الآخر والآخرون في القرآن: تقديم كتاب يوسف الصّدّيق
فئة : قراءات في كتب
يتألّف كتاب "الآخر والآخرون في القرآن" لـلمفكر التونسي "يوسف الصّدّيق"[1] من سبعة فصول، وهي:
الفصل الأول: القراءة والآخر (من ص 11 إلى ص 33 = 23 ص)
الفصل الثاني: الآخر في التاريخ الديني (من ص 34 إلى ص 48 = 15 ص)
الفصل الثالث: الآخر الميتافيزيقي (من ص 49 إلى ص 65 = 16 ص)
الفصل الرابع: في تجديد القراءة (من ص 66 إلى ص 80 = 15 ص)
الفصل الخامس: الآخر والموروث (من ص 81 إلى ص 92 = 12 ص)
الفصل السادس: الآخر الثقافي (من ص 93 إلى ص 106 = 14 ص)
الفصل السابع ملحقات (من ص 107إلى ص 123 = 16 ص)
وقد أتبع الفصول بقائمة للمراجع المعتمدة في تأليف الكتاب (ص 124 إلى ص 126= 3 ص)
1: في تأليف الكتاب
أ/ طبيعة الكتاب
نشير في ما يتعلق بأصل الكتاب إلى أمرين، يتمثل الأول في أنّ الكتاب في أصله حوارات أجراها محمّد معالي مع يوسف الصديق وقام جلال الربعي بإعادة تنظيمها وترتيبها.[2] أمّا الأمر الثاني فيتجلّى في تعدّد الأصوات المعتمدة في تأليف الكتاب، فــــلئن ألّف الصِدّيق أغلب أجزاء الكتاب، فإنّ "المقدّمة" من وضع جلال الرّبعي (من ص 7 إلى ص 10). وقد قامت المقدّمة على بعدين مدار الأول على الأفق المعرفي الّذي ينطلق منه مشروع يوسف الصديق. فهو -عند الربعي-استمرار للنزعة العقلانية المستنيرة الّتي لا ترفض القراءات القديمة وإنّما تسعى إلى محاورة النص القرآني والموروث الديني، وذلك "بنزع عنها ما تكلّس من أفكار [وتجاوز نزعة] الاجترار والعرض".[3]أمّا البعد الثاني للمقدمة فيتمثّل في تقديم قراءة موجزة لمحتويات الفصول وما يلفت الانتباه إقرار المُقدّم بأنّ الكتاب يتألّف من ستة فصول.
وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن الوظيفة التي ينهض بها الفصل السابع "الملحقات"، هل هو شكل من أشكال الإحالة أم هو فتح لآفاق جديدة انطلاقًا من النصوص المقتطفة من مدوّنات تراثية وفلسفية تحثّ على الاجتهاد.
والملحق الذي يتألف من سبعة نصوص وُزعت على أربعة أقسام وقد تنوّعت مصادرها (كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، صحيح مسلم، ابن قيم، أفلاطون). وفي ما يتصل بتلك الملحقات فإنّ السؤال الذي يطرح: ما علاقة تلك النصوص اللواحق بما دعا إليه يوسف الصديق؟
ب/ في موضوع الكتاب وبنيته
تناول يوسف الصديق في كتاب "الآخر والآخرون في القرآن" إشكاليات "الغيرية" في النص القرآني مستويات عديدة (الثقافي، ...) وقد تطلب ذلك إقامة قراءة جديدة لـ "الآخر" في القرآن باعتماد مقاربة تأويلية تأخذ بناصية العلوم الإنسانية وأحدث المناهج المطبّقة على النصوص الدينية قصد تجاوز دائرة الفقه التقليدي والخطاب الأصولي المنغلق.
"الآخر والآخرون في القرآن" اجتماع الآخر المفرد والآخرين الجمع في حيز نصّيّ واحد "في القرآن". وما تحديد الباحث للفضاء النصي الذي يشتغل عليه سوى إشارة منه إلى وعيه بالفروق القائمة بين صور الآخر وأحواله في النص القرآني وفي النصوص الحواف (كتب التفسير، ...).
وقد احتوى العنوان على إحالة طريفة مفادها أنّ "الآخر" هو في الأصل جمع (الآخرون) وبأنّ ما أقرّه الفكر الديني مخالف لما سعى النص القرآني إلى تحقيقه.
ووفق هذه الثنائيات (المفرد/ الجمع، القرآن/ النصوص الحوافّ) عالج يوسف الصِدّيق مبحث الآخر باعتماد المقارنة أسلوبًا في فهم بنية النص القرآني ومظاهر حضور الآخر الثقافي واللغوي والميتافيزيقي.
أمّا في ما يتعلق بترتيب الفصول فنشير إلى أنّ الهاجس الأكبر للصِدّيق هو تبيّن طرق جديدة للقراءة، وهو ما يتجلّى في العودة المستمرّة لمسألة القراءة وآليّاتها وكيفية تجديدها. وقد أولى يوسف الصِدّيق اهتمامًا واضحًا بالمقاربات المعاصرة التي تساعد على بناء قراءة معاصرة للقيم والمفاهيم التي نادى بها القرآن الكريم، وهو ما عبّر عنه المؤلّف بتخصيصه الفصل الأول والفصل الرابع لمعالجة مسألة "القراءة". وقد تطرّق في بقية الفصول إلى قضايا موصولة بالآخر تاريخيًّا وميتافيزيقيًّا، ففي الفصل الثاني والفصل الثالث بحث في قصص البدايات وما حفّ برحلة الآخر من ثقافة إلى أخرى باعتبارها رحلة للرّمز الديني مؤكّدًا أنّ العالم تأسّس على الغيرية (إبليس) وقام على حركتين: هما الحركة الإيجابية والحركة السلبية الممثلة في دلالات الفضاء (المدينة/ البادية) ليخصّص الفصل الخامس والفصل السّادس للنّظر في تجليات "الآخر الثقافي" داعيًا إلى ضرورة فهم "آيات السيف" التي انطلق منها الفكر المتشدّد في بناء مواقفه من الآخر فهمًا دقيقًا قوامه أنّ تلك "الآيات تروي مسألة ظرفية وحادثة تاريخية معيّنة ولا يمكن تعميم حكمها في إطلاق الزمان وامتداد المكان".[4]
2: الآخر بين الإلغاء والاعتراف
أ/ في أسس القراءة المنغلقة
إنّ تخبّط الفكر الدّيني الإسلامي في الانغلاق والتّحجّر، وما ترتب على ذلك من تأصيل للحركات التكفيرية أدّى إلى رفض الآخر واعتباره الخطر الحقيقي على الإسلام والمسلمين.
وفي سياق الرّدّ على أتباع هذا المنزع ننزّل كتاب "الآخر والآخرون في القرآن"، ففي هذا الكتاب لم يبحث يوسف الصديق في ماهية الآخر فحسب، وإنّما سعى أيضًا من خلال النظر في تجليات الآخر في النص القرآني إلى تفكيك الخطاب الديني وإبراز المسافة الفاصلة بين النص القرآني والأحكام التي أسس لها الفقهاء وتبنّتها الحركات الإسلاموية المتشددة. وهو بذلك يُقدم على إعادة قراءة النص القرآني وفهم ما انطوى عليه من دلالات توفّر للقراء القدرة على تجاوز القراءات الضيّقة التي أساءت - وما تزال- للقرآن وللمسلمين.
إنّ أصحاب الفكر الوثوقي ما انفكوا يعوّلون على أحاديث نبوية غير صحيحة أو هي من الأحاديث الضعيفة التي تنبّه إلى أخطار الفرقة وتدعو إلى مقاومة مظاهر الاختلاف بمختلف الأشكال والأدوات ومن أهمها القول "إنّ الأمة ستنقسم الى سبعين فرقة واحدة فقط هي الناجية". وهو ما أدّى إلى تأجيج نار الطائفية والمذهبية ودفع إلى اعتماد العنف لإقصاء كل مخالف بحجّة امتلاك الحقيقة المتمثلة في "الفرقة الناجية"، وقس على ذلك موقف المسلمين من أصحاب الأديان الأخرى. زد على ذلك عدم وعيهم بأنّ القرآن كلّه متشابه، وهو ما يحوجنا إلى التأويل الذي لا ينتهي بنا إلى بلوغ الفهم النهائي للإدراك الإلهي.[5] وهم أيضًا جاهلون بأنّ المعنى الحقيقي للإسلام القائم على التوحيد أقدم من ظهور الإسلام.[6] فـالله عند المصريين وعند العرب في الجاهلية هو "قوّة كبرى غائبة عن الحسّ ويعتقد فيها، ومتديّن لها".[7] على أنّ من أهم عوائق التحرر من أفق القراءة المغلقة عجز الفكر الأصولي عن التمييز بين ما هو إلهي وما هو بشري، من ذلك أنّ الأحكام المتصلة بالردة والإلحاد هي من نسج المدونات الفقهية التي لم تستطع إدراك أنّ الأحكام تدور بدوران الأحوال (الفصل الخامس) وبأنّ النص القرآني لا يفهم إلاّ في ظل واقعه التاريخي، وهو ما يستوجب إعادة تمثّل المفاهيم القرآنيّة (الكفر، ...). وهو ما من شأنه أنْ ينتهي إلى إعادة فهم منزلة الآخر وموقف القرآن منه بعيدًا عن ثقافة التناحر والاعتداد بالنفس (مثال تحريم الفقهاء دخول مكّة على غير المسلمين: اُنظر الفصل الخامس).
ب/ في ضرورة مراجعة المفاهيم والرؤى
إنّ القراءة التي يدافع عنها الصديق لا تروم البحث في النص القرآني باعتماد العقل فحسب، وإنّما تنطلق من الروح الكونية أيضًا، فالقرآن احتوى دعوة واضحة للأخذ بتلك القيم.
ويحدّد الصديق لمعالجة المسألة مفهوم القرآن باعتباره الإطار النظري الذي لا يتسنى للباحث دونه معالجة إشكالية "الآخر والآخرون"، ذلك أنّ القرآن لا يعدو عنده أنْ يكون الله في تجلّيه، فـ"مفردة القرآن بالمعنى الكوني للكلمة تعني الكون وتنظيمه والدليل واضح في النص نفسه أنّه (أي القرآن) خُلق قبل كلّ شيء".[8] فلم يعد القرآن المصطلح الدال على النص الورقي المتداول بين أيدينا. فالقرآن لا يعني بأيّ حال من الأحوال مجموع تلك الصحف التي يعوّل عليها المؤمن في صلاته وفي مختلف طقوس التعبّد وإنّما يفيد بالأساس التجلّي الإلهي للمعاني في قلب النبي محمّد الذي يمثل خاتم الأنبياء من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ القرآن متى كفّ عن إعطاء فهم عميق للوجود الإنساني فَقَدَ الطابع الكوني الّذي يُعدّ العمود الفقري الّذي يميّزه عن غيره. أمّا الوحي ففي عرف يوسف الصديق ليس دالاًّ على التدخل الإلهي في الكون بقدر ما يعني الدعوة إلى أنْ يتأمّل الإنسان الله في كونه قبل تدبّر نصوصه.
وبهذا المعنى يتّخذ الوحي دلالات أعمق وأكبر من الفهم الكلاسيكي للوحي الذي اقتصر على الإحالة على نزول جبرائيل على محمّد بكلام إلهي (الكلام الإلهي/ كلام الله). فالوحي هو روح الله في الكون قبل كل شيء.
وبناء على ذلك لم يعد من المفيد القول إنّ الوحي خُتم بختم النبوة المحمّديّة، فالوحي أشمل من النبوة، وهو موصول بالإنسان المريد الراغب في المعرفة الساعي إلى تبيّن منزلته في الكون ودوره في الوجود.
وفي ما يتصل بهذه المسألة حرص يوسف الصديق على تحديد المقصود بختم النبوّة، فللختم في عرف الصديق دلالات تتجاوز انغلاق النص وانحباس الوحي وانقطاع العلاقة بين الله والإنسان، وإنّما يفيد "ختم النبوّة/ الوحي"، نهاية نزول الوحي وبداية مرحلة جديدة هي مرحلة الاحتكام إلى العقل، وهو في ذلك يوافق محمّد إقبال الرؤية العامة.
3: في أسس القراءة المتبصّرة للقرآن
أ/ في وجوه الحاجة إلى التأويل
يقتضي ختم النبوّة فتح الباب أمام مجهودات العقل الإنساني، وهو ما تجلّى في سيرة ابن رشد ومشروع الزمخشري، غير أنّ "زرعهما الفكري والمعرفي أريد له أنْ لا يثمر، بل أُقبر عمدًا لقرون".[9] فالزّمخشريّ (ت 538 هـ) في "الكشّاف عن حقائق غوامض التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل" والشّارح الأكبر ابن رشد الحفيد (520 هـ - 595 هـ) في "فصل المقال في ما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال" وعيا بضرورة عدم إقحام الدين في الفضاء العام وعدم سدّ أبواب الاجتهاد أمام العقل البشري.
إنّ ختم النبوة يجعل الإنسان مسؤولاً عن اختياراته مطالبًا بتأويل النص بما يوافق الواقع المعيش، وهو ما يعتبر تجاوزًا واضحًا لآفاق القراءات المنغلقة التي جعلت من ختم النبوة انغلاقًا على النص وحمل الناس على الامتثال له، وقد عبّر أصحاب تلك القراءات المنغلقة عن غياب الوعي لديهم بأنّ الوحي جاء ليجعل الإنسان أكثر حرية، ومن علامات تحجّر تلك القراءات أنّها حصرت "مفهوم الرسالة المحمّدية لعدة قرون [...] في النبي شخصًا وفي مكّة والطائف والمدينة مكانًا".[10]
الآخر في تصوّر يوسف الصديق له مستويات متنوعة في النص القرآني وفي الثقافة العربية الإسلامية، فهو المخالف مذهبيًّا ووجوديًّا، وهو الذي يختلف عنّي فكرًا وهيأةً وتصورًا، وهو المتجلّي في عالم الشهادة والغيب، وذاك ما يجعل الآخر "غربة مطلقة وغيبة لا حضور عندها".[11]
إنّ الآخر هو المرآة التي يتحدّد في ضوئها مفهوم الإنّيّة لا باعتبارها ذاتًا منغلقة على نفسها، وإنّما هي ذات تحتاج في تحديد ماهيتها وتبيّن دورها في الوجود إلى الآخر.
وللبحث في صورة الآخر لا بد من النظر إلى الآخر ميتافيزيقيًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا، وعن تلك المستويات المتداخلة تنبثق فكرة التنوّع والتعدّد باعتبارها حقيقة ماثلة للعيان وباعتبارها أصلاً من أصول الحياة.
وبهذا الشكل فكّك يوسف الصديق آليات الفكر الدّوغمائي الّذي يؤمن بثبات الحقيقة وبأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التعدّد. وما التعدّد إلاّ مسلك من مسالك التّفريط في وَحدة الحقيقة.
إنّ العلاقة بين أتباع الأديان التوحيدية قامت على الاقتتال أكثر من التواصل البنّاء، وذلك انطلاقًا من اعتقاد كلّ جماعة دينيّة أنّ في عقائد الآخر انحرافًا عن الصراط المستقيم، وقد أسهم الفاعلون الاجتماعيون والمتكلمون باسم الله في تأجيج تلك المواقف العدائية وممارسة العنف المتبادل (الحرب، ..). على الرغم من أنّ ممارسة العنف ضد الآخر لم تكن من مبادئ التعامل معه في النص المقدس الإسلامي. فالمتأمّل في القرآن يعي أنّ مواقف الآخر من المؤمنين هي المقياس المحدّد لنوع العلاقة وأساليب التواصل. وما ممارسة العنف عليه سوى نتيجة وقائع تاريخيّة زجّ فيها بالدين لكسب المؤيدين والأنصار.
وبناء على ذلك لا مناص من تجاوز دائرة الذات إلى السؤال عن وجوه تفاعلها مع الآخر الّذي ينتمي إلى فضاءات ثقافية مغايرة، وهو ما عمّق وعي الذات بخصوصياتها. وبهذا المعنى، فإنّ المقارنة بين الأديان ضرورة يتحقّق بها فهم الذات لذاتها، ولمنزلة الإنسان في الكون، من خلال تبيّن ما يصلها بالآخر وما يفصلها عنه.
وفي ظلّ هذا التصوّر الجديد، عُدّ الاختلاف بين الأديان والمذاهب اختلافًا في التصوّرات، ذلك أنّ الأصل في الإنسان الاختلاف والمغايرة. على أنّ ما يجمع بين الأديان - التوحيدية وغيرها- إيمانها بالإنسان.
وفي هذا السياق نبّه "يوسف الصديق" إلى أنّ القرآن نصّ على أنّ كل إنسان مسلم بمعنى أنّه يرفض الخضوع والطاعة لغير الله، وانطلاقًا من هذا الموقف لا مناص للفكر الإسلامي من التمييز بين الرؤية القرآنية والرؤية الإسلامية مقرًّا بأنّ التكفير والإقدام على قتل المرتدّ مسألة تتضارب مع تحريم القرآن المسّ من كلّ من يؤمن بالإله بطريقته الخاصة.
لقد أعطى النص القرآني للدين ماهية محدّدة تتمثل بالأساس في اعتبار التوحيد القاعدة الرئيسة للإيمان. فالإيمان بأنّ الله هو مدبر الكون وخالق الأكوان مسألة لا اختلاف فيها بين اليهود والنصارى والمسلمين، وذاك ما يجعلهم مسلمين ويجعل من الإساءة إليهم انتهاكًا لإرادة الله.[12]
وقد استطاع الصديق انطلاقًا من النص القرآني إبراز أنّ الآخر في النص القرآني لا يعدّ غريمًا أو عدوًّا، وإنّما هو مسلم يخالفني الرؤية والتصوّر.
ب/ آليات القراءة المعاصرة
إنّ أهم ما ميّز القراءة المعاصرة لـ"يوسف الصدّيق"، وعيه بضرورة الإفادة من مكتسبات الدراسات المعاصرة في فهم منزلة الآخر في القرآن. وقد ترجم ذلك الوعي بدعوتنا إلى قراءة "القرآن في ظرفه التاريخي وعلينا أن نؤرّخ لنزوله. هذه مهمة القرآن لأنّه ليس بالكتاب التاريخي وليس بالنص التقريري".[13]
وقد مكّن تطبيق النظريات المعاصرة لا سيما قواعد البحث الإيتيمولوجي على النص القرآني من الوصول إلى نتائج مهمّة تمثّلت بالأساس في إثبات فهم جديد للعديد من المعاني التي دأب عليها الفكر الإسلامي القديم وخير مثال على ذلك دلالات الكفر، فدلالات الكفر حسب اعتقاد الصديق لفّها الغموض والتناقض في المدونات القديمة لا سيما المدونة الفقهية التي بنت على تلك الدلالات غير الدقيقة أحكامًا في حقّ الآخر، ولإبراز الدلالة القرآنية للكفر يبحث الصديق في دلالات فعل "كفر" واقفًا على سياقاتها في النص القرآني. مؤكّدًا أنّ الأصل الآرامي للكلمة متأصّل في المسألة الزراعية على النحو الّذي تبيّن الآية التاسعة والعشرون من سورة الفتح والآية العشرون من سورة الحديد، فالمقصود بـ "الكفار" هم "المزارعون لمّا يفرحون بمنتوج الأرض وخاصة بثقل السنابل"، [14] وتعني كلمة "الكفر" Kafro الضيعة، وهي أيضًا تفيد إخفاء الشيء. وكذا الشأن بالنسبة إلى الجهاد الذي جعله الفقهاء مقصورًا على الدلالة على القتل والفتك بأعداء الدين في حين أنّ المقصد الرئيس من الجهاد "مجاهدة النفس [...ومن مظاهرها] حفر الجبال لإنشاء نفق أو إنجاز سدود فهي أمور تفوت القدرة البشرية ورغم هذا فالإنسان يجاهد لينجزها".[15] فأين نحن من ذلك الفهم؟
ج/ الآخر المفرد الجمع
الآخر هو المفرد الجمع، فهو "الآخر الميتافيزيقي" و"الآخر الثقافي" و"الآخر والموروث" و"الآخر العقلاني" في التاريخ العربي الإسلامي.
ويقوم كلّ مستوى منها على جملة من المقابلات، فالآخر الميتافيزيقي هو "الآخر المحض" وهو الله ونقيضه الصرف "إبليس /الشيطان". ذلك أنّ "نقطة الانطلاق للغيرية هي إخراج نقيض الإله من الإله قبل أنْ يخلق العالم".[16] وهو ما سعى إلى إبرازه الصّديق من خلال النظر في الدلالات المتعلقة بمجموعة من الآيات القرآنية (الأعراف 7/ 12 ويس 36/ 82 وص 38/5) التي تؤكّد أنّ العالم قام على مبدإ الغيرية.[17]
وقد تناول الصديق بالدرس "الآخر في التاريخ الديني" انطلاقًا من صورة موسى وإبراهيم وعيسى في النص القرآني وما اقتضاه ذلك من تتبّع لما يسميه بـ"مسار تاريخ المجاز". وقد انتهى الصديق في ثنايا البحث في الشبكات التي تكوّنت منها صورة النبي إلى القول إنّ صورة هذا النبي أو ذاك هي رحلة الرمز من دائرة ثقافية ودينية إلى أخرى وداخل النص الواحد.
وقد وجّه يوسف الصديق في هذا المجال سهام نقده للمتمسكين بالفهم التقليدي لـ "الآخر الديني" (أهل الكتاب)، مؤكدًا تعدد أشكال احتفاء النص القرآني به، ففي "الآخر الثقافي" كشف عن بعض تأثير الآخر اليوناني والفرعوني... في بنية النص القرآني لغة ومدوّنة (القصص، ...) مؤكدًا أنّ هذا التأثير ضارب في القدم قبل ظهور الإسلام. فالجزيرة العربية كانت "منفتحة ثقافياً على الآخر تأثيراً وتأثراً"، [18]وهو ما يتجلى في المعجم القرآني، فالعديد من الكلمات القرآنية هي كلمات من أصل يوناني دخلت الفضاء العربي نتيجة التفاعل المثمر الذي كان قبل الإسلام من خلال التجارة ....
ولم يكتف المؤلف بتبيّن مستويات حضور الآخر في النص القرآني إذ ألفيناه يدرس صورة الآخر في علاقتها بالفضاء. فالقرآن وزّع الآخر على فضاءين، وهما فضاء البدو والأعراب، وفضاء المدينة. وللفضاءين دلالات مخصوصة في رسم علاقة الأنا بالآخر، فالبادية والقرية فضاءان سلبيان أو حسب عبار الصديق فيهما "ملء سلبي للفضاء". أمّا المدينة فهي "الفضاء الذي يتوافق فيه الآخر مع الآخر ويتعايشان فيه."[19] فالمدينة وفق هذا المنظور إعادة صياغة للعلاقات وهو الفضاء الذي يتحقق فيه وعي الإنسان بأهمية الآخر وما لم نغادر البادية (العزلة، ...) بالمعنى الرمزي للفضاء فإنّنا سنظل خارج الدائرة الكونية.
يصيب الباحث في كتاب "الآخر والآخرون في القرآن" متعة القراءة ويجد في ثنايا فصوله تصورات طريفة وسعة معرفة عبّر عنها المؤلف في لغة عربية سلسة لا يصعب على القارئ غير المختص فهم ما سعى الصديق إلى إبلاغه، على أنّ طبيعة الكتاب (حوار، ...) تجعل القارئ في بعض الأحايين يلحظ تكرارًا للأفكار (مثال تخصيص الفصل الأول "القراءة والآخر" والفصل الرابع "في تجديد القراءة" لمعالجة قضية القراءة وأسسها).
إنّ الكتاب في تقديرنا يُعدّ امتدادًا لمشروع طموح بدأت تونع ثماره بدءًا من "هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها؟".
و"الآخر والآخرون في القرآن" حوار بين الأنا والآخر في النص وخارجه، وفي مستوى التأليف، فالكتاب جمع بين يوسف الصديق/ الربعي ومعالي.... وهو كتاب جمع بين نصوص شتى نص التصدير (المسعدي، المعري، القرآن، ...) ونص "يوسف الصديق. وقد اتخذ الكتاب من الآخر موضوعًا له (الغيبي، الديني، ...) كي يؤكد أنّ الآخر آخرون وبأنّ الآخر عنصر مؤثّر في الذات تأثيرها فيه، وتلك هي حكمة الخلق وماهية التكليف الإلهي.
[1] يوسف الصديق فيلسوف ومفكّر تونسي ولد سنة 1943 في مدينة توزر (الجنوب الغربي من البلاد التونسية) تخصّص في أنثروبولوجيا الأديان واللغة اليونانية القديمة. وقد درس في جامعة السوربون III بباريس، له مجموعه من المؤلفات أبرزها "هل قرأنا القرآن أم على القلوب أقفالها".
[2] يقول الصديق في هذا المجال: "لما للأول من قدرة على السؤال لاستدراج التفاصيل الواردة في هذا الكتاب ولما للثاني من جهد بذله ليجعل النص مكتملاً" الصّدّيق (يوسف): الآخر والآخرون في القرآن، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، بيروت لبنان 2015، ص 5
[3] المصدر نفسه، ص 8
[4] المصدر نفسه، ص 84
[5] المصدر نفسه، ص 19
[6] المصدر نفسه، ص ص 30-31
[7] المصدر نفسه، ص 102
[8] المصدر نفسه، ص 16
[9] المصدر نفسه، ص 12
[10] المصدر نفسه، ص 26
[11] اُنظر "الغلاف الخلفي للكتاب".
[12] وهو ما عبّرت عنه آيات قرآنية عديدة منها البقرة 2/ 62 التي يقول فيها تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".
[13] الصّدّيق (يوسف): الآخر والآخرون في القرآن، ص ص 75-76
[14] المصدر نفسه، ص 44، وقد ذهب يوسف الصديق في موضع آخر إلى القول "من كلمة سنبلة العربية كانت الكلمة الفرنسية Symbole [... وتفيد الكلمة] تجميع المعاني في معنى واحد". ص 63
[15] المصدر نفسه، ص 47
[16] المصدر نفسه، ص 51
[17] المصدر نفسه، ص 50
[18] المصدر نفسه، ص 15
[19] المصدر نفسه، ص ص 54-55