الإرهاب المقدس وعقدة الانتحاري: عن الإرهاب والإرهاب المضاد
فئة : مقالات
الإرهاب المقدس وعقدة الانتحاري:
عن الإرهاب والإرهاب المضاد
نبدأ أولاً وبشكل جريء أن نحدد معنىً للإرهاب الذي تختلف على تعريفه دول العالم في الأمم المتحدة، وهذا مما يؤسف له ومما يدل على أن كل طرف يريد أن يفرض مصالحه الخاصة على هذا التعريف البسيط، أنا أتفق أولاً مع تعريف القاموس لكلمة الإرهابي على أنه الشخص الذي يحاول فرض آرائه بالقوة على الآخرين، لكنني أود إضافة تعريف جديد مفاده: الشخص الذي يقوم بقتل المدنيين، كانوا رجالا أم نساء أم أطفالا أو حتى - وأتجرأ هنا لأقول- عسكريين ليس لهم ذنب؛ أي ليس لهم صراع مباشر معه، وهذا التعريف توّلد عندي في السنوات الآخيرة حتى قبل أحداث سبتمبر المروعة والمجازر ضد المدنيين الفلسطينيين والعمليات الانتحارية في تل أبيب...إلخ.
إن السبب الرئيس وربما الوحيد في الخلاف على تعريف الإرهاب هو أن أحد الأطراف – وهم إسرائيل وأمريكا طبعاً ومن حالفهم- يريدون أن يجعلوا من قتلى جنودهم في العراق أو فلسطين -الذين يعتدون على أمن الناس- شهداء وضحايا أبرياء، وبالتالي فإن المقاومة المشروعة هي إرهاب! وهذا ما لا يقبله منطق. أما المشكلة أو السلبية في الطرف الآخر - وهم المقاومة في العراق أو فلسطين أو أي مكان- أنه يريد استباحة قتل المدنيين من العدو وهذا أيضاً لا يقبله منطق أو حتى دين؛ فالإسلام مثلاً لا يقبل قتل الأسرى والمدنيين من رجال ونساء وأطفال. إذن هذا التباين في وجهتي النظر (المغلوطتين) هو ما يجعل من تعريف الإرهاب عملية فاشلة.
الكثير منا ربما قرأ كتاب رينيه جيرار الشهير عن العنف المقدس الذي يؤرخ فيه لتاريخ الإرهاب المبكر منذ الحضارات الوثنية الأسطورية وصولاً إلى مظاهر مشابهة في مجتمعنا الحالي، فقد درج الإنسان على تقديم القرابين من حيوانات وحتى بشر لإرضاء آلهته المتعطشة للدماء، والمفارقة أنهم كانوا يفعلون ذلك استجلاباً لحب آلهتهم وعطفها، فأي إله دموي هذا؟ إنه يذكرنا بـ يهوه الإله التوراتي الذي أمر أتباعه بقتل كل نسمة –وحتى الشيخ والطفل والمرأة- من أهالي كنعان؛ وذلك عند دخولهم أرض الميعاد كما يزعمون. دعونا نعترف بأن الموت سواء بقتل الآخرين (حتى المدنيين) أو بقتل النفس من أجل المبادئ الدينية أو الدنيوية (حتى اليسار يفعل ذلك أحياناً) ما زال سارياً حتى في الألفية الثالثة، ومن يفعل ذلك يعتبرها تضحية وجهاداً أكبر ينال بعده الجنة أو يشبع حاجاته المعنوية، إن لم يكن يؤمن بجنة أو بنار. وهنا أود أن أسمي هذا العنف المقدس عند جيرار بالعنف التابوهي؛ لأن كلمة تابو تشمل المقدس والمدنس (المحرم) معاً، وهذا ما ينطبق على هذا العنف أيضاً، فأنا أرى –وأتمنى أن تتفقوا معي- أن قتل الآخرين (الأبرياء) في سبيل الله هو أمر محرم دينا وعقلا.
ولكن لنسأل أنفسنا لماذا لم تبزغ عقدة الانتحاري - كما أسميها على المستوى النفسي- من قبل عقود أو قرون خلت؟ في رأيي أن للأمر علاقة باللاوعي الفردي والجمعي للشعوب العربية والإسلامية؛ فالمواطن العربي أو المسلم يحس في ذات نفسه بالكبت الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أمام الآخر الأجنبي والقوي، سواء كان تركيا من خلال القرون الأربعة المظلمة من حكم العثمانيين، أو غربيا (إنجليزيا وفرنسيا وأمريكيا وخلافه) في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى الآن. إن تفجر عقدة الانتحاري حالياً في السنوات الأخيرة هو تعبير عن مخزون نفسي (فردي وجمعي) تراكم عبر السنين في سنوات القهر والاستعمار، فبلغ ذروته الآن؛ لأن المواطن العربي المسلم ظن أنه بعد نضاله للاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، سيشهد تطوراً نوعياً وتبوءاً لمكان مرموق بين الأمم، لكنه وجد نفسه وعبر عقود ألعوبة في يد بعض أنظمة هزيلة أو عميلة أو منتفعة ساعدت على احتلالنا اقتصادياً من قبل الغرب، بل ما زاد الطين بلة عودة الاحتلال العسكري إلى أفغانستان والعراق والتلويح لغيرها بالأمر ذاته، فكان من الطبيعي في ظل هذه الظروف أن تولد مثل ردة الفعل هذه، والقانون الفيزيائي يقول لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة له في الاتجاه؛ هذه هي الفيزياء السياسية.
يتفق المعتدلون من أصحاب الأديان الثلاثة في العالم أجمع وغيرهم على أن ما يجري من عمليات قتل وإصابة ضد المدنيين هو إرهاب في أي بقعة في العالم، وضد أي جنسية أو طائفة كانت. ولا يجب أن يضعف من عزمنا على مكافحة الإرهاب سيطرة التطرف على عقلية كثير من الناس البسطاء، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، فالفكر المتطرف يجد قواعده غالباً في القاعدة الشعبية التي لم تنل حظها الكافي من الفكر المستنير، ولا يعني هذا أن ننسى أن بعض زعماء المنظمات الإرهابية هم من أغنياء العالم الذين لم يشبع المال ولا العمل السياسي نهمهم فلجأوا إلى وسائل أسرع للشهرة أو تلبستهم حالات مرضية كجنون العظمة، أو تصوروا أنفسهم مخلصين للعالم أو مسيحيين جدد أو مهديين منتظرين. في ما يخص الإسلام، يجد المتطرفون مظلتهم في الحديث الشريف البريء منهم، وهو ما معناه أن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة شبابها وللدين مجده، ولا عاقل يجزم أن ثمة مجدا يكون على أشلاء الأبرياء من المدنيين العزل خاصة النساء والأطفال والشيوخ، وثمة أيضا حديث الفرقة الناجية، فهل تنجو هذه الفرقة بقتل الناس؟ ولا ننسى الدور الذي لعبه قديما ابن تيميه في الترويج للإرهاب والدور الذي لعبه حديثا القرضاوي مفكر الإرهاب بامتياز حين شرعن العمليات الانتحارية وسماها استشهادية، وهنا الربط الخطير المزعوم بين الشهادة والانتحار.
ولكن لا يجب أن ينسينا هذا أن ما تفعله أمريكا - حين تكيل بمعاييرها المزدوجة- يستفز مشاعر المسلمين والعالم الثالث عامة، فما فعلته من تدنيس للقرآن في أفغانستان، وما ارتكبته من أفعال مشينة في سجن أبو غريب، وما ترتكبه يومياً في العراق من تنكيل، وتأييدها الدائم لإسرائيل في غطرستها وإرهابها – يلهب الصدور ضدها ويخلق مناخاً ملائماً للتطرف، حتى إذا جادلت أحد هؤلاء المتطرفين تجده مقتنعاً قناعةً كاملة بأن ما يفعله من قتل للمدنيين صوابا، ما دام الطرف الآخر يقوم بقتل المدنيين، وعبثاً تحاول إقناعه أن الجلاد ليس قدوةً لضحيته، كما ويكون مقتنعاً أنه يقوم بالدفاع عن الدين الإسلامي ضد الكفرة الصليبيين، وهذا طبعاً يغذيه ما يراه من تقرب شارون للمتدينين ومحاولات كثير من قادة الأحزاب في أوروبا والولايات المتحدة كسب أصوات المتشددين دينياً، والحديث هنا عن الشباب المتدينين المضللين فكرياً، وليس فقط عن المرتزقة وتجار الدم – وهم كثر- في هذه الأحزاب، والذين يقومون بعمليات بيع السلاح والتفجيرات مقابل مبالغ باهظة، ونذكر هنا أيضا ما نراه للأسف السنوات الأخيرة من صعود خطير لليمين السياسي في فقط في المنطقة العربية، بل حتى في الهند الذي يحكمها حزب متطرف، وفي أوروبا حيث صعدت الأحزاب اليمينية الشعبوية والعنصرية في الانتخابات البرلمانية على مستوى الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي.
ولا ننسى أيضاً أن هذه الأحزاب المتطرفة التي تدعي الوطنية والعروبة والإسلام، قامت بعملياتها ضد المدنيين - والتي تصنف إرهابا-، وقدمت خدمات جليلة للفكر المتطرف في الجانب الأمريكي والإسرائيلي، وكلنا يعلم كيف كان خطاب بن لادن قبل أيام من حسم الانتخابات الأمريكية الأخيرة سبباً رئيساً في نجاح بوش، حيث استثار مشاعر الأمريكيين وجعلهم يقتنعون بنظرية الأمن التي يتبناها بوش، وهي نظرية الهجوم خير وسيلة للدفاع، تلك النظرية التي ابتكرها نابليون لكنها لم تحمه من الهزيمة، وتكرر الأمر نفسه مع شارون الذي كان في كل زيارة لبوش في البيت الأبيض يتلقى هدية من حماس أو الجهاد الإسلامي أو غيرها، وهذه الهدية عبارة عن عملية قتل للمدنيين في قلب إسرائيل يتبعها خروج بوش وشارون من البيت الأبيض منددين بالرئيس الراحل عرفات، والسلطة الفلسطينية والفلسطينيين عموماً، ومن ثم يعطي بوش الضوء الأخضر لشارون لاستباحة دم الفلسطينيين باجتياحات جديدة، ثم كانت تفجيرات لندن دفعة قوية لبلير، حيث أكسبته شعبية البريطانيين وتعاطف العالم، ومازال للأسف هذا المسلسل الدموي يتكرر حتى يومنا هذا.
لقد تولد لدي مصطلح عقدة الانتحاري من تأملاتي في العمليات الإرهابية الذي نفذها من ادعوا الإسلام أو في ظاهرة الكاميكاز في اليابان في الحرب العالمية الثانية وفي حادثة المسادا الشهيرة في التمرد اليهودي على الرومان. أعتقد أنها عقدة تحتاج لدراسة نفسية فكرية من متخصصين في علم النفس وأيضا في الفكر الديني، وللعالم دوركهايم كتاب مهم شهير عن الانتحار، ورغم أنه لم يتطرق لعقدة الانتحاري بالمفهوم الديني السياسي والفكري، إلا أنه تماس معها ربما حين تحدث عن نوع سماه الانتحار الفوضوي ذي العلاقة بالاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية، فأنا أرى أن عقدة الانتحاري نابعة أساسا من هذه الاضطرابات نفسها التي لها علاقة بما يمكن أن نسميه الاضطرابات الحضارية. إن عقدة الانتحاري ليست مرتبطة فقط بمفهوم القربان المقدس، بل أيضا بمفهوم الخلاص، حيث يعتبر الانتحاريون الدينيون الموت سبيلا إلى الخلاص من واقع مأزوم فانٍ، ليس فيه خلافة أو إمبراطورية، إلى جنة خالدة مريحة، في حين يتعذب الآخر في جحيم الآخرة مرة أخرى، بعد أن قتلوه في الدنيا بتفجيرهم أنفسهم، في حين رأى البعض أن الدين حامٍ من الانتحار، ويرى دوركهايم أن الدين مقيد للحرية، وبالتالي لا يمكن التعويل عليه كمانع للانتحار حين ينتمي الشخص إلى جماعة دينية. ومن هنا أكمل وأقول ما لم يقله دوركهايم، وهو أنه للأسف قد يصبح الدين أحيانا عند الجاهلين ومفكري وسياسيي الإرهاب دافعا للانتحار، وهنا الطامة الكبرى. لقد سمّى المفكر هوبسباوم القرن العشرين عصر التطرف، فهل سيصبح القرن الحادي والعشرين عصرا للعنصرية واليمين ولإرهاب؟ أعتقد أن تعزيز العلمانية والصوفية والعدالة الاجتماعية هي من أهم العوامل المساعدة لمنع هذا الطوفان الإرهابي الحالي والقادم.