الإسلام الذي نريده اليوم
فئة : مقالات
الإسلام الذي نريده اليوم
مفهوم الإسلام اليوم، من أبرز المفاهيم التي ينبغي تجديد قراءتها، بمدخل حضاري يحضر فيه، الوعي بالخلفيات والحمولة الثقافية التي حملها معه هذا المفهوم عبر الزمن؛ فمن تلك الحمولة ما هو متجاوز ولا ينسجم مع محيطنا الثقافي، ومنها ما هو مفتوح على الإنسان، فالإمكان إعادة قراءته واستثماره في تعزيز التثاقف والحوار بين الثقافات. فضلا عن أن تجديد قراءة هذا المفهوم وغيره، ينبغي لها أن تنطلق في جزء كبير منها، بالقراءة المعرفية من داخل فضاء النص المؤسس الذي تشكلت ونمت في رحمه.
الإسلام والتشكل التاريخي
عندما نتحدث عن الإسلام؛ نجد أنفسنا أمام سؤال مفاده عن أي إسلام نتحدث؟ مع العلم أن الإسلام واحد من جهة نصه التأسيسي (القرآن)، ومتعدد من جهة تجاربه التاريخية والثقافية والاجتماعية، وهذه مسألة بديهية تتعلق بأن الدين واحد والتدين بطبعه متعدد. ومن زاوية أخرى، فالله واحد والطرق إليه تتعدد بتعدد أنفاس الخلائق، كما يقول أهل العرفان والتصوف.
هناك إسلام تشكل في التاريخ، يحضر فيه إرث الدولة الأموية والعباسية، هناك حديث مفاده أن الإسلام بُني على خمس، وهو يستند على حديث الرسول ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» هل هذا صحيح؟ نعم ولا. نعم، من جهة الإسلام الذي تشكل في التاريخ، وعندما نقول التاريخ، فنحن نلامس الثقافة والاجتماع والسياسة...الإسلام في تصور المذاهب الأربعة عند أهل السنة ومذاهب أخرى عند الشيعة؛ وضعوا له قواعد ومساحة، يتبين معها من هو داخلها ومن خارجها، وقد أخرجوا من هذه المساحة من ترك الصلاة، استنادًا على قول الرسول ﷺ أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" السؤال هنا هل القرآن بالفعل وضع للإسلام أركانا؟ هنا سيكون الجواب بلا؛ لأن الإسلام أكبر من أن توضع له أركان، تحوله إلى دائرة مغلقة على من داخلها، ومغلقة في الوقت ذاته من خارجها؛ فاحتفال بعض الأئمة والمصلين من ورائهم، خاصة في الغرب، بدخول بعض الأفراد إلى دائرة الإسلام، وهم يقرؤون الشهادتين بين يدي إمام المسجد، هو احتفال بدخولهم إلى دائرة اسلام تاريخي نحن جزء منه ثقافيًا واجتماعيًا. أما إسلام القرآن، فهو أمر أكبر بكثير من دائرتنا التي نحن بداخلها. كيف ذلك؟
مفردة "الإسلام" في القرآن
لنعد إلى القرآن لنفهم مفردة الإسلام بداخله، فعندما قال الأعراب قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾ (الحجرات) القرآن يتحدث لنا هنا عن تجربة اجتماعية ونفسية في محيطه التاريخي، عندما اندفع الأعراب وقالوا آمنا، فرد القرآن عليهم أن مشكلة الاجتماع لا ترتبط بالإيمان؛ لأنها مسألة تعود إلى حرية الفرد وإرادته قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف/29) القرآن لم يقل من شاء، فليسلم. مشكلة الاجتماع ترتبط بالإسلام بدرجة أولى، وهي مسألة عامة ومفتوحة في وجه جميع الناس؛ أي إرساء قواعد السلم والسلام، والإعراض عن الحرب والعدوان، وعندما يتم إرساء مجتمع السلام، سيأتي الإيمان على قاعدة الحرية، لا الإكراه. فقد رد القرآن على العرب المندفين بإعلان إيمانهم، بقوله: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾؛ بمعنى لا إيمان سابق عن الإسلام. فمن هنا نفهم أن اجتهادات المذاهب الأربعة في حصر الإسلام في أربعة أركان، هو اجتهاد يعود على الإيمان، وليس على الإسلام. والحقيقة أن الإسلام على طول التاريخ قد استوعب مختلف الشعوب والثقافات لتنضوي تحته وفق قاعدة مفادها ما روي عن الرسول ﷺ "المُسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده" الحديث هنا يقول "سَلِمَ المسلمون" يعني أناس آخرون يرفعون من قيمة السلم في المجتمع، وليس المحاربين والمعتدين على الناس، هذا هو السر من أسرار جذب الإسلام لمختلف الشعوب.
الإسلام والإيمان
أما الحديث "بني الإسلام على خمس..." الذي جئنا على ذكره، فهو حديث يقرأ ويدرس ويحفظه ويراعيه الذين انتقلوا من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان، فلن نجد جماعة أو دولة على طول التاريخ الإسلامي، اتخذت إجراء قانونيا مفاده تتبع من يقوم بالأركان الخمسة للإسلام ومن لا يقوم بها، وفي حالة إن وجد ذلك فهو استثناء كما هي داعش ومختلف الجماعات المتشددة. معظم فقهاء الإسلام على وعي وبقناعة مفادها قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(البقرة/286) مفردة الإسلام تشمل كل من دخل في دائرة السلام والإعلاء من قيمة السلم الاجتماعي والنفسي والروحي بشتى الطرائق والمناهج، بمعزل عن طبيعة الإيمان الذي سيكون عليه؛ إيمان يهودي، إيمان مسيحي، إيمان إسلامي إيمان ديانات أخرى. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾ (البقرة). أما عن الاختلاف حول قضايا الإيمان من إيمان إلى آخر، فالحكم فيها موكول إلى الله، صحيح ومما لاشك فيه أن القرآن يدفع في اتجاه الحوار بالبرهان ما بين مختلف دوائر الإيمان، على قاعدة السلم والسلام، فلا إكراه في الإيمان كما بينت سابقا، فالفصل في المختلف حوله حول الإيمان ترجع إلى الله قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)﴾ (الحج). الإيمان في القرآن يقترب بمسلمات قال تعالى: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾ (البقرة)؛ بمعنى هناك مسلمون لكن لا يؤمنون بكل الرسل؛ إذ يتوقف إيمانهم برسل دون أخرى.
الإسلام من قيمة السلام
تدور مفردة "الإسلام" في القرآن، في مدار الرفع من قيمة السلام والأمن والأمان والرحمة؛ فالرسول بعث رحمة للعالمين، وتلتقي مع مدار مفردة الملة "ملة إبراهيم"، قال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الحج/78) فإبراهيم بنى البيت بغاية إقرار قيمة الأمن والأمان بين الناس، قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ (البقرة/125) وبالتالي فمفردة الإسلام تلتقي مرة أخرى مع مدار مفردة الأمن والأمان، وتلتقي مع مفردة العلم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)﴾ (النمل). فغاية الإسلام، إقامة دار السلام، ففي حضنها يتحقق التعارف، والتقوى، والتعاون والعدل والبر والرحمة، فعندما نقرأ في القرآن: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران/19) ونقرأ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾ (آل عمران) لا يمكن عزلها عن قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾ (البقرة). الإسلام يقترن باسم من أسماء الله الحسنى "السلام" قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة) قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)﴾ (يونس). يلتقي مدار مفردة الإسلام مع مفردة الإيمان، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾ (الحجرات) الإيمان لا تقوم له قائمة إلا في سياق السلام، لماذا؟ لأن دار السلام -الإسلام- تضم المؤمنين والكافرين (أي التعددية الدينية، فلا إكراه في الدين)، وهي حريصة على إقامة العدل والحد من الظلم والعدوان، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة) وفي هذا المدار الواسع لمفردة الإسلام، يتضح أن مدار مفردة القتال مدار يهيمن عليه مدار مفردة السلام؛ لأن القتال في القرآن قتال بهدف الدفاع.
نحن أمام موضوعات مترابطة، ويتضح بعد التحليل والربط والجمع بين مختلف القضايا الموضوعات من وراء مختلف المفردات المشتبكة المعنى فيما بينها، أن قوله تعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران) يأخذ مصداقيته من حرية الاعتقاد والوفاء بالعهود والحرص على حفظ الأمن والأمان والسلم والسلام بين الناس.