أفكار مؤثّمة: من اللاهوتي إلى الإنساني
فئة : قراءات في كتب
مدخل:
تستحق جهود "علي مبروك" في مجال الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث بعض الاهتمام والعناية والتقدير، وهي جديرة بالعرض والتحليل لما تتضمنه من نقد وتفكيك للأطروحات المركزية المؤسِسة للمذاهب الفكرية الجامدة في الإسلام، ومحاولة تقديم إطار جديد لإنتاج قراءات مبتكرة لنصوص التراث الإسلامي على أساس أبعادها المعرفية وفي ضوء سياقاتها التاريخية والاجتماعية.
و"علي مبروك" مفكر مصري وأستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وقد تولى إدارة معهد الدراسات القرآنية في ماليزيا خلفاً للمفكر الكبير الدكتور "نصر حامد أبو زيد". ولقد قدم في هذا المجال عدة كتب منها:
- النبوة؛ من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ.
- عن الإمامة والسياسة، والخطاب التاريخي في علم العقائد.
- ما وراء تأسيس الأصول؛ مساهمة في نزع أقنعة التقديس.
- الخطاب السياسي الأشعري؛ نحو قراءة مغايرة.
- السلطة والمقدس؛ جدل السياسي والثقافي في الإسلام.
- ثورات العرب؛ خطاب التأسيس.
- في لاهوت العنف والاستبداد- الفريضة الغائبة في تجديد الخطاب الديني.
- الدين والدولة في مصر- هل من خلاص؟
- القرآن والشريعة؛ صراعات المعنى وارتحالات الدلالة.
- نصوص حول القرآن؛ في السعي وراء القرآن الحي.
- أفكار مُؤثَمة؛ من اللاهوتي إلى الإنساني.
وسنقتصر في هذا العرض على كتابه "أفكار مُؤثّمة؛ من اللاهوتي إلى الإنساني" (175 صفحة). وقد صدر باللغة العربية عن دار "مصر العربية للنشر والتوزيع" بالقاهرة، عام 2015.
أهمية الكتاب:
تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه محاولة جادة من جانب المؤلف للإجابة عن أخطر الإشكاليات الكبرى وأهمها في خطابات النهضة العربية منذ مطلع القرن التاسع عشر، والتي يمكن تلخيصها- دون إخلال- في سؤال: "لماذا تخلَّف المسلمون، ولماذا تقدَّم غيرهم؟"
ويقف المؤلف من هذه الإشكالية موقف الباحث العلمي الرصين للتراث الإسلامي، رافضاً بقوة الوصايات الإيديولوجية أو العقائدية على الفكر والدين معاً. وقد كان في كتابه يهدف من موقفه هذا إلى العمل على تحقيق رؤية إنسانية للتراث وللدين تكون منفتحة على إنجازات العلم وآفاق المعرفة ومكتسبات الإنسان الحضارية (المادية والمعنوية).
ويتسم أسلوب المؤلف وتحليله للأفكار بالوضوح الشديد في العرض والتحليل، كما يتسم أيضاً بدقة المعاني، وبالتسلسل المنطقي الواضح في جميع أجزاء الكتاب. كذلك فقد اتسمت معالجة المؤلف بالنقد والعمق الملحوظ؛ حيث استطاع أن يفكك مجموعة الأفكار الرئيسية الحاكمة للتراث الإسلامي بوجه عام، كاشفاً مدى ارتباطها بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي ظهرت فيها.
أما عن منهج المؤلف في كتابه وفي معالجته للتراث الإسلامي فهو- في اعتقادي- المنهج التفكيكي. وكذلك فإنّه لم يكتفِ بالتفكيك فحسب، بل أضاف إليه البناء، وذلك في سياق وضع أطروحاته لكيفية بناء خطاب إسلامي يراعي الظروف التاريخية والاجتماعية لكل عصر من العصور. والحق أنّ منهج المؤلف تغلب عليه بشدة النزعة التاريخية، التي تجمع بين نسبية أدوات المعرفة وإعمال العقل في النصوص التراثية. وهذه النزعة تتضح في كل كتاباته بلا استثناء.
هذا فيما يتعلق بأهمية الكتاب، والإشكالية الكبرى التي يتناولها المؤلف، والرؤية المميزة لموقفه، فماذا عن المحاور الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
محور أطروحات "مبروك":
نتوقف هنا أمام جهد متميز للمؤلف؛ حيث يتعرض لمجموعة من الأفكار الأساسية، والمفاهيم المهمة التي تُعَدُّ مدخلاً أو مقدمةً أساسيةً في تجديد الفكر الديني الإسلامي، ومن بينها - على سبيل المثال لا الحصر - "الوحي"، والعلاقة بين "العقل" و"النقل"، والتمييز بين "المعرفي" و"الإيديولوجي"، والتمييز بين "الثقافة الإسلامية" و"الثقافة التي سادت الإسلام". وبالرغم من أنّ المؤلف لم يلجأ إلى الدخول في تفصيلات دقيقة في المذاهب الإسلامية أثناء معالجته لهذه الأفكار والمفاهيم، حيث قصر اهتمامه على الأفكار الكلية الحاكمة لخطابات هذه المذاهب، فإنّه قد استطاع أن يكشف بأسلوب واضح ودقيق عن نقائص هذه الخطابات منذ بواكير التفكير الإسلامي في عهد الرسول، منتقلاً إلى خطابات الفكر الإسلامي في العصور الحديثة وحتى الوقت الراهن، وذلك عن طريق تبيان ارتباط هذا الفكر بالظروف السياسية والاجتماعية التي صاحبت نشأته، ومحاولة نزع طابع القداسة عنه.
وفيما يتعلق بالمحاور الرئيسية التي يتضمنها الكتاب، فيمكن القول إنّ الكتاب يتضمن خمسة موضوعات أو دراسات منفصلة- متصلة في الوقت ذاته. وتسير موضوعاته بطريقة برهانية منطقية، منسجمة بعضها مع بعض، حيث يناقش المؤلف في الدراسة الأولى كيفية التعامل مع التراث وقراءته لإنتاج معان جديدة وفضاءات جديدة للتواصل والحوار البشري. وينطلق من خلال هذا الموضوع إلى الموضوعين الثاني والثالث، وقد أراد بهما المؤلف محاولة الإجابة على سؤال تجديد الخطاب الديني، ومنه بطبيعة الحال مسألة تطوير التشريع الإسلامي، وذلك من داخل القرآن ذاته. ولكن تجديد الخطاب الديني، ومن ثَمَّ تطوير التشريع الإسلامي، لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال تفكيك الثقافة أو العقلية التي تحكم الإنسان المسلم المعاصر، وهنا تأتي الدراسة الرابعة حول أنثروبولوجيا العقل في الإسلام، وكيف أنّ له (العقل في الإسلام) أصولاً أنثروبولوجية لابد من الإمساك بها من أجل فهم الممارسة والطريقة التي يشتغل بها هذا العقل. ويختتم المؤلف كتابه بدراسة عند كل من الإمام "الشافعي" (150-204هـ/767-820م) و"أبي الحسن الأشعري" (260-324هـ/874-936م)، وهما من كبار بناة العقل والثقافة في الإسلام، ومن الذين رسخوا لتبعية العقل الكاملة للنقل.
التراث بين الدوجما والانفتاح:
بادئ ذي بدء إنّ أهمية التراث، كما يقول المؤلف، تأتي من كونه مكوّنًا مركزيًّا من مكونات الثقافة التي ننتسب إليها؛ فالثقافة تُكّون العقل، فضلاً عن أنّها توجه الواقع الذي يعيش فيه الإنسان. وينطلق المؤلف من فرضية أساسية تقضي باستدعاء الإسلام، لا كما تقوم به جماعات الإسلام السياسي الراهن على سطح المشهد العربي عموماً، وإنّما استدعاء الإسلام بما هو (جوهرٌ وروح) وليس بما هو (رسم وحرف)، ويعني بذلك «جعل الإسلام وتراثه الغنيّ في السياسة والاجتماع والثقافة وغيرها موضوعاً لفعلي القراءة والفهم، فينتج ويطوِّر، وليس موضوعاً للفرض، فيعيق ويُجمِّد»([1]).
وعلى هذا النحو يحدِّد المؤلف نقطة انطلاقه من (الإسلام)، وهو بذلك يرفض ضمناً الإيديولوجيات العلمانية الصرف، التي حاول أصحابها فرضها بطريقة قسرية على واقع الشعوب العربية والإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. ولكن هذا الرفض للإيديولوجيات التحديثية العلمانية لا يعني الرفض الكامل والتام لكل ما تتضمنه من أفكار ورؤى ومناهج، وإنّما يعني فحسب- كما يقول- رفض فرضها «كمنظومة جاهزة على واقع مجتمعات تقع خارج سياق تبلورها التاريخي والمعرفي؛ لأنّ ذلك من شأنه أن يُنتج "حداثة مشوهة" و"أسلمة مشوهة"»([2]).
ولكن العقبة الأساسية التي تواجه أيّ محاولة لاستدعاء الإسلام وتراثه تتمثل- كما يرى المؤلف- في عمليات الإقصاء الفكري والمادي التي حدثت، ولا تزال، في التراث الإسلامي لبعض جوانبه، بحيث أصبح التراث، إذا استعرنا مقولة لهربرت ماركيوز، "ذا بعد واحد". وقد نهجت التيارات السلفية قديماً وحديثاً هذا النهج الإقصائي والأحادي في فكرها معتقدة أنّ مذهب جماعة بعينها (هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة) هو المذهب الصحيح الذي يمثل الإسلام في جوهره وروحه وكليته ومعناه.
وعند هذه النقطة يُلاحَظ أنّ المؤلف لم يحالفه التوفيق في نظرته لعقيدة التيارات السلفية؛ إذ أنّ فكر هذه التيارات ليس متجانساً أو واحداً، وليس أدل على ذلك من المحاولات المتكررة لتكفير بعضها بعضاً ومحاولات الإقصاء بينها. هذا بالإضافة إلى أنّ المؤلف لم يناقش، بل لم يشر أيّ إشارة إلى التيارات الشيعية المتشددة، والتي تلتقي مع نظيرتها السُّنّية المتطرفة.
وعلى أيّ حال فإنّه لا سبيل إلى استدعاء الإسلام بما هو جوهر وروح، إلا بتحرير الإسلام، ومن ثَمَّ الأصول التأسيسية له، من هيمنة الصوت- النسق الواحد، والاستفادة من كل تراثه الغنيِّ؛ ذلك لأنّ هيمنة الصوت- النسق الواحد على التراث يُفضي إلى احتكاره للأصول التأسيسية للإسلام، ومن ثَمَّ فإنّه يقدم نفسه بما هو، وحده، الحضور المطابق لها([3]).
ومن خلال هذه الفرضية الأساسية يشخص المؤلف جوهر الأزمة التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، ويذهب إلى أنّه لا سبيل إلى الانعتاق منها إلا بالاستعادة التراث في حيويته الأولى التي اتسع معها لكافة الأصوات المتباينة، بل والمختلفة تماماً.
الخطوط العريضة الحاكمة لفكر "مبروك":
في الحقيقة إنّ أطروحات المؤلف تتمحور حول فكرتين مركزيتين: الأولى إعادة قراءة التراث من منطلق أبعاده المعرفية، لا الإيديولوجية، والثانية تاريخية النصوص التراثية- بما فيها النصوص الدينية- وتعدُّد دلالاتها ومعانيها، وهي التعددية الناجمة عن فعل القراءة والتفسير والتأويل، والذي هو بالضرورة فعل بشري.
أمّا بالنسبة إلى النقطة الأولى فتتضح من اعتقاده الراسخ بأنّ القراءة المُنتجة للتراث هي القراءة المعرفية له، وإنّ جوهر الاشتغال على التراث ينبغي أن يكون معرفياً في الأساس. والقراءة المعرفية للتراث- في مقابل القراءة الإيديولوجية له- هي تلك القراءة التي تهدف في المقام الأول إلى الإجابة عن أسئلة الواقع التي يتفق عليها الكافة من داخل التراث ذاته، وذلك من خلال البحث عن معان ودلالات جديدة للنصوص في ضوء سياقاتها التاريخية والاجتماعية. في حين أنّ القراءة الإيديولوجية تضحّي بالأبعاد المعرفية للتراث، وفي بعض الأحيان تقوم بتشويه معاني النصوص ودلالاتها من أجل هدف سياسي أو اجتماعي معين، ومن أنصارها المُفكِّر اللبناني "حسين مروة" (1910-1987)، الذي استخدم المنهج الماركسي- منهج المادية الجدلية- في قراءة التراث وتحليل مكوناته وأجزائه، وركز على انتقاء أجزاء منه - دون غيرها- لتلائم العصر الحالي. وكذلك المُفكِّر المصري "حسن حنفي" (1935-..؟) وقراءته السياسية والاجتماعية للعقيدة الإسلامية، والمفكر الإيراني "علي شريعتي" (1933-1977) وقراءته الماركسية للإسلام، وغيرها من القراءات الإيديولوجية الأخرى. إنّ هذه القراءات تُمثِّل في رأينا- وفي رأي المؤلف كذلك- خرقاً كلياً لمبادئ القراءة الصحيحة وانتهاكاً صارخاً لقيمة التراث في حد ذاته، وهي تجسد الارتباط غير المشروع بين (الفكري) و(السياسي).
وأما بالنسبة إلى فكرته حول تاريخية النصوص التراثية، فتتضح من اعتقاده بأنّ ثمة ضرورة لنزع طابع (التقديس) الذي غُلفت به النصوص التراثية على مدار تاريخها الطويل. ذلك الطابع الذي جعل من أقوال أصحابها موضوعاً لخطاب إلهي- نبوي، ينأى عن أن يكونوا موضوعاً للنقد البشري؛ لأنّ جعل خطابهم مجرد خطاب (تاريخي) من شأنه- كما يُظن- أنّ يؤدي إلى نقض أصلي الدين (القرآن والسُّنَّة).
ويقرر المؤلف أمراً مهماً، وهو أنّ المسؤول عن جعل بعض النصوص التراثية فوق المستوى التاريخي، وبالتالي فوق مستوى النقد، ليس هم أصحابها الأصليون، وإنّما المسؤول عن ذلك هو السلطة السياسية التي سادت عبر التاريخ الإسلامي بمختلف أشكالها وصورها الاستبدادية، وهي التي أرادت جعل السلف (سلطة) قابضة على الرأسمال الرمزي للجماعة، من أجل التخفي السياسي وراءهم([4]).
الدوائر الفكرية في تحليلات "مبروك":
في الحقيقة إنّ أطروحات المؤلف تتأرجح بين دوائر فكرية كثيرة، لعل من أهمها الدائرة الفكرية لـ"نصر حامد أبو زيد" (1943-2010)، فتأثيره واضح فيه، وخصوصاً بالنسبة إلى هاتين الفكرتين. ففي محاولة منه لتفكيك خطابات النهضة العربية الحديثة لإبراز الطابع الديني الملتبس في أطروحاتها، بيَّن "أبو زيد" أنّ «تداخل آليات إنتاج الفكر بآليات الممارسة السياسية إلى حد التطابق يفضي إلى نوع من البراجماتية الفكرية، التي تبدو (التلفيقية) الآلية الأساسية فيها. ذلك أنّ (الحقيقة) في هذا السلوك البراجماتي تكون كذلك، أي تكون حقيقة لأنّها نافعة. في حين أنّ المنطق الفكري - المبني على آليات إنتاج المعرفة - يقوم على أساس أنّ (الحقيقة) نافعة، لأنّها كذلك - أي لأنّها (حقيقة) وليس لأي علة خارج كونها حقيقة. وحين يتم هذا الربط بين (الحقيقة) و(المنفعة) على أساس أنّ الثانية هي الأصل، والأولى مترتبة عليها، تظل عمليات اكتشاف الحقيقة بالمعنى البراجماتي - (أي عمليات إنتاج الفكر) تعتمد على التزييف المتواصل، التزييف الذي يربط بين أشياء لا رابط بينها، ويستنتج من المقدمات ما لا تتضمنه بأي حال من الأحوال، وتلك كلها عمليات ذهنية يمثل (التلفيق) لحمتها وسُدَاها». ويضيف "أبو زيد" أنّه «ليس معنى ذلك أنّ البحث عن (الحقيقة) - طبقاً لآليات التفكير الحق - بحث عن حقيقة ثابتة جوهرية متعالية قائمة (هناك) في المطلق. بل إنّنا في إطار الحديث عن (الحقيقة) النسبية بالنسبة إلى تطور الوعي في سياق اجتماعي ثقافي محدد يصوغ رؤية للعالم تحدد إطار المعرفي بنفس القدر الذي يساهم به المعرفي في تطوير تلك الرؤية وتحريكها... فالحقيقة الثقافية تكون صادقة وصحيحة في سياق وضع اجتماعي إنساني محدد بسياق تاريخي متميز»([5]).
وكذلك يوضح "أبو زيد" أنّه قد يتم توظيف الإيديولوجيا، أو التلاعب بها، في الخطابات الفكرية، وذلك لصالح أهداف وغايات معينة. ومن هنا كان من الضروري التفرقة في الفكر والثقافة بين بعدين: "المعرفي" و"الإيديولوجي"، حيث يمس "المعرفي" مستوى الحقائق اليقينية في الثقافة المعنية في مرحلة تاريخية محددة؛ أي أنّه يمثل الوعي الاجتماعي العام، بصرف النظر عن اختلاف الجماعات الناتج عن اختلاف المواقع الاجتماعية. في حين يقترن "الإيديولوجي" بوعي الجماعات المرتهن بمصالحها في تعارضها مع مصالح جماعات أخرى في المجتمع([6]).
كذلك فإنّنا لا نستطيع إغفال تأثير المفكر السوري "أدونيس" (1930-...؟) على فكر المؤلف. وقد كشف "أدونيس" عن أنّ هناك تيارين رئيسيين في الفكر والثقافة الإسلامية، وقد وظّف اصطلاحين إجرائيين للدلالة عليهما، وهما: «الثابت» و«المتحول». وهو يعرّف (الثابت) بأنّه «تلك الاتجاهات الفكرية التي تنهض على النص، وتتخذ من ثباته حجة لثباتها هي، فَهْماً وتقويماً، وتفرض نفسها بوصفها المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص، وبوصفها- استناداً إلى ذلك- سلطة معرفية مطلقة». كما يعرّف (المتحوّل) بأنّه «تلك الاتجاهات الفكرية التي تنهض، هي أيضاً، على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدُّده»([7]).
وقد أسقط "أدونيس" هذين الاصطلاحين على الفكر والثقافة الإسلامية، فذهب إلى أنّ هناك تيارين فكريين رئيسين سيطرا في الإسلام: الأول هو تيار رجعي أصولي، يتمسك حرفياً بالنصوص الدينية من دون تأويل أو تفسير، ويتخذ من النص الديني- كتاباً وسُّنَّة- أساساً ومنطلقاً، ويمثله كثيرون أبرزهم ثلاثة: "الطبري"، و"ابن حزم الأندلسي"، و"ابن تيمية". أما التيار الثاني فإنّه يمتاز بالديناميكية والقابلية للتكيف مع ظروف الواقع والعصر، أي أنّه تجديدي، ويتخذ الإسلام ذاته أساساً ومنطلقاً. وقد أسَّس أصحاب التيار الأول لنظرةٍ تقول بطاعة الإمام ولزوم الجماعة، في حين أسَّس تيار الاتجاه الثاني لنظرةٍ تقول بمراقبة الإمام ولزوم الحق والخروج على الإمام إذا جار([8]).
خاتمة:
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنّه كشف النقاب عن الطابع التاريخي لنصوص التراث ولكثير من الخطابات الإسلامية، وقد حاول المؤلف من خلال كتابه نزع طابع القدسية الذي تغلفت به الكثير من المذاهب والاتجاهات الإسلامية وغُلف به أصحابها. وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على أنّنا نقف أمام عمل متميز يربط المؤلف فيه بين التراث الإسلامي، والظروف التاريخية والاجتماعية، والسياسية التي نشأ في ظلها، ويحلل أسس الخطابات المؤسِسة للتراث على أسسٍ علميةٍ وعقلانية. ونشير هنا أنّه لا يمكن عزل كتاب المؤلف هذا عن بقية كتاباته الأخرى في هذا المجال، ونؤكد على وحدة أفكار المؤلف.
وفي اعتقادنا إنّ هذا الكتاب يمثل إضافة في مجال الفكر الإسلامي، وإسهاماً بارزاً ليس في المكتبة العربية وحدها، بل في جميع دوائر الفكر الإنساني عموماً والإسلامي خصوصاً. وعلاوة على ذلك فإنّ الكتاب يتميز، على الرغم من صغر حجمه، بأنّه ليس عرضاً علمياً لبعض المذاهب في التراث الإسلامي، بل تحليلاً تفكيكياً لبنية الأفكار المحورية الكبرى (الخطابات) التي تأسست في التراث الإسلامي.
وأخيرًا، ووفقًا لما سبق ذكره، تتّضح لنا قيمة هذا الكتاب، وأهميته، وإلى أي مدى يُعَدُّ إضافةً حقيقيةً في تعزيز أنماط التعدُّد الفكري والثقافي ذي الطابع العقلاني والعلمي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّه يُعَدُّ إضافةً حقيقيةً أيضاً في مجال تعزيز الدراسات والأبحاث الفكرية النقديّة والتحليلية للموروث الديني، وتفكيكِ الأُسس والقواعد الفكرية لظواهر هذا الفكر والثقافة الأحادية المغلقة والإقصائية التي سيطرت فيه.
وفي النهاية نقول إنّه إذا كان بعضهم لا يتفق مع أطروحات المؤلف، التي جاءت في هذا الكتاب أو غيره من مؤلفاته، إلا أنّه يجب وضعها موضع الدراسة والتحليل العلمي، لأنّها تقع في النهاية ضمن دائرة الاجتهاد في الرأي، وهو اجتهاد فكري يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ؛ لأنّه ليس وحياً من السماء، ولكنه اجتهاد شخصي من وحي من الفكر، شأنه في ذلك شأن كل اجتهاد بشري أو إنساني. ينبغي إذن إقامة حوار بنَّاء بين مؤسسي المذاهب الإسلامية وبين منظري ودارسي الفكر الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية من أجل خلق فضاء معرفي حرّ ومبدع في نقاش قضايا التجديد والإصلاح الثقافي والديني بشكلٍ مُعمقٍ ورصين.
[1] مبروك (علي): أفكار مُؤثَمة؛ من اللاهوتي إلى الإنساني، القاهرة: دار مصر العربية للنشر والتوزيع، 2015، ص 10
[2] المصدر السابق، الموضع نفسه.
[3] المصدر السابق، ص 11
[4] المصدر السابق، ص ص 33-34، 64-65
[5] أبو زيد (نصر حامد): النص، السلطة، الحقيقة؛ الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1995م، ص 54
[6] المرجع السابق، ص ص 98-99
[7] أدونيس: الثابت والمتحول؛ بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، ج.1، بيروت: دار الساقي، ط. 7، 1994، ص 13
[8] المرجع السابق، ص 14