الأقليات ضرورة أم ذريعة ؟
فئة : مقالات
(1) بما أن الدين مكوّن بشري يساهم في التمييز بين الأفراد والجماعات، لا أستطيع إلا أن أتطرق لموضوع الأقليات..
موضوع الأقليات لا ينقض الدين، ويخالف المتدينين دون أن يقلل منهم، ويلتمس في الدين أساساً رؤية تحد من العلاقة التنابذية الإلغائية بين الجماعات الموجودة في المجتمع، والتي تسبب عنف مباشر أو عنف مضمر، يظهر بشكل مستمر ويقضي على أحلام الطامحين بحياة سوية. وبتلك الرؤية يرقى فيها التعدد والاختلاف والحوار إلى مستوى أطروحة حضارية، ومجتمع ثقافي اجتماعي يوفر الدم ويتيح للفن والعلم والحياة والحيوية مساحة أوسع وجدلاً أجمل.
أقول ذلك مفترضاً أن الفرنسيين مثلاً، قد خسروا كثيراً عندما ضاقوا كأكثرية كاثوليكية بالأقلية البروتستنتية، التي أجبرت بالعنف على أن تنتقل بمالها وعقلها ونزوعها القوي إلى النهوض والمعاصرة إلى بلدان أخرى مثل ألمانيا، فأغنتها وأفقرت فرنسا.. وأتساءل، غير متعاطف أبداً، عن مدى ما يمكن أن يخسره الكيان الاسرائيلي، إذا ما استمر في تضييقه على العرب، مسلمين ومسيحيين، لإخراجهم من أرضهم؟. إن اسرائيل تقصِّر عمرها بذلك، لأن التخلص من مصادر الحيوية في البلدان الأصلية أو المغتصبة، يجعل المجتمع كما الفرد، عرضة لتكرار وتركيز السالب والمعتل من الموروثات، وصولاً إلى الإعاقة التامة أو النسبية والتلاشي. يقول رسول الله (ص) "تغربوا لئلا تضووا"، ويقول " ابنة العم أصبر والغريبة أنجب"، هنا يصبح التهجين مرادفاً للتجديد ويصبح الإختلاف مصدر دينامية وضرورة إبداعية.
وأقول، لو أن الأقليات المذهبية قد أبيدت أو اجتثت كلها بالتمام والكمال في التاريخ الإسلامي، وهذا الكلام غير صحيح، لكانت المصادر الحيوية في الفكر والفقه والفن والأدب الاسلامي، قد قلّت وشحّت وأصبح الاسلام مهدداً بمذهبية تمامية، توحده تحت ظلها المعرفي الضيّق أو ظلال سيوفها، وكانت قد عادت وحدته القسرية بما تستدعي من عنف مباشر أو غير مباشر، وما تختزن من عنف متوقع لتفجره، كما حدث في المثال الاشتراكي الذي رفع الدولة والعقيدة إلى مصاف الإيديولوجيا القاهرة والملزمة والإطلاقية، إلى حد التوهم بإمكان إلغاء مكوّنات وفوارق تكوينية. ولم يلبث السقوط الذريع لهذه التجربة، حتى كشف أنها قد أسهمت في تنمية هذه الفوارق وجعلتها بشوق كبير للتعبير عن نفسها في أول فرصة سنحت لها، والتي اشرأبت من خلالها دواخل الشعوب الهوجاء مثل (الشيشان وغيرهم والكروات والصرب والبوشناق).
(2) عندما أقرأ الآية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" أقف عندها ملياَ.. أي جعلناكم متعددين لغاية، وهي التعارف، وتبادل المعرفة يقتضي التعدد وإلا ساد التكرار والسكون.. والمعيار في هذا هو التقوى، والتقوى شرطها الذات ومداها الآخر، ولكن أيّ آخر؟ " ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان، فإما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"، هذا ما كتبه الإمام علي إلى مالك الأشتر عندما ولاه مصر.
وتعجبني قراءة الراغب الأصفهاني للآية أعلاه، حيث: شعبت إذا جمعت وإذا فرّقت.. فكأنك أتيت هذا المتعدد كما تأتي طريقاً ينشعب إلى طريقين، فإن نظرت إليه من جهة الاجتماع وجدت واحداً يتفرق، وإن نظرت إليه من جانب الإفتراق، وجدت متعدداً يجتمع. وهنا يغلب المعيار النوعي على المعيار المادي ولا يهمله، أي أن الحضارة والثقافة والدين أولاً، ثم تأتي الأرقام رتبة وإن سبقته زمناً. على هذا الأساس يتعدل مفهوم الأقلية والأكثرية، ويصبح المعنى والدور هو الأساس.. وفي هذا السياق قلت ذات مرة في مؤتمر لحوار الأديان في السودان: إن لبنان مثلاً، من دون مسلمين لا داعي له، ومن دون مسيحيين لا طعم له.
واقترح للخروج من المأزق المتجدد باستمرار، من كون الدين أو الطائفة ذريعة تهدد الأجيال القادمة، خاصة بعد دعوة العولمة إلى عزل الدين عن الحياة لا فصله عن الدولة فحسب. أن نعيد قراءة النصوص الدينية التي تنظم الجماعة وتحددها على سياق غير عصبي، بمعنى أنه اذا كان التعصب ضرورياً في تأسيس الجماعة الدينية، فإنه ليس ضرورياً لاستمرارها، بل ربما كان استمراره ضرراً لها، لأنه يحث على إلغاء الآخر وحذفه معنوياً ومادياً. ولا يتوقف الأمر على حدود الآخر، بل يرتد إلى الذات، ودائماً كانت المازوخية تعبيراً آخر عن السادية، والسادية كذلك كانت تعبيراً آخر عن المازوخية. وإلا لماذا ينفجر العنف المدمر داخل الجماعات الموحدة دينياً أو طائفياً أو مذهبياً أو عرقياً؟ وأساساً لو قرأنا التاريخ وحركته في الجغرافيا والديموغرافيا والأعراق والسلالات، والاختلاطات الثقافية والاستتباعات الحضارية والدينية، لما بقي بإمكاننا منهجياً أن نضع تعريفاً جامعاً مانعاً لأي مجموعة أو جماعة. لأن الهويات أصبحت من التركيب، والنواظم أصبحت من التراتب سعة وضيقاً، بحيث أصبح التعريف قصراً على البعد الواحد الذي أصبح مجرد فرضية يصعب إثباتها حتى في أدنى الموجودات تركيباً وتعقيداً. وكما أنه ليس هناك من حبة رمل تتطابق مع الأخرى أو تماثلها (هي تشبهها فقط)، فإن الطرق إلى الخالق تتعدد بتعدد أنفاس الخلق. فالأختلاف سبب أساسي في وجود الكون واستمراره وحركته وانسجامه..
(3) هنا، وكمسلم.. بإمكاني أن أوسع الناظم الديني، باعتبار أن الدين هو أحد أهم المتغيرات في التفرقة التعريفية بين الأقلية والأكثرية، أي أن العنصر الديني هو الأكثر شيوعاً ورسوخاً واختزالاً أحياناً، للمميزات أو المحددات الأخرى.. وإذا ما أخذنا في التوسعة التي تقتضيها وتسوّغها هذه العالمية النسبية، بما اقتضت من تعارف وتثاقف وتغيير في منظور أهل الأديان إلى أهل الأديان الأخرى، فإننا واصلون إلى أن نجد الجميع، حتى الوثنيين معنا، على نطاق عريض وتحت ناظم يتسع اتساع الكون، وهو ناظم الإيمان الكبير الذي من مبادئنا كأديان سماوية. وفي منطقة التوحيد الإبراهيمي، يمكن أن نعيد قراءته، أي الإيمان الكبير، على فرضية توحيدية لا نثبتها بالأدلة فحسب، بل نحققها بالحوار.. اي ننقل توحيدنا من حالة هو فيها مقتنى خاص إلى أطروحة كونية تتأسس عليها حالة اقتراب واعتراف متبادل.. وأن ندخل في هذا الجدل، طموحاً إلى أطروحة حضارية كونية تستلزم المشاركة وتقوم على الشراكة وترسخها، وهو بذاته، أي الدخول في الجدل، احتياط منهجي وعملي ووقاية من أن يتحول الدين السياسي إلى استقطاب كوني لا يستثني أحداً لا ديناً ولا مذهباً ولا اجتهاداً داخل أي مذهب، ولا مكاناً ولا وطناً ولا لحظة، وبذلك يعود الدين مشروع حياة وإحياء غير قابل للمصادرة والإختزال، ولا خاضع لإلزامية تعسفية في معرفته وعيشه، وبذلك تتعدد وتتجدد المعرفة، ويحل الكلام ويحرم الدم.
ولكن تنهض اسرائيل والصهيونية التي فصّلت اليهودية على مقاسها، لتكون عائقاً لا بد من الحفر الطويل حوله، بصبر وأناة وروية، حتى تعود الأمور إلى نصابها. وما دامت الصهيونية مستحكمة في العقل اليهودي ومترصدة لعقول أخرى، فإن الأقليات سوف تبقى على تعريفها وتحديدها ووظيفتها الذرائعية، لتسوّغ الاغتصاب والعنف الدوري المدمر، وهذا في منطقتنا على الأقل، بما يعني ذلك من مؤثرات تحملها التطورات إلى الغرب مثلاً.. والمارة بشكل أكيد على إيقاع العولمة.
(4) لقد كان يمكن للمشروع القومي الوحدوي الذي لا يقفز فوق الخصوصيات، وللمشروع الوطني القطري الذي لا يستقيل من العموميات القومية، أن يتآلفا على حل لإشكالية التعدد والأقلية والأكثرية، لتكف الأكثرية مثلاً في أي دولة وطنية عربية عن البحث المتواصل عن حصتها في قرص الدولة السياسي والإداري، أي تهذب شعورها الأكثري فتلزم الأقلية أو الأقليات بالبحث عن سبل الاندماج مع الأكثرية، والذي يحتاج باستمرار إلى رعاية من موقع الاعتدال والميل الدائم إلى التسوية، بما تقتضي من تنازلات بديلها خراب العام والخاص والخسائر التي لا تعوض، إلا أن شللاً أصاب المشروع القومي، فلم يلبث أن فشل في المشروعات القطرية التي صارت تتذرع بالقومي لتحقيق الخلل القطري وتغطيته، وكذلك صارت تتذرع بموقع الأكثرية، بما تفترض في نفسها من مثال قومي أو قطري لتهميش الأقليات. فإن توفيرها لأقلية ما عامل ذاتي أو موضوعي، مشروع أو غير مشروع، مكنها من أن تحضر بكثافة في الحراك الوطني العام وفي المشهد السياسي، وبذلك اغترت واستأثرت وقدمت للأقليات المهمشة، مسوّغاً لحركة نحو تحقيق حضورها بما يستلزم من عنف، لم يلبث أن يرتد إلى داخلها، كما قدمت للأكثرية عذراً في سعيها إلى الغلبة، إلى حد جعل تحقيق الغلبة المطلقة وهماً مطلقاً، وكان الخطأ الدائم في ترتيب آثار عظمى عليها، مقدمة للحرب وتغيير المعادلة لإعادة إنتاجها من جديد وتداولها بمحمولاته السلبية المتكررة.
(5) والآن، حسب المشهد العربي، فإن الدولة الوطنية أو القطرية في منتهى الحرج، وفي تراجع سريع بسبب الفشل ببناء الدولة على موجب القانون والمواطنة، ما أدى إلى استقواء السلطة على الدولة والمجتمع، واستقواء المجتمع على الدولة واستيقاظ الهويات الفرعية بديلاً للدولة.. وقد كان يمكن لهذا أن يكون علامة إيجابية، جدلاً على الأقل، لو أن المشروع القومي والوحدوي لم يستحكم به الشلل، إن لم يكن قد ولد مشلولاً أصلاً. ليفصل بين مستواه الفكري الملفق ومستواه السياسي الملتبس، ما مسّ بالقناعات والتوقعات مساً جارحاً، من دون أن يؤثر في المدى المنظور. ليصبح التضامن مطلباً يحفظ ما تبقى من كرامة. وقد كان يمكن للتراجع المشهود على المستوى القطري أو الوطني أن لا يكون فاجعاً، لولا أن مجموع التراجعات القطرية يؤلف حالة قومية تراجعية ذاهبة في اتجاه الانتكاس أو التخلف، كمقدمة للإلتحاق بقطار العولمة، إذعاناً لا اختياراً، ولولا أن المشروع القومي لم يصبح من الذكريات أو ينسحب من منطقة الحلم والرجاء والتوقع، ليصبح حلماً ماضوياً.. ومن هنا يصبح خوف الأقليات خوفاً مفهوماً وطبيعياً إلى حد ما، يخفف البعض من دواعيه وموجباته ويبالغ بعض آخر ويعتدل آخرون، ولا أحد بإمكانه أن ينكر مظاهره وأسبابه، ولا أحد أيضاً يفعل شيئاً من أجل توضيح الأمور وعلاجها أو الوقاية من مخاطرها المحتملة.
إن المشروع القومي العربي كان في الظاهر يرفع الناظم الجامع إلى مستوى الأمة، والدولة الأمة. بصرف النظر عن تحققها كمفهوم أو إمكان تحقيقها كأطروحة أو مشروع. ومن أجل سلامة الناظم الأعلى، كان مضطراً منهجياً وعمليا،ً إلى تليين النواظم الأدنى، من دينية ومذهبية وطبقية [1] الخ.. ودائماً كان المشروع الأعلى، وطنياً أو طبقياً أو قومياً أو دينياً يقع في الخطأ، وذلك عندما يتخطى الخصوصيات أو المكونات الخاصة بالأوطان والأقطار المتعددة والجماعات المختلفة، ويختزلها في المكون الإثني أو الطبقي أو الوطني أو الديني، على انه الجامع الوحيد، لا الأكبر ولا الأوسط، المطلق لا النسبي. نستطيع أن نستمر في هذا الكلام النقدي إلى آخر المواجع، ولكن وجعاً إضافياً ينتظرنا، إن لم نؤسس أو نكتشف معايير جديدة ومعاصرة لحراكنا باتجاه الاندماج، أو على الأقل حفظ ما تبقى من علائق.
(6) وأخيراً قد يكون معيار المصلحة، وهو الوجود والحياة والكسب والنمو والحضور، معياراً ملائماً لحالنا، نحفظ به أنصبتنا القومية والوطنية والدينية والإثنية واللغوية، من دون أن نغلقها على العصر، أو نجبر العصر على استحضار مثالاته كاملة ناجزة من الماضي، لا يزينه في نظرنا سوى مسيرة التردي، التي يرافقها ويسرّع فيها اهتزاز نظام القيم، الضامن الأخير لإعادة نظام الأفكار المتردي، إلى الوعي والسلوك القومي والوطني والديني.. فالمصلحة بهذه الذرائعية المشروعة والشرعية، ليست عيباً، لأنها تجمع وتحقق شرط الوجود والحضور، وإن لم تغلّب استقطاب الاجتماع فإنها تعطل استقطاب الانفصال، بما يقتضي من عنف يحول الأوطان والجماعات الوطنية، الأكثرية والأقلية معاً، إلى أقليات تسبح في فراغ العولمة، بدل أن تسرح في فضاءاتها الحضارية.
دخلت دينياً وخرجت وطنياً وقومياً من الموضوع، إقراراً مني على وعي ضمني غير مفارق، بأن مكونات الإنتماء والهوية المركبة، ليس من الضروري أن تتناقض وتتصارع، لأن كلاً منها داخل في تعريف الآخر وتكوينه.. يقتضيه ويتجادل معه، وينمو بالجدل نمواً عادلاً من دون طغيان، ويشترطه ويشترط ذاته عليه، فكأن الوجود الوطني أو القومي أو الديني، هو مجموعة تشارطات طبيعية، وإن لم تكن طبيعية فإن التاريخ الطويل جعلها طبيعية أو شبه طبيعية، لأن التاريخ وقائع أولاً ثم نتائج، وإذا ما بقي في حدود فهمنا التقليدي له، كنوايا ومضمرات، فإنا ذاهبون إلى خارج التاريخ.. ومن هنا يصبح اللغوي والاثني مستوى من المستويات غير منفصل، تأتي اشكاليته من العام أيضاً لا من خصوصياته فحسب. هناك نظام متغيرات في مسألة الأقلية والأكثرية في وطننا العربي، وفي لبنان ليست مفردات منفصلة تؤخذ بحياد تام، لأن الذاتي فينا بقوة الموضوعي وعمقه ودلالته.
[1] وعلى الرغم من كل التعقيدات الناتجة عن نقص الحرية وسوء إدارة التعدد في التجربة الناصرية في مصر ، فإن العصر الناصري أدى إلى تراجع ظاهري مع شيء من العمق القلق للتوترات الطائفية التي كانت أقل كماً ونوعاً من العهد الملكي .