الإسلام والإرهاب: حقيقة لغويّة لا واقعة موضوعيّة
فئة : مقالات
الإسلام والإرهاب: حقيقة لغويّة لا واقعة موضوعيّة([1])
ليس من السهل في السياق المتشظّي للمعرفة المعاصرة، وقد فكّكتها العلوم الإنسانيّة بين شعبها المتواجهة المختلفة، وأوقعتها - جرّاء تعلّقها بمحاصرة ملكة الحكم - في نسبيّة شاملة كنوع من الرّيبيّة المعمّمة، الحديث في الموضوع المتداول راهناً حول علاقة الإسلام بالإرهاب. فالباحث في هذا الموضوع، تواجهه أسئلة كثيرة حول القرار المفهوميّ لهذه التعبيرة، المختزل في التجريد اللّغوي الذي يسمّيها تحت تركيب العطف، لكلّ الدلالات الاجتماعيّة، والنفسيّة، والذهنيّة الممكنة لها أمام ملكة الحكم. ثمّة في هذه التركيبة من التعقيد والتراكب، بقدر المخاوف التي يسبّبها الخوض في ما تحيل عليه بحكم العادة من موضوع. ما حقيقة تلك الواو الواصلة بين مستويي النظر: الإسلام والإرهاب؟ فعلى كون الواو عند اللّغويين نصف حركة وأداة عطف أو استئناف، تؤسّس في هذه الحالة علاقة واصلة بين الإسلام والإرهاب حيناً، وفاصلة بينهما حيناً آخر، فإنّ التركيبة التي تنشئها تخضع لكلّ الاحتمالات التأويليّة: كيف يمكن للباحث أن يفهم هذه المقولة، وهي تركيبة لغويّة؟ ثمّة هنا حصاد كلّ سنين البحث في الإنسانيّات التي تركّزت في النهاية في فلسفة اللّغة، ينزل بثقله على النظر الفاحص لهذه المقولة المجرّدة للواقع أو المؤمثلة له، فقد مضى زمن طويل منذ اكتشاف العلاقة المركّبة بين اللغة والمنطق والواقع، جدلاً، وتأثّراً، وتأثيراً، منتجاً للفهم الإنسانيّ، ولمعنى الوجود عامّة. فهل نخضع هذه التركيبة للمنطق الذي يجعل اللغة تعبيراً عمّا يتصوّر حول الواقع، بصرف النظر عمّا يوجد فيه فعليّاً؟ منذ محاورات أفلاطون وصولاً إلى فلسفة "غرايس"، لم تنفكّ فلسفة اللغة عن تأكيد التخارج بين الواقع والأفكار. دلالة الكلمات بحسب هذا الفهم، ليست الدلالة الاتفاقيّة، إنّما هي تعميمات ذاتيّة بالمنطق الفرويدي، تصف الثوابت النفسيّة، ممّا يجعل معنى الكلمات ما يسنده لها المتكلّم في سياق ما. فهو معنى مرتبط بخصائص الأفكار، وبمقاصدنا المضمرة في كلّ تعامل مع الواقع، أم هل نخضعها لتحليلات "أوستين" الذي يرجع معنى الملفوظ وصدقيّته إلى الوقائع الخارجيّة، أم إلى تحليلات "هيلاري بوتنام" (و1926) الذي يعتبر المعنى منتجاً اجتماعيّاً؟ أم إلى تحليلات "فوكو" الأركيولوجيّة حول تكوّن الخطابات الإنسانيّة في مواضيع شتّى، و"ميكروفيزياء" السلطة المهيكلة للعالم، في مستوى الأفراد والمؤسّسات، وفي مستوى اللّغة أساساً، وبواسطتها؟
مقولة "الإسلام والإرهاب" صناعة من الماضي، تغزو بواسطة اللّغة مجال حاضرنا، وتحرص على إرباك الأزمنة فينا
في كتابه "الكلمات والأشياء" يصف "فوكو" هذه الحقيقة الإنسانيّة للواقعة اللّغويّة، مؤدّى ما يقوله، إنّنا لا ننقطع عن قول ما نرى، ولكنّ ما نرى لا يمكن أن يسكن في ما نقول، كما أنّنا لا ننقطع عن محاولة تجسيد ما نحن بصدد قوله وتحويله من فكرة إلى أمر مرئيّ، مستخدمين في ذلك الصور والمجازات، ولكنّ المجال الذي تشعّ فيه هذه المجازات والصور ليس ما تراه العيون، إنّما ما يحدّده النحو. والاسم في هذه اللّعبة ليس غير شيء مصطنع، يسمح بالمرور من الفضاء الذي نتحدّث فيه إلى الفضاء الذي ننظر فيه ونشاهد الأشياء، فيدمج بينهما كما لو كانا متشابهين.
في جميع الحالات، فإنّ هذه المقاربات تؤكّد الأدلجة الثاوية في كلّ الفعل الإنساني، متجليّة في اللّغة، ومنجزة بها. هذا ما لخّصه "أرنست كاسيرر" في مقاله الفارق "اللّغة وصناعة العالم والأشياء"؛ وهو ما دفع أيضاً "دوتراسي" (دستوت) إلى جعل دراسة العلامات وانتظامها النحويّ في اللّغة، جزءاً من دراسته أو علمه للأفكار تحت مسمّى الأيديولوجيا، في كتابه المعروف حول الأيديولوجيا.
ويبدو أنّه لم يعد مجال للفكاك من هذه الاعتبارات في فهم كلّ تحديد للواقع ينجز بواسطة اللّغة، فإن لم يكن الأمر متعلّقاً بهذه الاستنتاجات الصادرة من فلسفة اللّغة، فإنّه نابع من نظريّة المعرفة المعاصرة عامّة، فهذه أيضاً تصرّ على أنّ كلّ معرفة بالواقع تحدّده عناصر كثيرة متّصلة بالإنسان التاريخي في تعدّد مستوياته البيولوجيّة، والنفسيّة، والاجتماعيّة والتاريخيّة، كلّها عند "ريكور" عناصر مكوّنة للذاكرة المكبوتة، تفصح عن نفسها في اللّغة. مضى زمن بعيد أيضاً منذ قال "باشلار" واصفاً حقيقة العلم الذي نبنيه بالأشياء، إنّه طالما تعلّق بتكوين عقل يوافق تركيبة العالم، وهو الآن يقلب هذا الترتيب، فيتعلّق بتكوين عالم يوافق صورة العقل. يعني ذلك باستمرار أنّ الحقيقة العلميّة تبقى بالضرورة تعبويّة، تتعلّق بدعم أطروحة مسبّقة أو دحضها؛ فهي تعيد تركيب الواقع بعد أن تكون قد أعادت رسم خطاطته. من هنا لا يمكن للموضوعيّة أن تنفصل عن صدقيّتها الاجتماعيّة، وعن الخصائص الاجتماعيّة للحجّة، فأمام تعقّد الواقع لن تكون لنظرتنا الذاتيّة أيّة قيمة، والمطلوب أن نصنع توافقاً بين العقول حول تفسير معيّن، ومن هنا أيضاً تصبح الموضوعيّة في النهاية عملاً بيداغوجيّاً صعباً.
من وجهة نظر خلاقيّة (أكسيولوجيّة)، كيف يمكن أن نتحدّث عن "الإسلام والإرهاب"، في عالم تختلط فيه القيم في شبه عدميّة معمّمة، تتجاوز فيها كلّ قيمة مجال عملها، لتدخل مع غيرها في خليط تذوب فيه كلّ المعايير والمقاييس، وذلك بسبب افتقاد هذه القيم للدقّة والتميّز والوضوح؟ فهكذا ينظر للإرهاب بالمعنى السياسي قوّة ونقيضاً للقوّة في الآن نفسه، كما ينظر إلى ضدّه بالمعنى المزدوج نفسه. ألم يقل "كانط" في هذا، إنّ كلّ واحد منّا يسمّي ممتعاً ما يطربه، وجميلاً ما يعجبه، وجيّداً ما يجده كذلك في تقديره، ويؤيّده، ويسند له قيمة موضوعيّة.
لا يمكن للموضوعيّة أن تنفصل عن صدقيّتها الاجتماعيّة، وعن الخصائص الاجتماعيّة للحجّة، فأمام تعقّد الواقع لن تكون لنظرتنا الذاتيّة أيّة قيمة
مذ سمّى أرسطو الخير نشاطاً للنفس تطابق فيه الفضيلة، والشرّ عائقاً عن اكتمال الإنسان، مازلنا نتحدّث كما تحدّث أسلافنا عن الخير والشر، دون تحديدات موضوعيّة، ودون بيداغوجيا حجاجيّة، تمنح حديثنا مصداقيّته الاجتماعيّة والإنسانيّة.
يقول دوهام (Duhem): "إنّ أحداث الحاضر تصنع أو توصف أو يخبر عنها بنظريّات لغويّة صنعت في الماضي، فلا يمكن فهم الحاضر ما لم نفهم نظريّاتنا اللّغويّة التي أنتجته في ماضينا"، ويضيف أوزوالد دوكروDucrot) ) إنّ ما نحيل عليه من أحداث باللّغة ليس أحداثنا التي نعيشها في حاضرنا، إنّما ما تصفه الشبكة اللّغويّة التي ورثناها، وهي ليست ملكنا، وملك زماننا، فهي صادرة عن تقليد طويل أريد التخلّص منه، دون أن يفلح في ذلك، فتلك حدود الذاكرة التي تريد لحظتها ولكنّها تعجز عن النسيان، وهي تحتفظ في اللّغة بكلّ التقليد الأخلاقي المزروع فيها بالضرورة، في ثنايا تجريديّتها المذوّبة للأشياء في الأفكار.
مقولة "الإسلام والإرهاب" من هذه الزاوية صناعة من الماضي، تغزو بواسطة اللّغة مجال حاضرنا، وتحرص على إرباك الأزمنة فينا. ففي عام 1983، تحدّث الرئيس الأمريكي رونالد ريغن عن العالم الشيوعي بوصفه إمبراطوريّة الشرّ التي يتعيّن التصدّي لها، فكلّ الوسائل متاحة للتخلّص من هذا الشيطان الماكر، وفي عام 2005 أعاد جورج بوش الابن التعريف، فغيّر مجال صلاحيّته، بأن غيّر محورة سابقه. في كلا الحالتين، الشرّ يمثّله العالم المختلف أيديولوجيّا، عن فلسفة الرأسماليّة في طورها العولميّ الإمبريالي، وفيهما أيضاً توصف الولايات المتّحدة بأنّها قائدة قوى الخير التي تحتفظ بحقّ التدخّل الشرعيّ لإسكات كلّ معارضة. وفي جميع الأحوال، فإنّ مقولة الإرهاب والإسلام، تجد مصدرها في تلك التقسيمة.
بذلك المنطق الحاوي لتلك التقسيمة، عمّ خطاب كوني برّر الهيمنة، وقتل ملايين المدنيين من العراقيّين والأفغان والفلسطينيين، وترك المجال فسيحاً في الشرق الأوسط للصهيونيّة، كي تتعدّى على كلّ المواثيق الدوليّة، وصنع غموضاً انتهازيّاً، حوّل التنوّع الثقافي إلى حوار هوويّ قائم على التمييز العنصريّ، كما صيّر التعدّد تعصّباً عرقيّاً قوميّاً، والديمقراطيّة وحقوق الإنسان حرباً على الإنسان وسيادته في كلّ بقاع العالم. هو منطق بالمحصّلة سمّى الظاهرة، ورسّمها باللّغة موصولة بالإسلام، تماماً كما رسّمها منفصلة عنه عند معتنقيه، وأسند للتسمية من المعنى ما به تنفلت ممارساته من حدودها وصرامتها التجريديّة. فإذا عدنا إلى "لوك" في محاولته حول الفهم الإنسانيّ، تذكّرنا تقريره أنّ أغلب الكلمات المكوّنة للّغات الإنسانيّة، تدلّ على مدلولات عامّة مشتركة بين النّاس، ولكن تقريره أيضاً أنّنا لا نقبل أن نمنح للأفكار ما يمنحه لها الآخرون من تسميات، لأنّها تجسّد أفكارهم، إنّما نقبل تسمياتهم، لأنّنا نملؤها بأفكارنا الخاصّة. وإذا عدنا من أجل توضيح ذلك إلى "أوستن"، و"باشلار"، و"فوكو"، والنظريّة الخلاقيّة، فهل يكفي وجود القتل، على فظاعته الشكليّة والرمزيّة، من قبل المتطرّفين الإسلاميين للقرن بين الإسلام والإرهاب. لو حاورنا بمنطق بيداغوجيا الحجّة، قلنا إنّ في الإسلام كما في الأديان الأخرى، سماويّة كانت أو أرضيّة، بل في الأديان التوحيديّة بالذات، ما يبيح القتل، كما يوجد ما يمنعه. كما أنّه عند المسلمين، تماماً كما عند غيرهم، سلّم أخلاقيّ يرفض القتل كما يبرّره. تبقى المسألة في النهاية كما في خصوص اللغة والواقع والقيم، مسألة تأويل. ليس الإسلام في هذا الشأن، مختلفاً عن بقيّة الأديان السماويّة والدنيويّة، هو يبقى مثلها "أدلوجة"، حسب عبارة العروي، أو فكرة مموّلة لمعنى العالم تعاش على مستوى الوعي، والتمثّل، واللّغة، فتتحمّل بكلّ مكوّنات الحياة في تعقيدها، بل وتساهم في إعادة إنتاجها، في شتّى الاتّجاهات.
كثيراً ما طالعتنا الصحف في العالم، وفي تونس بعد ثورتها المعاصرة بمثل هذه الجمل: "في هبّة جماهيريّة رائعة عبّر الشعب التونسي بكلّ أطيافه عن إدانته للإرهاب". ويهبّ الشعب فعلا ضدّ الإرهاب، ولكن يبدو أنّ هبّته لا توجّه نحو مقصود مشترك بالعبارة، يراها الأكثرون - وهم في الغالب مسلمون - في حادثة قتل الجنود حماة الوطن من قبل مسلمين أيضاً، ولكنّهم متشدّدون في الدين، بينما يمارس آخرون - وهم مسلمون أيضاً - هبّتهم تهليلاً وتكبيراً ومباركة لهذا الحدث الجلل.
إنّ في الإسلام كما في الأديان الأخرى، سماويّة كانت أو أرضيّة، بل في الأديان التوحيديّة بالذات، ما يبيح القتل، كما يوجد ما يمنعه
المؤكّد أنّ وراء هذا الاختلاط في الموقف اشتراكاً في التسمية، ولكن اختلافاً في التعريف، فالعنف المرهب، الذي يصبح شرّاً وخيراً في الآن نفسه، منتج لغوي يعكس ما في العمليّة اللّغويّة وفي الوعي من تركيب. حينئذ، إزاء كلّ التركيبات اللّغويّة التي تسمّي الواقع، وترنو إلى حبسه في تجريداتها، يتوجّب الاحتجاج دوماً بأنّ اللّغة كالإنسان، وقيمه، تبقى وجهة نظر حاملة في تكوينها لكلّ ما يشكّل ذاتيّة الإنسان.
عبارة "الإسلام والإرهاب"، فيها من البعد عن حقيقة الموجود ما في المسافة بين العلامة والمدلول، وفيها من القدرة على هيكلة الواقع، ومحاصرته، وتوجيهه، ما للسلطة من كفاءة للتغلغل في أدقّ ثناياه، بل فيها من القدرة على خلقه وتشكيله، ما في الوعي من قدرة على الخيال الخلاّق.
فإن لم نبحث من خلال اللّغة عن مصادر كلّ التسميات التي نسندها للأشياء والعالم من حولنا، ونكتشف طبقة المعايير والإكراهات، والرغبات الكامنة فيها، وأصلها المخادع في الوعي، وفي الموضوع، وإن لم نسع من خلالها لإقامة علاقة جديدة بأنفسنا وبالأشياء، نتوقّى فيها أخطار التسمية، ستبقى اللّغة حجاباً يعزلنا عن أنفسنا، فيعزلنا عن الواقع، ويحرّف وعينا به، ستبقى التركيبة "إسلام وإرهاب" شعاراً على عجز وعينا عن إدراك التركيب الذي فينا وفي العالم.
يقول يوسف صدّيق في كتابه "من هم البرابرة فعلاً؟" (بالفرنسيّة، 2005): "حلمت أن يأتي اليوم الذي تفكّ فيه عنّا حصارها المؤسّسات، جميع مؤسّسات السلطة والمعرفة والحراسة.. الواقفة أمام المعابد، وأن تثق فينا عندما نقول لها إنّ المقدّس يصنع شرفنا أيضاً، وإنّ الفكر الذي يدعونه مدنّساً يعرف أن يتفادى أن يكون كذلك". يعني هذا الكلام بالنظر إلى المقولة المحرّفة "الإسلام والإرهاب" أنّ إخراج الإسلام من قيدها، لن يجري ما لم نخرجه من سجن اللّغة ونعيده مجدّداً إلى رحاب الفكر. ويصلح هذا للناظرين للواو فيها علامة على صلته بالإرهاب، أو للمدافعين عنه نافين عنه هذه الصلة، وهم يتحدّثون عنه باللّغة نفسها منذ مئات السنين. لن يرفع الإسلام فوق الأحكام المسبّقة الثاوية في كلّ أدلجة، ما لم يخلّص من قيود التسمية، وطريق ذلك أن يتحرّر من أسر اللّغة الآسرة للوعي في قوالبها، ويستعيد علاقته بالتفكير الحيّ منتجاً للّغة. وحسب المنطق الموروث منذ أفلاطون، والمتبنّى في تراثنا العربيّ مع التوحيديّ والفارابي بين كثيرين، والقائل بأنّ الفكر ينتج ويتطوّر في الخطاب، فلننتج خطابنا الذي يحرّرنا كما يحرّر الإسلام من سجن اللّغة، ولنمنع اللّغة التي فينا، واللّغة الواردة علينا، من أن تكون العصا التي تعطّل سير عجلة الأفكار، ولنحوّلها إلى المقود الذي يوجّه أفكارنا نحو خلاصها من كلّ اتّباع. لنفعل كما فعل فوكو: أن نتكلّم كما كتب حتّى ننسى ما فينا، وننتج ذواتنا المتجدّدة، بتجدّد تجربتنا اللّغويّة، وأن نمارس من خلال اللّغة حبّ الاطّلاع لا لما تجب معرفته وهضمه، ولا لاكتشاف سبل امتلاك المعنى والسيطرة على الآخر، إنّما لما يمكن أن يخرج منّا من فكر مختلف عمّا عهدنا، وإلى أيّ حدّ يمكن ذلك؟ إنّها محاولة مستمرّة واختبار لا يتوقّف لتحوير ذاتيّ للذات في البحث عن الحقيقة، تتحوّل فيه الذات في كلّ تجربة لغويّة جديدة إلى شخص آخر، تتكوّن له هويّة جديدة مختلفة عن هويّته المدنيّة أو الاجتماعيّة المعهودة أو النمطيّة. هي ممارسة للحريّة من خلال اللّغة، قد تقتضي في الواقع ربّما أن نعي مجدّداً أهميّة الجدل، بصرف النظر عن تصنيفاته المعاصرة إلى حجاجيّ، وخطابي، وسفسطائيّ. فهو الذي تأسّست عليه، وما زالت، منظومات المعرفة، منذ أفلاطون، أو لم يكن الجدل عنده، وعند معاصريه، وعند بناة المعرفة في الوقت الرّاهن مواجهة للأفكار المتوالدة فيما بينها، وصراعاً بين الأنساق الفكريّة والنّظريّة، على تحديد العقل ومنهج اشتغاله، بصوت مسموع. قد يتأتّى ذلك، عندما نعي أهميّة ممارسة داخليّة لخطاب الردود على الردود فينا، بدل أن يصدر في الخارج في مواجهة المغاير عنّا، نجري به ربّما استعادة للّحظة الفكريّة البكر فينا في الملكة المفتوحة على شتّى احتمالات الخلق والإبداع.
[1]- مجلة ذوات / العدد (5)