«أنا» و«هنا» و«الآن» حول قرائن تأويل مقام التلفظ في جنس البورتريه


فئة :  ترجمات

«أنا» و«هنا» و«الآن» حول قرائن تأويل مقام التلفظ في جنس البورتريه

«أنا» و«هنا» و«الآن»

حول قرائن تأويل مقام التلفظ في جنس البورتريه

بقلم: آن بيرت جيسلين

قدمه وترجمه: د. محمد الشنكيطي

التقديم:

إذا كانت أغلب المقاربات النقدية المتناولة لجنس البورتريه، قد تطرقت إليه، باعتباره ملفوظا énonce، يؤثثه شخص أو شخوص (حالة البورتريه الجماعي) portrait collectif يكن لهم محيطهم تقديرا وعرفانا ما(1)، وأشياء وأضواء وظلال ...إلخ، فإن الباحثة ANNE BEYAERT GESLINE تحاول عبر مؤلفها الصادر سنة 2017 (2) مقاربة هذا الجنس البصري GENRE VISUEL، باعتباره خطابا يتحقق داخل مقام تلفظي معين SITUATION D’ENNONCIATION. فالبورتريه في منظور الباحثة، فعل خطاب ACTE DE DISCOURS يتحقق داخل علاقة تخاطب طرفيها أنا وأنت، الرائي والمرئي، على حد سواء. هذا الأمر حدا بالباحثة إلى الحديث عن مفهوم الفرد L’INDIVIDU، باعتباره ذاتا تؤطرها زمكانية محددة وحاملة لملفوظ خطابي، يقع في علاقة ذهاب وإياب (من وإلى) مع وضع اعتباري اجتماعي معين (زعيم سياسي أو نقابي أو عارضة أزياء أو نجم فني أو بطل رياضي أو سيد أو خادم ....إلخ... فنكون من ثمة، مع المؤلفة، في إطار تناول جد متقدم لمفهوم الزمنية، LA TEMPORALITE وإشاراتها داخل جنس البورتريه، من خلال تقاطعها مع مفاهيم، هي حاملة، في عمقها، لإشارات الزمن، كالفضاء

L’ESPACE والنظرة LE REGARD. هاذين الأخيرين باعتبارهما مكونين أساسيين داخل جنس البورتريه.

نص الترجمة:

يعتبر بُعد «الزمنية» أساسيا ومركزيا بالنسبة إلى البورتريه، كما أنه بالغ الأهمية في عملية تحديد الوضع الاعتباري للفرد، على نحو ما بينه تزفتان تودوروف (3)؛ فالإحالة على مكون الزمن، وفق هذا الباحث، لا تتجسد فقط من خلال الظلال (صبيحة أو ظهيرة أو مساء) أو تجاعيد الوجه أو لون خصلات الشعر (أسود داكن أو أبيض) إلخ.. بل إنها تمثل المهد والرحم الشامل. إن الإشارات الزمنية، وهي تحدد لون الحقل كما لون السماء، تفضي إلى ولادة الفرد في الزمن. تزامنت نشأة البورتريه في فن الرسم خلال القرن 15، مع حدوث تغيير شامل وكبير في مكوني الفضاء والتشخيص.

كيف إذن يتمظهر الزمن ويتجلى في البورتريه كجنس بصري؟. نقول بادئ ذي بدء إن الزمن يتجلى ويتمظهر من خلال إشارات مشخصة، هي ضرب من عملية التأريخ عبر لون الحقول مثلا، بالإضافة إلى حضور وجوه تتجاور ويحاذي بعضها البعض عبر الإطار الأمامي L’AVANT PLAN أو من خلال عمق الحقل البصري (PROFONDEUR DU CHAMP) المفعلين. يتم تأويل الوجوه على مستوى محور الإطار وكأنها تتعاقب زمنيا، إذ وفق لغة CLEMENT LESSING (4)، فإن كلمة NEBENEINANDER الألمانية الحاملة لمعنى الجوار JUXTAPOSITION (جنبا إلى جنب) يتم تأويلها باعتبارها حاملة لمعنى التعاقب الزمني NACHEINANDER (الواحد يعقب الآخر). ونفس الأمر ينطبق على مستوى عمق الحقل، الذي يسمح بتأويل مشهد في الإطار الخلفي، وكأنه سابق زمنيا عن مشهد يقع في الإطار الأمامي، كما نتابعه في عمل تشكيلي للفنان GIORGIONE بعنوان: العاصفة (5). فالفرق القائم على مستوى الفضاء بين «هنا» و«هناك» و«هنالك» يتحول الى بون زمني، يعمل على مناظرة «ما تم» ب: «ما لم يتم بعد». ونحن نحتفظ في أذهاننا بهذه البنية السردية للفضاء، سيكون من المغري بله المفيد، أن نقحم نظام النظرة ونسقيتها SYSTEME DU REGARD الصادرة عن الشخص موضوع البورتريه، حتى نذهب مذهب FRESNAULT DERUELLE الذي شبه يسار ويمين اللوحة ب: «ما قبل» و«ما بعد» أو بالسابق واللاحق، وهو الذي أنجز كذلك مقاربة تأويلية لنظرة مرشح ما خلال حملة انتخابية ما، ومن خلال البورتريه السياسي الدعائي، باعتبارها نظرة تتأرجح بين الانشداد إلى الوراء (نكوصية استعادية) أو إلى الأمام (استشرافية تطلعية)؛ غير أن مجاراة فريسنو قد يسقطنا في إغراق تأويلي. وبهذا تكون مقاربة MARTiNE JOLY للجسد في علاقاته بالتركيبة الفضاء زمنية أكثر ملاءمة وإقناعا. فاللقطتان الأمامية والجانبية للوحة تحيلان من منظور الباحثة على زمنيات متباينة، حيث إن الأولى (اللقطة الأمامية) تبئر «الأنا» المبئرة بدورها لمستوى الخطاب LE DISCOURS في حين تبئر اللقطة الثانية «الهو» المبئرة بدورها لمستوى الحكاية LE RECIT. تتيح مقارنة الباحثة بين الصورة الثابتة من جهة، والصورة المتسلسلة (باعتبارها متوالية من الصور) من جهة أخرى، استيعاب الوجه وتمثله من خلال اللقطة الأمامية، باعتبارها توقفا داخل مسلسل الاستعراض. توقف في الحاضر، في حين أن اللقطة الجانبية، في العرض السينمائي، هي ارتماء في أحضان المستقبل واستسلام لإغراءات كيف إذن يقدم البورتريه الفضاء؟. إذا كان الكشف عن الإشارات الكفيلة بتحديد أبعاد النظرة LE REGARD ودلالاتها، في الملفوظات البصرية الموازية، لا يتيح ولوج إلا العناصر الأكثر سطحية في مستوى التلفظ، فإنه يفقد كل ملاءمة محتملة مع البورتريه، الذي يمحو تقريبا هذه البيانات. الشيء نفسه ينطبق على مبدأ تحويل الجوار (NEBEN)JUXTAPOSITION إلى تعاقب (NACH) SUCCESSION الذي يمثل عقبة في البورتريه. لا يسمح بالتالي، أي توقف للملفوظ، بتجزيئ الفضاء -الزمن أو تحويله إلى متواليا، حيث يعتبر حذف المكون السردي، خاصية ملازمة لمستوى التلفظ في البورتريه، على نحو ما سنراه لاحقا مع صورة وجنس السيلفي6)). وحده توقف مستوى التلفظ وتراجعه (بورتريه يليه آخر) قادر بأن يجعلنا نحس بتعاقب الزمن. تقودنا دراسة صورة السيلفي اليوم، كبورتريه ذاتي، إلى تغيير زاوية المعالجة من أجل مقاربة مسألة الزمن، لا من زاوية الملفوظ، بل من خلال فعل التلفظ وعمله PRAXIS ENNONCIATIVE.

ينبغي أن نعتبر هذه الخصوصية التلفظية، تحققا للبورتريه، والذي يتأتى له منح الحياة لنموذجه داخل فضاء محاصر، حيث تتعرض إشارات السرد لفعل المحو. وعلى الرغم من ذلك، وفي غياب هذه الأخيرة (أي إشارات السرد) فإن مقولتي الفضاء والزمن تشتغلان في خفاء، لكي تمنحا وتقرا الحضور الملموس والحي. تميز إشارات السرد بين «أنا» و«نحن» وON)) هذا الأخير، الخالي من كل معالم التشخيص، لتعمل، هذه الإشارات، على بناء شخصية ما. فإذا كان التلفظ يميز «هنا» و«الآن» عن مكان وزمن آخرين، فإن نظرة الشخص موضوع البورتريه، تعمل على لملمة شمل الاستمرارية الفضاء- زمنية، وهي تضمن، عن طريق حمل المتلقي على الفعل: «اختاروني (أنا) بدل الآخر» امتداد للأنا في النحن، على نحو ما سنبينه من خلال تحليل ملصق دعائي سياسي(7). فإذا كانت العديد من التوليفات، المرتبطة بالملفوظات والتلفظات ممكنة داخل البورتريه وكذا التسويات الصنفية، فإنها تفضل دائما موقعا وعلى مسافة في وسط الصورة، حيث العقل والعاطفة يتقاطعان. يتحقق داخل المهد، الذي يمنح بالتالي شكلا وصورة رهان تحديد هوية الذات (أنا ونحن وهم) وكذا ظهورها (ذات مستعرضة أو ذات مشاركة أو ذات منحبسة). فكأننا بالزمن قد أوقف تحليقه داخل البورتريه، لكي يتفرغ لمنح مظهر للجسد، ولتقاطع الانتباهات وتشابكها ولحدث الحضور.

كيف يتبلور هذا الحضور أمامي؟ كيف يتأسس تقاطع الأجساد من هذا النوع؟ إنها نفس الأسئلة دائما. عندما نكون بصدد بورتريه جماعي، فكيف للفاعلين فيه أن يتقمص الواحد منهم جسد الآخر؟

تسمح دراسة مقارنة لجدارية GIOTO من إنجاز SHAPIRO وكذا لبورتريهات جماعة من الهولنديين تمت دراستها من طرف ALOIS RIEGEL (8) من تجاوز ثنائية (أمام - وراء) لكي يحيل التلفظ على قدرة COMPETENCE وإنجاز PERFORMANCE(9) معينين، وعلى توزيع قيمي ورمزي للأدوار والوظائف داخل البورتريه.

يسند التلفظ الذات، وضعا اعتباريا (شفرة مسبقة) مطابقا لوضع اجتماعي ما. ولكي يستجيب التلفظ لهذه المقتضيات، فإنه يؤسس لأشكال خارجية نموذجية وعادية ومعتادة. يجب إذن، وبعيدا عن كل استعادة للإشارات أو الأجساد، الإحاطة بتلفظ اجتماعي يضمن هذا الانخراط، داخل مجالات مختلفة وداخل جنيسات البورتريه، كبورتريه الدعاية السياسية والبورتريه السياسي الرسمي والبورتريه الفني. ويمكن بالنسبة إلى كل مظهر من هذه الأشكال الخارجية، الإشارة لنشاط تنعكس فيه صورة ما عن الذات. ممارسة تعتمدها هذه الأخيرة لكي تقدم حول محيطها صورة ما عن نفسها التي من خلالها تتحدث عن وضعها الاعتباري كأن يقول رجل السياسة: «أنا الأذكى والأتقى» وبالتالي الأصلح، أو تقول عارضة أزياء: «أنا الجمال والرشاقة» أو يقول بطل رياضي: «أنا القوة التي لا تقهر» ......إلخ. يكون من المفيد في هذا المضمار، أن نبحث في تجليات اللغة الواصفة (ميتا اللغة)، حيث البورتريه يتحدث عن نفسه، كما نحدد الكيفية التي تتمثل بها الصورة الفتوغرافية الانتخابية علاقة الفرد بالجماعة. أو نبحث في المعايير التي تحدد، من خلالها، مجلات الموضة مفهومها للجمال. تسمح بالتالي، مقارنة للممارسات وكذا تحققات جنيسات البورتريه، بملاحظة بعض التغييرات والتحسينات المميزة لل «أنا» عبر تحولها في صيغة الجمع إلى «نحن» أو في صيغة التعميم والبناء للمجهول «هم». فما هي المظاهر الخارجية والنصية الخاصة، والملازمة لهذه الممارسات أو تلك، التي تقابل امتدادات الأنا؟ وما طبيعة العلاقة، القائمة بين الذات وجماعتها، التي تعمل هذه المظاهر الخارجية على وصفها ورصدها؟

تستدعي بالكاد بعض التواطئات النصية انتباهنا. فالبورتريه، باعتباره جنسا جامعا (محددا)(10)، يلتحم كجنيسات، حيث تحققاتها النصية، تتناسل الواحدة منها من الأخرى، عبر الكشف من خلال سلسلة من الاتصالات والقطائع، عن بعض أوجه الترابط والتعالق. تكشف هذه الجنيسات عن ترابطات متزامنة شأن بورتريه السوابق القضائية وبورتريه التعريف، أو متعاقبة تشهد عن تطور الممارسات كما تكشف كذلك عن طابع الاستمرارية (البورتريه الدعائي الانتخابي الذي يتراجع، ليفسح المجال أمام البورتريه الرسمي بمجرد الإعلان عن اسم المرشح الفائز)(11). وبالتالي يمكن القول، إن تتبع التجليات الخارجية والشكلية يسمح بإعادة إنشاء سحنات وتشابهات عائلية عملية.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

هوامش:

(*) حاصل على شهادة الدكتوراه في اللسانيات التطبيقية من جامعة محمد الخامس (كلية علوم التربية) المغرب. (إطار بوزارة الداخلية).

(1) Todorov tzvetan (Eloge de l’individu, essai sur la peinture flamande de la renaissance) ed le seuil 2004 

(2) Anne Beyaert Gesline (sémiotique du portrait, De Dibutade au Selfie) ed De Boeck Superieur 2017 rue du Bosquet 7 B 1348 Louvain la Neuve 1ere ed.

المقال المترجم يقع بين ص ص 131 و134. للإشارة؛ فالمؤلفة أستاذة جامعية لعلوم الإعلام والاتصال بجامعة بوردو – مونتين. فرنسا.

(3) T TODOROV OP CITE

)4) lessing clement (Au dela des limites de la peinture et de la poesie) Traduction francaise Hermann 1990

(5) يتعلق الأمر بلوحة تشكيلية تظهر، من خلال إطارها الأمامي، امرأة ترضع مولودها وبمحاذاتها راعي للأغنام. كما نشاهد في الإطار الخلفي للوحة، عاصفة رعدية تقصف تجمعا سكنيا ريفيا.

(6) أي من خلال الصفحات القادمة من المؤلف.

(7) ينظر ص ص 149. 151، حيث حللت الباحثة ملصقات سياسية لرؤساء فرنسيين سابقين أمثال ميتران وساركوزي.

(8)Alois riegl (le portrait du groupe hollandais, traduction francaise d’aurelie Dutho, hazan, 2008

(9) توظف الباحثة المفهومين من خلال مرجعيتهما اللسانية عند كل من فردناند دوسوسير ونعام تشومسكي (المترجم)

(10) تتحدث الباحثة عن جنس البورتريه، باعتباره جنسا جامعا لمجموعة من الأجناس الصغرى أو الجنيسات.

(11) ينسحب هذا الأمر، بطبيعة الحال، على الأنظمة الرئاسية الجمهورية. (المترجم).