الإصلاح الدّيني؛ حين يكون مدخلًا للمدّ السلفي، مجلة "المنار" أنموذجًا
فئة : قراءات في كتب
الإصلاح الدّيني؛ حين يكون مدخلًا للمدّ السلفي، مجلة "المنار" أنموذجًا
قراءة في كتاب "جذور الأصوليّة الإسلاميّة في مصر المعاصرة..." لأحمد صلاح الملّا
على مدار أكثر من قرن من تردّد دعوات الإصلاح الدّيني الحديث في مصر، وما أثارته هذه الدعوات من اشتباكات فكرية، وتأثيرات سياسية، وتغيّرات في بنية التدين الفردي والمجتمعي، تظل المرحلة الأولى، والتي بدأت فيها هذه الدعوات، مثار بحثٍ مستمر. فعلى الرغم من كثرة المكتوب حول رموز هذه الفترة، وتأثيرهم وإسهاماتهم، تظل هناك جوانب قصور في هذه المقاربات، فإن استطاعت أن تقدم جديدًا، تظل هناك مساحات أخرى خافية قابلة للبحث والتفكير. ورغم تباعد السنون بين زماننا وزمان الصحوة الإسلامية الأولى، ودعوات التجديد/الإصلاح الديني، إلا أنّ عوامل الشبه بين الفترتين لا تزال كثيرة، وتدفعنا لاستدعاء هذه اللحظة لإعادة التدبر، خاصة، مع عوامل التشابه، سواء في تعاظم المد السلفي، أو في استمرار جدلية المواجهة مع الغرب، أو في الدعوات لضرورة التجديد الديني مع التحولات متعددة المستويات؛ سياسيًّا، واجتماعيًّا، وفكريًّا.
لذا، تأتي أهمية كتاب: "جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة: رشيد رضا ومجلة المنار"، لمؤلفه: أحمد صلاح الملا، والصادر في 2015م، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في 382 صفحة. لأمرين رئيسين؛ الأوّل: مزيد التعمق في أزمات الواقع وتحوّلاته، من خلال قراءة لحظات التكوين الأولى، خاصة، وأن المحصّلة التاريخية لدعوات الإصلاح الدينية، كانت مدخلًا لتنشيط المزاج السلفي، في ظل توافر العديد من العوامل المساعدة لهذا التحول، وهو ما نُعايشه حاليًّا. والثاني: أنه سعى إلى تجاوز جوانب القصور لدى السابقين، ممّن كتب عن التجربة، سواء بصورة وصفية تقليدية، تفتقد النقد والتحليل، وتتجاهل الكثير من القضايا الهامة الواردة في المجلة. أو غياب سياق فكري واضح، مما جعلها سيرة مُصمتة لرشيد رضا، دون مناقشة أفكاره المختلفة.
النقطة المركزية التي يتمحور حولها الكتاب: هي تفكيك أطروحات (مجلة المنار)، من خلال تحليل نصوصها، وربطها بالواقع الذي أنتجها، والعمل على قراءة التأثير المتبادل لها مع الواقع من عدمه. فمن خلال هذه المركزية، يقرأ المُؤلف مسارات دعوات الإصلاح الديني، وسياقات التفاعل التي حتّمت ظهور (المنار)، كذلك قراءة أفكارها ومشروعها الإسلامي عبر أربعة عقود صدرت فيها المجلة، والتي تمثل قنطرة الانتقال بين الإصلاح الإسلامي "التوفيقي" السابق عليها، وبين تيارات الإسلام الحركي اللّاحق لها.
سؤال التحديث: أزمات الفكر أم الدين؟
منذ الحملة الفرنسية على مصر والشام، وانهيار تجربة محمد علي، ظهرت حالة الجمود التي وصل إليها العالم الإسلامي جليّةً (اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا) بصورة أعجزته عن التكيف مع معطيات الحياة في العالم الحديث، نتيجة الانقطاع الحضاري الطويل الذي فرضته الدولة العثمانية، ممّا أدى إلى فرض تحديات ثقافية على العقل الإسلامي، دفعته للتساؤُل حول أسباب فشل المنظومة الثقافية الإسلامية السائدة في مواجهة الغول الغربي الزاحف، وهذا يدفع للتساؤل حول طبيعة استجابة الخلافة العثمانية لتلك المواجهة؟.
يشير الكتاب إلى مرور هذه الاستجابة بمرحلتين؛ الأولى: من الشباب أبناء النخبة العثمانية الحديثة المتعلّمة تعليمًا أوروبيًّا عصريًّا؛ حيث سادت ذهنيّة تعتمد على التواؤُم مع معطيات الحضارة الغربية الحديثة، كسبيل للتعاون مع الخطر الغربي، وباتقاء هذا الخطر، تبني الدولة حركة إصلاحية شاملة على النمط الغربي. ومن ذلك، الإصلاحات العسكرية للسلطان سليم الثالث، وحقبة التنظيمات التي بدأها السلطان محمود الثاني، وما تلاها من محاولات التحديث، السياسي والدستوري، مع مدحت باشا، والتي كانت محاولة لتطوير روح الدولة العثمانية، ونظمها باتجاه مواطنة حديثة غربية الطابع، تقوم على الولاء العثماني المشترك، والمساواة أمام القانون.
لكن مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، تأتي المرحلة الثانية؛ حيث ثبت لقطاعات عديدة من المسلمين أنّ هذه الطريقة كانت لاسترضاء الغرب بقبول أنموذجه الحضاري، فبدأ يتكوّن لدى الرأي العام شعور بديل تجاه الغرب، أكثر تصلّبًا وميلاً إلى المواجهة، وتشبثًا بالعناصر الثابتة والعميقة للهوية الإسلامية؛ حيث تجلى ذلك في نشوء حركات التصوف العسكري؛ كالوهابية، والسنوسية، والمهدية، والتي تميزت بحالة من الاستغناء الكامل عن أي شيء من الغرب. وكان التجلي داخل الدولة العثمانية في سياسة الجامعة الإٍسلامية، التي ارتبطت باسم السلطان عبد الحميد الثاني، فلم يكن التوغل الغربي في عالم الإسلام، في تجليه الإمبريالي، سوى اختبارًا جوهريًّا لصلاحية الإسلام، كصيغة حضارية حاكمة للبلاد الخاضعة له دينيًا، وكاشفًا للمسلمين مدى تأخّرهم الحضاري، قياسًا على (آخر) موجود بالفعل. وللحظة، بدا أنّ جوهر هذا التأخر، ربما كان الإسلام ذاته، أساس صيغتهم الحضارية، وكانت هذه الفرضية مآساوية إلى حد كبير؛ لذا كان ظهور الإصلاح الإسلامي الحديث، يمثله (الأفغاني) و(محمد عبده) بشكل أساسي، كردّ فعل على التحدّي الغربي، ومحاولة لتفادي الاعتراف الكامل بتفوّق الغرب.
يمكن فهم طبيعة هذا الإصلاح، وموقفه من الغرب، عبر مستويين؛ الأول: بناء المنظومة الداخلية لمقولات الإصلاح، ومواءمتها مع العالم الحديث؛ ففي محاولة بناء نسق إسلامي حديث، كان المصلح الإسلامي يواجه مشكلة جوهرية؛ إذ إنّ تأخر العالم الإسلامي، قياسًا على الغرب، يتناقض مع وعد إلهي قاطع للمسلمين بالنصر والغلبة. فهل تخلّى الله عن المسلمين، وخذلهم وعده الإلهي؟ كانت نقطة انطلاق الإصلاح الإسلامي الحديث، من التسليم بتخلف الواقع الإسلامي على كافة المستويات، مع رفض الارتباط بالمقولة الغربية القائلة: (إنّ هذا التخلف مرتبط جوهريًّا بالإٍسلام)، ومشدّدًا على الفصل التام بين الإسلام الصحيح، ومآلات المسلمين حاليًّا. مع التأكيد على أن الوعد الإلهي، لم يخذل المسلمين؛ بل هم من خذلوه، وانصرفوا عنه، فاستحقوا غضب الله. بعد ذلك، يُطالب المُصلح المسلمين بضرورة العودة إلى الدين الصحيح والأصلي. فالتقليد، تحديدًا، هو: العدوّ الأساسي في خطاب الإصلاح الديني، وهو ما دفع الأفغاني ومحمد عبده، إلى ضرورة الاجتهاد في فهم الدين بالعودة إلى مصادره الأساسية، الكتاب والسنّة، وتجاوز البدع والحواشي والشروحات، وإعطاء قدر من الحرية للعقل في فهم الدين. ومن هنا، شدّدا على محورية العقل في الإيمان الإسلامي.
أما المستوى الثاني: فيتمثل في مقاومة الوجود الغربي في العالم الإسلامي، ويشير الكتاب إلى اختلاف تفاعل الأفغاني وعبده في كيفية هذه المقاومة، نتيجة تجارب سابقة لكليهما. تبنّى الأفغاني موقفًا سلبيًّا من الحكّام المسلمين، الذين سَهّلوا احتلال بلدانهم، وسلّموها للأجانب؛ لذا كان لنضاله طابع ثوريّ حركيّ يميل إلى التغيير السريع، بقبول فكرة قلب النظم القائم، وكان نضاله ضد السيطرة الأوروبية، قائم في الأساس، تجاه إنجلترا؛ نتيجة تجربته السابقة في الهند بدايةً، ومصر فيما بعد؛ حيث رآها الطرف الأقوى في معادلة الإمبريالية الأوروبية، وهي الأخطر على الإسلام وبلاده. أيضًا، سعى نحو تحقيق أفضل حشد ممكن من العالم الإسلامي لمواجهة الغرب؛ ففي حين كان يرفض الوطنية الحديثة، القائمة على أساس لا دينيّ، ويُشدّد على الرابطة الدينية، إلاّ أنه وجد في هذا المبدأ، في بعض الأحيان، أداة حشدٍ فدعّمها.
في حين كان عبده أقل حماسة للعمل السياسي، بحكم نشأته في بيئة مصريّة فلاحيّة وعازفة، تقليديًّا، عن السياسية؛ لذا كان اهتمامه الأوّل بتكوين روح الأمّة وتربيتها، بطرق أخرى غير العمل السياسي المباشر. وبعد مرحلته الثورية بدعمه للثورة العربية، وفشلها فيما بعد، يئس تمامًا من العمل السياسي المباشر، كوسيلة لمواجهة النفوذ الغربي، لتفتر علاقته بالأفغاني، وتنتهي عمليًّا؛ حيث أصبح هدف محمد عبده، ترميم البناء الفكري، ليتلاءم مع قيم العصر الحديث. وبعد سنوات المنفى، تعايش مع الاحتلال الإنجليزي كأمر واقع، وكاستعمار نزيه، وبدأ مشروعه التدريجي البطيء، عبر تطوير التعليم في الأزهر وغيره من مؤسسات التربية والتعليم، فما دامت مصر غير قادرة على طرد الإنجليز، فلْتحاولْ الاستفادة من وجودهم.
وبعد أن كان الإصلاح الديني، قد ظهر كصيغة للمقاومة الحضارية ضد الغرب، أصبح حليفًا موضوعيًّا للمُصلح الأوروبي؛ فـ (كرومر) الذي أيّد توجّهات عبده، وكان يعتقد بقدرته على أن يجعل الإسلام أقلّ امتناعًا، وأكثر قابليّة لامتصاص المؤثّرات الغربية، بحيث يمكنه أن يخلق بديلًا مُناسبًا للمسلمين التقليديّين الأكثر عداءً للوجود البريطاني، ورغم تعيينه له مُفتيًا لمصر، إلا أنه كان يراه لا أدريًا مشكوكًا في عقديته!.
"أزمة دعوة الإصلاح في فكر الثلاثة الكبار"
يعكس موقع العقل والاجتهاد والمصلحة في ضوء اجتهادات رموز الإصلاح الديني، أزمة دعوة الإصلاح، سواء في زمن الروّاد الأوائل، أو في الأزمان التالية لهم؛ بل يمثّل عاملًا كبيرًا، نحو نكوص هذه الدعوات، وعدم تحقيقها للكثير من المستهدَف منها، بالنظر إلى موقع الاجتهاد في فكر الأفغاني وعبده. فرغم أنه رفع، نظريًّا، من سلطة العقل إلى حدّ تأويل النص، ليتّفق معها في حال التعارض؛ فقد جرى دومًا إفراغ هذه السُلطة من محتواها، وتحديد دور العقل والاجتهاد داخل أطر صارمة. فلم يُعطيا العقل أيّة فعالية حُرّة، خارج أصول الشرع المتعارف عليها؛ حيث ارتكزا على التسليم، الكامل والمسبق، بالمطلق الديني. وربما كان هذا هو السبب في أنّ مطلبهما دومًا من العقل: هو إثبات صحّة العقيدة، وليس مناقشة أسس العقيدة.
فالاجتهاد، حسب الأفغاني، يتحقّق بالاهتداء بالقرآن وصحيح الحديث، ورغم تأكيده على مراعاة حاجات الزمان وأحكامه، إلاّ أنّ الأولوية لديه ظلت للبنى النصية، معتبرًا الشرط الأساسي في المجتهد: هو أن يكون عارفًا بسيرة السلف، وطرق الإجماع. وبالمقابل، ضيّق محمد عبده كثيرًا من حدود سلطة النصوص، ولم يُقيّد العقل بإجماع السلف الصالح، وتبنّى، في سياقات أخرى، موقفًا متحفّظًا تجاه العقل، ورافضًا الغلوّ والشطط في تقدير سلطته في فهم الدين، استنادًا على أنّ العقل لا يستطيع وحده إدراك الله إدراكًا صحيحًا، وأنّ هناك مسائل كونية، وأخلاقية، ومبادئ اجتماعية عامة، يُحدّدها الوحي والشرع وحدهما، مستهدفَيْن من ذلك، حماية التصورات الإسلامية، وإعادة تأسيسها كي تستطيع الاستجابة للتحدّي الغربي، وهذه الاستجابة تتم بصورة دفاعية، دون تعريض هذه التصورات لنقد داخلي قائم على الشك المنظم. فمثلًا؛ لم نر عندهما أيّة محاولة جدية لدراسة الواقع التاريخي الذي أحاط بالخلفاء الراشدين، الذين دعوا إلى الاهتداء بهم.
وحسب الكتاب، تحدّد التكوين الديني لـ (رضا) بناءً على المفاهيم التي صاغها المثلث التاريخي للسنية المتشددة؛ الغزالي، والأشعري، وابن تيمية. فقد جمع بينهم، على ما بينهم من اختلافات، موقفهم الحذر، إلى درجة العداء أحيانًا، تجاه العقل وقدرته على إنجاز فهم مستقل للدين ونصوصه. فـالغزالي: هو أهم القائلين بالقاعدة الفقهية المعروفة: "لا اجتهاد فيما فيه نصّ". ومذهب الأشعري، في جوهره، معارض لكلّ نزعة عقلية؛ حيث استخدم أساليب الجدل العقلي الاعتزالي، ليُناوئ بها الجوهر العقلاني لأفكار المعتزلة أنفسهم. أمّا ابن تيمية: فوضع العقل في مرتبة تالية للنقل، ورآه أداة خطرة، قد تقود إلى الضلال عن طريق الهداية. لذا، كانت البيئة ترى في العقل عنصرًا ينبغي تحجيم دوره، والحذر تجاهه، لا باعتباره أداة للتقدم، ولكن وجود (رضا) في المرحلة الأولى من (المنار)، ضمن سياق حركة الإصلاح الإسلامي الحديث، والتي احتكّت بالغرب، وأدركت جوانب تفوّقها المُؤسسة على مجموعة من القيم العقلانية، والحضور الطاغي لـعبده ذو الرؤية المرنة، نسبيًّا، تجاه العقل. مثّل عاملًا جيّدًا إلى حدّ كبير. كما أن تأثيرات تربيته المحافظة، أكسبته نفسًا توفيقيًّا للنظر بشكل إيجابي إلى العقل ودوره، وتحت تأثير عبده جعل (رضا) من العقل مرجعًا للدين، مُشيرًا إلى أنه: إذا ثبت دليل عقلي قطعي، وجاء ظاهر الشرع بما يخالفه؛ فالعمل بالدليل العقلي، واجب مُتعيّن، على أن يتمّ تأويل النقول التي تخالفه تبعًا له.
ولكن بوفاة عبده، بدأ (رضا) باستعادة العناصر التقليدية المحافظة؛ حيث ظهرت على صفحات (المنار) كتابات أخرى بقلم (رضا) وغيره، مُناوئة للعقل، تميل إلى الحدّ من دوره في فهم الدين، مؤكدةً على عدم اختصاصه بمناقشة أصول الدين وأحكامه. ورغم حصره لدور العقل في إقامة دلائل صحّة العقائد، إلاّ أنّ (رضا/المنار)، رفض، نظريًّا، إغلاق باب الاجتهاد في الدين، باعتباره مفسدة كبرى لحقت بالإسلام، فلا اجتهاد فيما فيه نصّ من الكتاب والسُنّة. ليعيد تثبيت مفهوم الإجماع، كسلطة مقيّدة للاجتهاد، تكاد تتساوى مع سلطة القرآن والسُنّة؛ بل وسَّع منها، مُؤكّدًا على واجب الاتباع حتى في الفروع.
وعند النظر في مفهوم "السلف الصالح"، مع استخدامه من قبل عبده، لإنجاز مواءمة بين الإسلام والعالم الحديث، يتبيّن لنا، أنّه اكتسب لدى (رضا) معنى تكفيريًّا جذريًّا، يرتبط مباشرة بابن تيمية؛ حيث يعتبر فيه الرجلُ أن المختلفينَ مع توجهاته السلفية عصاةً ومبتدعينَ، كما أفسح المجال للاتجاهات النقلية الاتباعية، حيث أصبحت أهم ميزة لديه عند نظرته إلى الوهابيين، مثلًا، هي: أنهم أشد شعوب المسلمين في هذا العصر اتباعًا.
وفي حين تبنّى الإصلاح الإسلامي الحديث (المصلحة)، والتي يُعرّفها الفقهاء، على أنّها: (جلب منفعة، أو دفع مضرة)، وربطوها، دائمًا، بالمحافظة على المقاصد العامة للشريعة، كأحد مرتكزاته، والتي تمثل وسيلة مقبولة لممارسة قدر من المرونة في الأحكام، كسبيل لتحرير التشريع، على مستوى المعاملات، من حرفية النصوص، وكمحاولة لإخضاع هذه النصوص، ذاتها، لتبدّلات أحوال الزمان والمكان، وهو ما ظهر بوضوح عند محمد عبده، الذي جعل من المصلحة قاعدة أساسية في تقنين المعاملات، خاصة في فتاواه، حين كان مفتيًا، ويستمر هذا الأمر، بالتأكيد، فيما بعد؛ حيث ارتبط موقف (المنار)، من هذا المبدأ، صعودًا وهبوطًا، بموقف (رضا) من العقل والاجتهاد؛ فهو، وإن أعلى من مبدأ المصلحة، نظريًّا، إلا أنه، عمليًّا، تمّ التطبيق دومًا في نطاق ضيّق.
"مآلات أفكار الإصلاح في ضوء ما قدّمته مجلة المنار"
تظل تجربة مجلة المنار، عاملًا مهمًّا، يعكس سياقها الكثير من أسباب نكوص دعوة الإصلاح الديني؛ حيث يؤكّد الكاتب أهمية السياقات (الاجتماعية، والسياسية، والثقافية) المشكّلة لهذا التوجه، والذي في حقيقته يمثل انعكاسًا لتحوّلات المجتمع، المصري والإسلامي، عامة، في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، والتي اتسمت بدرجة عالية من التحرر الفكري والسلوكي، وقبول المؤثرات الغربية، والطابع العلماني، حيث بدت كالصوت الوحيد الذي يدافع عن قيم إسلامية تقليدية، في مواجهة مجتمع، خاصّة مصر، يتجه نحو علمنة ولَبْرَلة واضحة. وبشكل ما، كان هذا المعنى الدفاعي سببًا في تخليها عن طابعها التوفيقي، واتجاهها، بعد إلغاء الخلافة العثمانية، نحو سلفية صارمة ومتشددة؛ حيث وجدت في منتصف العشرينات دعمًا قويًّا لها بانتصار الوهابيين. وبالنظر إلى حال الصحافة في تلك الفترة، نجد كثرة الصحف ذات النزعة العلمانية، خاصة تلك التي يوجّهها (مسيحيون شوام)، مثل؛ المقتطف، والجامعة، والأهرام، والهلال. إضافة لوجود بعض الصحف التي يديرها إسلاميون، ولكنها تهتم بالمشهد السياسي، مثل: (المؤيد) للشيخ علي يوسف. ومن هنا، كانت (المنار) بالنسبة إلى المهتمين بالشأن الديني، ضرورة مُلحّة مع غياب الصحافة الدينية منذ توقف العروة الوثقى عام 1884م؛ حيث سعت الصحف إلى نشر الفكر الأوروبي والقيم الغربية في مصر، حينئذ. ممّا جعل وظيفة (المنار)، تأسيس تيار فكري مختلف، وإعادة عَرض صيغة معينة من الإسلام، ضمن حركة الصراع الفكري والثقافي التي شهدتها مصر، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ حيث استهدف (رضا) إصلاح الفكر الإسلامي، وتأهيله للحياة في العالم الحديث، وكان مطلب (المنار)، هو: بيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر في كل قطر وعصر؛ حيث وضع نفسه ضمن السياق التاريخي لاتجاه الإصلاح الإسلامي الحديث، ونصّب نفسه وريثًا لأفكار، عبده والأفغاني، في هذا الخصوص.
ومن الأهمية، هنا، تفكيك علاقة (المنار) بفكر (محمد عبده)، والتعرّف على مدى تمثيلها لهذا الفكر، وكونها امتدادًا له من عدمه، خاصة، وأن ذلك لا يزال مثار جدال، لم ينقطع إلى اليوم، في ظل أن في أفكارها نكوصًا على ما طرحه عبده، ومن قبله أستاذه الأفغاني؛ لذا يحرص الكتاب، في تمييزه لهذه العلاقة، على التفرقة بين الإرادة، وبين الواقع. ففي حين سجّل (رضا/المنار) العديد من التمايزات العميقة، عن فكر أستاذه عبده، إلا أنه بقي، على مستوى الوعي والإرادة، مخلصًا طوال الوقت لفرضية كونه ومجلّته امتدادًا لهذا الفكر، بغضّ النظر عن درجة التحقق الفعلي لهذه الفرضية. وعلى مستوى آخر، وطوال الفترة الأولى من المنار، وحتى وفاة عبده، في عام 1905م، كانت المجلّة منبرًا يخصّه، وينشر آراءه وأفكاره، ويخوض معاركه، ويشرح أفكاره للقرّاء، عبر كُتّابها أو عبر رضا نفسه، مما دعم صورته كإمام غير منازع للإصلاح الديني في العصر الحديث، بحيث ظن كثير من القرّاء أن عبده؛ هو محرر مقالات (المنار)، وهو ما نفاه (رضا)، مُؤكدًا أن ما يُنشر فيها، هو بقلم صاحب المنار (فكرًا وعبارةً).
كان الإصلاح الديني في (المنار) عودة إلى نقطة مركزية ماضوية، يتجسد فيها الإسلام في عصر السلف الصالح، وكان عبده: هو صاحب هذه الرؤية؛ حيث أكد دومًا أن الشعور بوجود إله يتصرف في الكون، تصرفًا غيبيًّا، يفوق إدراك المخلوقات، ويتجاوز السببية الكونية (أي التدين). وكما فعل عبده والأفغاني، فعلت المنار، من حيث: الاعتراف بتخلف الواقع الإسلامي، مع تنزيه الإسلام عن أن يكون علّة هذا التخلف، وأن المشكلة تكمن في المسلمين الذين استبدلوا تعاليم الإسلام القويمة، بتعاليم أخرى مناقضة له.
يشرح الكاتب ذلك أكثر، بالقول: "حاول الإصلاح الإسلامي الحديث عند عبده ورضا، على صعيد الوعي، التعامل إيجابيًّا مع التاريخ، وتأكيد طابع تقديري معين له، لكن صادف هذا الأمر مشكلة تكوينية؛ فإصرار المصلحين المسلمين على النظر إلى الإسلام، من خلال لحظته المعيارية الأولى، قد أفرغ حسّهم التاريخي من محتواه، وأضفى على إصلاحهم طابعًا غير تاريخي؛ لأن اعتبار هؤلاء المصلحين مقاييس لحظة التأسيس، وهو الأسلوب الصحيح الوحيد الذي يتوقف عليه النجاح. كان يعني، جوهريًّا: أنهم يعيدون، بشكل ما، إنتاج نفس النظرة التي رفضوها للتاريخ". ويضيف: "إن نظرة المصلح المسلم الحديث إلى التاريخ، باعتباره صيرورة هابطة، كما يتجلى في حديث (خير القرون)، تعني ببساطة؛ أن التاريخ يتجه، حتمًا، نحو الأسوأ، وهو ما جعل الممكن الوحيد لدى هذا المصلح، ليس محاولة الإصلاح، بإيجاد أو خلق شيء جديد؛ بل إيقاف الانحدار، فقط، عبر محاولة الاستعادة التكرارية الدائمة لهذه اللحظة، بعد أن تمّ، بالضرورة، فصلها عن سياقها التاريخي الحقيقي".
وترتبط النظرة إلى التاريخ بقضية أخرى، تتعلق بإدراك (المنار) مسألة التجديد في الفكر الديني؛ حيث ترى أن التجديد: يعني الرجوع بالدين إلى (جِدّته) الأولى، والتخلّص مما تراكم على السلوك التاريخي للمسلمين من مظاهر التقادم، بأعرافهم وتقاليدهم وانحرافاتهم. فتجديد الدين، هو: تجديد هدايته، وبيان حقيقته، ونفي ما عرض لأهله من البدع. وعليه استند رضا إلى مقولة الإمام مالك: (لا يصلح آخر هذه الأمّة، إلا بما صلح به أوّلها). وبحسب الكاتب، ثمّة ميزتان ميّزتا فكر (المنار)؛ أنه فكر مثالي، فسّر تخلّف العالم الإسلامي بالانحراف عن مبادئ الإسلام الذي كان قائمًا في الماضي الذهبي، وليس على ضوء تخلف الواقع المعاش. وأيضًا، كلّ فكر محافظ، يُعارض في العمق عناصر العلمنة والحداثة في الثقافة العربية، أكثر مما يعارض عناصر الجمود في التراث الإسلامي التقليدي؛ لذا انحسرت محاولته الإصلاحية في حدود ترميم الواقع، وليس تغييره. ويضيف قائلًا: "وزاد من الطابع المحافظ لفكر (المنار)، كممثل للإصلاح الإسلامي، أن هذا الإصلاح، عمومًا، كان في حالة ارتداد دفاعي مستمر، نحو الذات ونحو الماضي، تبعًا لتعاظم التدخل الأوروبي؛ ففي حين كان الطهطاوي، كممثّل لمشروع النهضة، مستعدًّا للاعتراف للغرب بعناصر تفوّقه، كان (الأفغاني، وعبده، ورضا، والمنار) أكثر اعتقادًا من الطهطاوي بحتمية انتصار الحداثة، لما يرونه من تغلغل في كافة نواحي عصرهم". ليخلص إلى التأكيد على هشاشة المحتوى التوفيقي لفكر المنار؛ حيث قبلت، دومًا، الجوانب العلمية والتقنية للحداثة، على اعتبار أنها (وسائل قوة) تفيد المسلمين في صراعهم مع الغرب. بينما لم يكن الأمر بنفس البساطة، بالنسبة إلى منظومات الأفكار والقيم، التي طرحها التحدي الغربي على الواقع الإسلامي، والتي رفضتها (المنار)، ورأت فيها أدوات لإضعاف العالم الإسلامي واختراقه.
في حين يتجلى فكر (مجلّة المنار)، الدفاعي والمحافظ، في مجمل أطروحاتها السياسية والاجتماعية؛ فعلى المستوى السياس: رفضت (المنار) قيمًا حداثيّة أساسيّة، كالوطنية والعلمانية، مما انعكس على صعيد الممارسة. وبالنسبة للديمقراطية: قبلتها مُشترطة تهميش مبدأ (سيادة الأمة: الذي يشكل جوهر الديمقراطية) بوصفه معيارًا سياسيًّا، ووضع هذه السيادة في المرتبة الثانية، مما يجعل الاعتراف بها مرهونًا بضرورة التوافق الكامل مع أحكامها، المعيارية والدينية الثابتة، ممثلة بالكتاب والسُنّة. كذلك، رفضتْ الدولةَ المدنيةَ الحديثةَ، كما جسّدها مصطفى كمال، ودافعَتْ، بالمقابل، عن الخلافة، كفكرة ونظام، بما يثبت التصورات التقليدية حول السيادة الدينية.
وعلى المستوى الاجتماعي: ظلت النظرة للمرأة ترسيخًا للنظرة الفقهية الكلاسيكية، ذات الطابع الذكوري، لا تراها سوى من منظار جنسي. وأيضًا، كانت رؤيتها للتعليم ذات محتوى دفاعي محافظ، ارتكز عملها فيه على مقاومة أشكال التعليم الحديث، بطابعها العلماني الوطني، وترميم البنى التعليمية التقليدية، ذات الأساس الديني. عبر تلقيحها، شكليًّا، ببعض معطيات الحداثة، وهي محاولة ثبت ضعف جدواها، وعدم قدرتها على منح المسلمين نظامًا تعليميًّا عصريًّا ومتكاملًا.
وبالنظر إلى طبيعة البناء الاجتماعي الداعم لهذا الإصلاح، فقد هشّمت (المنار) عمليةَ الالتحاق الإمبريالي الغربي بالعالم الإسلامي، في إطار السوق الرأسمالية العالمية، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية القديمة في هذا العالم. وشوّهتْ، في الوقت نفسه، نمو العلاقات البرجوازية فيه، بمعنى أنه؛ يمكن اعتبار الإصلاح الإسلامي الحديث، بمجمله، استجابة لهذه المعضلة بالذات، وضحية لها في الوقت نفسه؛ حيث كان هذا الإصلاح، محاولة لمواجهة التدمير الغربي للحوامل التقليدية المستقرة للمجتمعات الإسلامية، ومحاولة للحديث باسم تشكيلات اجتماعية واسعة، ترتكز على البنى، الاقتصادية والاجتماعية القديمة، ولم تستطع تكييف مصالحها مع التحوّل نحو علاقات رأسمالية تابعة، فتمّت إزالتها لإفساح المجال للبنى والقيم الجديدة، بينما اتخذ من استطاع تكييف مصالحه في الواقع الجديد، مسارًا فكريًّا آخر، تميّز بتوجّهات اجتماعية مُحافظة، ذات غطاء فكري، ليبرالي ومتعاون، مع الغرب.
****
لقد ظلّت الأزمة المشتركة والمستمرة عبر أكثر من قرن، من ظهور دعوات الإصلاح الديني المختلفة، مُتمثلة، بصورة أساسية، في غياب منظومة معرفية إسلامية ومُنضبطة، ترتبط بمعنى الإصلاح، وبأيّ معايير يمكن الاحتكام إليها في سبيل تحقيق ذلك، خاصة، في ظلّ مركزية التجربة الأوروبية في وعي أصحاب هذه الدعوات؛ فمع سعي الأفغاني وعبده إلى تأكيد أطروحتهما الرئيسية، وهي: ضرورة وأولوية الإصلاح الديني في الإسلام. حاولا، في بعض الأحيان، الاستعانة بمرجعية الغرب نفسه، متخذَين من الإصلاح الديني الأوروبي الذي أنجزه (لوثر Luther) أنموذجًا لما يتعيّن فعله، واحتفظت (المنار) برؤيتهما الإيجابية، واستلهمه رضا، مؤكدًا أنّ هذا الإصلاح، كان أساس نهضة أوروبا. ويؤكد، أيضًا، على ضرورة أسبقية الإصلاح الديني في الإسلام، على أيّ إصلاح آخر، دون النظر بجدّية إلى طبيعة هذا الإصلاح (اللوثري)، ومُلابسات دعوته، إضافة إلى اختلاف السياقات، وهو ما أشار إليه الكتاب عرضًا، وهذا يدفع بقوة نحو تنامي الظاهرة السلفية، خاصة، وأنّ دُعاتها يرَوْن فيها (دعوة إصلاحية) تعيد الدين إلى أصوله الأولى بعيدًا عن البدع.