الإِبداعُ الفَلسفيُّ ومِحَنُ النّمُوذَجِ: مُقدماتٌ أَساسِيّةٌ فِي امْتحانِ تَجْربَةِ اليُتْمِ
فئة : أبحاث عامة
الإِبداعُ الفَلسفيُّ ومِحَنُ النّمُوذَجِ:
مُقدماتٌ أَساسِيّةٌ فِي امْتحانِ تَجْربَةِ اليُتْمِ([1])
ملخص:
أَلَمْ يَحِن الوقْت بَعْد لِدخُولِ غِمَار "تَجربَة اليُتْم"؟ أَ قَدَرُ الفكْر العربِيّ المعاصِرِ أنْ يَرهنَ آباؤُه آفاقَ آلِهِ؟ مَا بَالُ هَذهِ "الآبائيّة"، تَلتهمُ مَساحَات واسِعة، تخطّت واجِب التّوقِير اللاّزمِ لـ "الأَب"، إِلى تحويلٍ عنيفٍ مَسَّهُ حتى أضحى أقنومًا طاغياً؟ آبائيةٌ رهيبةٌ، تلكَ التي اسْتمكنَت مِن "وَعْيٍ" (عَربيّ) وُلدَ كَهْلاً: بَلْ، قُل شَيْخًا فِي بَادئَة عُمرِه؟ حَالَ بَينهُ وَبَينَ طُفولتِه (نموّه الطّبيعِي) هُمومٌ اعْترضَتْهُ بَغتَةً، فَلا هُو كَانَ مُهيئَا لَها، وَلا هِي أَتاحَت لهُ فرصةَ التعرفِ عليهَا قبْل مُصافحتهَا. النّتيجةُ، وعطفًا على المعْجم الرّشيقِ لفتْحي المسْكيني، كُهولةٌ مبكّرةٌ، لِفكرٍ لَم يُقدّر لهُ أَنْ يَحيَا صِباهُ.
منْ بَينِ مَا يَحولُ بينَنَا وبيْن التّفكِيرِ والإبداعِ، نلفي عائقين رئيسين من ذَوِي قرْبَى "الآبائية"، يتمثلان في: الكَسَل، والجُبْن، وقَد أَبدَعَ كانط فِي تَمثّلِ النّاتجِ عَنهُمَا مِن إعاقاتٍ شَديدَة، أقْواهَا: اسْتطَابَةُ المَشْيِ بعكّازَات، وضْعُ هُبْلٍ مُحجّرٍ، يفقِدُ صاحِبُه أُهليّةَ تَدَبُّر شؤُونِه الخَاصّة، فيَسْتَلِذُّ وَضعَ: "القصور الذي هوَ نفسه مَسْؤولٌ عنه"، وضْعُ "تفكيرٍ بالنيابة": أنْ يَقومَ مَقامِي مَنْ يُريحُنِي مِنْ تَعبِ التّفكِيرِ، أن يُوجَد من يفكّرُ بَدلاً عنّي، هوَ وصِيّي الّذِي يَعرفُ: مَا الّذي يُؤذينِي فِي صِحّتِي، وَمَا الّذِي يُشكّلُ مَصْدَرَ ضررٍ على سَلامَة "عَقلِي"، وَمَا الّذِي يُمكنُ أَنْ يُهددَ اسْتقرَارَ "أَمنِي الرّوحِي"؟ وما الذي به أنتهض بعد تثاؤب؟ هو "أبِي" وعصاه الغليظة. ليسُ البيُولُوجيّ دَومًا، لَكنّه المُؤَسّسةُ عَينُها أَحْيانًا، إنّه أَيضًا الأبُ الثقافيُّ والأُب الحَضاريُّ. وَفِي حَالتنَا، فَهوَ لَيْسَ إِلاّ "الأَبُ الفَلسفيّ"، الّذِي يَأخذُ مِن أَعمَارنَا مَددًا، لِضمانِ رَغدِ "الخُلُود".
أَلَمْ نَتهيّأ كِفَايةً لاخْتبارِ لَذّة أَنْ نَكونَ أَيْتاماً؟ أَلَسْنَا بِقادرِين عَلى كِتابةِ قَصصٍ يُعاندُ فِيهَا الذّبيحُ رَبَّ إبْراهِيم؟
المُحاولةُ أسْفله، ليْست إلا محاولة للتفكير في الأمر. إنها محاولة للوقوف على محنةٍ متعبةٍ من محن الفكر العربي المعاصر: محنةُ أن يشكل "الأب" (الفلسفي) صوتا عميقا وقاسيا، يمنعك من المخاطرة في أرض الفكر الواسعة. أن تفضي بك الخشية من أن تحيا تجربة أليمة - كأن تكون "يتيما"، لا ملاذ يأويك، أو "لقيطا" لا أصل يدميك - إلى العيش في عمامة أبيك، قد تكون فخمة ولاشك، لكنها غزلُ غيرك. ليس اليتم - أو حتى تجربة اللّقَاط - سوى إيحاء إلى اقتدار الذات على تحمل المسؤولية ذاتيا، بدون ضمانات مساعدة من أحد. إقراننا للإبداع، بتمجيدها كتجربة وجودية أليمة بلا شك، ليس إلا اجتهادا لرصد أهمية المرور على محطاتها تمرينا للذات الفلسفية على العيش بدون "أب"، دون أن يعني ذلك السقوط في أية تجرية مضادة - وهذا جوهري في نظرنا لدراسة العلاقة المشكلة بين الفلسفة وتاريخها الخاص - تستعديه وتتوهم إمكانية الاستغناء المطلق على منجزه. ليست الغاية، والحالُ هذه، سوى بيان أن الحضور الطبيعي له لا غنى عنه، لكن أن يتحوّل إلى حضورٍ طاغٍ مهيمن، فذاك مما نسعى إلى نقده وإظهار حدوده، تلافيا لأية إمية (إما...وإما...) زائفة، تنتصر كلية لهذا دون ذاك، أو لذاك دون هذا.
تقودنا الإيماءات الآنفة الذكر، إلى إشكال صريحٍ يضمُّ أشتاتها، يتعلق أساسا بـ "الإبداع الفلسفي"، وشكل نظر الفكر الفلسفي العربي لمقتضياته، وما انتهى إليه من طُرُوحٍ بشأنه، وبالأخص ما اتصل منها بتنظيم علاقته بالفلسفة الإسلامية الوسيطية من ناحية، والفلسفة الغربية من ناحية ثانية. وفي محاولتنا الْتماس بعض عناصر مقاربتها، لاَحَ لنا، أن من مستوجبات اسْتِتْمَامِهَا إنجاز قراءة تحليلية نقدية لأظهر النصوص التي شغلها هاجس الإبداع الفلسفي، فانتهى بنا الأمر إلى الوقوف على نصوص: محمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن، وناصيف نصار، وفتحي المسكيني...إلخ، لمساءلة تصوراتهم بشأن حدود وإمكانات كل قولٍ بـ "فلسفة عربية معاصرة"، ماتزال نصوصها مهجوسة بـ "نموذج" بِآيهِ تقتدي وتهتدي، وهو ما عملنا جهدنا لبيان التباساته ومفارقاته.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
[1] - هذا النص مستلٌّ من كتابٍ على وشْك الصدور، يدور حول فلسفة ناصيف نصار، وما تفتحه من آفاق أمام القول الفلسفي العربي، الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت، لِما ابتليَ بهِ من إشكالاتٍ زائفة وطرائقَ سِجاليّة فِي معالجتها. آثرنا نشره كما هو، دون إعادة مواءمته مع مستوجبات المقام، حتى يتم مَوْقعتهِ في سياقه العام الذي حَكَمَ تَدبيجَهُ.