"أصل العدل عند المعتزلة" للباحثة هانم إبراهيم يوسف
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب "أصل العدل عند المعتزلة"
للباحثة هانم إبراهيم يوسف([1])
يُعَدّ ظهور فرقة المعتزلة في الفكر العربي الإسلامي لحظةً فارقة بين تياري التقليد والتجديد، وتمثّل مسألة العدل والعدالة الإلهية قضيةً مركزية في بناء هذا الفكر، سواء بالنظر إلى القضايا الكلامية أم الفقهية؛ فالعدل متصل بمساحة الحرية الإنسانية في مقاربة الشأن الديني، وبقضية الجبر والاختيار، والعلاقة بالوجود والذات الإلهية. والعدل هو الأصل الثاني من أصول المعتزلة؛ لذلك ما فتئ أهل الاعتزال يولون هذا الباب عناية خاصة في كتاباتهم، ما دفع بعض الباحثين في الفكر الاعتزالي إلى الاهتمام بهذه القضية، التي يبدو أنّها لم تحسم بعد من طرف المفكرين، ولا الفلاسفة، أو السياسيين.
في هذا الإطار، يتنزل كتاب الباحثة المصرية في الفلسفة الإسلامية هانم إبراهيم يوسف، التي صنفت كتاب (أصل العدل عند المعتزلة)، وهو، في الأصل، رسالة ماجستير ناقشتها الباحثة في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
ولعلّ هذا التيار الأكاديمي في الجامعة المصرية، الذي يهتمّ بقضايا الفرق والمذاهب الإسلامية القديمة، وفق رؤية موضوعية وعلمية، يُعَدّ توجهاً مهماً ينأى عن المواقف المتسرّعة والذاتية في معالجة قضايا علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
والحقّ أنّ موضوع العدل عند المعتزلة سبق بحثه في بعض الدراسات؛ منها (مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم) لمحمود كامل أحمد، وهو كتاب نشرته دار النهضة العربية سنة (1983م).
وعلى الرغم من تأسيس المعتزلة، عند تحديدهم علم الكلام، على خمسة أصول هي على التوالي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ أصل العدل يُعدّ، لدى المعتزلة، أحد أهمّ الأصول الخمسة، وبذلك نُعِتَ المعتزلة بأنّهم «أهل العدل والتوحيد».
ولعل اختيار الباحثة هانم يوسف هذا الأصل موضوعاً للدراسة المتخصّصة دليلٌ على وعيها بأهمية هذا الأصل قديماً وحديثاً، لاسيما أنّ الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر لايزال يبحث عن الطريق الأسلم لخوض غمار الحداثة، وإدراج مشروع النهوض الإسلامي ضمن الروافد والمسالك المطلوبة لتحقيق التقدم، وكسب معركة المعاصرة.
وينقسم كتاب (أصل العدل عند المعتزلة) إلى مقدّمة وأربعة فصول. وقد خُصصت المقدّمة لكشف اختيار موضوع البحث، وهي إشكالية العدل عند المعتزلة. وعزت الباحثة ذلك إلى أهمية فرقة الاعتزال في تشكيل المشهد الكلامي الإسلامي منذ القديم، وبناء العقل الفلسفي الإسلامي، الذي يبدو أنّه تفطّن إلى قضايا وجودية مركزية من القديم ظلّت محلّ جدل ونقاش إلى الآن. وأصّلت الباحثة لمقولة العدل من النصّ القرآني، وذلك من خلال تحليل معنى (الميزان) في الآية (102) من سورة (المؤمنون)، و(الصحف) في الآية (10) من سورة (التكوير)، و(الشهادة) في الآية (74) من سورة (النور)، و(الصراط) في سورة الفاتحة. فأصل العدل، في نظرها، مرتبط أساساً بالعلاقة بين العمل والحساب في الدنيا والآخرة، ومن خلاله تنحدر سائر القضايا الأخرى المتصلة بوجود الإنسان، وقضايا الحرية، والجبر والاختيار، وغيرها. أمّا الفصل الأول، فينقسم إلى ثلاثة مباحث، وقد خُصِّص المبحث الأول منهما للتعريف بالمعتزلة، وإبراز أهميتها بالقياس إلى سائر الفرق الإسلامية الأخرى.
أمّا المبحث الثاني، فقد خُصِّص لبيان علاقة المعتزلة ببقية الفرق الإسلامية، فيما اهتم المبحث الثالث بإبراز دور المصادر الدينية في تأسيس التوجهات الكبرى للمعتزلة.
وقد انتهت الباحثة، في هذا الفصل، إلى أنّ المعتزلة هم المحايدون، أو العدليّون، الذين اتخذوا موقفاً وسطاً بين سائر الفرق في قضية المنزلة بين المنزلتين. كما عدَّت هانم يوسف أنّ منطلق الفكر الاعتزالي هو الاختيار، والحرية، وتحميل الإنسان مسؤولية التكليف لأفعاله بموجب العقل. كما تطرّقت إلى تلازم البعدين الديني والسياسي لحركة الاعتزال؛ حيث مهّدت للحكم العباسي، وأحيت معه العصر الذهبي بين سنتي (100هـــ و220هــــ)، زمن المأمون، والواثق، والمعتصم. وتوسعت الباحثة في إبراز أهمّ أركان الفكر الاعتزالي، وهو اعتماد العقل والإقناع، ونبذ جميع أشكال العنف، ما منحهم قدرة مهمّة على تجاوز ظاهر النص إلى التأويل والفهم بخلاف أهل السنة والأشاعرة، فحاربوا الجمود، ووسعوا مجال المعرفة الدينية، ودعوا إلى الشك سبيلاً لليقين، وهو ما تبنّاه الجاحظ، وأبو هاشم البصري.
في الفصل الثاني، الذي وسمته الكاتبة بـــــ: (مشكلة القضاء والقدر عند المعتزلة)، تطرّقت إلى خمسة مباحث هي على التوالي:
- ارتباط البحث في القضاء والقدر بأصل العدل عند المعتزلة.
- الحجج الشرعية عند المعتزلة للبرهنة على حرية الإرادة الإنسانية، وردود المعتزلة على الجبرية (المجبرة والأشاعرة).
- مقارنة بين موقف المعتزلة وموقف الأشاعرة في بعض القضايا الاجتماعية التي تدور حول القضاء والقدر.
- أثر القول بحرية الإرادة على فلاسفة الإسلام.
أمّا أهم النتائج، التي توصّلت إليها في ختام هذا الفصل، فهي الربط بين موضوع السببية، وموضوع الحرية والجبر، أو القضاء والقدر، فالاستطاعة والعقل أساس الفعل عندهم، وبذلك يكون التكليف مندرجاً تحت أصل العدل، وهو، في الأساس، تعبير عن عدل الذات الإلهية وحكمتها من خلق الإنسان.
أما الغاية من العقل، فتمكن في التمييز بين الخير والشر، وإثباتهما عقلاً وشرعاً، فالحسن ما أمر الله به، والقبح ما نهى الله عنه. وتتفرّع عن ذلك مقولة اللطف والصلاح والأصلح، وهو ما يدلّ على أنّ الأفعال الإلهية مرتبطة بالعدل الإلهي، ومجال الثواب والعقاب.
أما الفصل الثالث، فقد وُسم بــــــ: (الأدلة على وجود الله تعالى وصلتها بأصل العدل عند المعتزلة). وقد توزعت مباحث هذا الفصل على النحو الآتي:
- إثبات الحكمة الإلهية.
- إثبات الغائية من خلال القول بالعدل الإلهي.
- القول بالعناية الإلهية كدليل على وجود الله تعالى.
- أدلة المعتزلة على غائية الطبيعية كدليل على وجود الله، وصلتها بأصل العدل عندهم.
- أثر القول بالغائية الطبيعية والعناية الإلهية على مذاهب فلاسفة الإسلام.
ومدار هذا الفصل هو التأصيل، من خلال العدل، لمقولة الغائية الإلهية من إيجاد هذا العالم، وقد برهن المعتزلة على أنّ كلّ ما يوجد في الكون يسير لحكمة وغرض، وهو ما أكده الشهرستاني بقوله في كتاب (الإقدام في علم الكلام): «إن الحكيم لا يفعل فعلاً إلا لحكمة وغرض، والعقل من غير غرض سفه وعبث، والحكيم إمّا أن ينتفع أو ينفع غيره، وكما تقدّس الله تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره».
وبذلك أثبت المعتزلة الحكمة والعناية الإلهية من خلال الغائية، وهذا دليل على عدل الله وحكمته، كما أنه دليل على وجوده.
يأتي الفصل الرابع والأخير، الذي وُسِمَ بــــ: (أصل العدل عند المعتزلة والقول بالوعد والوعيد)، لينظر في قضيتي الثواب والعقاب وصلة ذلك بأصل العدل، والعلة بين الوعد والوعيد، والقول بحرية الإرادة الإنسانية.
فالثواب والعقاب مرتبطان بأصل الوعد والوعيد، وهو الأصل الرابع عند المعتزلة، الذي يندرج تحت أصل الوعد ما دام متصلاً بالتكليف والجزاء. وبذلك، تقترن حرية الإرادة الإنسانية بالمصير؛ لأنّ الإنسان العاقل خلق مختاراً، فهو مسؤول عن أفعاله. ولذلك عدّت التوبة مسألة فردية تستوجب مغفرة الله بمقتضى حكمته وعدله، ولذلك لا تصحّ الشفاعة عند المعتزلة إلا بعد التوبة.
وتخلص الباحثة، في نهاية كتابها، إلى نتيجة مركزية مدارها أنّ الهدف الأساسي للمعتزلة هو إثبات أنّ العدل متأصّل في الأفعال الإلهية، وإبعاد أيّ شبهة عنها، وهي النتيجة نفسها، التي توصّل إليها الأشاعرة، ولكن بطريقة مختلفة.
يُعدُّ هذا الكتاب إضافة مهمّة إلى المكتبة الفلسفية والكلامية الحديثة؛ لما توصّل إليه من نتائج قيّمة كشفت، بأسلوب مقارني ومبسّط، ارتباط أساس العقل بأصل العدل الإنساني والإلهي عند المعتزلة، وهو ما نحتاج إليه، اليوم، في خضمّ تعدّد الرؤى والمناهج، واختلاف الفرق والمذاهب الإسلامية حول مسائل الحرية والاختيار، سواء أكان ذلك في المباحث الكلامية أم التشريعية.
ولعل المأخذ الوحيد، الذي يؤخذ على هذه الدراسة، عدم التزامها الحياد والموضوعية المطلقة في عدد من الموضوعات؛ فالباحثة لم تخفِ انتصارها للفكر الاعتزالي، وتبنّيها له، فكانت مدافعةً، في كثير من الأحيان، عن هذا الفكر بدل أن تكون ناقدة؛ لذلك لم تركّز، في كتابها، على كشف الجوانب السلبية للمعتزلة، لكن ذلك لا يقلّل من القيمة العلمية لهذا الكتاب.
قائمة المصادر والمراجع
المصادر:
- يوسف، هانم إبراهيم، أصل العدل عند المعتزلة، دار الفكر العربي، مصر، 1993م.
[1]- نشر ضمن مشروع "الفكر النقدي في الإسلام المعتزلة أنموذجاً (2) قضايا كلامية وسياسية في الفكر الاعتزالي"، إشراف الدكتور حمادي الذويب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.