol.47), p.783
* هناك العديد من الكتاب وعلى الأخص الألمان الذين حاولوا إعادة قراءة الغنوصية وإخراجها من هامشيتها الفلسفية أمثال أدولف هارناك Adolf von Harnack، جوناس Jonas، بولتمان Bultmann، جاكوب توبيس Jacob toubes، أودو ماركار Odo Marquard، Voegelin ...وطبعا بلومنبرغ.
[35] Robert Buch, Umbuchung. Säkularisierung als Schuld und als Hypothek bei Hans Blumenberg, Zeitschrift für Religions- und Geistesgeschichte 64, no. 4 (2012): 338–58. https://www.jstor.org/stable/23899016.
[36] H. Blumenberg, la légitimité du temps moderne, traduit de l’allemand, Marc Sognol Jean Luois Schlegel et Denistrierweiler avec collaboration de Marianne Dautrey, nerf édition, Gallimard, p.136
* هانس بلومنبرغ H.Blumenberg خصص كتابا ضخما لرد على الاطروحة التي تسحب مشروعية الأزمنة الحديثة في ادعاء الجدة التاريخية، عنوان الكتاب حمل أهم ملامح الصراع حول مسألة التأصيل الحداثي من عدمه "مشروعية الازمنة الحديثة" La légitimité du temps modernes.
[37] Alexandre Escudier, « Temporalisation et modernité politique : penser avec Koselleck », ibid., p.23
[38] Lukas Held, « Variation du dialogue idéal. Blumenberg, koselleck et l’iconologie politique », Revue germanique internationale, 25 | 2017, p.158
[39] Lukas Held, « Variation du dialogue idéal. Blumenberg, koselleck et l’iconologie politique, op.cit., p.158
[40] Rheinhart Koselleck, L’expérience de l’histoire, op.cit., p.28
[41] Ibidem.
[42] Ibid., p.207
* اعتبر كارل لوفيث تضمين أنساق فلسفات التاريخ لغاية نهائية، وإن كانت قد اتخذت صورة مغايرة ظاهريا، من أهم مبررات للقول بعلمنة التصور الإنجيلي في بناء هذه الأنساق، وهنا مفهوم العلمنة يحيل على معنى النسخ والترجمة الأمينة للتصورات اليهودية والمسيحية من قبل الأنساق الفلسفية الحداثية وعلى الأخص منها الأنساق الألمانية. فالقول إن غاية التاريخ "يكتشف الانسان أنه الغاية والوسيلة وذلك الكشف هو مضمون الحرية. يبدو هذا التعريف وكأنه عبارة علمانية لمقولة ثيولوجية. الاعتراض منطقي واضح: كيف نعرف الغاية قبل حدوثها؟ كيف نتحقق أن للتاريخ غاية ونحن لانزال تائهين في دروبه؟. يتضح بمجرد طرح السؤال أن تفرع التاريخانية إلى تجسيدية (الغاية محققة في كل لحظة) وتطورية (الغاية تتحقق بالتدرج) نابع من تناقض ذاتي لمفهوم الغاية. إن الغارق وسط المحيط لا يمكن أن يتحقق أن له ساحلا، وكذا الإنسان داخل التاريخ، لا يمكن أن يقطع أن له غاية وقوانين توحده وتسيره". عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة 2005، ص 378.
[43] K. Lowith, Histoire et salut, op.cit., p.25
[44] Stéphane Dirschauer, mythe et modernité dans l’anthropologie philosophique de Hans Blumenberg, thèse en vue de l’obtention du grade de philosophie doctor en philosophie et à l’université de paris Sorbonne، université de Montréal, juillet 2005op.cit., p.36
[45] K. Lowith, Histoire et salut, op.cit., p.26
[46] مايكل ألين جيلسي، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة: فيصل بن أحمد الفرهود، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى 2019. ص363
[47] Philippe Capelle, « trois Foyers de questions, histoire et providence », Idée et Idéalisme, coordinatrice Kim Song Ong-Van-Ung, vrin2006, p.221
[48] S.Marcotte – Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire », op.cit., p.208
[49] Reinhart Koselleck, le Règne de la critique, op.cit., p.69
[50] Ibid., p.33
[51] Theo Jung, « Das Neue der Neuzeit ist ihre Zeit Reinhart Kosellecks Theorie der verzeitlichung und ihre kritiker », kulturwiqqenschaftlicher jahrbuch6, 2010, p.180
[52] S.Marcotte – Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op.cit., p.209
[53] Ibid., p.210
[54] Rheinhart Koselleck, L’expérience de l’histoire, p.15
* هنا يختلف كوزيليك عن مصاف باقي منتقدي الأزمنة الحديثة، فهو يقر بحدوث تغير بغض النظر عن الوجهة التي يحملنا إليها هذا التغير كان متنبأ بها أو غير قابلة للتنبؤ؛ لأن المسار التاريخي لا يسمح بالقابلية للتوقع، فهناك دوما ما يخالف انتظاراتنا، هذه الوجهة أو الغاية التي كانت ذريعة كارل لوفيث للقول بثيولوجية فلسفة التاريخ؛ لأنها تسير وفق غاية خلاصية على غرار التصور الثيولوجي.
[55] Reinhart koselleck, Raccourcissement du temps et accélération, contribution à l’étude de la sécularisation, traducteur Philippe Forget, Ecrire l’histoire, journals. Openedition, date de publication15 septembre2016, consulté le 23/septembre/2021
[56] Ibid., p.43.
[57] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op, cit., p.212
[58] Reinhart Koselleck ; le Règne de la critique, op.cit., p.10
* العلمنة sécularisation لنقل انها طريقة او نهج لترجمة نمط تعاطينا وتعاملنا مع العالم، الانسان في مقابل العالم، تصور أو بناء يركز على حقل تجارب بشرية متمركزة بشكل أساس على العالم دون غيره، حيث يحضر نوع من الاستقلال بخصوص هذا العالم انطلاقا من وسائل بشرية تحقق هذا الاستقلال إزاء أي تصورات أو محددات مسبقة، لكن تجذر الإشارة إلى أن المفهوم لم يعد يحيل على معنى واحد بل يمكن القول إن هناك تعددا في المعنى جعلها تنتقل من التعبير عن حالة تشخيصية لعصر إلى اداة تأويلية.
[59] Reinhart Koselleck, Raccourcissement du temps et accélération, op, cit., p.38
[60] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op, cit., p.212
[61] Theo Jung, « Das Neue der Neuzeit ist ihre zeit Reinhart Kosellck Theorie der verzeitlichung und ihre kritiker », op, cit., p.172
[62] Servanne Jalliver, « L’histoire au pluriel de Reinhart koselleck », op, cit., p.5
[63] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne: Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire », op, cit., p.212
[64] Ibidem.
[65] Servanne Jalliver, « L’histoire au pluriel de Reinhart koselleck », op, cit., p.5
[66] Reinhart Koselleck ; Raccourcissement du temps et accélération, op, cit. p.41
[67] Gennaro Imbriano, Krise und pathogenese in Renhart Koselleck diagnose uber die moderne welt, op, cit., p.5
[68] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op, cit., p.213
[69] Bernard la croix, Xavier landrin, « la Begriffsgeschichte les usages conceptuels du médiéviste », laboratoire de médiévistique occidentale de paris(Lamap), Université paris1 panthéon-Sorbonne, Nov. 2011, France, p.4
[70] S.Marcotte –Chénard, « Interpréter la temporalité moderne : Lowith, Koselleck et la philosophie de l’histoire, op, cit, p.213
[71] Servanne Jalliver, « L’histoire au pluriel de Reinhart koselleck », op, cit., p.3
[72] Reinhart Koselleck ; Raccourcissement du temps et accélération, op, cit., p.37
[73] Alexandre Escudier, « Temporalisation et modernité politique : penser avec Koselleck », Annales, Histoire, Sciences Sociales, Editions de L’EHESS, 2009/6, p.5
[74] Michèle Leclerc-Olive, « Entre mémoire et expérience, le passé qui insiste », C.E.R.AS, Revue Projet, 2003/1, p.97
[75] Ibidem.