الأسطورة العربية والسردية الإسلامية اتصالات وانفصالات
فئة : مقالات
تقديم:
إِنَّ إحالة بسيطة على السياق الداخلي لثلاثٍ من السرديات الكبرى في هذا العالَم: 1- السردية الأسطورية، 2- السردية الدينية، 3- السردية العلمية، ستتكشف عن تضامن داخلي بينها على فكّ الشفرة الوجودية لمقولتي (الزمن) و(المكان)؛ رغم التضارب بين هذه السرديات على المستوى الظاهري، لناحية الأحقية في تفسير أوضح وأشمل للعالَم.
مبدئياً أتت السردية الأسطورية ودعمّت المتن الإنساني بسندٍ تجاوزي لمقولتي الزمن والمكان، وذلك بمنحه قوة سوبرمانية، يقهر بها إحداثية جسده الضعيف. ومنحته كذلك أدوات ( = مثلاً: بساط الريح؛ عيون عابرة للأماكن، الضرب بالرمل) أمكنها قهر إحداثيتي الزمن والمكان معاً.
لاحقاً، أتت السردية الدينية، ومنحت الوجود الإنساني أفقاً استبصارياً يتجاوز محنة تموضعه في زمنٍ ما ومكان ما؛ فقد بشرّت بعالَم ميتافيزيقي غير مُتناهٍ، على المستويين الزمني والمكاني، بما يتجاوز منظومة العالَم الفاني والآيل للتناهي.
بالتقادم، تشكلت معالم السردية العلمية، فكان ظاهرها تحقيق الرفاه الدنيوي للكائن الإنساني، لكن باطنها احتمل كموناً انقلابياً على مفهومي الزمن والمكان، فعبر حزمة من الاختراعات والابتكارات الحديثة ( = مثلاً: السيارات، الطائرات، البريد الإلكتروني، المسبار الفضائي) أصبح بإمكان الإنسان تجاوز محنة ضعفه الزمكاني.
وإذا كان لي أن اختار مثالاً لأرى مواضعات اثنتين من السرديات ( = السردية الأسطورية + السردية الدينية)، فإني سأختار أسطورة (إرم ذات العماد) العربية، وأرى ما آلت إليه لاحقاً، وفقاً لمقتضيات السردية الإسلامية، لا سيما تلك السردية الحافّة بالنص التأسيسي لتلك السردية، أعني التفاسير، لكن قبل ذلك عليّ أن أعاين مواضعات هذه الأسطورة في النص القرآني، لكي تكون الصورة أوضح وأنصع.
أولاً: الأسطورة العربية والنص القرآني
سينقل النص القرآني أسطورة (إرم ذات العماد) كجزءٍ من سيرورة حضارية صارت إلى وضعٍ جديد، نتيجة لاستنفاد الصيغة القديمة لعناصر بقائها، إذ استُنزفَت بنيتها الداخلية، لذا عجزت عن الصمود خارجياً.
جاء في سورة الفجر:
{أَلَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِعَاد (6) إِرَم ذاتِ العِمَاد (7) التي لَمْ يُخْلَق مِثلها في البلاد (8)}.
إِنَّ الدلالة القرآنية للسؤال المبدئي (أَلَم تَرَ؟)، هي دلالة حضارية بالدرجة الأولى كما أرى، يسعى إلى تفكيك السياقات التي انبْنَت عليها تلك الحضارة، بعيداً عن مسألة عقوبتها من عدمه (وهذا ما ركزت عليه التفاسير الإسلامية الحافّة بالنص القرآني في فترة لاحقة، بعيداً عن السياق الأنثروبيولوجي لهذه الحضارات، إذ عنيت - هذه التفاسير - بالمصير الميتافيزيقي لهذه السياقات، لا بالواقع الذي عاشته؛ ثقافياً وسياسياً.. الخ)، فسؤال: (أَلَم تَرَ؟) سؤال تحريضي على البحث عن البناءات الأولية لحضارة (إرم ذات العماد)، وما إتيان الفعل البَعْدي (فَعَلَ ربّكَ بِعَاد) في مرحلةٍ متقدمة على (إِرم ذات العِمَاد) إلى من باب البلاغة الفلسفية، إذ يصير السؤال فعلاً أصيلاً لعقلٍ باحث عن الحقيقة، فالسؤال إذ يتقدم، فإنه يترك الإجابات التفصيلية مناط البحث الإنساني التفكيكي، عن مصير حضارة اندثرت وأفلت شمسها.
إنّ إجابة كُلّية يُحرّض عليها السؤال القرآني {ألم ترَ؟}، هي برسم البحث الاستقصائي من قبل الإنسان، نظراً لانطواء تلك الحضارة على إمكان استثنائي، يمكن أن يُستفاد منه آنياً. فصيغة {التي لم يُخلق مثلها في البلاد} هي تستوجب التفاتاً إلى بينة هذه الحضارة المائزة، بطريقةٍ أمكن الاستفادة منها في المعمار الحضاري الآني، سواءً ما تعلّق بالسلبيات التي قادت إلى انهيار هذه الحضارة، والتي أتى النص القرآني على ذكرها في سورة الحاقة: {وَأمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِريحٍ صَرْصَرٍ عَاتيةٍ (7) سَخَّرها عَلَيْهَم سَبْعَ لَيالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ حُسوما فَتَرى القَوم فيها صَرعَى كأنّهم أعْجازُ نخلٍ خاوية (8) فَهَلْ ترى لهم مِّن باقيةٍ (9)}، والعمل على تجنّبها؛ أو ما تعلّق بالإيجابيات التي قادت إلى بناء تلك الحضارة، والعمل على أخذها بعين الاعتبار ساعة العمل على بناءٍ حضاري آني.
وإذا كان لآيات سورة الفجر: {أَلَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِعَاد (6) إِرَم ذاتِ العِمَاد (7) التي لَمْ يُخْلَق مِثلها في البلاد (8)}. أن توضع جنباً إلى جنب مع آيات سورة الحاقة: {وَأمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِريحٍ صَرْصَرٍ عَاتيةٍ (7) سَخَّرها عَلَيْهَم سَبْعَ لَيالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ حُسوما فَتَرى القَوم فيها صَرعَى كأنّهم أعْجازُ نخلٍ خاوية (8) فَهَلْ ترى لهم مِّن باقيةٍ (9)}. فإني أعتقد أن النسق الذي ينبني هنا هو نسق حضاري بالدرجة الأولى، لناحية عوامل ازدهار حضارة بعينها التي جعلت منها حضارة عظيمة، وعوامل انحلال تلك الحضارة وتفككها، إلى درجة العجز التام عن الاستمرار في سيرورتها الانبعاثية، ليس فيما تعلّق بالمنجزات المادية التي تمظهرت فيها، بل في جفاف العقل الجمعي الذي غذّاها ورفدها أيضاً، فهو عقل - لحظة التفكّك - تذروه الرياح وتعصف به بصفته خواءً لا معنى. ولا أعتقد - مرة أخرى - أن ثمة فائدة تُرجى من تناول القضية هَهُنا تناولاً فقهياً، يسعى إلى إثبات قدرة الله الكبيرة على النيل ممن خالفوه وتنكّروا لتعاليمه، لأن مثل هذا التناول سيُعزّز فكرة الله السيكولوجي الذي يتجلّى تجليه الأكبر عبر منظومة من ردود الأفعال مع السياق البشري، فمن وافقه رفعه، ومن خالفه سحقه. وتلغي فكرة الله الأنطولوجي الذي يتجلّى تجليه الأكبر في ترك هذا العالَم لخليفته ( = الإنسان)، لكي يستبصر مادته، ويسعى إلى الاستفادة منها في بناء معماره الحضاري الزمكاني.
لكن الأطر التي تعاملت معها التفاسير الإسلامية غير ذلك، فقط ركزت على جانب واحد من جوانب هذه الحضارة –تحديداً مآلات أصحابها في العالَم الآخر، والعقوبة الإلهية التي وقعت عليهم فيا لحياة الدنيا-، فقد طغت عقلية (حلال/ حرام) على مقاربات تلك التفاسير، في حين حثّ النص القرآني على غير ذلك. إليكم ما جاء في أحد من أكثر التفاسير حضوراً في الثقافة الإسلامية:
ثانياً: الأسطورة العربية والتفاسير الإسلامية
إنّ أول ما يبدأ به "ابن كثير" تفسيره لآيات سورة الفجر: {أَلَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِعَاد (6) إِرَم ذاتِ العِمَاد (7) التي لَمْ يُخْلَق مِثلها في البلاد (8)}، ليس تبيان السيرورة التاريخية لحضارة (إرم ذات العماد)، بل تبيان الخطأ الذي ارتكبوه حتى استحقوا عذاب الله الشديد، فالمنطوق هو تجلٍّ - بطريقةٍ أو بأخرى - لعقلية أحادية لا ترى الوجود إلا ضمن سياقية (الحلال/ الحرام).
يقول ابن كثير في تفسيره للآيات السابقة:
"{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}؟ وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته، مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم، وجعلهم أحاديث وعبراً، فقال: {أَلَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ}؟ وهؤلاء عاد الأولى، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قاله ابن إسحاق، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام، فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم، ومن آمن معه منهم، وأهلكهم {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيةٍ سَخَّرَهَا عَليْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثمَانية أيَّام حُسُوماً فَتَرى القوم فِيها صَرْعَى كَأنَّهُم أعْجَاز نَخْلٍ خَاويةٍ فَهَل تَرى لَهُم مِّن باقية} (الحاقة: 6-8). وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع؛ ليعتبر بمصرعهم المؤمنون، فقوله تعالى: {إِرَمَ ذاتِ الْعِمَادِ} عطف بيان زيادة تعريف بهم.
وقوله [يكمل ابن كثير] تعالى: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشاً، ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة، وأرشدهم أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم، فقال: {وَاذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69) وقال تعالى: {فَأمَّا عَادٌ فَاسْتكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أشَدَّ مِنَّا قُوَّةً أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُم هُوَ أشَدَّ مِنْهُم قُوةً} (فصلت: 15) وقال ههنا: {التِي لَمْ يُخْلَق مِثلُهَا فِي البِلاد} أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم؛ لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم، قال مجاهد: إرم: أمة قديمة، يعني: عاداً الأولى، قال قتادة بن دعامة والسدي: إن إرم بيت مملكة عاد، وهذا قول حسن جيد وقوي، وقال مجاهد وقتادة والكلبي في قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} كانوا أهل عمد لا يقيمون، وقال العوفي عن ابن عباس: إنما قيل لهم ذات العماد لطولهم، واختار الأول ابن جرير، ورد الثاني فأصاب. وقوله تعالى: {الَّتي لَمْ يُخْلَق مِثلهَا فِي البلاد} أعاد ابن زيد الضمير على العماد، لارتفاعها، وقال: بنوا عمداً بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني: في زمانهم، وهذا القول هو الصواب، وقول ابن زيد، ومن ذهب مذهبه، ضعيف؛ لأنه لو كان المراد ذلك، لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: {الَّتي لَمْ يُخْلَق مِثلهَا فِي البلاد}. وقال ان أبي حاتم: حدثنا أبي أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح عن عمن حدثه عن المقدام عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر إرم ذات العماد، فقال: "كان الرجل منهم يأتي على الصخرة، فيحملها على الحي، فيهلكهم" ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو الطاهر، حدثنا أنس بن عياض، عن ثور بن زيد الديلي قال: قرأت كتاباً، وقد سمي حيث قرأه: أنا شداد بن عاد، وأنا الذي رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد، وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم (قلت): فعلى كل قول، سواء كانت العماد أبنية بنوها أو أعمدة بيوتهم للبدو، او سلاحاً يقاتلون به، أو طول واحد منهم، فهم قبيلة وأمة من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع، المقرونون بثمود كما ههنا، والله اعلم".[1]
أكتفي بهذا الكلام من تفسير ابن كثير، لأنتقل إلى نقل أسطورة (إرم ذات العماد) كما هي، ومن ثم أعود إلى المزج بين المتن الأسطوري والرؤية القرآنية لهذا المتن، وتعقيبات التفاسير الإسلامية على هذا المتن، بصفته متناً مُدنساً، بما يعني أن ثمة اختلاف جوهري بين الرؤية القرآنية واللاحقات التفسيرية للنص القرآني. لكن قبل ذلك، عليّ أن أشير هَهُنا إلى أن قراءة ابن كثير للآيات القرآنية التي بين أيدينا، هي قراءة فقهية بطريقة أو بأخرى، لأنها وضعت المسألة ضمن سياق (حلال/ حرام) لا ضمن سياق حضاري يُسائل المتن الثقافي والاقتصادي والاجتماعي...إلخ، ويضعه موضع تساؤل منهجي لغاية معاينة - أولاً - التجربة الحضارية لـ إرم ذات العماد، ومن ثمّ الاستفادة - ثانياً - من هذه التجربة، بتجنّب الأخطاء الثقافية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ، التي أدَّت إلى فنائها واستهلاك بنيتها الداخلية؛ وإيجاباً بالاستفادة من العوامل التي جعلت منها مَثَلَاً حضارياً مائزاً!.
ثالثاً: أسطورة إرم ذات العماد
"وكان لعاد ولدان شداد وشديد، ملكا زمناً وقهرا. ولما مات شديد انفرد شداد بالحكم، وملك الدنيا ودانت له ملوكها. وقد سمع بذكر الجنة فأراد أن يضاهيها ببنائه "إرم" في بعض صحاري عدن.
ورووا أن شداد بن عاد، لما سمع بالجنة قال لكبرائه إني متخذ في الأرض مدينة على صفتها، ثم وجه لعملائه في الأرض أن يجمعوا ما في البلاد من أموال وأحجار كريمة، واختار فضاء فلاة من أرض اليمن، فجعل طول المدينة اثني عشر فرسخاً وعرضها كذلك، وأحاطها بسور عال مشرف. وبنى فيها ثلاثماية ألف قصر، وجعل لها غرفاً فوقها غرف معمدة بأساطين الزبرجد والجزع والياقوت. ثم أجرى تحت المدينة وادياً ساق إليها تحت الأرض أربعيناً فرسخاً، ثم أمر فأجرى في شوارعها لمتضوعة بالمسك والزعفران سواقي مطوية بالذهب، وجعل حصاها أنواع الجواهر، وهي تجري بالماء الصافي.
وكان قصره وسط المدينة مشرفاً على القصور الضاربة في السماء ثلاثماية ذراع، وبنى خارج المدينة وسورها الشاهق اكما محدقة ينزلها جنوده. ومكث في بناء المدينة خمسماية عام... ولم يستجب لدعوة هود... فلما وافاه الموكولون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها عزم على الخروج إليها في جنوده، فخرج في ثلاثماية ألف من حرسه وشاكريته ومواليه. وخلف على ملكه بحضرموت ابنه "مرسد". ولم يقتربوا منها حتى أخذتهم صيحة من السماء! ومات بالصيحة جميع من كان في المدينة من الوكلاء والعمال... وبقيت خلاء لا أنيس بها... وساخت المدينة في الأرض فلم يدخلها بعد ذلك أحد، إلا رجل واحد في أيام معاوية يقال له عبد الله بن قلابة".[2]
رابعاً: الجِنان القُرآنية
ثمة جنان عديدة في النص القرآني[3]، واحدة منها هي الجنة الميتافيزيقية؛ الجنة التي تبتلع بين جنبيها الشرط الإنساني الزمكاني، وتنتقل به إلى زمن أبدي لا نهاية له، كنوعٍ من المكافأة العظيمة على جهد ديني يقوم به المؤمن في حياته الفانية.
جاء في الآية 25 من سورة البقرة: {وَبَشِّر الَّذيِنَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالحات أنَّ لَهُم جَنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار كُلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قَالُوا هذا الذي رُزقنا من قبل وَأتوا به مُتشَابها ولهم فيها أزواج مُطهّرة وهم فيها خالدون (25)}.
وستتكرر صورة هذه الجنة الميتافيزيقية في مواضع مختلفة من النص القرآني: الآية 15 من سورة آل عمران؛ الآية 41 من سورة النازعات؛ الآية 15 من سورة محمد؛ الآية 21 من سورة الحديد؛ الآية 73 من سورة الزمر...إلخ.
خامساً: سياقات معرفية (منفصلة/ متصلة)
ليس ثمة اختلاف جوهري بين متن السردية الدينية ومتن السردية الأسطورية، لا سيما فيما يتعلق بالتعقيب على مقولتي الزمن والمكان. فالخروج من نطاقية الشرط الجسماني وامتداداته الزمكانية مشترك رئيس بين المتن الديني والمتن الأسطوري. وفي حالة (إرم ذات العماد) تعقيب مبدئي على الخروج –دفعة واحدة- من العالَم الفاني بإحداثية زمانه ومكانه إلى العالَم الماورائي، وإنْ تموضع هذا الخروج في العالَم الأرضي، فهو –أساساً- يعتمد على محاكاة نموذج جِناني غير مُتناهٍ. فجنة (إرم ذات العماد) تعتمد في تكوينها الأصلي على أساس لا زماني.
والجنة القرآنية الموعودة تقوم هي الأخرى على أساس غير زماني، لذا هي تتصل بها على مستوى 1- (البنية) فالأبنية الباذخة والأنهار والأشجار والمادة التكوينية مشترك بين الجنة القرآنية وجنة إرم ذات العماد. و2- (المآل) بصفتها رَحماً لذيذاً يتموضع به الإنسان هروباً من الإحداثية الزمكانية. لكن انفصالاً بينهما سيحدث بموجب التفاسير الحافّة بالنص القرآني، وسيصل هذا الانفصال إلى حدّ تقذير متن الأسطورة، بصفته مضاداً للسياق القرآني، نتيجة للمسلكيات الآثمة التي اتبعتها تلك الأمة فخالفت تعاليم الله، فآلت بها إلى خراب عظيم، تمفصلَ عن انتقام إلهي عنيف. ولن يتم ذكر تلك السردية إلا واقترنت بسوءٍ استحضاري، فالتفاسير الإسلامية لم تسعى إلى تناول سياق القصص القرآني تناولاً أنثروبيولوجياً بقدر ما تناولها تناولاً فقهياً، فشرط الاجتماع الإنساني ودفقيته الحضارية غائب عن سياق هذه التفاسير، بل هي معنية بالدرجة الأولى في المآلات التدميرية التي آلت إليها هكذا حضارات، فالعقلية الدينية المتموضعة في المقاربات الإبستمولوجية لهذه الحضارات هي عقلية لاهوتية تُموقع العالَم في بنيتي (الطُهر) و(العُهر)؛ (الأقدس) و(الأدنس) وفقاً لمقتضيات أحقّية السردية الدينية في محاكمة السرديات الأخرى، والحُكم عليها حُكماً قيمياً، في العالمين الدنيوي والأخروي.
وقد كان لهذا السياق الاستلابي أن يؤثّر –مرحلة ما بعد استئثار السردية الإسلامية وسيطرتها على بقية السرديات الأخرى- على مجريات تدفّق المعرفة الأسطورية العربية في الذهن الإسلامي، فهي إذ تمرّ فإنها تمر بمراكز معالجة المعلومات المآلية والمصيرية لهذه السياقات الأسطورية، لا في ممر البنية والتكوين، والحُكم عليها من ثمَّ –وفقاً لمسلكيات المرور- دناسة، نظراً لوقوع العذاب الإلهي عليها؛ لأنها لم تخضع لإرادة الله، بعيداً عن أية مقاربات معرفية من شأنها رفد الدراسات الحضارية بمادةٍ دسمة ومفيدة عن عناصر قيام وانحطاط مثل الحضارات، والاستفادة منها في تطوير رؤيتنا للحضارة الإنسانية ضمن شرطنا الزمكاني.
وإذا كان لنا أن نقيس مقدار (الاتصال/ الانفصال) بين الأسطورة العربية –ممثلة هَهُنا بأسطورة إرم ذات العماد- والسردية الإسلامية، فسنلاحظ أن مقدار الانفصال أكبر من مقدار الاتصال، نظراً لاحتكام منظومة (الاتصال/ الانفصال) بينهما إلى عقلية دينية تحكم على أسطورة (إرم ذات العماد) حُكماً قيمياً، وفقاً لمآلها ومصيرها من وجهة هذه العقلية الدينية، لا وفقاً لبنيتها وتكوينها من وجهة نظر الأسطورة ذاتها.
[1] ابن كثير، تفسير القرآن الكريم، عن موقع التفاسير www.altafsir.com، سورة الفجر، الآيات 6-8
[2] محمود سليم الحوت، في طريق الميثيولوجيا العربية: بحث في المعتقدات والأساطير العربية قبل الإسلام، دار النهار، بيروت، ط2، 1979، ص ص 174-175
[3] ثمة أنواع أخرى من الجِنان ورد ذكرها في النص القرآني، مثل الجنة التي طرد منها آدم وحواء، والجنة التي تنمو في الواقع العياني.