أصل التفاوت عند جان جاك روسو ، قراءة هيرمونطيقية

فئة :  مقالات

أصل التفاوت عند جان جاك روسو ، قراءة هيرمونطيقية

أصل التفاوت عند جان جاك روسو[1]، قراءة هيرمونطيقية

ملخص:

إن غياب العدالة داخل المجتمعات الغربية الحديثة، جعل القرن الثامن عشر يشهد ميلاد مرحلة جديدة تعرف بعصر الأنوار، وهي مرحلة تقوم على إعادة بعث الحياة التي ملأها الاستبداد والاضطهاد والظلم، من خلال تقديم طروحات فلسفية ورؤى تعالج عدة مفاهيم سياسية كالدولة، التسامح، المواطنة، والعدالة، أنظمة الحكم. ومن هنا، فإن فلاسفة الأنوار أغنوا الفكر السياسي الليبرالي بالمفاهيم الحديثة. لعل محاولة روسو كانت أبرز هذه المحاولات الجادة، كأحد أبرز المنظرين السياسيين والتربويين؛ فمن خلال مؤلفه خطاب حول أصل التفاوت بين الناس، وجدنا أن روسو قد حاول تبيان منشأ اللامساواة داخل المجتمع، وكيف أن الماضي البشري الذي نظر إليه هوبز والآخرين بنظرة سلبية، كما أكدنا ذلك من قبل، سيشكل أسمى وجود لهذا الإنسان الذي لم يعرف العدالة إلا في الحالة السابقة للمجتمع، أي حالة الطبيعة.

على سبيل التقديم:

حينما تقرأ مؤلفات "جون جاك روسو" وباقي فلاسفة العقد الاجتماعي، فإنك تعثر دوما على فكرة مؤداها؛ أن التعاقد الاجتماعي ميثاق إرادي بين الشعب والحاكم للانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، لكن حالة الطبيعة - بما هي حالة افتراضية- هي بيت القصيد الذي اختلف حياله هؤلاء الفلاسفة. إن هذا الانتقال من منظور توماس هوبس سببه حالة الحرب السائدة بين البشر، حالة لم يعد فيها العيش ممكنا إلا بحضور الاقتتال والصراع. لهذا كان الانتقال إلى الحالة الجديدة اضطراريا بغية تحقيق السلم الاجتماعي.

لهذا يعود الفضل الكبير لتوماس هوبز في إبعاد فكرة الحكم الثيوقراطي من رقعة السياسة والحكم. لكن على مستوى الحقوق والواجبات. لقد جعل هوبز من الحكم حكما مطلقا بالنسبة إلى الحاكم، ولم يقم بفصل السلط كما ينبغي لها أن تفصل؛ إذ وجب على الأفراد أن يتنازلوا على جل حقوقهم للحاكم شريطة جعل عيشهم ممكنا، حتى وإن عنفهم، فليس ليس لهم من حق في ردع عنفه؛ لأن عنفه مشروع. أما عنف الأفراد، فهو عنف غير مشروع. ماذا عن جان جاك روسو إذن؟.

إن حالة الطبيعة كما يراها جان جاك روسو، لم تكن بنفس المنطق الذي تصوره هوبز، فقبل تأسيس المجتمع والانتقال إلى الثقافة، كان الإنسان يعيش في حالة من السلم والخير والمساواة المطلقة، وما الدخول في عقد اجتماعي إلا نتيجة لمجموعة من التغيرات التي طرأت على الإنسان؛ وعلى رأسها الحاجة الماسة لتحقيق الحاجات والتعاون، لكن الطبيعة بما هي حالة معارضة للحالة المدنية، فهي جزء لا يتجزأ من جبلة الإنسان. فالإنسان ليس شرّيرا وذئبا كما تصوره هوبز، وإنما هو خير كلما عاد إلى أصله؛ أي كلما عاد إلى الطبيعة، وبالتالي فإن الشرور التي اكتسبها الإنسان، إنما هي شرور مجتمع؛ ففي الحالة الأولى كان يعيش سلما مطلقا؛ لأن الطبيعة عادلة ولا تؤمن بالتفاوت. أما المجتمع، فهو "نظام" و"بنية" و"قوانين". فإذا كان المجتمع ينبني على فكرة العدالة والقانون، فإنه يجعل من الناس في نفس الآن متفاوتين، ولعل الملكية الخاصة أصل هذا التفاوت، وأصل المجتمعات الطبقية. إن اللحظة التي قرر فيها الإنسان استعمال عقله، هي التعبير الأصيل عن الغباء من منظور روسو؛ لأن العقل يدخلك في إطار شروط ويعقل حيويتك وطاقتك، لهذا يبقى الحيوان ذكيا في نظره؛ لأنه لم يقع في مأزق الأغلال. ولعل تصور روسو هذا، يؤكد ما تطرقنا إليه إلى حد اللحظة، يقول روسو في كتابه في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي: "ولد الإنسان حرًّا؛ وفي كل مكان، هو الآن يرسف في الأغلال".[2]

إن طرح سؤال وفكرة التفاوت، سيجعلنا مباشرة أمام مؤلف "أصل التفاوت بين الناس" أو "خطاب في أصل التفاوت بين الناس" على حسب الترجمات التي حاولت ترجمة الكتاب، وسنعتمد ههنا على ترجمة "عادل زعيتر". لكن قراءتي هذه لن تكون إقرارا وإعادة لما قاله روسو أو الآخرون، وإنما هي قراءة تأويلية تبقى في حدود المعقولية التي تكلم بها روسو ذاته.

أول ما يصادفنا في هذا الكتاب، هو عنوانه "أصل التفاوت بين الناس" الأمر الذي يجعلنا نطرح مجموعة من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن، والتي لا مفر منها؛ ما المقصود بأصل التفاوت؟ هل (التفاوت) مقولة اجتماعية أم مقولة إلهية أم هما معا؟ هل الطبيعة لا تؤمن بالتفاوت أم إنها أكبر تجسيد للتفاوت؟ هل التفاوت الاجتماعي هو أساس تجلي الهدنة بين الناس أم هو سبب الاحتقان داخل المجتمع؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها، والتي تدعونا إلى التفكير مع روسو في "أصل التفاوت بين الناس".

إن كتاب أصل التفاوت لجان جاك روسو لا يرتبط بمبادئ الأنثربولوجيا الفلسفية فقط، وإنما يعود إليه الفضل في وضع مبادئ جديدة لعلوم الإنسان الحديث، مع هذا الكتاب سننتقل من خطاب العقل الكلياني إلى جزئيات البنى الثقافية، والتي تخضع لأصل التفاوت الاجتماعي. إن هذا الكتاب قد ساهم في بناء قطب جديد بالنسبة إلى الإنسان، فهذا الأخير هو محوره الأساس، من خلال هذا الكتاب سيزيل روسو اللثام - ولو بشكل نظري- على الإشكال الآتي: كيف أن وجودنا القائم مجرد تفكك شكلي. أما من الجهة السياسية، ففي خيار المدينة تحقق للشر على المستوى الملموس. أما في الميتافيزيقيا، فالشر يكون ممكنا على المستوى المجرد، لا ممكنا كتحقق في الأعيان، وهذا استدلال منطقي على أن الإله كرم الإنسان بالحرية عن طريق فعل الخير طواعية واجتناب الشر إذا ما أراد ذلك؛ أي تحويل المحض إلى الممكن. أما الكائن، فشروطه تعود للإنسان بما هو كذلك.

يضعنا أصل التفاوت بين البينين، من جهة العودة إلى الحالة الأولى (حالة الطبيعة)، والتي تنعم بالهناء والرخاء والسلم - حسب ما زعم روسو- وهو أمر مستحيل، ومن جهة ثانية، التقدم في المجتمع دون وجود شر وتفاوت بين الناس، وهو أمر محال. مهمة روسو من خلال أصل التفاوت - وكما أكد ذلك أحد شراحه الكبار (جان ستاروبنسكي) - تتمثل في إعادة بناء النظام الطبيعي[3] الكامن وراء ابتعاد الإنسان عن النظام الطبيعي ذاته، بما هو راحة وسلم دائم، والدخول في طبيعة جديدة أكثر اقتتال من التي سبقتها.

لقد قام جان جاك روسو- كما أكد ذلك المترجم - بتقديم هذا الكتاب إلى جمهورية (جنيف)، وفي الوقت ذاته سوف يحاول مترجم الكتاب أن يزيل اللبس عن كلمة (الطبيعة)، ويبين قصد روسو من هذا اللفظ، فروسو لا يسعى من خلال شرحه لحالة الطبيعة أن يعارض بها شرور المجتمع فقط من أجل المعارضة، وإنما يحاول إيضاح ما تنطوي عليه هذه الكلمة من أمور إيجابية، [4] فأصل التفاوت كما يرى روسو خال من كلمة الطبيعة؛ لأنه في هذه اللحظة لا يكون للإنسان أي مطامع يتصارع من أجلها، كما أنه يكون في مجال ديق ومتطلباته لا تتعدى حدود ذلك المجال، لكن ببروز المجتمع ستبرز متطلباته، وهنا ستتولد أنانية الإنسان وسيخضع لحب السيطرة والتملك. في اعتقادي، أن روسو يحاول أن يرجع الإنسان إلى ذاته من خلال فصله عن سيطرة الموضوع؛ إذ لا يبقى الموضوع يشكل هاجسا أو يمارس على الذات عنفا، وهذا ما كان يعيشه في حالة الطبيعة؛ ففي غياب الموضوع تغيب المتطلبات، وفي غياب هذه الأخيرة يتحرر الإنسان ولا يتصارع.

من خلال قراءتنا لتعليقات روسو حول الكتاب، يتضح لنا جليا أن روسو لا يسعى إلى عودة الأفراد الذين دخلوا في المجتمع الفاسد إلى حالة الطبيعة، وإنما يريدنا أن ننتبه إلى فكرة مفادها أن المجتمع لا يمكن أن يكون قائما دون فساد، وهذا الفساد هو الذي جعل من روسو معنونا كتابه بـ "أصل التفاوت بين الناس"[5] وهذا ما نراه اليوم في المجتمع الرأسمالي؛ إذ أصبح هناك تفاوت على جميع المستويات، الاقتصادية والقانونية والاجتماعية. لهذا فدعوة روسو هذه هي بمثابة العودة إلى الإنسان الطبيعي الطاهر، حيث يتغنى بنوع من الشيوعية والهدنة والسلام والمساواة. مما يقتضي معه القول، إن كتاب أصل التفاوت يشكل مقدمة أولى لكتاب "العقد الاجتماعي" هذا الأخير الذي دافع فيه روسو بشكل مستميت عن حقوق الإنسان وإحقاق فكرة المساواة، من خلال إصراره على أنه لا يمكن لأي نظام سياسي أن يقوم خارج حفظ حقوق الإنسان؛ لأن الغاية من التعاقد هي ضمان الأمن والحرية والسلم، لا التفاوت الاجتماعي والصراع والاقتتال، لكن لا يمكن أن يتحقق هذا الحلم إلا بسيادة الشعب وقيام الجمهورية، مما جعل من العقد الاجتماعي ركيزة وإنجيل كل الثورات.

يقوم مذهب روسو إذن، على كون الإنسان صالحا ومحبا للعدالة بالطبيعة، لكن ظهور المجتمع جعله فاسدا وبائسا، ويرجع بؤس المجتمع إلى كونه لا يساوي بين الناس ومنافعهم، لهذا وجب أن نتخلص من هذا المجتمع القائم، وأن نعود إلى فكرة الطبيعة. ونحاول من خلال عودتنا هذه أن نتفق حول عقد اجتماعي يؤسس لمجتمع يرضى به الجميع، وتترأس هذا المجتمع هيئة تمنح الجميع ذات الحقوق، وتساوي في ما بينهم.[6]

لقد تساءل أرسطو، وهو يحاول الإجابة عن بداية الإنسان السؤال التالي: هل كانت أظافر الإنسان الطويلة مخالب عقفا في أول وهلة، وهل كان أشعر كالدب – أو كان –وهو يمشي على أربع أرجل لا يلاحظ بأنظاره المتجهة نحو الأرض؟

نلاحظ من خلال هذه التساؤلات أن أرسطو قد قام بتتبع نظام الطبيعة من خلال نشوئها المستمر، غير أن روسو لم يدخل في هذا الجدال، معتبرا أن الإنسان لم تتغير شاكلته، وقد كان على نفس الشاكلة التي هي عليها اليوم، [7] وبالتالي فروسو لا يحاول أن يبحث في موضوع الإنسان الطبيعي من خلال هيئته الجسدية أو كيف تطور في الطبيعة، وإنما كان بحثه يسير في إطار التحول الذي طرأ على الإنسان من الجانب الاجتماعي، فحينما خرجنا من حالة الطبيعة دخلنا مباشرة إلى أصل التفاوت بين الناس، مما يجعل من روسو أحد أبرز المفكرين السياسيين الذين أثروا في الماركسية، لحظة مناقشتها للمجتمع الرأسمالي. فماركس هو الآخر سيحافظ على نفس الفكرة وإن بشكل مختلف نوعا ما عن روسو؛ وذلك راجع لمجموعة من الشروط الاجتماعية والاقتصادية، فما يريد ماركس الانتهاء به، فإن روسو يدعو إلى العودة إليه من أجل تحرير الإنسان من أصل التفاوت والطبقية كمقولة ماركسية؛ إذ يمكن القول إن المجتمع الشيوعي بما هو مبتغى ماركسي، فهو تجسيد لحالة الطبيعة بالمعنى الذي دافع عنه روسو، "حينما أنظر إلى الإنسان وهو خارج حالة الطبيعة، رأيت حيوانا أقل قوة من بعضهم وأقل نشاطا من الآخرين".[8]

من يقول إن حالة الطبيعة هي حرب الكل ضد الكل[9] فهو شخص ساذج نوعا ما في تحليله لهذه الحالة؛ إذ الصراع الذي دخل فيه الإنسان وقتئذ مع الحيوان ذاته، مجرد آلية يكتسب بها الإنسان الطاقة والجهد والقوة من أجل اكتمال نضجه وحياته، فهو الكائن الوحيد الذي يخرج منتصرا، الأمر الذي يجعل من النسل ذاته قويًّا على مستوى البنية الجسدية؛ فالطبيعة أرحم وأعدل من الحالة المدنية؛ لآن هذه الأخيرة تحمل الإنسان ما لا طاقة له به وتفرض عليه نوعا من الإقصاء والخضوع "وهكذا تعاملهم الطبيعة كما كان قانون إسبارطة يعامل أولاد المواطنين، فتجعل منهم حسنو البنية أقوياء أشداء، وتهلك جميع الآخرين، وهي في ذلك على خلاف مجتمعاتنا التي تجعل الدولة فيها الأولاد عبئا على الآباء، فتقتلهم قبل ولادتهم بلا تمييز"[10] إن هذه الحالة التي تسمى بحالة الطبيعية، جعلت الإنسان يطور من ذاته ويضاهي مقابل ذلك جميع القدرات التي لم يكن في حاجة إليها كما هو معمول به اليوم، على سبيل المثال لا الحصر، فإن الإنسان كان يجري بسرعة تضاهي سرعة الحصان، وبالتالي فلو كان قد اعتمد في عيشه آنذاك على الحصان، فهل كان سيجري بنفس السرعة، طبعا هذا من باب المحال؛ لأنه في اللحظة التي ستظهر فيها الحالة المدنية، وتحاول أن تعطي قيمة للإنسان ففي حقيقة الأمر فعلت عكس ذلك؛ لأنها أفقدته فاعليته، وجعلته أضعف كائن؛ لأنها تحاول أن تسخر له كل شيء، بيد أنه وجب أن يعود لأصله وتملكه.

هذا ويحاول روسو - كما قلنا من قبل - أن ينتقد هوبز وجميع من قاموا بتهميج حالة الطبيعة، من قبيل "كونبر لاند وبوفندروف"، والذين يرون أنه لا شيء أكثر خوفا من إنسان الطبيعة، فهو يخاف من أبسط الأشياء التي تبدو له غريبة، حيث لا يمكنه التمييز بين الخير والشر، لكن نظرة روسو تختلف عن هذا التصور، فهو يرى أن الأرض لا تسير وفقا لهذه النمطية التي يدعونها هؤلاء، وأنها لا تخضع لمثل تلك التحولات الفجائية الدائمة. أما مسألة الصراع مع الحيوان في حالة الطبيعة، فهي مسألة مستبعدة حسب روسو؛ لأنه يرى أن هذه الحيوانات لا تعتريها رغبة مهاجمة الإنسان؛ لأنها لا تجده مفترسا مثلها.[11] حتى وإن سلمنا بوجود هذا الصراع، فإن الإنسان بمقدوره مخاتلة الحيوانات عن طريق ذكائه، فلطالما تمكن الذكاء من كبح القوة والقضاء عليها. إن الطبيعة جعلتنا أكثر ذكاء وأكثر صلابة، الأمر الذي يستحيل أن نحصل عليه اليوم داخل المجتمع. نعم، إنها الحقيقة التي نرفضها باسم التقدم والحداثة والأنوار، فكلما ابتعدنا عن الطبيعة ابتعدنا عن كينونتنا وجوهرنا، وأصبحنا مغتربين تجاه ذواتنا وليست لنا القدرة على تحمل قسوة الطبيعة ذاتها؛ لأننا فيها نوجد ونحيا بالأصل، ولحظة ابتعادنا عنها أصبحنا خاضعين لقسوتها وتعنيفها. لذا، فلا بديل إلا بالتصالح معا وجعلها جوهر كل ما نسعى إليه ونريده، ولعل حالة المجتمع اليوم شاهدة على قولي هذا، هل أجسادنا قادرة على محاربة الفيروسات؟ الواقع يجيب بالنفي طبعا، هل الإنسان القديم كان بنفس هيئتنا وضعفنا؟ سيجيبنا الواقع مرة أخرى بالنفي، نعم؛ هكذا نحن، لسنا على طبيعتنا، حتى الأفراد لا يمكنهم أن يحيوا دون تصنع ونفاق اجتماعي. الدخول في الحالة المدنية إذن، جعل منا خاضعين لشروط لا تمت لطبيعتنا بصلة، فقط لكي نظهر أننا تقدمنا، والحال أننا نتأخر من حيث لا ندري كلما أخذنا مسافة مع الطبيعة.

إن التفكير من منظور روسو، هو تفكير يناقض الطبيعة، والإنسان الذي يفكر ما هو إلا حيوان فاسد[12] كيف ذلك؟. إن كل مضطلع على فلسفة روسو في الطبيعة سيكتشف بأن المشكل الأساس في خروج الإنسان من السلم والأمن هي معضلة استعمال العقل؛ لأن هذا الأخير سيفسد عليه عيشه المريح، وسيفرض عليه مجموعة من القواعد التي لا يستطيع مجابهتها؛ لأن منطقه في الفهم لم يعتد على مثل هذه القوانين التي تعتبر غريبة بالنسبة إليه، وبالتالي فالحيوان سيكون ذكيا في هذه اللحظة؛ لأنه لم يكلف ذاته عناء استعمال العقل. أما قيام الإنسان بهذه الخطوة، فهو تعبير عن مدى غبائه، كونه أراد الخروج عن المألوف والدخول في مقابل ذلك إلى عالم اللامألوف، لهذا وصفه روسو بالحيوان الفاسد؛ لأنه أفسد عيشه وجعله خاضعا للصراع والاقتتال والتطاحن. أما الحيوان بما هو كذلك من صفات بيولوجية، لم يقم بأي جريمة ولم يفسد لا عيشه ولا عايش الكائن الذي يدعي التفكير(الإنسان). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإننا لم نع تتبع الأمراض بما هي خطر على البشرية، إلا لحظة وعيينا بتاريخ المجتمعات المدنية، وأن بروز الدواء ذاته كان بمثابة بروز المرض في وعي الناس، ولعل هذا ما أكده أفلاطون حين استنتج من أدوية استعملت من قبل (بوداليريوس) و(مكاؤن) لحظة حصار تروادة، فكثير من الأمراض التي أثارتها هذه الأدوية لم تكن معروفة بين الناس، وأن الحمية التي تتخذ إزاء المرض كما روى ذلك (سلسوس)، والتي لا تزال مستمرة إلى حد اليوم هي من اختراع (أبقراط)[13]. ففي حالة الطبيعة يكون المرض جزءا من الإنسان ومن نظامه العام، وإذا ما حصل لفرد ما أن أصيب بمرض، فإنه لا يخضع لهذه العلاجات التي تعرف اليوم بتناول العقاقير المليئة بمضادات عديدة، وإنما يكون الزمن كفيل بعلاجه، وجعله أقوى مما كان عليه من ذي قبل.

إن الطبيعة عادلة في توزيع ثرواتها على جميع الكائنات، فكما تمنح الحيوان تمنح الإنسان، لكن دخول الإنسان في رغد المجتمع جعل منه منحطا أكثر من انحطاط الحيوان[14]، المجتمع فاسد بشروطه وإكراهاته وفي اللحظة التي يحاول فيها الإنسان أن يساير منطقه، فإنه يتحول من الطيبة إلى الشر، ومن الهدنة إلى الصراع، ومن ينظر إلى الجرائم التي ترتكب اليوم بأبشع الطرق، سيلاحظ بأننا لم نتحول من الفوضى إلى القانون والنظام، وإنما سيطرح السؤال التالي: هل كان التعاقد الاجتماعي ناجحا فعلا أم إن تعاقدا بهذا المعنى، كان بمثابة المصيبة التي أصيب بها الإنسان؟

هذه الأسئلة هي أسئلة مشروعة، خاصة إذا ما تأملنا الطرائق التي يعذب بها الإنسان بعضه البعض؛ إذ كل الطرائق هي طرائق جديدة ومعاصرة؛ بمعنى أن الإنسان تعلم واكتسب من الحالة المدنية كل أساليب الاقتتال والصراع التي كان يجهلها في حالة الطبيعة، علاوة على ذلك، فالصراع الذي يتخذه الحيوان يكون أرحم من الصراع الذي يتخذه الإنسان، فالحيوان يقتل فريسته قبل أكلها. أما الإنسان، فهو ذلك الكائن الذي يعذب قبل أن يقتل ويتلذذ في عذابه بكل ما تحمله كلمة عذاب من معنى.

قراءتي هذه سوف ترجعني إلى رؤية روسو حول أصل التفاوت بين الناس، محاولين وإياه النظر في الإنسان الطبيعي من ناحية ما بعد الطبيعة. إن التركيبة الجسدية للإنسان لا تختلف عن التركيبة الحيوانية، فعلى حد تعبير روسو، فإن الكائنين لا يعدوان سوى آلة محكمة منحتها الطبيعة حواس لتدور بنفسها ولتضمن نفسها إلى درجة ما تجاه ما يمكن أن يعرضها للخطر، مع الفرق القائل: إن الطبيعة وحدها هي التي تصنع كل ما يتعلق بأفعال الحيوان.[15] لو سلمنا بهذا الطرح وحاولنا أن نفكر مع روسو ضد كل من يقدس الحالة المدنية، سنقول إن الحيوان وإن كانت الطبيعة تحدد سلوكياته، فإنها أرحم به؛ لأنه لم يخرج عن قواعدها، ولم ينحرف عن منطقها، حتى وإن كان له نفع في الخروج عن قواعدها. لكن الإنسان انحرف عن الطريق السوي لحظة ابتعاده عنها والدخول مقابل ذلك في المجتمع، ظنا منه أن في الحالة المدنية توجد مصلحته، والحال أنها تجسد للخطر الذي يلاحقه ويجعله قريبا من الحيوان بالمعنى الذي نراه ونفهمه اليوم. يستحضر روسو في هذا السياق، مثال الحمامة والهر، لكي يعبر عن إخلاص الحيوان لقواعد الطبيعة؛ فالحمامة على سبيل المثال، تموت جوعا بجانب طبق مملوء بأطيب اللحوم، والهر يموت على كدس من الفواكه أو الحبوب[16] يقدم لنا روسو هذا المثال، ليوضح أن الحيوان لا يمكن أن يخرق قوانين الطبيعة؛ لأنها تعبر عنه وعن طبيعته، لهذا فمن غير المنطق أن نجد اليوم الحمام يتناول اللحم بدل القمح، أو نجد الهر يتناول القمح بدل اللحم، فالحيوانات تسير وفقا للمنطق الذي يؤطر عيشها، فيبقى الحيوان اللاحم لاحما، والحيوان العاشب عاشبا، أما الإنسان الذي يتباهى بالقوانين المدنية، فإنه لم يعد مرتبطا لا بقوانين الطبيعة ولا بقوانين المجتمع. إن الإنسان هو الكائن الذي يتناول كل شيء ويستغل كل شيء، وباستغلاله هذا سيكون علة في تخريب وتجاوز القوانين التي وضعتها الطبيعة، لن يكون هذا سببا في رفاهيته وإنما سيكون سببا في شقائه. إن هذا الشقاء سببه تلك الحرية التي تكون نتيجة للقهر، وليست حرية بالمعنى الذي تحدث عنها روسو، فالرجل يرى أن خروج الإنسان من حالة الطبيعة لم يكن خروجا موفقا. أما دخوله للحالة المدنية، فجعلته يتمتع بتلك الحرية الخالية من مبدأ الاختيار وتحمل المسؤولية؛ لأنه ليس هو من يحدد عيشه وسلوكه "لقد رفض هوبز بالفعل التصور العتيق للحرية الذي أحياه روسو بتمييزه بين السلوك القهري والمعتمد"[17] يمكن القول إذن؛ إن الإنسان خسر الكثير، ولم يكتسب شيئا غير خسارة قيمته، عكس الحيوان الذي لم يخسر شيئا ولم يكتسب شيئا؛ لأنه ظل وفيا لمنطق الطبيعة.

يتصور روسو وجود نوعين للتفاوت في الجنس البشري؛ إذ يدعو النوع الأول، بالتفاوت الطبيعي؛ أي إنه تفاوت وضعته الطبيعة، والنوع الثاني يدعوه بالتفاوت الأدبي أو السياسي، [18] إن التفاوت الأول هو تفاوت طبيعي؛ لأنه من صنع الطبيعة، وكما قلنا فالطبيعة عادلة، يمكن أن نجد التفاوت في اللون وقوى البدن وصفات النفس. أما التفاوت السياسي، فهو تفاوت اللامساواة والتمييز الاجتماعي، حيث توجد في المجتمع ثروات تنهبها طبقة من طبقة أخرى، وتكون فيه طبقة بمثابة عبد لطبقة أخرى، لا حول ولا قوة لها أمام أوامرهم وقوتهم، وبالتالي فالمجتمع هو أصل التفاوت غير المنطقي وغير العادل.

عودا على بدء؛ إن الإنسان يدفع اليوم ثمن تعقله، فإذا كان في الحالة ما قبل المدنية يعيش نوعا من التوحش كما يدعي هوبز وكل القائلين بهذا التصور، فإنه كان يعيش نوعا من الطمأنينة السيكولوجية في إطار تعامله مع المجهول؛ إذ لا يعرف غير الأكل والنوم والجنس؛ بمعنى أن وعيه يرتبط بالمحسوس وباليومي، ولم يفكر يوما في الموت كموضوع يمارس عليه إكراها أنطولوجيا، أو كمجهول يهدد كينونته ويخرجه من الوجود إلى العدم، نتحدث هنا على فكر هايدجر باعتباره نبراسا لفكرة الموت كقلق وجودي، لكن ليس بالمعنى الذي فهم به هايدجر وسارتر ونيتشه فكرة العدم؛ إذ هو اللاوجود المقابل للوجود، والذي يمكن أن يكون بمثابة إمكان يمكن للموجود الإنسان ي أن يتحقق فيه (هايدغر)، وإنما أتحدث هنا عن العدم بالمعنى الذي يفهم به. يقول روسو في سياق حديثنا هذا: "إن الحيوان لا يعرف ما الموت مطلقا فمعرفة الموت وأهواله هي أول ما اكتسبه الإنسان بابتعاده عن الحالة الحيوانية"[19]؛ معنى ذلك أن الإنسان لا يمكنه أن يعش إنسانيته إلا في حالة الطبيعة. أما الرغبة التي تعتريه بالتقدم والازدهار، ما هي إلا رغبة توقد الحيوان الذي بداخله والذي لم يتأقلم والحالة المدنية، هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فإن الحالة المدنية تجعل من الإنسان يحمل على كاهله إكراهات لا يمكنه مجابهتها.

الأمر الذي جعل من روسو يحمل تصورا عنيفا حول العقد الاجتماعي الذي وضعه البشر لتأمين ممتلكاتهم؛ إذ في نظره لم يكن من الصائب صياغة هذا العقد في حالة الطبيعة، وإنما كان من الأجدر أن يصاغ في هذه اللحظة التي نتخبط فيها في التخلف والاضمحلال. أما الخروج من حالة الطبيعة، فهي بمثابة مجازفة كبيرة قام بها الكائن البشري. ومنه، فروسو يرى أن "العقد الاجتماعي لا يعدو كونه حيلة احتال بها الأثرياء في المجتمع ليخضعوا الفقراء"[20] نعم، لو تأملنا قليلا وفكرنا بنوع من المعقولية، لوجدنا أن العقد الاجتماعي كان ينطوي على مكر كبير، يكتمل في حماية أملاك الطبقة الميسورة على حساب الطبقة الأخرى، متخذا من فكرة السلم وسيلة لتحقيق غاياته، نعم سنحقق لك السلم، لكن شريطة التنازل على كل الحقوق لصالح الحاكم، لهذا يدعونا روسو إلى تأسيس عقد جديد بالعودة إلى حالة الطبيعة باعتبارها سلما دائما، وكتابة العقد وفق محاربة الشرور التي سيأتي بها المجتمع، ولن ينجح هذا العقد إلا عن طريق محاربة الحكم الواحد، وتحقيق الحكم المتعدد؛ فشؤون الناس وجب ألا تسير من طرف شخص واحد، وإنما من طرف مجموعة من الناس القادرين على تحقيق غاية الأفراد، شريطة أن يتنازل هؤلاء على الجزء وليس الكل.

يطرح جان جاك روسو مجموعة من الافتراضات التي يحاول من خلالها أن يفكر بنفس النفس والمعقولية التي فكر بها الفلاسفة القائلين بوحشية حالة الطبيعة، ولعل أهم هذه الافتراضات؛ متى افترضنا وجود إنسان وحشي بارع في فن التفكير كما جعله هوبز مثلا، ومتى جعلناه قادرا على اكتشاف أعلى الحقائق ويفكر بأعلى تجريد في مبادئ العدل والعقل والنظام الذي يجب أن يعيشه العموم بكل إرادة لوحده، فلماذا كان هذا الخروج في الأصل أول وهلة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، كيف أمكن هؤلاء الناس أن يتفقوا وهم يعيشون نوعا من الابتعاد الجغرافي في ما بينهم، بالإضافة إلى التعايش مع الحيوان.[21] لم يكن الإنسان حسب هذا الافتراض في حاجة إلى بعضه البعض، وإنما كان كل شخص قادر على تقويم عيشه وضمان بقائه وفق ما وهبته الطبيعة من قدرات، وبالتالي ففكرة التعاون من أجل القضاء على حالة الاقتتال والفوضى التي أقرها هوبز، هي فكرة مستبعدة، وعليه؛ فإذا ما حاولنا أن نتأمل افتراض روسو بنوع من التريث، جاز لنا القول إن هذا الإنسان الذي يفكر بهذه الطريقة وبهذه الدقة من التجريد، لا يمكن أن نقول عنه إنه إنسان متوحش، ويعيش الصراع داخل حالة الطبيعة، وإنما ستكون الطبيعة ذاتها هي التي جعلته يفكر بمنطق الثقافة، وعليه فهوبز وكل القائلين عكس روسو، يحاولون إخراج الإنسان من حالة الطبيعة التي تتميز بقوانين الثقافة، ويدخلونه في حالة الثقافة التي تعرف بقوانين الطبيعة بالمعنى الذي يفهمه هوبز نفسه.

هذا، ويمكن القول إن الطبيعة كانت تسمح للإنسان بالإبداع والابتكار، عكس المجتمع، فإذا كان الفرد يفكر في حالة الطبيعة، فإنه يتلقن ويكتسب في حالة المجتمع؛ إذ لا يبقى له أي دور سوى تقليد الآخرين، الأمر الذي سيقود تأملات روسو إلى البحث في أصل اللغة؛ فاللغة التي نتكلم بها اليوم باختلافها وتعددها داخل المجتمعات، هي لغة وليدة اختلاط الآباء والأمهات والأولاد، تحت ما يسميه روسو بالاختلاط الأهلي، الأمر الذي يجعل من اللغة محدودة وغير متطورة، كما هو الحال في حالة الطبيعة؛ لأنه في هذه الأخيرة لم تكن الأم تتحدث مع ابنها بالطريقة التي فرضها المجتمع على الأمهات والآباء، وإنما كان الطفل هو من يتكلم معها باللغة التي يريد ويبدع هو، وبالتالي فاللغة التي يبتدعها تكون لغته الخاصة وليست لغة ثقافة ومجتمع، ولو بقي الأمر كما تصوره روسو لكان داخل المجتمع الواحد الملايير من اللغات، ولكان قبول الاختلاف المبدأ الذي يسير بموجبه جميع الناس؛ لأن الهوية واحدة بعناصر متعددة كما أكدت ذلك جوليا كريستيفا في كتابها (غرباء بدواخلنا). إن كبح الاختلاف ونفيه، وليد لحظة المجتمع التي لم تعد قادرة على الحفاظ على التمايز، وإنما تريد من الكائن البشري أن يكون واحدا حتى في لغته، الأمر الذي يدفعني كباحث إلى القول: إن اللغة بما هي مجموعة من الدلالات والرموز الحاملة لمفاهيم، فإن هذه الأخيرة تحمل عنفا وإرهابا ممارسا من قبل المرسل على المرسل إليه، فلغتنا تعبر عن فكرنا المنغلق، وصوت الطبيعة هو اللغة الأولى للإنسان، وهو الأكثر اللغات انتشارا ونشاطا "القول إن الأم تملي على الولد من الكلمات ما يجب عليه أن يستعمله ليسألها عن هذا الشيء أو ذاك، يدل جيدا على الوجه الذي تعلم به اللغات التي تم تكوينها، غير أن هذا لا يوضح كيف تكونت"[22].

طالما يقال إنه لا يوجد كائن يعيش البؤس، أكثر مما يعيشه الإنسان داخل حالة الطبيعة. يجيب روسو على هذا الطرح، بأن كلمة البائس، لا تعني غير حرمان أليم أو ألم في الجسم والروح[23] إن هذا الحرمان والبؤس من وجهة نظر روسو لا يمكن أن يعشه شخص حر يتمتع فؤاده بالسكون وقامة جسدية ضخمة، إن هذا الوصف الأخير هو الذي كان يتمتع به الإنسان في حالة الطبيعة، فلا نكاد نعثر في حالة المجتمع إلا على أناس يتوجعون في حياتهم ويعيشون صراع كبير على جميع المستويات، الاجتماعية منها والنفسية. ولا تكاد القوانين الإلهية والمجتمعية توقف هذا الخلل الذي أصاب الإنسانية، وما نلاحظه اليوم من قتل الأنفس أو الانتحار، هو أكبر دليل على التعاسة التي يعيشها الإنسان داخل المجتمع، فلو عدنا إلى التاريخ لما وجدنا مؤرخا يقول بانتحار أحدهم في حالة الطبيعة، وإنما يقر بالصراع مع الآخر فقط. إن سبب هذه الأمور هو حالة المجتمع المليئة بالصعوبات والإكراهات.

إن الإنسان الوحشي الذي يتمثله روسو، هو إنسان ما بعد الطبيعة؛ أي الإنسان الذي بهرته المعارف وأوجعته الأهواء باحثا عن الحلول التي تمكنه من نيل حياة مختلفة عن حياته. لهذا يطلب منا روسو أن نبحث في هذه المسألة بميزان لا يضيع الكيل، ولعل هذا الميزان الذي يقصده، هو ميزان العقل والتبصر والحكمة، ولنحاول أن نبحث عن الفضائل التي توجد في الحالة المدنية، أو عن الفضائل التي تعتبر الأساس الذي تنتفع به البشرية في هذه الحالة.[24] بالعودة إلى الواقع، سوف نجد ذواتنا تنحو في نفس السياق الذي ساقه روسو، لعلنا غير عاثرين على أي افتراض مما افترضوه الفلاسفة السابقين له، فالواقع ينطق بالصراع والتطاحن والاقتتال وغياب العدل، وبالتالي فالقول الذي يصف حالة الطبيعة بمثل تلك الأوصاف هو قول جائر لكل ما تحمله كلة ظلم من معنى. في حالة الطبيعة لم يكن الإنسان ينتظر الخير ويحارب الشر إلا من خلال تعامله مع الطبيعة، وهذا الأمر كان فيه نوع من الروحانيات، بقدر ما تتعامل بصدق بقدر ما يكون تعامل الطبيعة معك وفقا لممارساتك، لكن الأمر لم يعد كذلك في المجتمع، أو حالة التوحش كما وصفها روسو، هي حالة لا يمكن للإنسان أن يتعامل معها بنوع من السذاجة لأن الآخر يفكر، وتفكيره خاضع للانفعال.

يدعونا روسو إلى عدم استنتاج تلك الحالة التي تصورها هوبز، كون الإنسان طالحا بسبب الطبيعة، وكونه فاسدا لأنه لا يعرف فضيلة المجتمع، وكذا زعمه ملكا على الآخرين وهم مجرد خدم عنده، له الحق في الاستلاء على حقوقهم دون خضوع للواجبات، [25] إن دعوة روسو هذه، ليست دعوة بريئة أو دعوة من أجل اقناعنا بتصوره، في اعتقادي هي محاولة لإماطة اللثام على تصور هوبز ذاته، وما يحمله هذا الأخير من نقص، فمن منظور روسو أن هوبز قد أصاب في ملاحظاته كون جميع التعريفات التي أعطيت للحقوق الطبيعية في المرحلة الحديثة، كونها تعريفات تعاني من نقص، بيد أن النتائج التي استخرجها هوبز من تعريفه - في نظر روسو دائما- تجعل من تصوره لا يقل خطأ من التعاريف التي انتقدها، لأنه قبل قبولا غير مناسب بإبقاء الإنسان الوحشي كما يصفه روسو تحث العناية رغم خضوعه لمجموعة من الأهواء والغرائز التي هي عمل المجتمع، والتي جعلت القوانين أمرا ضروريا. فإذا ما أردنا لهوبز أن يفكر بمنطق روسو- رغم أنه يسبقه كرونولوجيا- كان يفترض عليه القول: "بما أن حال الطبيعة هي الحال التي تكون فيها العناية ببقائنا أقل ضررا ببقاء الآخرين، فإن هذه الحالة كانت أنسب للسلم وأصلح"[26].

لم يفطن هوبز إلى أن السبب الذي يمنع الهمج (إنسان المجتمع)، من استعمال عقولهم، هي العلة ذاتها التي تمنعهم في الآن ذاته من استعمال خصائصهم، ومنه يمكن القول إن إنسان المجتمع، أو الهمج بتعبير روسو، ليس طالحا لأنه لا يعي كونه صالحا، وإنما هو همج وطالح لكونه يحمل أهواء ساكنة، وكذا لعدم علمه بالعيب الذي يمكنه من صناعة الشر.[27] لهذا، فجهل العيب أفضل بكثير من معرفة فضيلة الآخر، فبدل أن أعرف فضيلة الآخر وأنا داخل مجتمع تشبعت فيه الخديعة والغدر والقتل، يستحسن أن أجهل عيبه لكي لا أدخل معه في صراع، وأدمر المجتمع أكثر مما هو عليه من تدمير واقتتال وافتراس. هناك إذن؛ لحظات تعود بنا إلى أصلنا الطبيعي وتحيي فينا ذلك الكائن الذي يسكننا والذي لم يتلطخ بعد بهماجة المجتمع، وهذا ما أغفله هوبز ولم يتحدث عنه، فبالرغم من الأنانية التي تعتري الكائن البشري، إلا أن رغبته في البقاء لا تعني فناء الآخر، فنفوره الفطري من مشاهدة ألم الآخرين يجعلنا نسير وفق المنطق الذي نادى به روسو، ونعطيه قليلا من المعقولية، فكل بشر يحمل ضمير لا يمكنه تحمل موت أحدهم بطريقة غير عادية، مما يدفعنا إلى القول؛ إن الإنسان يحمل الفضيلة الطبيعية بالجبلة، هذه الطبيعة لن يفسدها توحش المجتمع مهما طال الزمن، لكن وجب على الإنسان أن يعود لجبلته لكي يتصالح مع ذاته ومع عالمه.

إن ما تفضلنا به لحد اللحظة، هو ما يصطلح عليه روسو، (بانفعال الطبيعة الخالص)، إنه انفعال سابق لكل تأمل، ويحمل في طياته قوة الحنان الطبيعي الذي أفسدته أخلاق المجتمع، وهنا يقدم لنا روسو، (إكسندر الفروسي) الذي لم يجرؤ يوما على مشاهدة أي مأساة خشية أن يرى الضحية وهو يحتضر، رغم أنه الآمر بذبحهم[28] ليس إسكندر من يريد التألم، وإنما الطبيعة التي تسكنه، والتي جبل عليها هي التي تصرخ؛ لأنها جعلت من قلب الكائن البشري ألطف وأرق القلوب. أما اللحظة التي سيحاول فيها الإنسان أن يلتزم بالقوانين وتخذها كمبادئ عقلية وروحية، فإنه يظلم طبيعته ويتجرد منها. الرأفة إذن؛ شعور طبيعي يحيي في الشخص حب الذات، مما يجعل منه محافظا على بقائه وبقاء الغير، وبالتالي فالرحمة تتخذ مكان كل القوانين والأعراف التي يضعها المجتمع؛ لأنها تعبير عن أصل الإنسان، "إن الرأفة توحي لجميع الناس بمبدأ الصلاح القائل: اصنع خيرا نحو نفسك بأقل شر ممكن نحو الآخرين"[29] يمكن مرد الفضيلة إذن؛ إلى الشعور الطبيعي، ومنه فالقول إنها بناء واكتساب عقلي كما أكد ذلك كل من سقراط وتلميذه أفلاطون، فيه نوع من المجازفة الفكرية؛ لأن النوع البشري لا يتوقف بقاؤه على التعقل بالمعنى الأفلاطوني، وإنما الطبيعة البشرية تبقى دون صدأ مهما فقد الكائن البشري وعيه. هذا ويميز روسو بين الأمور البدنية والأدبية في الإحساس بالحب، أقول شعورا وليس إحساسا، لأن كل مضطلع على فلسفة كانط، سيجد تمييزا كبيرا بين المفهومين؛ فالبدني هو تلك الرغبة التي تحمل جنسا على الاقتران بجنس آخر، والأدبي هو الذي يعين هذه الرغبة ويقرها على أمر واحد حصرا، أو هو الذي يمنح هذا الأمر المفضل درجة بالغة من النشاط والدينامية لكي يتحقق.[30] إن هذا التمييز الذي يضعه روسو ليس وليد لحظة المجتمع، إنما هو تعبير عن الطبيعة البشرية، فكل لحظة يعي فيها الإنسان بضرورة العودة إلى ذاته، فإنه لا يستمع لغير نداء الطبيعة.

ختاما، يمكن القول إن غياب العدالة داخل المجتمعات الغربية الحديثة، جعل القرن الثامن عشر يشهد ميلاد مرحلة جديدة تعرف بعصر الأنوار، حيث تقوم على إعادة بعث الحياة التي ملأها الاستبداد والاضطهاد والظلم، من خلال تقديم طروحات فلسفية ورؤى تعالج عدة مفاهيم سياسية كالدولة، التسامح، المواطنة، والعدالة، أنظمة الحكم. ومن هنا، فإن فلاسفة الأنوار أغنوا الفكر السياسي الليبرالي بالمفاهيم الحديثة. لعل محاولة روسو كانت أبرز هذه المحاولات الجادة، كأحد أبرز المنظرين السياسيين والتربويين؛ فمن خلال ما تقدمنا به حول خطاب أصل التفاوت بين الناس، وجدنا أن روسو قد حاول تبيان منشأ اللامساواة داخل المجتمع، وكيف أن الماضي البشري الذي نظر إليه هوبز والآخرين بنظرة سلبية قبله، كما أكدنا ذلك من قبل، سيشكل أسمى وجود لهذا الإنسان الذي لم يعرف العدالة إلا في الحالة السابقة للمجتمع، أي حالة الطبيعة.

 

المراجع والمصادر:

1 - جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة وتقديم وتعليق، عبدالعزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعو الأولى، بيروت، 2011.

2 - جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة، عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، 2013.

3 - روبرت ووكلر، روسو، مقدمة قصيرة جدا، ترجمة أحمد الروبي، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي.

[1] - فيلسوف فرنسي وعالم تربية ومنظر سياسي، يعتبر من أهم رواد نظرية العقد الاجتماعي (1712-1778)

[2] - جون جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة وتقديم وتعليق، عبد العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 2011، ص: 78

[3] - أتحدث هنا عن محاولة هوبز

[4] - جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة، عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، 2013، ص: 5

[5]- راجع الصفحة، 83 من الكتاب

[6] - جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ص: 8 (بتصرف)

[7] - جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ص: 33

[8]- أصل التفاوت بين الناس، ص: 23

[9] - تصور هوبس

[10] - المصدر نفسه، ص: 34

[11] - راجع الصفحة: 35 (بتصرف)

[12] - جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ص: 37

[13]- هو طبيب يوناني عاش في العصر الكلاسيكي.

[14] - جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ص: 38

[15] - المصدر نفسه ص: 39

[16] - المصدر نفسه، الصفحة نفسها، (بتصرف)

[17] - روبرت ووكلر، روسو، مقدمة قصيرة جدا، ترجمة أحمد الروبي، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي، ص: 58

[18] - أصل التفاوت، ص: 29

[19] - الصدر نفسه، ص: 40

[20] - روبرت ووكلر، روسو، مقدمة قصيرة جدا، ص: 54

[21] - المصدر نفسه، ص: 42

[22] - نفسه، ص: 44

[23] - نفسه، ص: 47

[24] - نفسه، ص: 48

[25] - نفسها بتصرف

[26] - القول يتماشى وتصور روسو

[27] - المصدر نفسه، ص: 49

[28] - المصدر نفسه، ص: 50

[29] - المصدر نفسه، ص: 51

[30] - نفسه، ص: 52