إشكالية التوفيق بين الحرية والتنظيم الاجتماعي من منظور برتراند راسل
فئة : مقالات
إشكالية التوفيق بين الحرية والتنظيم الاجتماعي من منظور برتراند راسل
إن ما تشهده الطبيعة من تغيرات مناخية تمثلت في ندرة المياه، وتوالي ظهور سلسلة من الأوبئة تجتمع كلها لتعلن عن زمن جديد تكون فيه السيادة للطبيعة، زمن يعلن عن تبخر آمال الإنسان الحديث، الإنسان الذي آمن بذاته سيدا على نفسه وأراد أن يحكم قبضته على الدين والطبيعة وأخيه الإنسان. ما تواجهه الطبيعة الآن من ضربات وردود فعل مستمرة تضعنا في مواجهة مع التساؤلات التالية: إلى أين يسير العالم؟ لأية غاية؟ وماذا بعد كل هذا؟[1]
إن هذه التساؤلات الشبح بلغة مارتن هايدغر تدفعنا بشدة إلى ضرورة إعادة النظر في تصو ر الإنسان لذاته وللطبيعة والميتافيزيقا. وقد شكلت فترة الطوارئ الصحية وما ترتب عنها من فرض للحجر الصحي في مختلف دول العالم نتيجة انتشار وباء كورونا فرصة للكشف عن أوهام وأضرار الحداثة.[2] من بين أهم القضايا التي فرضها الحجر الصحي للنقاش هي مسألة الحرية وعلاقتها بالتنظيم الاجتماعي، وهو ما سنتناوله في هذه الورقات من خلال العودة إلى نظرية العقد الاجتماعي؛ فكيف نشأ العقد بين الأفراد؟ وهل نشأ بهدف ضمان مجال للحرية يستطيع بموجبه الأفراد التعبير عن طاقاتهم الإبداعية والفنية دون أدنى خوف أم بهدف الحفاظ على مصالح الدولة على حساب المصلحة الخاصة للأفراد؟ ما طبيعة العلاقة بين الحرية والسياسة؟
كلها أسئلة حاول الفلاسفة الإجابة عنها على مر العصور وجوابهم تفرع إلى فريقين اثنين: فريق يرى أن الحرية لا تتحقق إلا إذا تمتع الفرد بكافة حقوقه؛ وذلك عن طريق تقليص تدخل الدولة في حياة الأفراد ومشاكلهم، وفريق يرى أن الحرية لا تتحقق إلا عن طريق تدخل الدولة. إن الفريقين معا يؤكدان في جوابهما على مسألة الحرية، إلا أنهما يختلفان في طريقة تحقيقها داخل الدولة. اختلافهم هذا، راجع إلى طبيعة تصورهم لأصل الاجتماع البشري وماهية الدولة. نفهم من الفريق الأول أنه بترسيمه لحدود الدولة أنه يؤمن بمجال الحياة الخاصة للأفراد، ويدعو لضرورة احترامها. أما الثاني، فيمنح السيطرة المطلقة للدولة على كافة مجالات الحياة، ما يجعل من التعبير عن انشغالات الأفراد واهتماماتهم الخاصة وإبراز مواهبهم وعبقرياتهم أمرا في غاية الصعوبة. هل يمكن أن نوفق بين الحرية بما هي مجال خاص بالفرد وبين الحرية من حيث ارتباطها بالمجال العام؟ وكيف السبيل إلى تحقيق حرية الأفراد بما لا يتعارض مع هدف التعاقد الاجتماعي؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، اخترنا فيلسوفا عرف باشتغاله في حقل المنطق وفلسفة الرياضيات أكثر من اشتغاله في مجال الفلسفة السياسية، وهو أحد الأسباب التي دفعتنا للانفتاح عليه. إنه برترتاند راسل Bertrand Russell.
طبيعة الإنسان
إذا أردنا البحث في إيجاد الصلة بين حرية الفرد من جهة، وبين التعاون بين الأفراد من جهة ثانية، وجب علينا طرح السؤال التالي: هل في طبيعة الإنسان ما يقوده للتعاون بين أفراده جنسه أم إن طبيعته تنبني على الاهتمام بملذاته الخاصة؟ هل الدوافع التي تقود الإنسان إلى إنشاء صلات اجتماعية هي دوافع فطرية أم إنها مكتسبة؟
يجيبنا برتراند راسل على أن التعاون بين الأفراد مبني على أساس غريزي لا يسير بموجبه الفرد الإنسان القديم نحو قصد معين[3]، فهو بلا غاية، إلا أنه وبالرغم من عدم وجود هذه الغاية، فإن ذلك لا يعني عيشه في نظام عبثي وقائم على الاتفاق، فقد استطاع بموجب هذا التعاون أن يقسم العمل بين المرأة والرجل، ثم مكنه من أن ينتقل من العائلة نحو القبيلة، خاصة عندما اكتشف أن الصيد كوسيلة من وسائل الحفاظ على الحياة يكون أكثر نجاعة عندما يكون التعاون بين البشر.
إذا كان أساس التعاون بين الأفراد غريزيا بحسب برتراند راسل، ومنه تولد الجماعة. فما هي مرتكزات ووظائف هذه الأخيرة في حياة الأفراد؟ هل ظهورها يقابله انمحاء للفرد وانصهار لمواهبه أم إن هناك تكاملا وتعزيزا بينهما؟
يجيبنا برتراند راسل عن هذه الأسئلة من خلال حديثه عن نوعين من الصلات الاجتماعية؛ يكون دافع الأولى الحرب، وتنتهي بإبادة المغلوب وأخذ كل ممتلكاته، الأمر الذي يدفع الأفراد في التفكير في تحالف ضد عدو مشترك، بموجبه تنشأ قوة عليا تخضع لسلطانها قبائل عديدة. وإذا كان لهذا الأساس غاية إيجابية تتمثل في حماية الجماعة من العدو الخارجي، إلا أن لها مساوئ تتمثل في ظهور الأقلية التي تقرن طاعتها بطاعة الله وعصيانها بعصيانه، وهنا يظهر وجوب التضحية في سبيل الجماعة.[4] أما النوع الثاني من الصلات الاجتماعية، فينبني على الوحدة العسكرية، والتي تصل أحيانا إلى تشكيل إمبراطورية قوية للتغلب على كل الأعداء وجعلهم موالين لها[5]، إلا أنها لا تشكل الوسيلة الدائمة لتحقيق الغلبة، حيث نجد دولا كما يقول برتراند راسل عجزت عن إخضاع دول أخرى لها بالقوة العسكرية، فلجأت إلى استعمال الوسائل العلمية الحديثة.[6] لم تقف الجماعة بفضل قوتها العسكرية عند إخضاع العدو فقط، بل أصبحت تتدخل في حياة الأفراد إلى أن دفع الأمر بالبعض إلى دعوة الأفراد إلى الانصراف إلى ملذاتهم الخاصة.
يحدد برترتاند راسل وظائف الدولة في وظيفتين اثنتين هما:
- الأولى إيجابية: تتمثل في تسهيل الاتصالين العقلي والعاطفي بين أفرادها لتكوين شعور عام ومماثل نحو وطنهم، ثم تربية الأفراد ونشر المبادئ الخادمة لمصالح الدولة.
- الثانية سلبية: تتجلى في منع اعتداء الأفراد على بعضهم داخل الدولة والوقوف دون الغزو من الخارج، إذ الدولة كما يقول راسل منصبة على التهيؤ الدائم للحرب.
هل في طبيعة الدولة ما يدفعها لدعم وتعزيز الحرية المطلقة للفرد؟
إن الجواب عن هذا السؤال هو بالنفي، حيث لا تشجع الدولة بحسب برتراند راسل ما يتنافى ويتعارض مع مصالحها[7]، فكل تغيير ينبغي أن يأتي من عندها لا من عند الأفراد (إعدام للحرية)، وهو ما يجعل من إبراز عبقرية وإبداع الفرد في غاية الصعوبة. لكن لإبراز مواهبه بحسب راسل، فإن الفرد أمامه أربعة احتمالات:
1- إما أن يكون سياسيا كبيرا.
2- صاحب ثروة كبيرة.
3- أن يغير عن طريق الاختراع العلمي.
4- أن يصبح مجرما.
إن تاريخ الدول والجماعات بحسب راسل يبين لنا أنها لم تشجع إطلاقا أفرادها على الإبداع الفني والعلمي، بل وقفت حاجزا منيعا لذلك، لكنها لم تستمر في هذا الصدد والمنع، حيث ستتساهل مع العلماء حينما ستكتشف أمر إيجاد العلم للقوى بهدف التغلب على الطبيعة.
لقد كان رجل العلم في الماضي يعتمد على نفسه فقط ودون عون من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، في حين أننا نجده في العصر الحديث لم يعد مستقلا يعتمد على نفسه، بل أصبح جزءا من منظمة كبرى يحتاج عونها ويتوسل رضاها. إن هذا الانتماء إلى الدولة، إضافة إلى تركيز السلطة وتنظيم المجتمع هو ما أدى إلى قلة ظهور عباقرة عظام ثم تدهور الفن عموما في الوقت الذي كان مزدهرا في الماضي نتيجة التنافس بين الأفراد. إن من طبيعة الإنسان أنه كائن مبدع ومقصدي ويخضع دوافعه الموروثة للتفكير، وإذا قام بعمل لا تستطيع طبيعته تحمله، فإنه يتعرض لعقاب نفسي بحسب راسل. وعليه، فإن الدولة تعذب أفرادها لما تسند لهم مهاما تتعارض مع طبيعتهم. فكيف إذن تسقط الدولة والشركات أفرادها في ما يتعارض مع طبيعتهم؟
إن السيطرة الحكومية عند برتراند راسل من خصائص المجتمع الحديث، لكنها ينبغي أن تخضع للتحديد عن طريق تبيان الأمور التي يجب أن تسيطر عليها، وهنا يقول راسل بتدخل الحكومة عن طريق مؤسساتها من أجل توجيه نشاط أفرادها، ثم تبيان الأمور التي يجب أن تترك للأفراد من أجل الإبداع وإظهار عبقريتهم، وإلا ستتسبب في خلق ركود داخل المجتمع.
يقدم راسل قاعدة مفادها أنه كلما كبر حجم المجتمع وتعقدت مصالح أبنائه ضؤل أثر الفرد الاعتيادي في توجيه السياسة العامة للدولة، وكلما صغر حجم المجتمع وصارت مصالح أفراده واضحة كان للفرد أثر بالغ في توجيه سياسات الدولة[8]، وحينما تركز السلطة في يد هذه الأخيرة يؤدي ذلك إلى فرض سيطرتها الكاملة على أنشطة الأفراد. وبالتالي، لتفادي هذا الأمر يقول راسل بإمكانية توزيع سلطة الحكومة بين هيئات مختلفة، سواء كانت جغرافية أو صناعية أو ثقافية على أساس أن تكون هذه الهيئات مستمدة من الشعب.
يحصر راسل أهداف الدولة في تحقيق الطمأنينة والعدل والمحافظة، وهي كلها تروم تحقيق هدف أسمى ألا وهو جلب السعادة الإنسانية.[9] وهو يعرض لهذه الأهداف، يحاول أن يكشف عن مفارقاتها؛ ففي الطمأنينة يبين مفارقة حماية الدولة لأفرادها من الاعتداء الخارجي، في الوقت الذي تظل فيه حماية الأفراد أنفسهم من الدولة معدومة، وهو ما يؤدي إلى غياب الطمأنينة وإلى شقاء حياة الأفراد وسؤمها. أما العدل، فله حدود في نظر راسل، والمفارقة التي يكشفها في هذا الهدف تتعلق بالظلم الاقتصادي، إذ لا مبرر في نظره لوجوده في الدول الصناعية الآن. أما المحافظة، فإن راسل يربطها بالثورة الطبيعية نتيجة الاستغلال المفرط الذي تتعرض له من قبل الإنسان، والذي يهدد الحياة البشرية برمتها، لينشغل (الإنسان) بما يكفل بقاءه فقط لا بما هو فني إبداعي.
يحث برتراند راسل الدولة على تشجيع أفرادها على إظهار مواهبهم الفردية وتوجيهها توجيها اجتماعيا بموجبه يتم القضاء على الأنانية الفردية التي تؤدي إلى انعزال الأفراد عن بعضهم البعض، دون التشارك في ما بينهم. وبهذه الطريقة يتحقق التقدم العلمي والاجتماعي في المجتمع. وفي إطار حديثه عن علاقة السياسة بالفرد، فإنه يرسم لها حدودا تمنعها من فرض آرائها على الأفراد في ما يخص العلم والموسيقى والعلم، حيث إن ماهية السياسة تتمثل في قيادة الناس، وأما العلم فدوره يتلخص في توجيه الناس، إنه يمثل حاجة الحرية في نظر راسل، فبحضوره تنضبط حرية الفرد، ويصبح أكثر تبصرا للعواقب التي يمكن أن تنشأ بإقدامه على فعل ما أو تركه، وبغيابه تضر الحرية بصاحبها.
يقترح راسل مجموعة من الحلول التي تمكننا من إيجاد توافق بين الحرية الفردية والتنظيم الاجتماعي، وتتمثل في ما يلي[10]:
1- العلم، إذ يمكن بموجبه التخلص من الاستعباد الفكري للشيوعية والرأسمالية.
2- ديمقراطية فردية اجتماعية تشجع الفرد وتفسح له المجال لإبراز مواهبه.
3- إيجاد منافذ غرائز الصيد والمقاتلة مثل المناقشة والبحث العلمي (مثلا يتم التعويض عن غريزة المقاتلة بقراءة قصص المخاطرات).
4- الانكباب لمعرفة النفس البشرية؛ ذلك أن العدو اللدود للإنسان في الوقت الحاضر هو جهله بأسباب العيش الاجتماعية المشتركة وليس في الطبيعة.
5- تحقيق التعاون يقتضي إزالة الخوف والفقر والجهل والمرض.
6- منح الحرية للأفراد من أجل الإبداع، نظرا لما للاختراعات والفن والاكتشافات من دور في التغلب على الطبيعة والشرور الاجتماعية.
7- بث روح التنافس المحلي.
على سبيل الختم
إن الحلول المقترحة من قبل راسل تواجهها في نظرنا مجموعة من التحديات، إذ كيف للدولة أن تعمل على تحرير الناس من الخوف والجهل والقضاء على الفقر والطبيعة تتهدد وجودها؟ كيف يمكن للدولة أن تضمن للأفراد مجالا لإبراز مواهبهم وعبقرياتهم في ظل ردود الفعل المفاجئة والمخيفة للطبيعة؟ وهل الدعوة إلى نزع سلطان الإنسان عن الطبيعة لمواجهة خطر الطبيعة ذاتها ومن ثمة فسح المجال لحرية الأفراد أصبح أمرا كافيا؟
لا ينكر أحد أهمية إبداع الأفراد على مر العصور، إذ إن منها من غير مجتمعه، ومنها من غير العالم أجمع. لكن كيف للأفراد أن يبدعوا الآن أمام اجتماع الردود المقلقة للطبيعة مع انتشار فيروس التفاهة؟ إن هذه الأوضاع تعيدنا بشدة إلى طرح سؤال إلى أين يسير العالم؟
المصدر:
1- برتراند راسل، السلطة والفرد، ترجمة وتقديم نوري جعفري، محفوظة منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) - بغداد 2005، ط 1
2- دفاتر فلسفية نصوص مختارة، الحداثة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 3، 2008
[1] تعود هذه التساؤلات – مع بعض من التصرف – في أصلها إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر Martin Heidegger وذلك في معرض نقد للحداثة. انظر: دفاتر فلسفية نصوص مختارة، الحداثة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 3، 2008. ص، 58
[2] لقد شكلت فترة الطوارئ الصحية أيضا مناسبة مهمة لإعادة الاعتبار إلى التفكير في الموجود والدعوة إلى تأسيس فلسفة جديدة تتخذ من الصحة موضوعا جوهريا لها. للاضطلاع أكثر، نحيل هنا إلى كتاب الصحة والفلسفة، تأليف مجموعة من الباحثين، تقديم د. عز العرب لحكيم بناني، مؤسسة باحثون، ط 1، 2021
[3] يعقد راسل مقارنة جميلة بين التعاون عند بعض الحشرات (النمل والنحل) وبين التعاون لدى الإنسان، فالتعاون الأول لا لا يهيئ الظروف اللازمة للتعاون لأفراده للإبداع الفني أو الاكتشافات العلمية، بينما النوع الثاني يوفر لأفراده تلك الظروف لتختلف بذلك حياة الحشرات والحيوانات عموما باعتبارها حياة ميكانيكية. انظر: برتراند راسل، السلطة والفرد، ترجمة وتقديم نوري جعفري، محفوظة منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) – بغداد 2005، ط 1، ص. 22
[4] نفس المصدر، ص. 39
[5] يقدم برتراند راسل مثال الإسكندر وهولاكو وجنكيز خان الذين حكموا إمبراطوريات شاسعة بموجب قوة الفاتح وشهرته فقط. أنظر: نفس المصدر.
[6] يقدم برتراند مثال إسبانيا والبرتغال وإنجلترا التي حاولت تكوين ولاءات أكثر عمقا بين أفراد ما تبقى من مستعمراتها عن طريق اللجوء إلى استعمال الوسائل العالمية الحديثة. أنظر: نفس المصدر، ص. 40
[7] يقدم راسل مثال التنظيم النازي الذي يحاول أن يضع الناس في قوالب معينة وفقا لأهواء الدولة، ولا يسمح للأفراد بالخروج عن ما وضعته لهم إلا على الشكل الذي تريده هي نفسها ويتماشى مع مصالحها، ويضيف كذلك مثال روسيا باعتبارها دولة كبيرة تتضاءل فيها المشاريع الفردية ويتغلب فيها عنصر المحافظة على عنصري الإبداع والتغيير. أنظر: نفس المصدر، ص. 63-87
[8] نفس المصدر، ص. 89
[9] نفس المصدر، ص. 81، 82، 83، 84، 85، 86
[10] نفس المصدر، ص. 103، 104، 105، 106