الإصلاح والتحرّر من العقل السنّي وتحريره في كتاب: "السُنّة والإصلاح" لعبد الله العروي
فئة : مقالات
مقدّمة:
وأنا أوشك على الانتهاء من قراءة كتاب "السُنّة والإصلاح" للمفكّر عبد الله العروي[1]، وقعت يدي على مقال أستاذنا محمد المصباحي[2] يعرض فيه ما جاء في كتاب العروي هذا، وهو بعنوان "صراع الحدث والسُنّة في كتاب السُنّة والإصلاح لعبد الله العروي". وجدت نفسي بعد المحطتين، أمام فهم وتأويل مختلف إلى حد ما، لما تبلور لي من فهم، وأنا أفكّك ما جاء به كتاب "السُنّة والإصلاح". أحاول هنا استخلاص درس العروي من كتابه، والمخرجات النظرية التي أراد بسطها لتأسيس نوع من التعامل الجديد مع النص القرآني والنصوص السنّيّة والتراث الديني بشكل عام.
انتهت قراءتنا لكتاب العروي إذن، باستخلاص قاعدة عامة توضّح هذا التعامل للعروي الذي أراده أن يكون كفيلا بتحقيق نوع من الإصلاح، أو هو بالضبط إصلاح من مدخل ديني إن صحّ القول، رغم أنّ البعض يرى أنّ الرجل كان مشغولا ومعنيّا بالإجابة عن أسئلة ألقيت عليه بشكل مباشر من طرف مساءلة مسلّمة أوروبية تعيش تحت شريعة أخرى، وتواجه يوميا أسئلة يلقيها عصرها على ما تعتقده من تراثها الديني، وتريد وصفة شفائية تكسبها هوية إسلامية جديدة تساير مستجدّات العصر وتتفاعل مع الأحداث والوقائع الطارئة علينا.
يتعلق كتاب "السُنّة والإصلاح"، بالطريقة السليمة التي يفهم ويقرأ بها القرآن ونمط العلاقة التي من المفروض أن يقيمها المسلم مع تراثه الديني
سأبدأ ممّا انتهى إليه أستاذنا محمد المصباحي، بخصوص بعض ما جاء في كتاب "السُنّة والإصلاح" وسأناقش ذلك في جزأين. في الجزء الأول، سأنطلق من قوله إنّ العروي أراد أن "يثبت أنّ الرسالة الإسلامية هي التي فهمت نداء إبراهيم الخليل فهما، حقا. أما الرسالتان، اليهودية والمسيحية، اللتان سبقتا الرسالة الإسلامية فهما مدعاة للسخرية والاستهجان، إما بسبب طابعهما التجسيدي، أو نتيجة لسلوكهما اللاعقلاني، وبالتالي فإنّ حل أزمة الحداثة قد يكون بالرجوع إلى الإسلام الجامع بين الحدثين الإبراهيمي والهلينستي."[3] لكن في اعتقادنا العروي لم يذهب بوضع الأديان الأخرى محطّ سخرية، بل هو يقرأ الإسلام في بعده التاريخي، باعتباره قراءة لما سبق، وتجاوز لهفوات الماضي من وقائع وأحداث، بدليل عنوان أحد فصول كتابه الذي جاء "قراءة وقرآن"، الذي أظهر فيها القراءة التي قام بها شعب النبي للمناخ الفكري والأحداث السابقة، والترفّع على ما آلت إليه الأوضاع هو ما شكّل مضمون النص القرآني. كما أنّ العروي في معالجته للطريقة السلمية التي من المفروض أن نقرأ ونفهم بها النص القرآني والتاريخ الدّيني، يضرب مثالا على التغير الإيجابي الذي حققته الديانتان اليهودية والنصرانيّة، حيث تخلّصت الثانية من ضغط الكنيسة، في حين لا زال النص القرآني والنصوص السنّية تحت قبضة "الفهوم" التي قدمها الفقهاء المعتمدون، والذين يصفهم العروي بالمشعوذين[4]. كما أنّ اليهودية تخلّصت كما يقول العروي من ضغط الشريعة وقيودها باصطناع العلم التجريبي والفن.[5] من جهة ثانية، فإنّ الأستاذ المصباحي في مقاله لا يعرّفنا بمقصوده بأزمة الحداثة التي يتحدث عنها في جملته السابقة؛ فهو بالأكيد لا يعني الحداثة الغربية بين ظفرين، وإن كان يقصد أزمة الحداثة بالبلدان العربية الإسلامية، فإنّ هذه الأخيرة لم تحيِ تفاصيل الحداثة حتى تعرف أزمتها، بل مازالت الحداثة حلما رافق كل الكتابات العربية المسلمة إلى حد ما، مثلما نعرف أنّ العروي مشغول في كتبه، وهذا الكتاب خصوصا بالمداخل الممكنة لتحقيق الإصلاح وتبيئة الروح النقدية التي ميّزت العصر الحديث، والإصلاح لا يرتبط في هذا الكتاب بالرجوع إلى الإسلام الجامع بين الحدثين الإبراهيمي والهلينستي، بل بفهم خلاصة القرآن والسُنّة النبوية ورسالتهما الإنسانيتين والتشبّع بهما في قراءة أحداث العصر اليوم وغدا، لأنّ الإسلام هو في حد ذاته قراءة وليس جمعا لما وجد جاهزا. هكذا انطلق العروي من مسألة القراءة وتشكّل القرآن، وعلى نموذج فهمه للقراءة عرض لنا الطريقة الممكنة والسلمية لقراءة القرآن والتراث الديني الإسلامي بشكل عام.
1. من القرآن، باعتباره قراءة إلى قراءة القرآن:
إنّ كتاب العروي "السُنّة والإصلاح"، عمل للمستقبل، متعلق بالطريقة السليمة التي يفهم ويقرأ بها القرآن ونمط العلاقة التي من المفروض أن يقيمها المسلم مع تراثه الديني، خصوصا ذلك المسلم الذي يعيش تحت شريعة أخرى وتلقّى تعليما علمانيا. هكذا يأخذ العروي الكلمة، ليجيب عن أسئلة مسائلته المفترضة، والتي يقلقها المستقبل وكيف أنّ الأحداث والوقائع تتوالي، لتجعل علاقة المسلم بالنص القرآني غامضة، ويزداد خوفه على مستقبل أبنائه وطريقة تربيتهم على الإسلام في ظل عالم متغيّر.
قراءة النص القرآني في نظر العروي مرتبطة بفهم البنية التاريخية بتفاصيلها المختلفة لنشأة هذا النص
في هذا الإطار، يصعب تصنيف كتاب عبد الله العروي، فمَن يقرأ "السُنّة والإصلاح" يصادف أنّ خريطة المفاهيم التي سبق وكتب فيها من "حرية ودولة وتاريخ وإيديولوجيا وعقل" تنتظم في هذا الكتاب مشكّلة ضفاف كتاب "السُنّة والإصلاح"، حيث يحاول تنزيل خصائص العقل العملي النقدي الذي قعد له لمدة طويلة ليدخله المختبر والتطبيق، متّخذا من اللاهوت السياسي ميدانا للعمل، جاعلا مفاهيم الحرية والإيديولوجيا والدولة تتقاطع في علاقة جدلية على مسرح التاريخ. هذا المفهوم الأخير الذي تشكّل عبره "العقل السُنّي"، والذي يضعه العروي أمام محكمة العقل النقدي، ساعيا إلى وضع وتحديد مداخل ممكنة لحدوث وتحقيق الإصلاح.
قراءة النص القرآني في نظر العروي مرتبطة بفهم البنية التاريخية بتفاصيلها المختلفة لنشأة هذا النص، وبما أننا لازلنا نجهل هذه البنية وكل مرة تخرج علينا اكتشافات جديدة حول ماضينا، فإنّ قراءاتنا تبقى دائما مفتوحة على التغيير ومنذورة للنسبية، وكما يقول العروي: "يكفي أن يتم كشف أثر واحد يفيد العكس لتنقلب كل تأويلاتنا وافتراضاتنا رأسا على عقب...يجب علينا إذن أن نحترس وقبل أن نقدم على أي حكم أن نقول، ولو ضمنيا، إن بقيت معلوماتنا على حالها."[6]
يفيد هذا القول، إنّ عملية القراءة لا تقتصر على فهم الكلمات ونطقها، بل القراءة مرتبطة وتتطلب تضافر علوم مختلفة، وبالتالي وجود متخصّصين من مجالات متعددة. كما يؤدي هذا القول بالشخص الذي يريد التعرف أو قراءة وفهم الإسلام، إلى اتخاذ مسافة تجاه القراءات والتأويلات التراثية التي تقدم نفسها بصيغة مطلقة ومغلقة، إذ وفق قول العروي لا وجود لتأويل نهائي.
فالقراءات الأصولية تخشى التاريخ، وما قد يكشف عنه الزمن. وهذا ما عبّر عنه العروي مستغربا "لماذا هذا التهيّب، هذه الخشية، مما قد تسفر عنه الحفريات؟"[7] إنّ المعلومات المتاحة اليوم عن العالم الذي ظهر فيه النص القرآني ناقصة، يقول العروي في هذا الصدد إنّ "ما نعرف عن العالم المتوسطي، عالمنا التاريخي كثير، لكن ما نجهل عنه أكثر."[8] ولكن في تشديده على العالم التاريخي الذي ظهر فيه النص القرآني، باعتباره مفتاحا أساسيا لفهم وقراءة النص، أليس خرق للقاعدة المعروفة كون القرآن هو صالح لكل زمان ومكان؟ أليس في قول العروي حصرٌ لدلالة النص ومعناه، وجعله مرتبطا بالعالم المتوسطي ووضع العرب في تلك المرحلة التاريخية؟ هل النص مرتبط بأحداث بعينها، أم نستطيع أن نكيّف أحداثا أخرى، لتصبح منسجمة مع النص ومستوعبا لها، وبالتالي انفتاح النص على الحدث؟
يبدو أنّ العروي يتعامل مع النصّ القرآني تعاملا وضعيا، وكأنّه ظاهرة من الظواهر تخضع لمنطق وأسباب محدّدة. فهو إذن، ظاهرة تاريخية فهمها مرتبط بالاكتشافات المستمرة التي تكشف لنا واقع العرب من ناحية، وتقربنا أكثر من فهم العالم المتوسطي من ناحية ثانية، حيث "إذا كان وضع العرب لا يزال غامضا، فظاهرة القرآن أكثر غموضا."[9]
هكذا، يمكن القول إنّ الاكتشافات العلمية تضع التأويلات التراثية للنص القرآني موضع اختبار، حيث هناك من التأويلات ما يصمد أمام هذه الروائز المتعلقة في نظر العروي بفهم بيئة العرب بتفاصيلها المختلفة "من أين جاءوا؟ ما موطنهم الأصلي؟ ما سر إعرابهم، بلاغتهم؟ لغتهم المبيّنة المتينة كالمنسوخة عن مكتوب، حتى قبل أن تكتب؟ شعرهم؟ حرفهم؟ أخلاقهم؟ لا شيء من هذا مفهوم بالقدر الكافي حتى يومنا هذا، رغم جهود أجيال متوالية من الباحثين..."[10] هكذا يشكّل العصر الهلينستي بمناخه الغنيّ، مدخلا لفهم رسالة الإسلام والطريقة التي تشكّل عبرها النص القرآني شكلا ومضمونا.
1-2. العصر الهلستيني مقدّمة لفهم رسالة الإسلام:
يقدم العروي تأويلا جديدا للعصر الهلينستي، حيث رأى فيه الشروط الأولى لظهور الرسالة المحمدية؛ فهذه الأخيرة ليست إلا قراءة وتأويل لهذا العصر الذي توفرت فيه الأجواء العامة لظهور النص القرآني، حيث "نسجّل في الثقافة الهلستينية، في جوانبها السياسية والاجتماعية والفكرية والفنية، ميلا واضحا نحو الشرق...في الشرق يسهل الانتقال من التعدد إلى الوحدة من التناثر إلى الانتظام، من التنوّع والاختلاف إلى التماثل والائتلاف، من الفوضى الغوغاء أو تناحر الأشراف إلى الانقياد لإرادة الفرد المتسلط. يأتي الإسلام في خاتمة هذا التطور العام، كما جاءت تجربة إبراهيم الخليل خاتمة لتطور مماثل أثناء حقبة طويلة سابقة."[11]
يقول العروي: "في هذا الإطار، بالنسبة للتوجّه التاريخي العام، يبدو لنا، ضرورة الاستتباع، أنّ الإسلام ليس سوى "قراءة" يقوم بها شعب بعينه، وذلك قبل أن تدوّن تلك القراءة الخاصة المتميّزة في نص مضبوط"[12].
فالقرآن، وفق هذا القول هو تأويل وقراءة قام بها شعب النبيّ للمناخ والوسط التاريخي الهلستيني الذي عاش فيه، وتمّ تداول هذه القراءة والمواقف شفهيا وانتقلت لتدوّن وتصير قرآنا. وبالتالي، يصير هذا الأخير قراءة لما تراكم وتوفّر وما كان في متناول شعب النبي من سياسة وثقافة وأخلاق وتصوّر عن الكون والإنسان والتاريخ. ويصبح أيضا قارئ النص القرآني معنيا بالتاريخ، وبربط النصّ بمحيطه، حيث يقول العروي: "إنّ للعرب تاريخا قبل الإسلام، لكي نفهم بكيفية أفضل ما حدث في ظل الإسلام، سرعة الانتشار، الحذق السياسي عند الزعماء الخبرة العسكرية عند القادة، نباهة المتكلمين القدامى، توأمة مكة وبيت المقدس، انتقال مركز القرار من المدينة الى دمشق، إلخ..."[13] هكذا يبلور العروي مقدّمات لتجنّب سوء الفهم، وهي مقدّمات بمثابة شروط لفهم النص القرآني وقراءته وتأويله، وكلّ من تمكّن من هذه الأمور يستطيع أن يقبل على قراءة النص بنفسه دون واسطة. بهذا يسحب العروي البساط من تحت أقدام شيوخ النصّ، وكل الذين يتربّعون منابر الشرح والتوسط بين المسلم وفهم النص. ولكن ألن يؤدي هذا إلى موت النص وسجنه في التاريخ الماضي، في حين يواجه مسلم اليوم أحداثا وأسئلة حرجة تتطلب منه تفسيرا واتخاذ موقفا على ضوء مرجعيته الدينية؟
إنّ النص مرتبط بالحدث في نظر العروي، وبفهمنا للطريقة التي تفاعل بها النصّ مع محيطه وشروطه التي نشأ فيها، نستطيع هنا أن نجعله أيضا منفتحا على الحدث الحاضر والمستقبل، فالغرض هو الإجابة عن سؤال يطرحه مسلم اليوم: ما هي الطريقة السليمة لقراءة النص القرآني وفهمه وتأويله في ضوء عصرنا؟
لذلك، يقدّم العروي في كتابه "السُنّة والإصلاح" تعريفات للقرآن والسياق الذي ظهر ونشأ فيه، إذ يقول "القرآن، في المتداول، هو كتاب "بين دفّتين" لكن لا أحد يقرؤه كما يقرأ غيره من الكتب، كمقالة فلسفية، كمؤلف إخباري كملحمة أو رواية يبدأ بمقدمة وينتهي إلى خلاصة."[14] وهذه دعوى للتعامل مع القرآن، باعتباره نصا مثله مثل باقي النصوص ينطوي على خلاصات بعينها متعلقة بالإنسان والكون والتاريخ. ويأتي في هذا السياق، تمييز العروي بين القراءة والتلاوة، إذ نستشف مما جاء في كلامه أنّ هذه الأخيرة، أي التلاوة، تهدف إلى إثارة العواطف، باعتماد الصوت ونطق الكلمات وفق نغمات تخاطب الأحاسيس بدل أن يجعل القارئ الكلمات في مواجهة العقل، إذ يقول العروي: "قبل أن نناقش علينا أن نفهم، ولكي نفهم علينا أن نقرأ ولا نكتفي بالتلاوة. نقرأ النص الموجود اليوم بين أيدينا، نقرأه بلا واسطة، بلا فكرة مسبقة، بلا عقدة خفية. نقرأه في الأصل إن أمكن أو في ترجمات مختلفة تصحّح الواحدة بالأخرى."[15]
في نظرنا، يقدّم العروي هنا دواء وترياقا للضمائر الإسلامية القلقة المثقلة بروح عصرها، والمربوطة إلى هوية نصّية وسنّيّة تم تجميدها وحصرها بالماضي، في حين هم مطالبون بملاءمتها مع واقع وعصر متحوّل وسائل بالتعبير السوسيولوجي لزيغمونت باومان. فإذا كان العروي في كتابه "السُنّة والإصلاح" معنيّا بمخاطبة شخص مفترض بعينه مسلم - أوروبي - قلق بالبحث عن الطريقة السليمة التي يفهم بها النص اليوم، فإنّ وصفته من خلال تفكيكنا تستجيب لروح عصرنا المعاصر، ويمكن أن نصنّفها في تراث الإصلاح الديني.
لقد ظل النص القرآني عبر التاريخ، خاضعا لسطوة جهات أو أشخاص محددين، يحتكرون فهمه وتأويله. وقد زكّى هذا الوضع ارتفاع مستوى الأمّيّة بالبلدان العربية الإسلامية على مرّ التاريخ، حيث تم استغلال جهل الناس بالقراءة والكتابة، أو جهل بعض المسلمين والأجانب للغة العربية، لتتمّ عملية السطو على النص. لهذا دعا العروي إلى ضرورة أن يقبل المسلم اليوم وكل من أراد فهم الإسلام على أخذ النص بيده وبنفسه، وأن يحاول التحرر من كل واسطة التي قد تكون سببا في تغليطنا وأصلا لسوء فهم حادث عندنا دعوة تستحق النظر. لكن هذا الإقبال الذاتي على النص القرآني ليس عشوائيا كما أكدنا سابقا، بل يخضع لشروط وأدبيات ذكرناها، متعلقة بربط النص بسياقه وتاريخه وفهم العالم المتوسطي والهلستيني. وهذه الطريقة في التعامل مع النص ليست جديدة، حيث يقول العروي: "سلك بعض متكلّمينا مبكّرا المسلك نفسه في تعاملهم مع القرآن، حتّى وإن بدا لنا أنّهم يفعلون ذلك بدون انتظام، بدون منهجية صارمة وثابتة، فإنّها كانت مبادرة طيّبة يجب إحياؤها اليوم واستثمارها."[16]
يبدو واضحا، أنّ العروي لا يقطع بشكل كلّي وبجرّة قلم مع كل التراث، ولكنّه انتقائي ويستدعي الروح المنهجية عند القدماء، ويدعو إلى ضرورة استثمارها واتباعها. فالعروي لازال مستمرا هنا في الإجابة عن السؤال المتعلّق بالطريقة التي نقرأ بها القرآن اليوم، خصوصا من قبل المسلم الأجنبي الواقع تحت ضغط العصر والمثقل بمكتسبات العصر. لهذا يبلور في كتابه تصوّرا خاصّا للإسلام والطريقة التي نشأ بها النص، وكيف أنّ هذا الأخير هو نتيجة شروط موضوعية واستجابة لأحداث وتفاعل معها، أو هو قراءة للماضي الذي عاش فيه النبيّ وشعبه وفق روح جديدة تعلن عن قيم مغايرة تنبئ ببداية عصر جديد: "القرآن في معناه العام، ترجيعة متجدّدة، متسارعة، متنامية لنغمة واحدة، ردّة عنيفة على صدمة مروعة وكشف مذهل:
جاء النص القرآني متفاعلا مع الزمن، على مستوى الأحداث والوقائع التاريخية التي عالجها أو على مستوى اللغة وباقي السرديات الأخرى الواردة
- عن إخفاق الإنسان
- الصدمة من حقوق الإنسان وعناده
- الردّة على أنانيّة الإنسان وغروره."[17]
لقد جاء القرآن إذن، تصحيحا ومراجعة شاملة لعصر ومناخ كان سائدا، استسلم خلاله الإنسان لغرائزه وانقاد وراء غرائزه، جاء القول القرآني يدعو البشر الى سكة الطريق بعد أن زاغ عنها. لقد أراد النبيّ محمّد تغيير الأوضاع بعدما شاهد وعايش وفهم مناخ عصره. لكنّ "النبي وحده يرى. هل كان حظه أنّه لم يشارك في هذا اللهو، إذ كان مسكينا يتيما مهجورا؟ هل كان الحرمان سبيله إلى الحق؟".[18] يشكّل النبيّ محمد بهذا، صورة رمزية وفكرة كما يشكّل القرآن ردّة عنيفة وتصحيحا وبالأحرى إلغاء لواقع صادم، الأمر الذي يعني أنّ النص، مهما كان، هو مقدّمة تستوعب التراث الماضي وتعدّ هفواته وخلاصة تضيء الحاضر وتفتحنا على المستقبل.
لقد جاء النص القرآني متفاعلا مع الزمن، على مستوى الأحداث والوقائع التاريخية التي عالجها أو على مستوى اللغة وباقي السرديات الأخرى الواردة، إذ يقول العروي: "الألفاظ، المثل، المجازات والتشبيهات، كل ألوان الخطاب المستعملة في القرآن وما أكثرها لا تخرج عن هذا المنحى. القاموس متجانس واحد. قاموس تجّار، لا لأنّ النبي مارس التجارة لمدة قصيرة، كما يدّعي البعض، بل لأنّه قاموس جماعة وحقبة وثقافة بكاملها،"[19] فقّدر له (أي النصّ) أن يستوعب ويستجيب لهذا الجدل مع الزمن اليوم وغدا.
هكذا، يفهم العروي القرآن ويحدّه من جوانب كثيرة، ليعطي الانطلاقة لمشروع فهم – تأويل فردي للقرآن والسُنّة فيما بعد، هذا الفهم الذي سُجّل في الماضي وعبر تاريخ تراثنا لصالح أسماء واحتكرته جهات محدّدة. لم يجرُؤْ أحد على تجاوزهم، وكل من فعل بقي على الهامش وعُدّ زنديقا، إن لم ينكّل به ويمحى أثره. لكنّ العروي يدعو مسائِلَتَه المفترضة قائلا: "من هذا المنطلق يمكنك، أيّتها المسائلة، أن تركّبي بنفسك ولنفسك منظومة القرآن دون لجوء إلى مفسّر أو مؤوّل."[20] بتلك التحديدات والخلفيات التاريخية التي حدّدها لسياق تشكّل النص القرآني، والتي يجب أخذها بعين الاعتبار في عملية الفهم والتأويل، يمكن لأيّ فرد أن يركّب بنفسه ولنفسه منظومة القرآن، ويشكّل خلاصته الإنسانية والتاريخية منه. يمكن الاستنتاج أنّ العروي، يؤسس لكوجيطو جديد مفاده: أنا أفهم، أنا أؤوّل، إذن أنا موجود، من خلال دعوته الصريحة لمُسائِلَتِه للتجرّؤ "أيتها المسائلة لتكن لك الجرأة على فهم - تأويل القرآن والسُنّة بنفسك ولنفسك، دون الاعتماد الأعمى على من سبقوك، باجتهادك هذا قد تقعين على معان لم ينتبه لها المفسّرون المعتمدون."[21]
وبهذا يصير القرآن رسالة ومبادئ عامة، أداة للتأثير في الإنسان دائما وأبدا. "لم يبق إذن إلاّ وسيلة واحدة للتأثير على الإنسان اليوم، والوسيلة هي القرآن ...الكلمة وحدها تستطيع أن تحقق المعجزة، أن تفتح قلب السامع القارئ، أن تنفذ إلى فؤاده وترغمه إرغاما على معاودة (تقليد) تجربة النبي. عندها وعندها فقط، تصبح الآياتُ آياتٍ؛ أي ظواهرَ دالّةً."[22] ينتقل بنا العروي من الآيات وكيف تصير ظواهر دالة، الهدف من القراءة معاودة تجربة النبي الذي ابتكر أخلاقا وقيما جديدة لمعاكسة قيم وأخلاق سائدة.
إنّ فهم - تأويل النص القرآني يخضع لشروط ومحكوم بمنطق، هو منطق التاريخانية. لكن علينا أن "لا نقحم التاريخانية في القرآن لنؤوّله على هوانا. القرآن كلّه تاريخ، تاريخ الماضي الغابر وتاريخ معاصر لعهد النبي. من يستطيع أن ينفي ذلك ما فيه من تطوّر وتدرّج، من استثناء واستئناف من قيد وإطلاق، إذ العبارة عن كل هذا واضحة مكرّرة".[23] يستبق العروي هنا، من يعترض بالقول إنّ التأويل بالمعنى الذي بسطناه سابقا قد يؤدي الى تأويل النص وفق هوى الأشخاص وأغراضهم، لكن إذا عاودنا النظر فيما كتبناه سابقا نستنتج قواعد بعينها تضبط وتحدّ عملية الفهم - التأويل وتقف في وجه التأويلات المزاجية، لتؤسس لقراءة بريئة بدون واسطة وخالية من أيّ مسبق، حيث يُجيب العروي مراسلته بجملة بليغة يبيّن فيها تعريفه للقرآن وموقفه من التراث الفقهي والسنّي، إذ يقول: "القرآن كمصحف يتصفّح، كمجموع حروف وكلمات وعبارات، وثيقة مادية كباقي الوثائق. لا اعتراض على إخضاعها لجميع أنواع النقد المعاصر...ولا مانع كذلك من أن نخضع للنقد نفسه كلّ ما تولّد عن القرآن في التاريخ، أعمالا وأقوالا وأحكاما، إذ بحلول النبي في المدينة، بانغماسه في مشاغل الدنيا، بوقوعه في حبائل التاريخ، فإنّه وجد نفسه في مجال غريب عنه."[24]
1-3. العقل والعدل حدَّيْ تأويل النصّ القرآني
يدعو العروي إلى مشروع قراءة النص القرآني بدون مسبقات، بدون واسطة، وفق القيم الكونية الإنسانية التي يحدّها العقل والعدل، لأنّ "الأمر بطاعة الله ورسوله هو أمر باتباع العقل والعدل."[25] مشروع القراءة هذا، يبدأ أولا بتحرير النص من أصحابه من مؤوّليه، والفهوم الجامدة التي يتم الترويج لها بكونها الفهوم النهائية المطلقة للنص. يبدأ هذا التحرير بإقبال القارئ على النص القرآني بنفسه ويقرؤه على ضوء مبادئ التاريخ، وبالتالي معالجة كل فرد مسلم قلقه بنفسه، ويخرج من الوصاية وحالة القصور التي هو وحده المسؤول عنها، لأنّه لم يجرؤ على تخطّي التأويلات المعتمدة وعرضها أمام النقد وتقديمها لمحكمة العقل النقدي.
فالنقد مقدّمة أساسية لكل مشروع قراءة، نقد المتوارث من الروايات وكل ما يقال عن الحقبة التي نشأ فيها الإسلام. بهذه العقلية النقدية يستعيد العروي في كتابه مجموعة من الأسئلة التاريخية الشائكة حول النص القرآني، والطريقة التي تشكّل بها، فالقرآن "لم ينزل دفعة واحدة، بل تكون على مدى عقدين من الزمن. كان متفرّقا، ولم يجمع ويؤلف إلاّ بعد مدة لا تقل طولا عن الأولى، وسيرة النبي المعتمدة اليوم لم تحرّر إلاّ بعد مرور قرن على تاريخ جمع القرآن، والأحاديث المتعلقة بأقوال وأعمال النبي لم تصنّف بكيفية تجعلها في متناول القضاة والوعّاظ والمفتين إلاّ بعد مرور قرن آخر على تأليف السيرة...أي نصّ كان الناس يقرؤون بالفعل طوال ثلاثين سنة التي تلت الهجرة، لا في مساجد المدينة بل في غيرها من الأمصار البعيدة."[26] يفتحنا هذا القول على نقاشات كثيرة: حول عدد المصاحف القرآنية، وكيف تم الاحتفاظ بنسخة واحدة؟ ومسألة الاختلافات بين النسخ؟ وهو نفسه النقاش الذي تردّد عند محمد عابد الجابري وآخرين.
لقد كان غرض العروي هو تحريض العقل النقدي، على تشغيل آلياته في وجه التراث والأجوبة الجاهزة التي يتم تناقلها جيلا بعد جيل، حيث يرى أنّ "هناك أجوبة جاهزة نتوارثها جيلا عن جيل، لكنها تمثل الرواية الرسمية. هل علينا أن نجيزها على علّتها مع أنّ دواعي الشك فيها كثيرة وملحة. لا شيء مما يروى عن هذه الحقبة، وهي طويلة، يعلو على النقد. منذ عقود والنقد، نزيها كان أو مغرضا، يقابل بنقد مضادّ لا يخلو هو الآخر من أغراض."[27] إننا هنا أمام صراع للتأويلات، وافتضاض لبكارة البراءة التي قد يدّعيها أيّ تأويل. فلا تأويل بريء وفق قول العروي، بل أغلب التأويلات التي تمت وتراكمت عبر التاريخ تحرّكها أغراض، ولا شيء منها موضوعي، بل كل تأويل هو ذاتي. هناك إذن، تاريخ ورواية رسمية، وتاريخ وتأويل غير رسمي. هذا هو الوعي المطلوب اليوم في علاقتنا بتراثنا الديني.
إنّ تاريخ تراثنا الديني الإسلامي على مستوى الفهم والقراءة والتأويل هو تاريخ صراع التأويلات، والقراءة السائدة هي دائما قراءة الفرقة المهيمنة. ونستدل على قولنا هذا بجملة أوردها العروي في "السُنّة والإصلاح"، عندما قال إنّه "كان واضحا منذ البداية؛ أي من الوقائع التي حدثت في المدينة، والتي يحدثنا عنها الكتّاب. إنّ المؤهلين للفوز والغلبة هم أشراف مكة؛ فهم الذين سيفرضون فهمهم للنص بسلوكهم وبآرائهم سيضعون أسس السُنّة؛ أي كيفية تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري المتحوّل. واجههم خصومهم من الفريقين الآخرين بقرآن مخالف؛ أي بقراءة أخرى...لا تقل وجاهة عن تلك التي اعتمدتها الجماعة، جماعة أشراف مكة."[28] هذا التعامل وهذه العلاقة التي أسس لها العروي في علاقتنا بالنص القرآني، هي نفسها التي يدعو إلى تطبيقها على السُنّة، حيث يقول: "ما فعلناه مع النص المؤسّس، لماذا لا نفعل مثله مع ما نسمّيه السُنّة؛ أي الإسلام كما تجسّد وتطوّر في التاريخ... بناء على وضعنا الحالي وانطلاقا من معارفنا وحاجاتنا، من معتقداتنا وتطلّعاتنا، نتساءل:
- كيف تكوّنت السُنّة؟
- من قام بذلك العمل ولأيّ هدف؟"[29]
2. الإصلاح من طيّ الزمن مع العقل السُنّي إلى تمديده مع العقل النقدي:
إذا كنا قد رأينا سابقا، أنّ الإصلاح رهين بتحرير النص القرآني من أصحابه-مؤوّليه المعتمدين، الذين قدموا فهوما للنص على أساس أنها تتخطى الزمن وتتعالى عن النقد وما قد يتواتر من أحداث عبر التاريخ. كذلك يتوجّب أيضا تحرير السُنّة من سجن الزمن الماضي، وربطها بالزمن في سيرورته والوقائع الحادثة علينا. وبالتالي تحرير العقل السنّي والعلاقة التي أقامها مع النصّ. فقد أدّى الفهم السنّي للنص إلى تزكية الاستبداد، وتفويض السلطة لحاكم مطلق ونفي أية ديمقراطية ممكنة، إذ "لا يتصوّر السنّي مجتمعا بلا طبقات، دع الكلام عن سلطة موزّعة أو حكم مشترك. لا يحتاج إلى استلهام التاريخ ليقرر أنّ الديمقراطية هي عين الفوضى والمساواة فتنة مقنّعة، يقول: هل الكواكب متساوية؟ هل الملائكة سواسية؟ فلماذا لا يكون بين البشر تمييز وتفضيل؟".[30]
يتشكل العقل السُنّي عبر فهم معين للنص القرآني ولحياة النبي، حيث يشكل أنطولوجيا إسلامية محددة، عبرها يفهم العالم والوجود ويبني لنفسه قيما ومبادئ يخضع لها تنسجم مع هذه الأنطولوجيا. لكن العروي في كتابه "السُنّة والإصلاح" كما في باقي الكتب الأخرى لم يتطرق إلى النص القرآني بالدرس والتحليل لتحديد واستخراج وتحديد تلك الرؤية التي يقدّمها لنا القرآن للعالم والإنسان والتاريخ، أو ما قد يشكّل أنطولوجيا إسلامية خالصة، بل يعمل على الانطلاق من قول المسلم السنّي ليستنتج منه رؤية القرآن للعالم حسب الفهم السنّي، ليبيّن محدوديتها ويقرّر تهافتها، حيث يلقي العروي ببعض الإشارات إلى النظرة التي يقدّم لنا بها القرآن الوجود، وكيف تساهم هذه النظرة في تشكّل قيما اجتماعية وسياسية وأخلاقية ...
يرى العروي من زاوية تأويلية، أنّ النظرة القرآنية للوجود في بعض أوجهها تقود إلى الاستبداد، وتقضي بالمسلم إلى تسليم أموره وسلطة اتخاذ القرار الى شخص واحد يكون بمثابة خليفة الله في الأرض، حيث يقول: "أية علاقة أبْيَن من تلك التي تربط التوحيد والاستبداد؟ في السماء إله واحد وفي الأرض حاكم مطلق مستبد."[31] هكذا يستمد الحاكم المستبد شرعيته من البنية الأنطولوجية للنص القرآني، وأنّه لا يمكن أن يكون في الأرض إلاّ حاكم واحد هو مصدر القرار والسلطة، مثلما أنّ الكون هو من تسيير إله واحد على أساس أنّه لو كان هناك أكثر من إله لفسدت الأمور. "ومن البدء يرتدي السلطان لباس القداسة."[32]
فالتفاوت الطبقي واقع ضروري عند العقل السنّي، والاستبداد في الأرض استجابة للواحد الأحد في السماء. هكذا يتشكّل الواقع المجتمعي الذي يقوده ويهيمن عليه العقل السنّي، الذي يرى أنّ "التمييز واقع ملموس على مستويات المجتمع، فهناك حاكم ومحكوم، سيّد ومولى، شريف وعامّي، حرّ ومملوك، ذكر وأنثى، بالغ وقاصر، عاقل وسفيه، عالِم وأُمّي، مؤمن وكافر، إلخ..."[33] هكذا هو عالم العقل السنّي نظريا، ويعمل بكل قواه على تزكية هذا الفهم عمليا والتصدي لأيّ بدعة ممكنة أو أيّ فهم جديد.
يُعتبر الماضي حجر العقل السنّي، حيث "السُنّة دائما حذرة، دائما متأهّبة. تخشى باستمرار، إمّا هجمة الخارج، وإمّا مروق الداخل، فتتصرف كالسلحفاة، كلما استشعرت الخطر تقوقعت لتستمسك وتصمد."[34] هكذا يحدّثنا العروي عن سيكولوجيا العقلية السنّيّة المحافظة التي تحتمي بالماضي، وتشهر التراث في وجه أية محاولة للتجديد. هذا المفهوم الذي يعتبر مخيفا ودخيلا على العقل السنّي، ويبقى مرتبطا بالزمن الماضي على أساس أنّه زمن الصفاء والحقيقة والمرجع الذي يجب أن يتّبع أثره كلّ مسلم. هكذا يتربّص السُنّي بأية محاولة للتغيير والتجديد، سواء كانت من الداخل، أو من الخارج. يقول العروي في تحقيقه لمفهوم التجديد أنّها "كلمة لغويا، من الأضداد...وبما أنها دائما في حالة إحياء وتنقية وصقل (من هنا الحديث عن ظهور إمام مجدّد على رأس كل قرن) بما أنّها تطارد باستمرار هدفا يجري بجريان الزمن، فالسُنّة مشغولة أبدا بنقيضها؛ أي البدعة."[35] فالواضح من هنا، أنّ العقل السنّي لا ينشغل بذاته لتطويرها، حيث يساير التاريخ المتحرك والوقائع الحادثة من حوله، بل يعمل في دور الحارس، أو رجل الأمن الذي يضطلع بمهمة حراسة الألواح المكتوبة بتعبير فرديرك نتشه، فيقوم بطيّ الزمن ليحلّ في الماضي ويذوب فيه. ويهتم بإلغاء التاريخ والوقائع، وفهمها وتفسيرها وفق ما سطّرته سلطة الفقهاء المعتمدين الذين خطوا الألواح السُنّية التاريخية. هكذا يعمل العقل السنّي باستمرار على التشريع للماضي، بإضافة كل مرّة لبنة جديدة إلى أخرى ماضية تعضدها وتجعلها أكثر انطلاقيّة.
يجرّنا هذا التفكيك إلى كيفية اشتغال العقل السنّي، الذي يعتبر الزمن المتحرك عدوّه، وهو يطارده باستمرار. لكن "إذا ثبت أنّ السُنّة تجري وراء هدف متحرّك وأنّها بالتعريف عملية مستمرة لا حالة قارّة، استتبع ذلك أنّها تحمل في أحشائها الجرثومة التي تقوّض أركانها وتؤول بها إلى الانهيار متى اقتضت ذلك الظروف الخارجية."[36] فالتاريخ قد يؤول بالسُنّة إلى الانهيار؛ لأنّ طموح البشر متحوّل ومتحرّك على عكس السُنّة التي تعمل على وضع الحدود، وتميل إلى تعريف ذاتها نهائيا لتصمد عبر الزمن، وتتحصن بذلك في وجه المتغيّرات الخارجية وذلك يتطلّب طمس الوقائع وإخفاءها بطيّ السُنّة للزمن وإحلاله في الماضي.
هكذا يبيّن العروي، كيف أنّ السُنّة رغم أنّها مشغولة بالطمس والإخفاء، لكنّ وقائع التاريخ وندوبه قد تكون فاضحة ومزعزعة؛ إذ بذلك تحمل السُنّة في طياتها جرثومة زوالها، وبالتالي بروز سنّة موازية أو سُنّة جديدة أو "نيو- سُنّة" ثم "بوست- سُنّة بتعبير العروي ، إذ يقول هكذا "تثقل السُنّة نفسها بعقل خانع مشاغب، عقل يعمل دون ملل، معاكسا دائما، نافيا ومفنّدا، مثل حصان يحرّك ناعورة."[37]
تحيلنا رؤية العروي هذه لصورة الحصان الذي يشكّل قوة العقل الخانع، الواقع تحت سلطة الزمن الماضي، والناعورة التي تعمل على طحن وإلغاء كل سُنّة جديدة. ولكن العروي يؤكد أنّه "لا تكون سنّة إلاّ وتكون ضمنيا سنّة مضادة، هذا ما أكّدناه مرارا. كما لا تكون سنّة إلاّ وتكون ضمنيا نيو-سنّة وبوست-سنّة، وهو أمر أهم من الأول، لا نراه على الفور لأنّ السُنّة تعمل منذ قرون على طيّ الزمن ولا تشجّع أبدا على تمديده وإبرازه."[38]
أمام هذا العقل السُنّي، الذي ذكرنا بعض خصائصه المشدودة كليا إلى الماضي، يجد المسلم اليوم نفسه في مواجهة سيل من الأسئلة التي تفرضها مستجدات العصر، كما يواجه أسئلة الآخر عندما يقتحم الآخرُ الدارَ. بالإضافة إلى هذا، يواجه المسلم الذي يعيش تحت شريعة أخرى وفي بلد آخر أسئلة أخرى أكثر إلحاحا. كما نصادف مشكلا آخر لم يُشِرْ إليه العروي في كتابه، لأنّه معني بمخاطب مفترض أغراضُه وأسئلتُه محدّدة مسبقا، يتعلق هذا المشكل بذلك الآخر - ذلك الغير الذي يريد التعرّف على الإسلام، والذي يصادف أمامه تراثا سنّيّا يسكن الماضي ويحلّ الحاضر في ذلك الماضي، فيصاب بالدهشة، وتبدو عليه علامات الغرابة من تراث يفتقر لأدنى الأدبيات، ولا يمدّ أصحابه بأي مداخل نظرية أو عملية للتعامل مع العصر المعاصر ومستجداته. فإذا كان العالم يفرض على الجميع اليوم العيش المشترك والتواصل، فإن تحقق هذا الواقع وتشكّله بالطريقة السليمة رهين بالطريقة التي يفهمنا بها الغير، وكيف نقدّم نحن أنفسنا للغير والعكس بالعكس؟
لن نهتمّ بهذا الإشكال الذي أثرناه، لأنّنا نعنى بالمستجدات التي خطّها العروي في التعامل مع النص القرآني والسُنّة ومعرفة المخرجات التي اقترحها لحصول الإصلاح، خصوصا الإصلاح من مداخل دينية، هذه القارة الجديدة التي اقتحمها العروي لأول مرّة في كتبه بشكل مباشر، وإنّما نستمرّ هنا في بيان كيف أنّ الزمن يشكّل جوهر المفارقات التي تواجه المذهب السنّي، وكل تفكير تقليدي، إذ "السُنّة تكوُّنٌ مستمرّ في كل لحظة من أطوارها تتأثر بحادث وتعمل آليا على طمسه."[39] هكذا يظل العقل السنّي مشغول بالزمن، لا لتمديده والتفاعل معه، بل لِطَيّه وطمس معالمه ليذوب في الزمن الماضي. وبالتالي تكرّس السُنّة التقليد، وتقف سدّا منيعا أمام أيّ تجديد أو إصلاح. "السُنّة اختزال الوحي في الشرع، ثم اختزال الشرع في عمل مجموعة محدودة من الأفراد. فتأتي القاعدة الصارمة: الطريق السويّ هو تقليد هذه الجماعة، في الكبيرة والصغيرة، والمداومة على التقليد (العضّ عليه بالنواجذ) جيلا بعد جيل دون ميل أو حيد."[40]
ترتبط السُنّة بالماضي بتكريسها للتقليد، فهي تعمل جاهدة على اختزال التاريخ الإسلامي في جماعة من الأفراد المعتمدين شرعيا والذين يجب اتباعهم. لكنّ الإصلاح رهين بالتخلّص من سلطة الفقهاء المعتمدين، حيث لا وجود لسلطة دينيّة في الإسلام تجعل فردا ما وصيّا على الآخر في مسألة الفهم ما دام ذلك الفرد قادرا، وله من المؤهلات ما يمكّنه من أخذ الكتاب والسُنّة بيده وفهمهما وفق معطيات التاريخ والعصر.
إنّ تاريخ تراثنا الديني الإسلامي على مستوى الفهم والقراءة والتأويل هو تاريخ صراع التأويلات، والقراءة السائدة هي دائما قراءة الفرقة المهيمنة
هذا ما حدث على مرّ التاريخ، حيث كل الديانات والشرائع شهدت نوعا من الإصلاح في القراءة والتأويل، وهنا نعود لقاعدة الكوجيطو التي ذكرناها سابقا، حيث يتم تحرير النص والتاريخ الديني بصفة عامة من قبضة تجّار الدين، والفقهاء الرسميين المعتمدين الذي يفهمون النص الديني أو يؤوّلون التاريخ الديني لمصالحهم أو لخدمة السلطان، فحسب العروي "تنصل النصارى من ضغط الكنيسة بتولّي فنّ الإغريق وقانون الرومان، يتحرّر كبار مفكّري اليهود من نير الشريعة وقيودها باصطناع العلم التجريبي والفن، يقلّل البوذيون من استغراب غيرهم بالتأكيد أنّ ما لديهم هو فلسفة حياة وأسلوب عيش ليس إلاّ."[41]
على هذا النهج يدعو العروي إلى إصلاح مماثل، يتم فيه التحرّر من سلطة الماضي والفقهاء المعتمدين، وجعل النص والسُنّة منفتحَيْن على التاريخ والوقائع المستجدة. هكذا ننقذ النص والسُنّة، وننقذ أنفسنا من محاكمة الآخر الذي يعرّفنا دائما بالسُنّة، سواء كنا معها أو ضدّها. في هذا الصدد، يرى العروي أنّه "على أساس المعلومات التي يزوّدني بها المؤرّخ، بعد أن يكون قد أجمع على تصحيحها الباحثون اليوم أو غدا أؤول لنفسي ما جاءت به الرسالة."[42]
هكذا يخضع فهم النص القرآني والتراث السُنّي لمنطق محدّد، ويقتضي الانفتاح على مجالات بحثية مختلفة. وبتوفر هذه المؤهلات، يستطيع الشخص الإقبال على قراءة النص والسُنّة وتأويلهما بنفسه على ضوء حاجياته. وبالتالي التخلّص من سلطة الفقهاء المعتمدين الذين يصفهم العروي بالمشعوذين، فهو يخاطب مُسائِلَتَه المفترضة قائلا "والآن، بعد أن اطلعت على ما كتبتُ...لا ادّعي أنّ المشعوذين لا قدرة لهم عليك ما دمت تعيشين بعيدا عنهم، بل أقول إنّهم حتى لو أدركوك، لما كانت لهم سلطة شرعية عليك.. المهم ليس ما يقولون هم لك، بل ما تقولين أنت لنفسك بعد تعرّفك على حرف الرسالة."[43]
الخاتمة:
يمكن القول إنّ ما جاء في كتاب "السُنّة والإصلاح" يدشّن لنشوء تعامل علمي وضعي مع القرآن والسُنّة، وذلك بعدما بيّن العروي الطريقة التي بواسطتها نستطيع إنقاذ القرآن من أصحابه، وتحرير السُنّة من السنّيين أنفسهم. فالقرآن هو نص مثله مثل باقي النصوص، من المفروض أن يقرأ كوثيقة جاءت للتفاعل مع مناخ فكري سائد والعمل على تجاوزه والتشريع لواقع أفضل، كما أنّ السُنّة هي مؤسسة بشرية لا تتعالى على النقد، ومن الجهالة إنزالها منزلة القداسة. بل يجب تذوق التاريخ والأحداث وتجاوز السُنّة إلى بوست سُنّة، وإعلان حالة الطلاق التامة التي يفرضها منطق التاريخ. هنا يقول العروي: "إذ نقرّر ما سبق نكون قد أدركنا السُنّة وتجاوزناها، لحظة الطلاق نقرّها من وجه وتقرّنا من وجه."[44]
نتحقّق في النهاية، أنّ غرض العروي هو هذه الوصفة الوقائية، والشفائية التي يستطيع عبرها المسلم الوصول إلى فهم الرسالة بنفسه، والتخلّص من قبضة المشعوذين، وإكسابه قدرة تمكّنه من بيان تهافت سلطة الفقهاء المعتمدين، وبالتالي سحب الشرعية منهم لاحتكارهم فهم النص والسُنّة.
[1] مفكّر ومؤرّخ مغربي، صدرت له مجموعة من الكتب منها: "الإيدولوجية العربية المعاصرة" وسلسلة كتب تحت عناوين: "مفهوم الدولة" و"مفهوم الحرية" و"مفهوم الإيديولوجيا" و"مفهوم العقل" ..
[2] كاتب وباحث مغربي، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، أستاذ بجامعة محمد الخامس-الرباط. وصدرت له مجموعة من الكتب: منها "من أجل حداثة متعدّدة الأصوات" وكتاب "من الوجود إلى الذات، بحث في فلسفة ابن رشد" وكتاب "جدليّة العقل والمدينة".
[3] المصباحي محمّد، صراع الحدث والسُنّة في كتاب السُنّة والإصلاح لعبد الله العروي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. ص. 9
رابط المقال:
https://www.mominoun.com/articles/صراع-الحدث-والسنة-في-كتاب-السنة-والإصلاح-لعبد-الله-العروي-1477
[4] انظر الهامش 43 الصفحة 20
[5] انظر الهامش 42 الصفحة 20
[6] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، ط. الاولى2008، ص88
[7] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص.89
[8] نفس المرجع، ص.89
[9] نفسه، ص. 90
[10] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص.90
[11] نفس المرجع، ص. 92
[12] نفسه، ص.93
[13] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص.101
[14] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 102
[15] نفس المرجع، ص.102
[16] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 96
[17] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 104
[18] نفس المرجع، ص. 105
[19] نفسه، ص. 194
[20] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 105
[21] نفس المرجع، ص.106
[22] نفسه، ص. 114
[23] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 118
[24] نفس المرجع، ص. 124
[25] نفسه، ص. 124
[26] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 127
[27] المرجع نفسه، ص. 127
[28] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، 129
[29] المرجع نفسه، ص. 128
[30] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، 165
[31] المرجع نفسه، ص. 164
[32] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 164
[33] المرجع نفسه، ص. 165
[34] نفسه، ص. 168
[35] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 169
[36] المرجع نفسه، ص. 170
[37] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 172
[38] المرجع نفسه، ص. 195
[39] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 190
[40] المرجع نفسه، ص. 203
[41] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 207
[42] المرجع نفسه، ص. 200.
[43] العروي عبد الله، السُنّة والإصلاح، مرجع سابق، ص. 188
[44] المرجع نفسه، ص. 208