أسرار العشق المُبدع في كتابات محمد إقبال
فئة : قراءات في كتب
بدعوة من مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن ألقت الأستاذة أنّا ماري شيمل محاضرة باللغة الإنجليزية يوم الاثنين 11 نوفمبر1996، في قاعة المحاضرات، بمتحف فكتوريا وألبرت الملكي، بالعاصمة البريطانية، جاءت المحاضرة بالتزامن مع ذكرى ميلاد إقبال[1]، وطُبعت في مؤسسة الفرقان بلندن باللغتين العربية والإنجليزية 1996م، ويتجدد طبعها حتى الآن.
تبدأ شيمل محاضرتها بسرد سيرة العاشق الهندي متحدثة عن ميلاده وترى أنّ كلماته تعبّر عنه بوضوح أكثر من تعبير دارسي فكره، وتقتبس فقرة من كلام إقبال عن نفسه أنّه "يؤمن بأنّ للدين أهميةً عليا في حياة الأفراد وكذلك في حياة الدّول، وأنّه يؤمن أنّ الإسلام في حد ذاته قدرٌ، بيد أنّه قدرٌ لا يتغيّر"[2].
وتذكر شيمل عبر مقدمتها أنّنا نكاد لا نجد اثنين من دارسي إقبال وعشّاقه يتفقان تمامًا في الرأي فيما يخصّه لأنّ كتاباته تحمل مزيجًا فريدًا! أو لعلك ترى الرأي ونقيضه عند إقبال في آن واحدٍ، فتجد إقبال متمسكًا بجذور الإسلام وفي الآن نفسه مجدّدًا وحداثيًا وباعثًا لما ظنّ الناس به الموات من التعاليم[3].
وبالفعل نجد محمد إقبال ينقد الفلسفة اليونانية ويحذّر المسلمين من تفسير الإسلام وكتابه الخالد عبر هذه الفلسفة، وهو حين يقرأ آيات القرآن يقرأها متأثرًا بما يقوله هيجل ونيتشه وبرجسون، وتجده يحذّر من بساتين فارس وفواكهها وخمرها، وفي الآن نفسه يدخل بستان الرومي ولا يخرج منه، ويعبّر عن إعجابه الدائم بعشقه الخلاّق، ولا يخجل من كونه تلميذًا له على الرغم من مخاصمته الظاهرية لحافظ الشيرازي والشيخ الأكبر ابن عربي.
تعطي شيمل نبذة مختصرة عن مؤلفات إقبال من خلال حديثها عن سيرته، وترى أنّه لم يكن رجل سياسة فحسب، بل كان فيلسوفًا شاعرًا ألّف بلغات شتّى كالأوردية والفارسية والإنجليزية، وتعتمد ما يقوله إقبال عن نفسه في التأريخ له، فهو قد كتب بالفارسية عبر توجيه من مولانا الرومي أتاه عبر رؤيا منامية، ولا تستبعد بالطبع أنّه كتب بالفارسية نظرًا لانتشار النصوص بها أكثر من الأوردية وإن عاوده الحنين للكتابة بلغة بلدته فيما بعد.
تربط شيمل بين برجسون وإقبال وهو ربط يعرفه كل من طالع مؤلفات إقبال، ومن راجع محاضراته المجموعة في كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام). كذلك تربط بينه وبين جوته ولا يخفى أنّ إقبال قد ساجل ديوان جوته الشرقي، وكتب ديوانه (بيام مشرق) رسالة الشرق لأجل ذلك. ومن الرسالة إلى المعراج الروحي نرى حضور نيتشه وغالب الدهلوي ومن خاصمه إقبال في البداية لأنّه تأثر بفكر غريب عن الإسلام، أي الحلاج وقد جعله إقبال من الأرواح المحلقة التي لا ترضى بمكان بل تنتقل عبر السماوات لتصبح طيرًا جميلاً يرفرف حارسًا العباد.
إلا أن شيمل شُغلت بصورة النبي أكثر في محاضرتها عن إقبال، وهو التفات جيّد صار معها كلما كتبت عن إقبال، حتى ختام رحلتها من الكتابة عن الإسلام حين كتبت عن النبي خصصت جزءًا من كلامها عن انتشار المديح والتبجيل لهذا الرسول الكريم في بلاد الهند وباكستان، وهو تبجيل انبعث من قلب المسلم الذي يتابع النبي في خطواته ويعظّم تجربته، ومن غير المسلم فقد روت عن الهندوس ما يؤكد رؤيتها ومعايشتها لهذه الصورة الراقية التي ينالها النبي العربي هناك.
نظم إقبال قصيدة في مدح النبي بناءً على رؤيا مشابهة لرؤيا البوصيري مدّاح الرسول المشهور صاحب البُردة، إذ رأى إقبال في المنام أنّه التقى السيد أحمد خان وينصحه السيّد المصلح أن يتّجه لزيارة الرسول ويطلب منه المدد[4]!
ويرى إقبال في النبي محمد الإنسان المثالي الكامل، وتؤكد شيمل على أنّ الإنسان الكامل عند إقبال مفارق للإنسان السوبرمان عند نيتشه وبينهما بون شاسع. والشخصية المحمدية عنده محورية في كل أعماله، إذ كان يشعر أنّ روحه موصولة بالنبي، وقد أحس أنّه يحاكي النبي في كتاباته فهو وإن لم يكن نبيًا بطبيعة الحال إلاّ أنّه كان إنسانًا يسير في إثره بخطى لصيقة، يقول إقبال: أنا الشيخ أهفو للرحيل إلى المدينة، لأنشد هناك أغنية تزخر بالحب، كالطّائر في ليل الصّحراء، ينشر جناحيه بينما يفكّر في عشّه[5]!
أشارت شيمل في محاضرتها إلى تطبيق مثير لمقولة في تاريخ الأديان تفرّق بين الاتجاه الصوفي والاتجاه النبوي في الدين، وهو ما أشار إليه إقبال في محاضراته حين حديثه عن الصوفي الهندي الذي قال: صعد محمد النبي العربي إلى السماء قسمًا بربي لو صعدت ما هبطت. وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام بالفعل[6].
إنّ إقبال حينما ذكر عبارة الصوفي الهندي كان ينتقدُ الوعيَ الصوفي، وفضّل عليه الوعيّ النبوي، إذ اعتبر أنّ عودة النبي عودة شخص عامل وفعّال ومؤثّر، وهي عودة ساعٍ إلى طريق الكفاح والتأثير، عودة مناضل يريد أن ينشر أنوار التّوحيد، أما الصوفي فهو شخص أناني بهذه القولة لأنّه لا يهتم إلا بذوقه! الصوفيُّ القديم أو المعاصر الذي يستبدل البقاء بالفناء ويرضى بالجوار الأعلى هاربًا من الأرض هو ليس إنسانًا كاملاً وليس ذاتًا عند إقبال[7]!
لكنّ إقبالاً وإن تأسست على كلامه بعد ذلك نظرة سلبية إلى التّصوف والصوفية نسي أنّ الصوفي في مشاهداته وتأملاته ومعراجه الخاص يبوح بما يقنع هو وحده به، وإلاّ فإن فكرة المعراج الروحي في حدّ ذاتها منتقدة عند (أغلب المسلمين السنّة)، هو هنا في فرح وسرور ويريد لهذا المشهد أن يطول، يرجو ذلك وهو مسافرٌ إلى الله، يريد أن يسافر فيه ! ولا يمنع سفر الصوفي المشاركة في واقعه ومجتمعه.
ربّما انشغل إقبال بتغيير الواقع من حوله، في وقت كان الاستعمار يهتك ما بقي من نسيج الإنسان في بلاده، أو ربما للفقر المدقع الذي كان الكل يعيشه في وقته أراد أن يشغل الناس بشيء غير ما هم مشغولون فيه من رقيق الكلام وجميله، وربما أراد بالفعل بحكم انشغاله بالفلسفة فترة ليست قصيرة أن يغيّر وجهة النظر الخاصة بالإسلام في وقته، فبدل أن تردد أبيات من الشعر ويجتمع الناس لتقديس حافظ الشيرازي وغيره يجتمعون من أجل بناء (ذات) و(مجتمع)!
لكن إقبال، كما انتقد الوعي الصوفي في لحظة، فَقَدَ نفسه في عالم (الرومي الكبير) وصار شعرة من شعراته وإن انقطعت عنه في بعض الرؤى والأفكار.. تشهد بذلك كافة أعماله متنًا ومعاني وحتى على مستوى الصورة اختار أن ينظم كلماته على ميزان (المثنوي).
انتقلت شيمل بعد التركيز على صورة النبي عند إقبال إلى تصور إقبال لله معتمدةً ما يقوله عنه في محاضراته في تجديد التفكير الديني، فقد قال إقبال: إنّ ما نعرفه أنّ الله وصف نفسه كفرد، ووصف نفسه بـ(أنا) عندما سمّى نفسه في القرآن باسم الله، وهذا يدلُّ على أنّه ذات نتجه إليها ونلوذ بها. وتقارن شيمل بين إقبال هنا وبين ما يقوله بول تيليش: (من الواجب تمثيل الصفة الإلهية بـ(أنت) فلا سبيل إلى لقاء حبٍّ بكيان بعيد أو محايد)! فالله هو الأنا العظمى التي تسع كلّ شيءٍ، وكما ورد في القرآن يشجع الله الإنسان أن يدعوه (وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم)[8].
نختم هذا العرض بملاحظة وجيهة أوردتها أنّا ماري شيمل عن فهم كتابات إقبال: "كُتب الكثيرُ عن علاقة إقبال بالميراث الثقافي للشرق والغرب، وحين نفكر في إقبال كمصلح يجب علينا أن نتذكر أنه لم يتأثر بالفلسفة الأوروبية وحدها التي فسّرها بذكاء طبقًا للمبادئ الدينية الإسلامية (عرض J.FUCK لهذا الموضوع في مقال مهمّ) ويمكن أن نفهم أقواله بشكل أفضل لو أننا أرجعنا أفكاره إلى ميراثه الإسلامي وبالذات الهندي – الإسلامي. وقد أوضح بوساني A. Bousani بجلاء كيف استفاد إقبال من التقليد الفلسفي والديني في الإسلام بوجه عام، وذلك في مقالته الجيدة "الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية في أعمال مجدد مسلم" حيث ألقى الضوء بين نقاط أُخر على تقدير إقبال للفكر الأشعري. وعلى أي حال فإنّ اتجاه إقبال نحو الصوفية كان موضع خلاف وجدل وموضوع دراسات كثيرة ليست علمية دائمًا ولكن الموضوع ما زال يأسر الجمهور الباكستاني"[9].
وبعد نص المحاضرة تضمّن الكتابُ سيرة ذاتية لشيمل، كما اشتمل الكتاب على ملفٍّ مصوّرٍ لرحلتها شرقًا وغربًا.
[1]- وُلد محمد إقبال في الثالث من ذي القعدة 1294 هـ الموافق 9 من تشرين أول/ نوفمبر 1877م.
[2]- انظر: أنّا ماري شيمل "أسرار العشق المبدع في كتابات محمد إقبال" نشرة مؤسسة الفرقان، لندن 1996، ص 11
[3]- السابق نفسه ص 11
[4]- السابق نفسه، ص ص 17- 18
[5]- السابق نفسه، ص 21
[6]- السابق، ص 22
[7]- السابق، ص 23
[8]- السابق، ص 24
[9]- راجع أنّا ماري شيمل، إقبال في سياق حركات الإصلاح الهندية الإسلامية، ضمن عدد مجلة (فكر وفن) 32، وهو عدد خاصٌّ بمحمد إقبال، أشرفت عليه آنا ماري شيمل وألبرت تَايْلا، ألمانيا 1979م.