استراتيجيات العقل الأصولي أو الكشف عمّا وراء المظلومية
فئة : مقالات
على سبيل التقديم:
لا يمكن أنْ نوقف حركة العقل عن التّفكير والانخراط في مسارات هذه الحياة وتشعّباتها، إلا إذا استطعنا أنْ نوقف حركة النّقد، باعتباره الوحيد القادر على كشف ملابسات أنماط التّفكير، وطرق تشكّلها، وامتداداتها الواقعية. النَّقد ليس عمليةً ميكانيكية نجترُّها حين تُعوِزنا القدرة على الفعل. ولكنّه تعرية للمسبقات التي توجِّه رؤية الإنسان لذاته ومجتمعه، وفضح البداهات التي يتوارى خلفها. ولعلّ أصعب أنواع النّقد ذلك الذي يتوجه إلى الذّات، ليكشف عن مخبوءاتها، ويعرّي ما يمكن أنْ تتستّر به، أو تهرب إليه في حركة نكوص ورِدَّة إلى الوراء. ذلك هو أصعب أنواع النّقد وأقساها، حينما يقف الإنسان عارياً أمام نفسه يسائلها، ويموضعها في سياقها التّاريخي والنّفسي والاجتماعي، وينزع عنها أوهامها كما كان يرى ماركس، إذ فعل النّقد بالنّسبة إليه معناه: "أنْ تنزع عن عقلك القيود والسّلاسل التي كبّلتْ عقلك وقلبك تلك الزّهور الوهمية التي كانت تغطِّيها"[1]. وأنْ تقف عارياً أمام ذاتك لمساءلتها، معناه أنّ لديك القدرة على تجديد الرّغبة في مواصلة الحياة. وحده النّقد من يحرّر طاقتك، ويجعلك سيّدا على مصيرك.
يحتاج العقل الديني خاصّة في شقه الحركي أو الأصولي إلى سواتر، أو لنقل مبرّرات لتصدير أزماته أو مآزق تفكيره. وهي استراتيجية نابعة من عقل يرى في المظلومية وسيلته الأقوى من أجل الحشد والتّعبئة والاستقطاب، وتلك وظائف الإيديولوجيا. وبما أنّ العقل الدِّيني هو عقلٌ تلقينيٌّ، فإنّ إيمانه واعتقاده بما يملى عليه، أو يعبأ من أجله يكون سهل المنال. ولا ضير ما دام التّلقين هو عصب الحياة داخل مجتمعاتنا. ولعلّ ما كتبه هشام شرابي دارساً المجتمع العربي يفيدنا في هذا السّياق: "إذ التلقين في المنظومة التربوية والتعليمية للعالمين العربي والإسلامي يعدّ الشّكل الأكثر تنظيما من أشكال فرض السّلطة وتثبيتها، فهو يجمع بين العقاب والتّشريب indoctrination، كما أنّه طريقة تعتمد الحفظ والتّرديد، حيث لا يبقى مجال للتّساؤل والبحث والتّجريب"[2].
إنّ ما يسعى إليه العقل الدّيني عموما من خلال الاعتماد على استراتيجية التّلقين هو نقلُ موروثاته ورؤاه عن الذّات والآخر والمجتمع إلى ذهنية المريد والمتلقّي دون أنْ تكون لهذا الأخير إمكانية تمحيصه، أو الشكّ فيه، أو التّساؤل حوله، وهي استراتيجية ناجحة إذا رافقها العقاب، والتّخويف والتّأثيم، وتلقى قبولا في أوساط العامة أو الباحثين عن دوائر الأمان النّفسي والثّقافي والاجتماعي؛ فالعقل البشري لا يقوم غالبا بعملية التفكير انطلاقا من دواعٍ ذاتية: "بل يفكر ويبدع من خلال أوامر نفسية عميقة تبغي الراحة والحاجة وتتوسل البعد عن دوائر الألم. لذا تتحرك ماكينة العقل لمحاولة تقديم إبداعات وحيل ومناورات لتثبيت الأفكار التي تتداعى"[3].
كذلك من بين الاستراتيجيات النّاجحة في العقل الدّيني هو إذابة الفرد في خصائص الجماعة، حيث تتحوّل هذه الأخيرة إلى الملجأ والحضن والرّاعي لآمال المقهورين والمضطهدين واليائسين؛ فالجماعة بالنّسبة إلى الفرد هي أكثر من حاجة نفسية، أو إشباع لرغبة اجتماعية، بقدر ما هي مسألة وجودية، فما تعتبره خطأ هو الخطأ بعينه، وما تعتبره الصواب فهو الصواب بعينه، دون إعمال للفكر أو السّؤال في تفكيك هذه المظلة الجمعية. إنّ هذا التّضامن بين أفراد الجماعة، والإصرار على توطيد علاقات الجماعة فيما بينها هو نفسه تكريس لوثنيتها، أو صنميتها، بمعنى تحويل هذه الأخيرة إلى صنم أو معبود ذهني يصعب تجاوزه، أو الانفكاك عنه، الشّيء الذي يخفّف من وطأة الإحباط واليأس التي تعتري الأفراد لسبب من الأسباب. وهنا نجد أنفسنا متوافقين مع ما قاله عبد المجيد الطاهر، حيث اعتبر: "أنّ الصّنم لا يمكن أنْ يتكوّن عن طريق حرية الرّأي والتّعبير والمناقشة والجدل والإقناع والاعتقاد، وإنّما باستعمال القوّة والزّجر والدِّعاية والتّزكية والسّلوك الرِّعاعي.، فحين تستجيب الجماهير للصّنم الاجتماعي، فإنّها تنقاد باللاّشعور كما لو كانت منوَّمة تنويماً مغاطيسيا"[4].
في غمرة إحساس الجماعة أيضا بنشوة النّصر، والانتصار والتّلاحم بين أفكارها تحتاج لأسلوب آخر يعتمد المغالطة المنطقية، لكنّه يهدف إلى الحشد والتّعبئة والاستقطاب الحاد. هذا الأسلوب هو محاولة تشويه أفكار الجماعات الأخرى، والتهجّم على معتقداتها ورؤاها، وتسخيف وجهات النّظر التي يؤمن بها أصحابها، وهي محاولة بائسة للهروب من حجم معاناة الذّات، وعدم قدرتها على الدّفاع عن أطروحاتها وأفكارها، فتقوم بالالتفاف المنطقي المعطوب، بالتّعامل القاسي مع معتقداته. اعتقادك بوجود فكرة خاطئة لدى الغير لا يعني أنّ ما تملكه من أفكار صحيح بالمطلق. كما أنّ عجزك عن فهم عقائد الآخرين لا يعني بالضَّرورة أنَّ ما تؤمن به سليم من التناقضات.
الإسلاموفوبيا أو استراتيجية الدعاية والاستقطاب:
كثيرا ما يتعامل الإنسان المسلم مع الصّورة النّمطية التي تشكّلت حوله، باعتبارها أحد المظاهر السّلبية التي يحملها الآخر عنه، دون أنْ يطرح السّؤال حول الدّوافع والأسباب التي جعلت منه متّهما، تتقاذفه تُهَم الإرهاب والإقصاء والعنف والتخلّف. وبدل أنْ تستوقفه هذه الصّورة ليعيد قراءة الذّات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التّراث والتّاريخ والثقافة - بعيدا عن الرّغبة في الحفاظ على صفاء الذّات-، اختار خطاب المظلومية ليتوارى خلف جرحه النّرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيّع على نفسه من جديد اكتشاف ذاته، وهذه الثقافة الممتزجة بلون الدّم في مسار طويل، بدأ منذ اللّحظة الأولى التي تحوّلت فيها الرّسالة إلى سيف وسلطة، انتهاءً بداء الأصولية المخيف، والتّسويق للدّولة الدينية بأفق يمتح من قاموس الرّعب والتّخويف والموت.
يحظى خطاب المظلومية الذي توظّفه الأصوليات الدّينية[5] تحت شعار "الإسلاموفوبيا"[6]، أو "رُهاب الإسلام" بالكثير منَ الاهتمام العالمي رصداً وتتبّعاً وتحليلاً، نظراً للتحدّيات التي تواجهها المسألة الدينية في المجتمعات الغربية، والواقع الجديد الذي أفرزته الحركات الإسلامية الرّاديكالية بوصفها حاملة لمشروع الدّولة الإسلامية، بعد أنْ كانت التّنظيمات السّرية المحظورة هي المهيمنة على مرحلة السّتينيات من القرن الماضي.
كما يمتدّ تأثير هذا الخطاب إلى مساءلة الواقع الثَّقافي والدّيني والسّياسي الذي تعيشه مجتمعاتنا، إذْ يظلُّ هاجس الخوف من الإسلام، مطروحاً ما دام هذا التّداخل ممكناً بين ما هو سياسي وديني، خاصّة بصعود تيّارات دينية، وحركات تعتمد على الدّين في التّأسيس لإيديولوجية العنف، وخطاب الكراهية والإقصاء. وما لمْ نجبْ عن سؤال المرجعيات التّي ينهل منها هذا الفكر الأصولي، تبقى كلّ المقاربات مجرّد رؤى تبسيطية تصف أكثر ممّا تحلّل، وتنتقي أكثر ممّا تتعمّق في بلورة رؤية نقدية لمواضيع لها أثرها في تشكيل الوعي القادم بمستقبل الدّين. وما دامت ثقافة العنف هي الدّعامة الأساسية لمجموعة من الأصوليات الدّينية، فإنّ ثقافة الخوف من الإسلام أو "الإسلاموفبيا" ستتكرّس يوما بعد يوم، بفعل هذه الصّورة النّمطية التي تشكّلت في وعي الآخر، وبسبب هذا التّجاهل المقصود للبنيات المؤسِّسة للعنف داخل ثقافتنا وتراثنا الفقهي والرّوائي.
لا يندرج حديثنا هنا عن الإسلاموفوبيا في إطار الخطاب التّعبوي والدِّعائي، حيث لا قيمة تحليلية أو تفسيرية كبيرة للمصطلحات أو المفاهيم التي يتم تداولها. فحديثنا هنا كما أشرنا سابقا يتطلّع إلى مقاربة الموضوع من زاوية معرفية بعيدا عن الشّعارات، في محاولة منّا لقراءة الذات، ونبش الماضي والذّاكرة، لنتخلّص من رواسب هذا العنف الكامن فينا، ونهيّئ الأرضية التي نتقاسمها مع من يختلف معنا. كما يرتبط موضوع الدّراسة من زاوية الوجود الإنساني ذاته. فــ"الإسلاموفوبيا" ليس نقاشاً أكاديمياً يخضع لمزايدات السّاسة والمثقَّفين. ولكنّه موضوع يلامس الحقَّ الإنساني في العيش والوجود والاختيار والإرادة.
من هنا تتجلّى أهمّية هذا الموضوع في كونه قضية وجودية ترتبط بمآلات الكائن الإنساني، إذ لا يمكن أنْ نتحدَّث عن تواصل ثقافي وحضاري، ولا عن أفق إنساني ينعم فيه هذا الأخير بالكرامة والحرية والعدالة والأمن الاجتماعي، إلاّ في ظلّ ثقافة يكون السّلم ركيزتها الأساس. كما يرتبط أيضا بمنظومة التّنمية البشرية المستدامة، إذ لا يمكنُ الحديث عن أيِّ تنمية، أو تواصل حضاري في ظلّ توتّرات دينية، أو صراعات مذهبية تعيد إنتاج العنف بوصفه تجلّياُ من تجلّيات الجهل المقدّس. فأيُّ تصوّر يقمع الحرّيات، ويسعى إلى تنميط الإنسان، وقولبته في شكلٍ واحد دون احترام مكوِّنات هويّته، يكون مآله الفشل في تحقيق نهضة الأمم. فالتّنمية البشرية إلى جانب تحقيق الشّروط الأساسية لإنسانية الإنسان تعترف بحرية النّاس وحقِّهم في الانتماء الديني[7]، وتضع حدًّا لكثير من الاضطرابات السّياسية التي يكون فيها الجانب الثّقافي والدّيني عاملاً سلبياً يعرقل عملية التنمية البشرية.
يعبّر سؤال الخوف من الإسلام عن تساؤلات وإشكالات وجب التّفكير وتعميق النّظر في تفاصيلها، من غير التحيّز أو التّبرير لسياق إيديولوجي معيّن. من هنا يشير المقال من جديد إلى ضعف خطاب المظلومية الذي تلجأ إليه التّعبيرات الدّينية الأصولية، ويقرأ بنوع من الإدراك الذّاتي ثقافة دينية تحبل بالعنف المقدّس؛ فالبناء النّظري الذي تستند إليه هذه الأصوليات، هو جزءٌ أصيل من تراثنا الإسلامي، لم يخضع لحدود الآن إلى النّقد الكافي أو التّمحيص أو التّشكيك في مصداقيته، إذ إنّ قتْل المرتدّ، ودونية المرأة، وتكفير الآخر، وخيرية الذّات، وإقصاء المختلف، هي دلالات تعبّر عن سياقاتها النّصية، وتنتمي إلى شكلِ الثّقافة المؤسّسة لها. خاصّة تلك الثّقافة ذات المنزع النصّي السّلفي الوهّابي[8]. وبدل الإقرار بأنّنا أمام أزمة نصّية تستلزم النّظر في صحة بعض الموروثات، نكتفي بالتّلويح بأنّ هذا الأمر لا يمثل "الإسلام الحقيقي "، وغير ذلك من العبارات التي لا تقدّم ولا تؤخّر من المشهد شيئا[9].
خلاصات: نحو إعادة قراءة الذّات
لم يكن سؤال الإسلاموفوبيا سؤالا آنيا، وإنْ ابتدأت ذروة سعاره مع أحداث 11 سبتمبر وما بعدها، حين تمّ التّركيز على الخطر القادم من الشّرق الإسلامي، في استبدال واضح للعدو القديم، بعد أنْ كان النّظام العالمي الجديد[10] يخوض حرباً باردة مع المعسكر الشّرقي انتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي.
لا يمكن أنْ تمارس السّياسة إلا باختراع عدو، لهذا كان الغرب وبكلّ أجهزته الإعلامية والعسكرية، يسعى إلى تشكيل صورة نمطية عن المسلم المعاصر، وساهمت الأصوليات وتحالفاتها المشبوهة في الحرب الأفغانية من تعزيز هذه الصّورة، وهذا العداء، ليصير المسلم هدفاً تعمل على شيطنته دوائر القرار، دون النّظر إلى التّمايزات التي تخضع لها الطبيعة الإنسانية. كانت هذه البداية لتدمير ما تبقّى من تاريخ، وبدل أنْ يستفيق المسلم على وقع هذه الضّربات، والجروح النّفسية، فيراجع الذّات، وينتقد كلّ ما يمكن أنْ يمسّ بصورته، بدأ في صناعة خطاب المظلومية، ظنّاً منه أنّها الخطوة الأولى لمواجهة الخطر القادم، وتناسى ما يحمله تراثه من بذور للعنف تنسف كلّ أمل في تواصله مع الآخر والمحيط.
يبدو من خلال هذا المسار التّحليلي للعقلية الأصولية وفقاً لأهدافها وتصوّراتها، أنّنا بإزّاء أزمة حقيقية في بنية العقل الأصولي بتلاوينه المختلفة. فما نشهده من مظاهر العنف السّياسي والعقدي، هو نتاجٌ لهذه المدرسة الفكرية التي ما فتئت تحلم بعودة الخلافة ومفاهيمها، وكلّ ما أُنتج حولها من فقه سياسي أثبت بأنّه لا يستطيع أنْ يواجه متطلّبات العصر، واللّحظة الآنية؛ فكلّ ما يستطيع فعله لحدود الآن هو سفك الدّم الإنساني، في تحالفٍ شيطانيّ مع النّظام العالمي الجديد، حيثُ يوفّر له الإمكانيات، ويغضّ الطّرف عن جرائمه وشعاراته. فالمماثلة بين الله الذي ليس كمثله شيء، وبين الحاكم المتسلّط في منظور هؤلاء لم تغِبْ يوماً، وعِوض أنْ يتلبّسوا بقيم الله الوجودية من خير ومحبة وحياة، لبّسوا الله قيمهُم، فلم يتبقّ من الدين والشريعة غير ما نراه اليوم من قتل ممنهج لجميع مقوّمات الحياة الإنسانية باسم الدين.
إنّ المسبّب الأوّل لظاهرة الإسلاموفوبيا حسب تصوّرنا لها يتجلّى في ضعف الخطاب الأصولي الّذي يعتمد في بنياته على ما أنتجه القدماء لعصورهم، وما اقترحوه من حلول لمستجدّات واقعهم. ولعل أهم عيوب هذا العقل الأصولي هو ارتهانه لخطاب المظلومية، كما أنه محدود على مستوى الخطاب وعاجز عن مسايرة متطلّبات الإنسان وتحديات الواقع المعاصر. من هنا نفهم كيف يمجد الماضي ويقدس رموزه بوصفه شكلاً من أشكال الدّفاع اللاّإرادي ضدّ الحاضر والمستقبل، كما أنّه تعبير صريح على عدم القدرة على الانفكاك من عقدة النّقص[11] التي يستشعرها الكائن البشري في لحظات ضعفه.
إنّ الحالات السّلوكية لدى الكائن البشري لا تنفصل عن الجانب النّفسي. كما أنّ هذا الأخير هو منتوجٌ تساهم في تشكيله الثّقافة بمفهومها الواسع، وهو ما يفرز لنا في الأخير بنية ذهنية وفكرية وثقافية تتمظهر عبر مجموعة من السّلوكيات. لذا، فالعقل الأصولي وما يتمخّض عنه من أشكال العنف المولِّدة لحالات الإسلاموفوبيا، لا يجب أنْ يُفهم خارج الأطر النّفسية والفكرية والثّقافية. وما دامت الثّقافة التي يصدُر عنها العقل الأصولي تؤمن بصوابية المنهج وأحاديته، وإقصائه لكلّ مظاهر الاختلاف والتنوّع كما مرّ معنا، فإنّ النّتيجة الحتمية لذلك هو الصّدام والصّراع كما تجلّى في الواقع التاريخي. وبذلك يكون التّسامح وفقاً لهذا التصوّر هو هدنة بين توترين أو صدامين، لمصلحة مفهوم الاعتراف الذي ينفتح على التعدّدية الثّقافية والدّينية على حدّ تعبير علي حرب[12].
إنّ ثقافة تمجد الخلافة والنّيابة عن الله بوصفها جزءاً من منظومة سياسية إسلامية لا يمكن أن تنتج إلا المزيد من العنف والدمار والخراب الذي نعيشه، بالرغم من أنها استندت منذ تأسيسها الأوّل على شرعية الخليفة. فهو الممثّل عن الله، وظلّه في هذه الأرض، والخروج عنه ومساءلته عصيان. ولو تأمّلنا قليلا لوجدنا بأنّ كلّ هذه المواصفات هي التي ميّزت عصر الظلمات التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى، وبأنّ اختلاف المسمّيات لا يجعلنا غير قادرين على إيجاد الروابط الوشيجة، التي تجمع بين المفهومين من حيث الخصائص والمواصفات. وإذا كان كلّ من نظَّر لمفهوم السّيادة يتحرّك بدافع الحفاظ على النّظام والخشية من تصدّعه، وتسليم السّلطة والسّيادة ليدٍ واحدة. فإنّ دعاة الإسلام السّياسي لم يخرجوا عن هذه القاعدة. فكانت منطلقاتهم تعبيرا حقيقيا عن طموحاتهم والواقع الذي أفرز هذا العنف في التنظير. وهنا نتوافق مع الدكتور محمد حافظ دياب، حينما تحدّث عن تسييس المقدَّس في الخطاب القطبي: "حيث قرأ هذا الخطاب بأنّه إحدى أشكال منظومة الخطاب السّياسي تّجاه معضلات الواقع، مهما كانت محاولات تكرار مرجعياته باستخدام قاموس الخطاب الإسلامي، فيما يحمل لغة ومضموناً سياسيين، استهدفا استعادة دخول الكائن الإسلامي في التاريخ والحضارة، بواسطة اتّخاذ تميمية الهيبة الدّينية Fetichisme، وإزاحة الخصم Displacement of the antagonist، كوسيلة لتغيير خريطة العالم، وجرّ البشرية إلى خلاصها المحتوم من عفار الجاهلية[13]".
[1]- ماركس، كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf. ص: 1.
[2]- شرابي، هشام. مقدمات لدراسة المجتمع العربي. الدار المتحدة للنشر، ط3، 1984. ص: 84
[3]- سامي، لبيب. لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون. ملف pdf. ص: 21
[4]- الطاهر، عبد الجليل. أصنام المجتمع. بحث في التحيز والتعصب والنفاق الاجتماعي. العراق، المركز الأكاديمي للأبحاث. ط1، 2016. ص: 18
[5]- الأصولية هي شكلٌ من أشكال الكِفاح الرّوحي الذي نشأ استجابة لأزمة ظاهرة، وهي تخوض صراعاً مع أعدائها الذين يتّبعون سياساتٍ وعقائد علمانية تبدو مناهضة للدّين. وهذه المعركة لا تخاض على أنّها نوع من النّضال السّياسي، بل يتمّ خوضها كما لو كانت حرباً كونية بين الخير والشرّ. انظر:
أرمسترونج، كارين. معارك في سبيل الإله: الحركات الأصولية الدينية في اليهودية والمسيحية والإسلام. ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني، 2000.(ط1).Alfred A Knopf. New York. ص: 7.
[6]- يرى ستيفن شيهي بأنّ الإسلاموفوبيا لم تستحدِث مخططات الولايات المتحدة للشّرق الأوسط. ولكنّها حررت أسْر خطاب الكراهية، وأفعال الكراهية، والمخطّطات السّياسية التي كانت تكبحها من قِبل المحاذير السّياسية والفلاتر الأخلاقية. ولقد منحت هجمات سبتمبر 2001 التراخيص للأمريكيين لتبني خطابات الإسلاموفوبيا من أجل إحياء التّنميطات الشائعة بالغة البشاعة المعادية للإسلام والعرب، وإعادة تشكيلها، واستثمارها بذريعة فهْم العقل العربي واكتشاف لماذا يكرهوننا؟.
شيهي، ستيفن. الإسلاموفوبيا: الحملة الإيديولوجية ضدّ المسلمين. ترجمة فاطمة نصر. القاهرة: مكتب سطور للنشر، 2012، ط1. ص: 58
[7]- يعد ما كتبه Amartia Sin حول التنمية، فتحاً جديدا في تطوير مفهوم التنمية، حيث نظر إليها بكونها عملية توسيع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، واعتبر أنّ الحرية هي ما تقدّمه التنمية، لهذا يجب التركيز على هذا الهدف الأشمل بدلاً من التركيز على بعض الوسائل الجزئية، أو على عدد من الأدوات التي يجري انتقاؤها عمدا. انظر:
صن، أمارتيا. (2004). التنمية حرية. (ع.303). سلسلة عالم المعرفة. ص: 15
[8]- المقصود بالفكر الوهابي أتباع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي، المولود سنة 1111هـ، والمتوفى سنة 1206هـ. انظر حول الموضوع: صائب، عبد الحميد.(1995). الوهابية في صورتها الحقيقية.بيروت.الغدير للدراسات والنشر. ص: 20
كما أثبت المحققون بأنّ هذه الدعوة قد أنشئت في الأصل بأمر من وزارة المستعمرات البريطانية كما دلت على ذلك مذكرات حاييم وايزمان، ومذكرات مستر همفر. انظر:
الورداني، صالح. أكاذيب الوهابية. شبكة الفكر. ص: 19
[9]- في هذا الصدد ينتقد علي حرب التفريق بين الإسلام والمسلمين. ويرى بأن الإسلام بوصفه دِيناً يؤمن أتباعه بأنهم أصحاب كتاب مقدّس ينطق بالحقيقة المطلقة والنهائية هو مصدر لإنتاج التعصّب والتطرّف والعنف. انظر، حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1. ص: 8
[10]- استعمل جورج بوش هذا التعبير كقناع بلاغي لحربه في الخليج. كما أعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية ستقود نظاما عالميا جديدا، تتوحد فيه مختلف الأمم، على مبدأ مشترك يهدف إلى تحقيق طموح عالمي صالح لمصلحة البشرية، عماده السلام، وأركانه الحرية وسيادة القانون. انظر: تشومسكي، نعوم. النظام العالمي القديم والجديد. ترجمة عاطف معتمد عبد الحميد. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2007، ط1.ص: 15
[11]- يعرف آدلر: "عقدة النقص بأنها تظهر في وجود مشكلة يكون الفرد غير مستعد أو مهيئ لمواجهتها. وهي تؤكد قناعته بعدم قدرته على حلها". ويعرفها روجيه موكيالي بأنها: "التأكيد الصادق بأن الشخص ليس على المستوى المطلوب وبأنه غير كفؤ، وبأنه محكوم عليه هكذا..." انظر: آدلر، ألفريد. معنى الحياة. ترجمة عادل نجيب بشرى. العدد 709. القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ط1. ص: 81 موكيالي، روجيه. العقد النفسية. ترجمة موريس شربل. بيروت، منشورات عويدات، 1988، ط1. ص: 100
[12]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص: 106
[13]- دياب، محمد حافظ. المرجع السابق. ص: 96