استقلالية المعرفة الأخلاقية عن اللاهوت
فئة : مقالات
تحت فصلٍ حملَ عنوان «الأخلاق والسلطة الدينية»، ناقش عادل ضاهر في كتابه "نقد الفلسفة الغربية: الأخلاق والعقل" فكرة أن يكون لسلطة غيبية من نوع معيَّن إمكانية أن تكون المصدر النهائي للمعرفة الأخلاقية. وبعد أن دلل ضاهر في كتابه المذكور على أن البحث عن مصدر سلطوي إنساني نهائي للمعرفة الأخلاقية مصيره الفشل، ناقش موقفاً انتشر بين عدد من المفكرين الدينيين في الغرب، مفاده أن الأخلاق تجد أساسها الإبستمولوجي الأخير في الله، لا الإنسان. ووجَّه ضاهر النظر إلى أن هذا الموقف ليس «متفقاً عليه من قبل جميع المفكرين الدينيين في الغرب، (حيث) إن أكثريتهم في الواقع تبنَّت الموقف القائل إن المعرفة الأخلاقية، على العموم، لا تحتاج إلى معرفة لاهوتية، وإن الملحد أو الوثني، بإمكانه أنْ يحصل على معرفة أخلاقية، ولو محدودة». وأشار ضاهر إلى أن موقفاً كهذا نجده حتى لدى القديس بولس الذي قال في رسالته إلى الرومان ما معناه: إن من هم خارج الإيمان المسيحي ولم يصلهم القانون الإلهي بعد، قد يتصرفون مع ذلك بفطرتهم، وفق ما يقتضيه هذا القانون. والتأويل المعقول لهذا الكلام، كما يُتابع ضاهر، هو أن المعرفة الأخلاقية فطرية، ولا تحتاج إلى الوحي. والقول باستقلالية المعرفة الأخلاقية عن المعرفة اللاهوتية - الوحي - هو من السمات البارزة للفكر الكاثوليكي بعامة. وينقل ضاهر عن القديس توما الإكويني، الذي يَعدُّه المفكر الأكثر أهمية وأثراً في الفكر الكاثوليكي اللاحق، قوله: إن المبادئ الأساسية للأخلاق هي مبادئ واضحة بذاتها، وإنها ترتبط بالعقل العملي (العقل الأخلاقي) مثلما ترتبط المبادئ الأولى للبرهان بالعقل التأمُّلي، وهذا يعني أن القديس توما الإكويني يرى أن المعرفة الأخلاقية مستقلة عن المعرفة اللاهوتية، فإذا كانت المبادئ الأساسية للأخلاق - كما يعلِّق ضاهر على وجهة نظر القديس توما الإكويني - بدهية وكانت معرفتنا لها، بالتالي، معرفة غير استدلالية، فإن هذا يعني حتماً أن معرفتنا لها ليست مستدَلَّة من معرفتنا للأوامر والنواهي الإلهية، أو من أي قضايا دينية أو لاهوتية أخرى جاءتنا بطريق الوحي. لكن في مقابل هذا الرأي، يرى بعض المفكرين الدينيين المعاصرين -كما يُورِد ضاهر- أن الأخلاق غير ممكنة من دون ميتافيزيقا؛ فالخير هو لا شيء سوى ما يكافئ عليه الله، والشر، بالتالي، هو ما يعاقب عليه، وخيرية أي شيء من الأشياء أو فعل من الأفعال نابعة منطقياً من كونه ما يريده الله منَّا، أو ما يأمرنا بفعله، وإن عدم جواز أي شيء أو أي فعل نابع منطقياً من كونه ما لا يريده منَّا الله، أو ما ينهانا الله عنه؛ فالإرادة الإلهية، وفق أولئك المفكرين، هي المعيار المطلق والنهائي للأخلاق، بمعنى أنه لا شيء خارج ما يأمرنا به الله وما ينهى عنه يمكنه أن يكون أساساً لاشتقاق الواجبات الأخلاقية.
مثل هذا الموقف يتَّفق، بدرجة أو بأخرى، مع مواقف في التراث الإسلامي؛ مثل موقف أبي حامد الغزالي (1058-1111م) الذي نظَّر لهذا الموقف، وهو، في حقيقة الأمر، لُبُّ السجال الكلامي بين الأشعرية والمعتزلة.
وينبِّه ضاهر، في استعراضه لمواقف وآراء المفكرين الدينيين في الغرب تجاه مسألة الأخلاق والدين والجدل بشأن اشتقاق الأخلاق من سلطة دينية، أن موقف هؤلاء المفكرين الدينيين في الغرب لا يعني بالطبع أن الأخلاق مستحيلة من دون الدين، أو، على وجه التحديد، من دون دين سماوي كالإسلام أو المسيحية؛ فأسبقية الدين - الدين السماوي - على الأخلاق ليست أسبقية تاريخية، بناءً على هذا الموقف، بل مجرد أسبقية إبستمولوجية، إذ قبل ظهور الديانات السماوية، في اعتقاد دعاة هذا الموقف، كان للناس أنساق أخلاقية تؤدي دوراً مهماً في حياتهم، ولكن هذه الأنساق كانت تستمد مشروعيتها من التقاليد والأعراف الاجتماعية.
ويخلص عادل ضاهر إلى تأكيد أن «المعرفة الخُلُقية ضرورية للمعرفة الدينية، وبالتالي لمعرفتنا أن أوامر ونواهي معينة هي أوامر ونواهي الله».
ثم ينتقل إلى مستوى أعلى من القول بأن «المعرفة الخُلُقية هي في أساس المعرفة الدينية، وأن أي محاولة لاشتقاق السابقة من الأخيرة تصبح ضرباً من المستحيل»، ليقرر ضاهر، تاليًا، على إثر تفكيكه لعلاقة الأخلاق بالدين والسلطة الدينية، أن «المعرفة الخُلُقية، لا تستوجب المعرفة الدينية».
هذا الموقف الذي يعرضه ضاهر، يقترب منه، بدرجة أو بأخرى، المفكر الإيراني، عبد الكريم سروش، وفق ما ينقل عنه فرهنك رجائي في كتابه "الإسلاموية والحداثة"؛ حيث يرى سروش أن المبادئ الأخلاقية «تحظى بأولوية عقلية على الدين والتديُّن والتقوى؛ وذلك لأننا نبني نظامنا القيمي قبل أنْ نخوض معترك الحياة الدينية أو أي نشاط آخر...، ونحن ليس من حقنا، مثلما ليس من واجبنا، أن نعبد إلهاً مجرداً من الأخلاق».
يفصِّل عبد الكريم سروش - الذي يعد واحداً ممن يتبنون فكرة استقلال الأخلاق عن الدين - رؤيته، ويشرحها في هذا الإطار بقوله: إن «القيم والفضائل والرذائل مستقلة بذاتها عن التعاليم الدينية، أي أنَّ الأديان لا تُعلِّم الناس الحسن والقبح، بل وظيفتها الكشف عن أن هذه الأمور الحسنة محبوبة لله تعالى، وتلك الأمور مبغوضة لله تعالى، وهذا ما اكتشفه الأنبياء». ويعلِّق الباحث السوري ياسين الحاج صالح على قول سروش بتأكيده أن «كلام سروش غير مقنع، لكنْ يمكن تصريفه على وجه أنَّ الله ضمانة لمكارم الأخلاق».
وفي كتابه "الفاكهة المحرمة: أخلاقيات الإنسانية" يرى بول كيرتز أن الأنظمة اللاهوتية للأخلاق غير قادرة على التأقلم بدقة مع الصراعات في العالم الحديث، فهي بالأساس قد ولدت ونتجت في فترة طفولة الجنس البشري، وهي بالتالي غير متطورة وذات خصوصية واضحة، ولا تنطبق الحقائق القديمة تماماً على الوقائع الجديدة في العالم الذي صار عرضة للتغيير السريع في التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة.
قصارى القول، إن استقلالية المعرفة الأخلاقية لا تعني العداء مع الأخلاقية الدينية، أو القول بانعدام أهميتها وفوائدها، بل المقصود تجاوز الخصوصية وصولاً إلى معايير عمومية ومتسقة وغير متناقضة مع التطور الإنساني. وغرض تثبيت هذه الاستقلالية هو الحيلولة دون تحوّل الأخلاقيات الدينية إلى إكراهات لا تعبأ بحاجات الإنسان المتطورة وحريته وإرادته المستقلة وقدرته على الاختيار والتحكم بمصيره وحياته.