الإرهاب العالمي المعاصر: الثمرة العفنة لسيرورة العولمة
فئة : مقالات
العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، يزخر بالمخاطر والرعب والخوف والقلق والتوتر وتحديات لا تنتهي، وإدراك البشر لهذه المخاطر والتحديات الآن، أعمق وأوسع من السابق، وسيرورة العولمة الحالية خاصة ميكانيزماتها التكنولوجية التي تتميز بالتسارع الشديد؛ هي حاضنة ذلك كله.
وفي الوقت الذي أصبح فيه إدراك البشر لمزايا الرخاء والتقدم والازدهار مبعثا على التنافس بين الدول والجماعات والأفراد، فقد أصبحت تحديات متخطية للحدود القومية، مثل الإرهاب والتطرف الديني الذي تقوم به أطراف فاعلة ما دون الدولة حافزا للأطراف الفاعلة من الدول على التعاون.
وكان الإرهاب موجود منذ بداية البشرية و"الإنسان العاقل"، وارتبط بظهور محايث للأديان كتوأم بشكل عام، ولم يتغير الكثير على هذا الواقع. لكن حجم، وعمق، واتساع إدراكنا كبشر لظاهرة التطرف الديني والإرهاب هو الذي تغير وبتسارع كبير بسبب آليات العولمة المختلفة وبالذات التكنولوجيا.
وإذا كانت العولمة سيرورة جارفة تتخطى الحدود القومية للدول والجماعات، فإن الإرهاب المتخطي للحدود القومية الذي ساهمت في إدراكه وانتشاره؛ يحمل بشكل صارخ – للأسف الشديد - صبغة إسلاموية في الحقبة الحالية من سيرورة العولمة.
والفرضّية الرئيسة التي أثبتُّها خلال دراستي الأكاديمية السابقة للعلاقة بين العولمة والإرهاب (خاصة من الناحية الكمّية الرياضية والإحصائية) هي ببساطة؛ إن هناك علاقة إيجابية، وتأثيراً متبادلاً بين الظاهرتين، وارتباطا قويا بين المؤشر العام للعولمة والمؤشر العام للإرهاب، وأن حجم هذه العلاقة بلغ(67%).
وأن هناك علاقة بنيَويّة ووظيفّية إيجابية بين العولمة والإرهاب، حيث إنه لو زاد مؤشر العولمة بمقدار وحدة واحدة فقط، فإن مؤشر الإرهاب سيزيد بمقدار (47%).
هذا يعني أن الزيادة في ظاهرة العولمة تؤدي إلى الزيادة في ظاهرة الإرهاب، لكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه، كذلك النقصان في ظاهرة العولمة يؤدي إلى النقصان في ظاهرة الإرهاب ولكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه.
وعلى الرغم من أن كافة مؤشرات العولمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد ساهمت في هذا التأثير، إلاَّ أن مؤشر العولمة (التكنولوجية) كان يمثل المتغير الوسيط بين العولمة والإرهاب وصاحب الدور الحاسم في حجم إدراكنا للظاهرتين والتسارع الهائل فيهما؛ فكلما اتسع نطاق انتشار مؤشرات التكنولوجيا اتسعت معه سيرورة وآليات العولمة، واتسعت معه آليات عمل الجماعات والمنظمات الإرهابية إذا استطاعت الشبكات والمنظمات الإرهابية كأطراف فاعلة ما دون الدولة استغلال مخرجات (التكنولوجيا) بكافة أشكالها بفعالية أكثر من الدول في عمليات التجنيد والدعاية وإثارة الرعب والتوحش على مستويات أوسع وأعمق من أي وقت مضى في التاريخ.
عمليا؛ هذا الأمر وضع صانع القرار السياسي في الحقبة الحالية من العولمة وخاصة في مجال مكافحة الإرهاب العالمي أمام خيارات صعبة وضيقة جدا بين: النكوص عن العولمة واللجوء إلى كبت الحريات والرقابة المسبقة على الحريات الفردية وفرض قوانين صارمة، أو ترك المجال لسيرورة العولمة بأن تجري بمساراتها الطبيعية الجارفة([1]).
العولمة؛ سيرورة من التحولات والتغيرات متفاوتة التسارع في حياة البشر والمجتمعات، وهي إحساس وشعور قبل أن تكون قياس أو تجربة مخبرية، فلسنا بحاجة إلى ميزان حرارة لنشعر بالبرد أو الدفء والرطوبة، وهي شعور عام بفقدان الفضاءات الخاصة للبشر في مقابل انسياب مستمر متفاوت الزخم في عمليات متحايثة من التفتيت والتشظي والدمج والترابط لمختلف مستويات.
ولقد ارتبط التسارع الهائل في سيرورة العولمة في المنظومة المعرفية الغربية والفضاء الغربّي بنهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي وهدم جدار برلين تحديدا. وأعتقد أن هذه المقاربة هي السائدة والمسيطرة في التحليل الغربي للظاهرة خاصة من جهة مظهرها السياسي.
وليس مصادفة أن تحمل كلمات، مثل: نهاية، تفكك، وما بعد، وهدم وحداثة؛ آمال عريضة وأحلام بانبثاق فجرٍ جديد؛ والوعود بالرخاء والسلام.
لكن هذه الوعود التي انتعشت بُعيد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد (السوفيتي) والحرب في (البلقان) ومجازر التطهير العرقي في (البوسنة والهرسك)؛ ثم التدخل العسكري بقيادة (أمريكا) تحت ذريعة التدخل الإنساني إبان إدارة الرئيس (الأمريكي) (بيل كلنتون) خلال الفترة بين عامي 1993-2001م التي شهدت أوج الاهتمام الأمريكي بالعولمة؛ كانت على موعدٍ مشؤوم وأول ضربة قاصمة تتلقاها سيرورة العولمة من الإرهاب العالمي مجسّدة بهجمات 11- أيلول - 2001م.
ويمكن القول إنه وبناء على اعترافات المدعو أيمن دين أحد أعضاء تنظيم القاعدة ومصدر للمخابرات البريطانية أدلى بها لمحطة تلفزيون BBC البريطانية وعبر عدة حلقات أوائل 2015، أن البوسنة كانت مهد التخطيط للثأر والانتقام من أمريكا التي رأى قادة القاعدة، مثل خالد شيخ محمد أنها خانت الجهاد والمسلمين في البوسنة ومنحت النصر للصرب والكروات، حيث يمكن القول إن العالم بدأ بالانكماش والتقوقع على نفسه خوفاً ورعباً وتوجساً، وبدا العالم، وهو على أبواب القرن الواحد والعشرين شاحباً كئيباً يعود القهقرى وكأنه قلعة معزولةٌ ومحصنةٌ من العصور الوسطى يغلق أبوابه قبل حلول الظلام، ويرتاب من أي غريبٍ وأية حركة خارج أسوار القلعة.
وبعد عرس الدم والتوحش الذي ما زال مستمرا ًمنذ عقدين تقريبا (من عام 2000م حتى 2017 م) ماذا كانت النتيجة؟
إذا نظرنا (لبانوراما) خارطة العالم وتوزيع الصراعات في العلم حسب التقرير السنوي لعام 2016م الذي يصدره معهد (هيدلبيرغ لدراسات الصراعات الدولية- التابع لجامعة هيدلبيرغ) The Heidelberg Institute for International Conflict Research)
فإننا نلاحظ أن هناك اتجاها تصاعديا لزيادة الصراعات في العالم منذ عام 1945م، ومعظم دول العالم تعاني من الصراعات (الحرب، الحرب المحدودة، الأزمات العنيفة)([2]).
ووفقا لتقرير مؤشرات الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (سيدني - أستراليا) 2017 م (مؤشر الإرهاب العالمي Global Terrorism Index) لعام 2016م([3])؛ فقد سجل العام 2014 م الاتجاه الأسوأ في تاريخ مؤشرات الإرهاب، حيث تعرضت (93) دولة في العالم (أي ما نسبته (57%) من دول العالم للإرهاب. ويعتبر هذا أعلى معدل للعمليات الإرهابية خلال الـ(16) عاما الماضية، وراح ضحيتها ما مجموعة (32765) شخصاً. وهذا يعني أن أكثر من نصف دول العالم تعرض للإرهاب، ويعني كذلك المدى والنطاق الذي وصل إليه الإرهاب كظاهرة عولمية متخطية للحدود الوطنية. وبلغ العدد الإجمالي لقتلى العمليات الإرهابية عام 2015 ما مجموعه (29376) شخصاً ومع ذلك، فهو يشكل انخفاضا بنسبة 10% عن 2014م، وهو أول انخفاض منذ 2010م، وكان سبب الانخفاض نتيجة عمليات مكافحة الإرهاب ضد داعش في العراق، وبوكوحرام في نيجيريا. لكن هذا لم يمنع للأسف الشديد من انتشار خطرهما في العالم؛ ذلك أن إرهاب بوكوحرام انتقل إلى دول الكاميرون، والنيجر، وتشاد ورفع نسبة قتلى الإرهاب في تلك الدول إلى 157%.
أمّا داعش، فقد توسع نطاق إرهابه العالمي وانتشر لينشط في (28) دولة في العالم عام 2015م بعد أن كان ينشط في (13) دولة فقط في العالم عام 2014م([4]).
ولم يتغير الكثير على هذه الإحصائيات عام 2017م، بل زاد الأمر سوءا بعد أن أعلن تنظيم داعش الخلافة في العراق والشام، واستولى على مساحة من الأرض أكبر من مساحة (بريطانيا) قبل أن يتعرض لهجوم كاسح-لا يزال مستمرا في الموصل والرقة حتى إعداد هذا المقال - من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب نهاية 2016م.
ولقد كان من المدهش حقا، أن هناك الكثير من المتابعين والخبراء والمحللين و(الأكاديميين) من شعر بالسعادة والفرح ونشوة الانتصار من منطلقات (أيديولوجية) ضيقة الأفق لهذه الخيبة الإنسانية وحلم ليلة الصيف الذي لم يكتمل بذريعة أن سيرورة العولمة نتاج (أيديولوجيا) الرأسمالية و(الليبرالية) المتوحشة أو (الأمركــــة).
ولقد كان من الملاحظ أن الفورة في زيادة العمليات الإرهابية ترافقت مع بدايات الربيع العربي بعد 2010م، ثم مع بداية الحرب الأهلية في سوريا عام 2011م.
وفي هذه الأجواء؛ هناك زخم وفورة هائلة في تصريحات الساسة الغربيين(خاصة الفرنسين والبريطانيين والألمان) التي تحذر من خطورة الإرهاب وتزايد إعداد (الأوربيين) الذين يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية وداعش تحديداً.
فقد حذر مدير الاستخبارات (الألمانية) (كريستوف غرام) في تصريحات لصحيفة (Die Welt,9/3/2015) من خطر التحاق إسلاميين متطرفين بالجيش (الألماني) واستخدام معسكرات الجيش وإمكانياته المتطورة للتدريب، ثم شن هجمات على ألمانيا، ولذلك طلب المزيد من الصلاحيات للتدقيق والمتابعة والفحص للمتقدمين للخدمة في الجيش من المسلمين.
وللأسف الشديد؛ ليس هناك كلمة واحدة منفردة الآن أكثر رعبا من الإسلام وليس هناك فرد مرعب ومخيف ومبعث على الشك والريبة أكثر من المسلم في أوروبا الآن مع انتشار الشعبوية الإسلاموفوبيا.
وكمؤشر على عولمة التطرف الإسلامي والإرهاب؛ فقد كشف تقرير للأمم المتحدة (5- نيسان - 2015)عن وصول عدد المقاتلين الأجانب الذين توجهوا للقتال مع تنظيمي داعش والقاعدة في سوريا والعراق ودول أخرى إلى (25) ألف مقاتل ينتمون إلى أكثر من مئة دولة، وقال التقرير الذي أعدته لجنة مجلس الأمن المكلفة بمتابعة العقوبات المفروضة على تنظيم القاعدة، أن عدد المقاتلين الأجانب شهد ارتفاعا بنسبة (71%) بين منتصف عام 2014 وآذار 2015، وأظهر التقرير أن حوالي (20) ألف مقاتل أجنبي ذهبوا إلى سوريا والعراق، انضم معظمهم إلى داعش، في حين انضم قسم منهم إلى جبهة النصرة، وحذر التقرير من خطر انتشار هؤلاء المقاتلين المدربين في أنحاء العالم في حال هزيمة تنظيم داعش.
وأشار التقرير إلى وصول عدد المقاتلين الأجانب في أفغانستان إلى حوالي (6500) ووجود المئات منهم في اليمن وليبيا وباكستان، وحوالي (100) مقاتل أجنبي في الصومال، بالإضافة إلى وجود عدد من المقاتلين الأجانب في شمال أفريقيا و(الفلبين)، ووفقا للتقرير، فإن معظم المقاتلين الأجانب الذين يتوجهون إلى سوريا والعراق يأتون من تونس والمغرب و(فرنسا) و(روسيا)، كما شهد عدد المقاتلين الأجانب القادمين من (المالديف) و(فنلندا) و(ترينداد وتوباغو) ازديادا، وبدأت بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء في تصدير المقاتلين للمرة الأولى، وأعرب معدو التقرير عن اعتقادهم بأن أنجع طريقة لمكافحة تهديد المقاتلين الأجانب تكمن في منع تحول الأشخاص ذوي الميول العنيفة إلى التطرف، والحيلولة دون تواصلهم مع الشبكات الإرهابية، وحظر سفرهم إلى مناطق النزاع، ودعا التقرير الدول المعنية إلى زيادة تبادل المعلومات الاستخبارية فيما بينها، مشيرا إلى أن (10%) فقط من المعلومات اللازمة لتحديد هوية المقاتلين الأجانب يتم تداولها دوليا.
من ناحية أخرى، هناك قناعات شعبّوية ومعرفية في أوساط واسعة في الغرب - تصل حد المسلمات- أن العالم الإسلامي - إذا سلمنا بوجود مثل هذا العالم حقيقة – مصدر تهديد السلام العالمي والتطرف والإرهاب العالمي والفاشية الإسلامية حسب وصف (مانويل فالس) رئيس الوزراء (الفرنسي) 2015م، ولا يشذ عن ذلك إلا القليل من خارج سيطرة المنظومة المعرفية للنظريات الوضعية السائدة في الغرب. أعتقد أن الإرهاب مشكلة عولمّية بمعنى أنه محمل بكل آليات العولمة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، ولذلك لا يمكن معالجته بالوسائل العسكرية والحروب فقط. وإذا كان الإرهاب مهما كان مصدره أو شكله "يستحق الإدانة، فإن الإرهاب المضاد لا يختلف عنه"([5]).
إن النظام الذي ساهمت بصناعته وتشكله سيرورة العولمة - خاصة الآليات السياسية و(التكنولوجية) - هو الذي سهّل وأنشأ الشروط الموضوعية لفوران مرجل التطرف والغلو والكراهية والإرهاب العالمي المعاصر بهذا الشكل الواسع والعميق.
ومن وجهة نظر "شبكة حركات مناهضة العولمة" إن العالم هو الذي يقاوم العولمة، والإسلاميون (من خلال ممارسة الإرهاب) يعبرون عن كل واحد في عالم يناهض العولمة التي تحتكر القوة في عالم اليوم. وقد باتت هذه المقاربة المخيفة تلقى رواجا ً ملحوظا عند معارضي العولمة وأدبيات مكافحة التطرف الديني والإرهاب.
لقد كانت فكرة مقاومة العولمة بسيطة، فهذا "النظام الدولي" الذي يكره الموت ويتجنبه، يكون السلاح المميت ضده هو أشكال متنوعة من الموت الانتحاري والتفجير من خلال الإرهاب؛ الثمرة المتعفنة للعولمة (حسب وصف بنجامين باربر)، أو العولمة من الأسفل حسب مقاربات اليسار الجديد والكثير من منظري العولمة.
[1]- الشرَفات، سعود (2011) العولمة والارهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان الطبعة الأولى، ص 194-196.
[2]- https://www.hiik.de/en/konfliktbarometer/pdf/ConflictBarometer_2015.pdf
[3]- http://economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2016/11/Global-Terrorism-Index-2016.2.pdf
[4]- لمزيد من التفصيلات أنظر
http://economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2016/11/Global-Terrorism-Index-2016.2.pdf
[5]- باريك، بيكو (2005) إرهاب أو حوار ثقافات، الفصل الرابع والعشرون، عوالم متصادمة: الإرهاب ومستقبل النظام العالمي، تحرير كين بوث وتيم ديون، ترجمة صلاح عبد الحق، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى، ص ص 354-355.