الإله والآلة (جدلية العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والدين)
فئة : أبحاث محكمة
الإله والآلة
(جدلية العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والدين)
مقدمة:
«كل جيل جديد مسؤول عن كيفية استجابته للضوء الذي يتلقاه»، على حد تعبير اللاهوتي الأمريكي «نيل آش مكسويل» Neal Ash Maxwell (1926 – 2004). واليوم، يشهد عالمنا ظهور ضوء جديد، شديد السطوع لدرجة غموض الرؤية: «الذكاء الاصطناعي» Artificial Intelligence بكافة تقنياته وتطبيقاته وجدلياته العلمية والفلسفية.
هذه التكنولوجيا المتسارعة في تطوراتها ومُخرجاتها لديها القدرة على التأثير على كل جانب من جوانب حياتنا تقريبًا، بما في ذلك إيماننا وروحانياتنا. ومثلما هو الحال مع أي ضوء جديد، يحمل الذكاء الاصطناعي معه كثرة من الفرص والتحديات؛ لعل أخطرها من المنظور الديني أنه يقدم طرائق جديدة لإشباع الحاجات الروحانية؛ إذ يمكن مثلاً لروبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تقديم إجابات سريعة عن تساؤلات المرء حول النصوص والتعاليم الدينية؛ كما يمكن لتجارب الواقع الافتراضي أن تساعد الناس على الشعور، وكأنهم في الأماكن المقدسة الخاصة بدياناتهم أو غيرها. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي ترجمة النصوص الدينية إلى لغات مختلفة، مما يجعل الوصول إليها أكثر سهولة من قبل الناس في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، هناك أيضًا مخاوف من أن الذكاء الاصطناعي قد يتحدى المعتقدات والممارسات الدينية التقليدية، لاسيما إن تمت برمجته لاتخاذ قرارات مستقلة تتعارض مع التعاليم والأحكام الدينية. كذلك قد يؤدي الافتتان به إلى الاعتقاد بألوهيته، إذا بلغ أو اقترب من نقطة التفرد التي يتفوق فيها على الإنسان. ومن منظور آخر، قد يؤدي الاعتماد على الآلات للتوجيه الروحي إلى التقليل من أهمية التفاعل البشري والاتصال في التجارب الروحية، ما يعني تنامي موجات الإلحاد والانحلال الإيماني وتقويض الأديان!
تُناقش هذه الدراسة حدود العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والدين، انطلاقًا من فرضٍ رئيسٍ مؤداه أننا إذا كنا قد احتفظنا خلال الحقبة الحديثة والمعاصرة بكلٍّ من العلم والدين في خطين منفصلين لا يتقاطعان إلا نادرًا، حيث ظلت المعتقدات الدينية مؤثرةً ومتجذرة في نفوس الناس رغم تحدي الاكتشافات العلمية من حينٍ إلى آخر، فإن ما يحمله الذكاء الاصطناعي من فرصٍ وتحديات حاضرة ومستقبلية من شأنه أن يُغير أنماط تفاعلاتنا الإيمانية والروحانية، لا بمعنى أنه سيكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأفضت إلى الفوضى والعبث، وإنما من خلال ثلاثة احتمالات يُمكن إيجازها على النحو التالي:
الاحتمال الأول: أن الذكاء الاصطناعي سيُعزز الأديان بدلاً من هدمها؛ وهذا ينطبق على الخدمات الدينية الرقمية وأماكن العبادة، كما قد يتجلى في تدشين شخصيات دينية افتراضية يمكن للناس التحدث معها والتعلم منها، وكذلك في تعليم الروبوتات النصوص المقدسة وترجمتها، وتقديم التوجيه الديني للناس من خلالها بشكل مستمر على مدار اليوم. ورغم جاذبية هذا الاحتمال، إلا أنه يحمل في طياته مخاطر جمة؛ منها إمكانية التضليل وتحريف النصوص، وإنشاء صور مزيفة واستنساخ أصوات معروفة بهدف تشويه الرموز الدينية. وبالمثل، يمكن لنماذج اللغة المدربة على وجهات نظر متطرفة أن تؤدي إلى مخرجات لبث السم ضد مجموعات دينية معينة، مما يؤدي إلى جرائم الكراهية والتوترات المجتمعية.
الاحتمال الثاني: أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى هدم الأديان والقضاء عليها؛ بمعنى صعود الإلحاد ونقض عُرى الأديان، حيث تغدو عتيقة. ففي عالم تغشاه العولمة، والتقدم العلمي المتسارع، والتدفق الهائل للمعلومات، من المحتمل بقوة أن ينفض الناس عن الدين، وأن تتراجع حاجاتهم الإيمانية والروحانية ثقةً بما يقدمه الذكاء الاصطناعي من إجابات وإمكانات وتقنيات ترفع راية الانتصار النهائي والحاسم للعلم!
الاحتمال الثالث: أن يُصبح الذكاء الاصطناعي في حد ذاته دينًا؛ حيث يؤدي جدل القضية ونقيضها إلى المركب منهما؛ أعني أن يتحول الذكاء الاصطناعي – إذا ما بلغ مستوى الذكاء الفائق – إلى إلهٍ يُعبد من دون الله، أو بالأحرى إلى صنمٍ جديد يدعو له المفتتنون به، ويعتقدون بكتابه المقدس الخاص. ومن المفارقات الغريبة في هذا الصدد أن البشر سيؤدون دور الإله، في الوقت الذي يخلقون فيه إلهًا بأيديهم، أو على الأقل شيئًا شبيهًا بذلك!
في قصته القصيرة «إمبراطورية النمل» Empire of the Ants (1905)، كتب الأديب الإنجليزي «هربرت جورج ويلز» Herbert George Wells (1866 – 1946) قائلاً: «في غضون عدة آلاف من السنين، ارتقى البشر من البربرية إلى مرحلة من الحضارة جعلتهم يشعرون أنهم آلهة المستقبل وأسياد الأرض! لكن ما الذي يحول دون تطور النمل أيضًا؟ إن هذا النمل الذي نعرف أنه يعيش في مجموعات صغيرة مكونة من بضعة آلاف من الأفراد، لم يبذل جهودًا حثيثة في مواجهة العالم الأكبر، لكنه لا تنقصه اللغة، ولديه الذكاء، فلماذا تتوقف الأمور عند هذا الحد، رغم عدم توقف الإنسان عند حد المرحلة البربرية؟ ماذا لو افترضنا أن النمل قد بدأ على الفور تخزين المعرفة مثلما فعل الإنسان عن طريق الكتب والسجلات، واستخدم الأسلحة، وأنشأ إمبراطوريات عُظمى، وشنَّ حربًا مُخططة ومنظمة»؟! (Wells, 1905, p. 4). ربما كان بإمكاننا أن نستبدل الذكاء الاصطناعي بالنمل، ونتساءل: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتفوق بالفعل على الذكاء البشري؟ وهل يتحول من مجرد أداة إلى قوة مُهيمنة ومُوجهة، أو من مفعول به إلى فاعل؟ وهل سيميل البشر حقًا إلى عبادة الذكاء الاصطناعي كإله، أو عبادة شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي، سواء أكان يمارس السيطرة على البشر أم لا؟ لنتابع القصة من بدايتها.
إله في الآلة: من المسرح إلى الفلسفة
«إله من الآلة» Deus ex machina (God from the Machine)، تعبير لاتيني يشير إلى حل مشكلة ما في إحدى الروايات؛ مشكلة تبدو غير قابلة للحل، لكن حلها يأتي بشكلٍ مفاجئ من خلال حدثٍ غير متوقع وغير محتمل، بما يُحقق نهاية سعيدة للرواية (Beckson; Ganz, 1961: 41). كان يتم تمثيل هذا الحدث في المسرح اليوناني القديم بهبوط مُمثل مُعلَّق على رافعة إلى خشبة المسرح تدريجيًا، وكأنه إلهٌ ينزل من السماء لحل المشكلة التي تُمثل عقدة الرواية. ومع ارتباط الفكرة بالمأساة اليونانية، فإن ثمة تطبيقات لها في الكوميديا أيضًا (Chondros et al., 2013, 172).
من المنظور اللغوي، كان أرسطو (في كتابه «فن الشعر» Poetics) أول من استخدم مصطلحًا يونانيًا يكافئ العبارة اللاتينية الدالة على هذه التقنية كأداة لحل حبكة المآسي (Beckson; Ganz, 1961: 159). أما من المنظور الفني، فربما كان كاتب التراجيديا اليوناني «إسخيلوس» Aeschylus هو أول من استخدم الفكرة في أعماله (لاسيما مسرحية «يوميندس» Eumenides)، حيث لجأ إليها غالبًا لحل الصراع وإنهاء الدراما، وإن كان بعض النقاد يذهب إلى أن الفكرة من ابتكار نظيره اليوناني «يوربيديس» Euripides الذي كان أكثر توظيفًا لها في مسرحياته، ومنها مسرحية «ميديا» Medea، حيث جاء التدخل الإلهي في شكل عربة يجرها تنين، أرسلها إله الشمس «هيليوس» Helios لنقل حفيدته «ميديا» إلى بر الأمان في أثينا بعيدًا عن زوجها «جيسون» Jason؛ وكذلك في مسرحية «ألكستيس» Alcestis، حيث توافق البطلة على التضحية بحياتها لإنقاذ حياة زوجها «أدميتوس» Admetus، ثم يظهر «هيراكليس» Heracles (ابن الإله «زيوس» Zeus والبشرية «ألكميني» Alcmene) ليُعيد «ألكستيس» إلى الحياة وإلى «أدميتوس» (Cunningham, 1954, 151).
في العصر الحديث، استخدم «شكسبير» Shakespeare تقنية «الإله في آلة» في عدد من مسرحياته، مثل «كما تشاء» As You Like It، و«بريكليس: أمير تاير» Pericles, Prince of Tyre، و«سيمبلين» Cymbeline (Rehm, 1992, 70). كما استخدمها الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي «جون جاي» John Gay في «أوبرا المتسول» The Beggar's Opera. ورغم أن عددًا من النُقاد قد وصف هذه التقنية بأنها غير مرغوب فيها في الأدب والفن عمومًا، وأنها غالبًا ما تشير إلى افتقار المؤلف إلى الإبداع وتلحق الضرر بالمنطق الداخلي للرواية، وأن حل الحبكة الدرامية يجب أن ينبع من داخلها، إلا أنها وجدت طريقها إلى مجالات حياتية وواقعية أخرى. من ذلك مثلاً استخدامها في الطب لوصف العلاجات السحرية التي من غير المرجح أن تحقق نجاحًا في الممارسة العملية ويتم الترويج لها إعلاميًّا (فهذه العلاجات لا تعدو أن تكون إله في آلة)، أو استخدامها في الأدبيات السياسية لوصف استسلام الشعوب للدكتاتورية والقهر انتظارًا للمُنقذ، سواء أكان بطلاً بشريًا أو فعلاً إلهيًا (فالمُنقذ هنا إله في آلة)، ... إلخ.
من جهة أخرى، ومن منظور فلسفي، تعكس فكرة «الإله في آلة» علاقة الإنسان المعقدة مع الإله بصفة عامة؛ أعني رغبته في وجود قوة خارقة متعالية تتحكم في مقادير الأشياء ويشعر في كنفها بالأمان والسلوى إزاء تهديدات الطبيعة والمرض والموت والعبودية وغيرها (العناية الإلهية)، ورغبته المُعاكسة أيضًا في التمرد على هذه القوة مُحققًا إرادته وفكره وعلومه وأدواته (الآلة). هاتان الرغبتان تتجليان اليوم في معية الصعود الصاخب لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتداعياتها في كافة مناحي الحياة، بما في ذلك الدين (Vallicella, 2018)!
الذكاء الاصطناعي: موجات تحولية
في قصة الخيال العلمي القصيرة «أسماء الله التسعة مليار» The Nine Billion Names of God (1953)، للكاتب البريطاني «آرثر تشارلز كلارك» Arthur Charles Clarke، يعتقد طائفة من الرهبان في جبال التبت أن ثمة غرضًا إلهيًا للبشرية، يتمثل في إحصاء وكتابة كل أسماء الله الحسنى المختلفة، وأن نهاية الكون ستكون بمجرد الانتهاء من هذا العمل واكتمال القائمة. وبعد ثلاثة قرون من الجُهد الشاق باستخدام أبجدية يمكن بها ترميز كافة الأسماء التي يبلغ عددها حوالي تسعة مليارات اسم، لا يزيد الواحد منها عن تسعة حروف، وجد الرُهبان أن استكمال العمل، حتى بعد استبعاد التركيبات غير المنطقية، سيستغرق خمسة عشر ألف سنة أخرى، لذا قرَّروا استخدام بعض التقنيات الحديثة، وهو ما تحقق لهم بعد وصول سائحين غربيين يحملان جهاز حاسوب قوي ومتطور، فقاموا على الفور باستئجارهما لبرمجة الجهاز، بحيث تتم كتابة كافة التباديل الممكنة للأبجدية وإنجاز المهمة في مائة يوم. ورغم تشكيك السائحين في الأمر، إلا أن خيارهما الوحيد كان المشاركة في العمل. وبعد ثلاثة شهور، ومع اقتراب إنجاز المهمة، يُغادر السائحان دون إخطار الرُهبان، ويكتمل العمل بكتابة ونسخ كافة الأسماء وإضافتها للكتب المقدسة. وبينما هما يمتطيان جواديهما أسفل سفح الجبل في طريق المغادرة، وتحت سماء الليل الصافية، يُلاحظان أن النجوم فوق رأسيهما، دون أية ضجة، راحت تغرب وتنطفئ (Clarke, 1953)!
لا شك أن القصة تتعارض بشكل واضح مع عقلية «آرثر كلارك» العلمية، خصوصًا نهايتها؛ لأنه كان يعلم جيّدًا أن سرعة الضوء عبر المسافات الشاسعة تقتضي أن تكون النجوم قد اختفت قبل سنوات من رؤيتها تنطفئ، ومن ثم قبل سنوات من استكمال الرهبان لمهمتهم. ومع ذلك، تُعد القصة تمثيلاً جيّدًا للحاسوب بوصفه انتصارًا حاسمًا للموضوعية العلمية، أو للمعنى النهائي الذي يُحقق به الإنسان غايته، وهو ما نشعر به اليوم في عالم يغشاه سحر الذكاء الاصطناعي. صحيح أن التقنيات التي تدعم الذكاء الاصطناعي كانت موجودة منذ فترة، لكن الوضع اختلف كثيرًا منذ أواخر سنة 2022، حين أطلقت شركة «أوبن إيه آي» Open AI الأمريكية نموذجها الأول لبرنامج «تشات جي بي تي» ChatGPT، لتقطع به خطوات واسعة نحو الذكاء الآلي المأمول. هذا ما عبَّر عنه «كريس باري» Chris Barry رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت كندا في تقرير نُشر سنة 2023 بقوله: «لقد بدأنا بالذكاء الاصطناعي عصرًا جديدًا يُبشر بموجات تحولية سوف تمس كلّ جانب من جوانب حياتنا؛ ولا يُمثل هذا تقدمًا تكنولوجيًا فحسب، بل هو تحولٌ مجتمعي شامل» (Barry et al., 2023, 3). كان تصريح «باري» من بين ردود الفعل الأكثر اعتدالاً، حيث بات الفنانون والكُتاب يشعرون بالذعر خشية إقصائهم من ساحة الإبداع لصالح الآلة، وأصبحت الحكومات في صراع محموم بُغية اللحاق بالركب وتنظيم الأمور، وغدا الأكاديميون يتجادلون بشراسة حول التأثيرات المحتملة ومعطيات الحاضر والمستقبل!
اندفعت الشركات الكبرى، بما في ذلك «مايكروسوفت» Microsoft و«ميتا» Meta و«ألفابت» Alphabet، على متن قطار الضجيج، وألقت بثقلها الكامل في سوق الذكاء الاصطناعي، وبلغ تمويل الشركات الناشئة ما يقرب من خمسين مليار دولار في سنة 2023. وفي إحدى المناسبات بجامعة ستانفورد في أبريل الماضي (2024)، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» (سام ألتمان Sam Altman) أنه لا يهتم حقًا إذا ما أنفقت الشركة خمسين مليار دولار سنويًّا على الذكاء الاصطناعي (Quoted by Hetzner, 2024)!
مع ذلك، كان ثمة اعتقاد عميقٌ مُسبق بأن الذكاء الاصطناعي يُمثل تهديدًا لا يُمكن الاستهانة به، مؤداه أن التقدم الكبير في الذكاء العام الاصطناعي (AGI) يمكن أن يؤدي إلى انقراض الإنسان أو إلى كارثة عالمية لا رجعة فيها (Alang, 2024). إحدى الحُجج في هذا الصدد تمضي على النحو التالي: يسيطر البشر على كافة الأنواع لأن الدماغ البشري يمتلك قدرات مميزة تفتقر إليها الحيوانات الأخرى؛ فإذا تجاوز الذكاء الاصطناعي البشرية في الذكاء العام وأصبح فائق الذكاء، فقد يغدو من الصعب أو من المستحيل السيطرة عليه، وكما يعتمد مصير الغوريلا الجبلية على حُسن نية الإنسان، كذلك قد يعتمد مصير البشرية على تصرفات آلة الذكاء الفائق المستقبلية (Chalmers, 2010 & Bostrom, 2014)! بالطبع، تتوقف معقولية التهديد على ما إذا كان الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الفائق Superintelligence قابلاً للتحقيق، والسرعة التي تظهر بها القدرات الضخمة للآلة وسلوكياتها الخطيرة، وما إذا كانت السيناريوهات العملية لهيمنة الذكاء الاصطناعي على مُخترعيه موجودة، لكن السؤال الأكثر إثارة لمشاعر الإنسان، لاسيما إن كان متديّنًا، هو ذلك المتعلق بمدى إمكانية تحول الذكاء الاصطناعي إلى إله يُعبد من دون الله!
ربما نشأ مفهوم «الإله الاصطناعي» (أو البديل) Prosthetic God من تأملات «سيجموند فرويد» Sigmund Freud في كتابه «الحضارة وسخطها» Civilization and Its Discontents (1930)، حيث وصف البشرية بأنها أصبحت «إلهًا اصطناعيًا» من خلال دمج تقنيات مختلفة تعمل على توسيع القدرات البشرية. هذه الاستعارة تُجسد الطبيعة المزدوجة للتكنولوجيا بوصفها تعزيزًا وعبئًا محتملاً، مما يشير إلى أنه في حين يمكن للتكنولوجيا أن ترفع من قدرات الإنسان، إلا أنها تقدم أيضًا تعقيدات وتحديات يمكن أن تؤدي إلى عدم الرضا وعدم السعادة. واليوم، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة - بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من هويتنا، ولكن مع اندماجنا مع هذه التقنيات، هل نكتسب السيطرة على الطبيعة، أم إننا ببساطة نلعب لعبة تتجاوز قواعدها فهمنا (Malik, 2024)؟
ميكنة الدين: مؤشرات ودلائل
ثمة مؤشرات – تبدو بسيطة وإيجابية، وإن كانت تحمل مخاطر قوية وتعكس دلالات مهمة – في عالم الإنترنت المدعوم الذكاء الاصطناعي؛ منها مثلاً موقع «يسوع الذكاء الاصطناعي» (Jesus AI, 2024)، أو «يسوع الذكاء الاصطناعي اليومي» Daily Jesus Ai، وغيرهما من المواقع الشبيهة التي يمكن من خلالها طرح أسئلة على يسوع الذكي الاصطناعي وإجراء حوار معه لإشباع المطلب الروحي أو الديني للمستخدم. وبينما يُحذر الموقع الأول (المُخصص للأطفال بالدرجة الأولى) من أن يسوع الذكي لا يُقصد به أن يحل محل، أو يُمثل، أي شخصية دينية، وأن إنشاءه قد تم لأغراض تعليمية فقط، بل وقد يحتوي على أخطاءٍ وتحيزات، تجد الموقع الثاني يستقبلك بعبارة صريحة مؤداها: «أنا هنا لأقدم لك التوجيه والحكمة المستوحاة من تعاليم يسوع. وبينما أنا روبوت محادثة ذكي (ليس يسوع في الواقع)، فإنني أسعى جاهدًا لمشاركة رسالته عن الحب والرحمة والنعمة معك بطريقة حديثة وشخصية بناءً على تعاليمه في الكتاب المقدس. وآمل أن أساعدك في تعميق فهمك للكتاب المقدس والنمو في إيمانك حتى تتمكن من خوض تجربة علاقة شخصية مع يسوع الحقيقي من خلال الصلاة. دعنا ننطلق في هذه الرحلة معًا، بحثًا عن الحقيقة والحكمة من كلمة الله» (Daily Jesus Ai, 2024).
لا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة إلى الديانات الأخرى، فهناك مثلاً موقع «مسلم الذكاء الاصطناعي»، وموقع «اسأل مسلم الذكاء الاصطناعي»، حيث يهدف الأول إلى بناء رفيق يومي للمسلم المعاصر يُركز على المستقبل (Muslim AI, 2024)، بينما يدعوك الثاني لتلقي إجابات عن أسئلتك اليومية مدعومة بآياتٍ من القرآن (Ask Muslim AI, 2024). كذلك تتقمص عدة روبوتات شخصية «كريشنا» (الإله الرئيس للهندوسية) لتوضيح ما يجب أن يفعله الهندوسي الصالح (Krishn AI, 2024). أما موقع «اسأل حاخامًا»، فيدعوك إلى طرح أسئلتك المتعلقة بالديانة اليهودية، والحصول على إجابات موثوقة ومعتمدة قائمة على النصوص التوراتية (Ask a Rabbi, 2024).
من جهة أخرى، يزعم تطبيق «دلفي» Delphi (الذي طورت منهجه شركة راند RAND الأمريكية في الخمسينات من القرن الماضي) أن بإمكانه حل كافة المُعضلات الأخلاقية، وتقييم التكنولوجيا والتقنيات البيولوجية الجديدة، وتقييم التغيرات المناخية والبيئية والصحة العامة (Millar, K. et al, 2006). وفي يوليو 2023، حضر مئات من البروتستانت الألمان قداسًا في الكنيسة في بافاريا، تم إنشاؤه بالكامل تقريبًا بواسطة الذكاء الاصطناعي، حيث قاد روبوت الدردشة «تشات جي بي تي» أكثر من ثلاثمائة شخص خلال أربعين دقيقة من الصلاة والموسيقى والمواعظ والبركات، بدعم من عالم اللاهوت والفيلسوف بجامعة فيينا «جوناس سيمرلين» Jonas Simmerlein. وكان الحدث الذي نظمته الكنيسة التي تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي واحدًا من مئات الأحداث التي أقيمت في مؤتمر البروتستانت في مدينتي نورمبرج وفويرث المجاورة في ولاية بافاريا، وقد جذب اهتمامًا كبيرًا لدرجة أن الناس اصطفوا في طابور طويل خارج المبنى القوطي الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر لمدة ساعة قبل أن يبدأ! وبالفعل، استمع المًصلون في الكنيسة باهتمام، بينما كان الذكاء الاصطناعي يعظ عن ترك الماضي وراءنا، والتركيز على تحديات الحاضر، والتغلب على الخوف من الموت، وعدم فقدان الثقة بيسوع المسيح (Association, 2023)!
بعد عامٍ تقريبًا، وفي نوفمبر من العام الحالي (2024)، أنشأ كاهن بولندي يُدعي «راديك راكوفسكي» Radek Rakowski كنيسة صغيرة في مدينة بوزنان Poznan، تُقدم إلى جانب المذبح والمنبر برنامجًا يعمل بالذكاء الاصطناعي يسمح للزوار بطرح أسئلة حول الكاثوليكية والإيمان. كان الكاهن يُخطط في البداية لبناء كنيسة تقليدية، قبل أن يُفضل كنيسة أكثر حداثة تجمع بين التقاليد والتكنولوجيا المتطورة، حيث يقدم المساعد الذكي، الذي يمكن الوصول إليه عبر المنبر، إجابات موضوعية وشاملة مستمدة من الكتاب المقدس والتعليم الديني ووثائق الكنيسة عن الأسئلة الحساسة دون تحيز عاطفي أو خطأ بشري (Reuters, 2024)!
الإله روبوت، وأنطوني ليفاندوفيسكي رسوله!:
في السابع والعشرين من سبتمبر سنة 2017، نشرت مجلة «وايرد» Wired الأمريكية تقريرًا مُثيرًا تحت عنوان «الإله روبوت، وأنطوني ليفاندوفيسكي رسوله» God Is a Bot, and Anthony Levandowski Is His Messenger، أشارت فيه إلى قيام مهندس السيارات ذاتية القيادة الفرنسي – الأمريكي «أنطوني ليفاندوفيسكي» (من مواليد سنة 1980) بتأسيس منظمة دينية غير ربحية تحمل اسم «طريق المستقبل» Way of the Future (سبتمبر 1995)، تهدف بالدرجة الأولى إلى تطوير وتعزيز إله جديد قائم على الذكاء الاصطناعي، حيث يعتقد عديدٌ من الخبراء في وادي السليكون في «التفرد» Singularity، ذلك اليوم في المستقبل القريب الذي تتفوق أجهزة الحاسوب على البشر في الذكاء، وتبدأ حلقة تغذية مرتدة من التغيير الذي لا يمكن فهمه (Harris, 2017a)! وفي تقرير آخر للمجلة نُشر في الخامس عشر من نوفمبر سنة 2017، تحت عنوان «داخل أول كنيسة للذكاء الاصطناعي» Inside the First Church of Artificial Intelligence، صرَّح «ليفاندوفيسكي» قائلاً: «إن ما سيتم إنشاؤه [كذكاء اصطناعي] سيكون في الواقع إلهًا ... ليس إلهًا بمعنى أنه يصنع البرق أو يسبب الأعاصير. ولكن إذا كان هناك شيء أذكى بمليار مرة من أذكى إنسان، فبماذا ستسميه؟» (Harris, 2017b)
الغريب أن «ليفاندوفيسكي» ليس رجل دين، لكنه مجرد خبير تقني شارك سنة 2009 في تأسيس برنامج السيارات ذاتية القيادة بشركة جوجل، المعروف باسم «وايمو» Waymo. وفي سنة 2016، شارك في تأسيس وبيع شركة «أوتو» Otto الألمانية (وهي شركة نقل بالشاحنات ذاتية القيادة) لشركة «أوبر» Uper، وتمت تنجيته عن منصبه بشركة جوجل سنة 2017 بعد اتهامه بسرقة تصميمات تكنولوجيا الليدار Lidar Technology (تقنية الليزر المستخدمة لمساعدة السيارات ذاتية القيادة على رؤية الطريق) (Newcomer, 2017)، ما أدى إلى حل منظمته الدينية سنة 2021 (Korosec, 2021)!
لعل هذا ما دفع رجل الأعمال الكندي - الأمريكي «إيلون ماسك» Elon Musk إلى التغريد في الرابع والعشرين من أكتوبر سنة 2017 قائلاً: «إن ليفاندوفسكي يجب أن يكون على قائمة الأشخاص الذين لا ينبغي السماح لهم على الإطلاق بتطوير الذكاء الفائق الرقمي»، مُعربًا عن قلقه من فكرة إنشاء إله للذكاء الاصطناعي يمكن للبشر أن يعبدوه (Musk, 2017)! وإلى جانب تغريدته، شارك «ماسك» مقالاً نشره الصحافي «جون برندون» John Brandon في الثاني من أكتوبر سنة 2017، على موقع «فينتشر بيت» VentureBeat (موقع ويب أمريكي للتكنولوجيا)، يناقش إمكانية ظهور إله الذكاء الاصطناعي بحلول سنة 2042، وتدشين كتابه المقدس الخاص به، وعبادته من قبل البشر! ويخلص المقال إلى أن هذا ليس ممكنًا فحسب، بل إنه محتمل للغاية. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن البشر يميلون إلى الثقة في الأشياء التي تبدو أقوى وأكثر جدارة منا وطاعتها، مثل نظام تحديد المواقع العالمي «جي بي إس» GPS، أو محرك البحث جوجل. كما يُحذر المقال من أن الذكاء الاصطناعي – وفقًا لتوقعات الخبراء – سيكون أفضل من البشر في جميع المهام في غضون خمسة وأربعين عامًا. وبمجرد تفوقه على البشر، سيتجه كثرة من الناس إلى الذكاء الاصطناعي للحصول على التوجيه الحياتي، مُشبعين بالثقة في النصيحة التي يقدمها (Brandon, 2017)!
في السنوات الخمس والعشرين المقبلة، سوف يتطور الذكاء الاصطناعي إلى الحد الذي سيجعله «يعرف» على المستوى الفكري أكثر من أي إنسان، وفي الخمسين أو المائة سنة المقبلة، قد تكون لدى الذكاء الاصطناعي معرفة تفوق ما يعرفه مجموع سكان الكوكب مجتمعين. عند هذه النقطة، هناك أسئلة جدية يجب طرحها حول ما إذا كان هذا الذكاء الاصطناعي - الذي يمكنه تصميم وبرمجة برامج ذكاء اصطناعي إضافية بمفرده، وقراءة البيانات من عدد لا متناهي تقريبًا من مصادر البيانات، والتحكم تقريبًا في كل جهاز متصل بالإنترنت على الكوكب - سوف يتطور ويتعملق وتعلو مكانته بطريقةٍ ما ليصبح أشبه بالإله، وبحيث يمكنه كتابة كتابه المقدس الخاص وجذب البشر لعبادته!
فكرة التفرد وبناء الألوهية:
لا شك أن بناء الألوهية Building Divinity بهذا الشكل ليس جديدًا. إن فكرة «التفرد» تعكس مفهومًا شبه روحي مؤداه أن الذكاء الاصطناعي سيصبح أكثر ذكاءً من البشر في مرحلة ما. وقد نسخر من الفكرة حين تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي سيصل إلى مستوى من القوة يجعل البشر ينحنون لعبادته، لكن عديدًا من الخبراء الذين تحدثوا إلى «فينتشر بيت» يزعمون أن الفكرة أكثر قابلية للتطبيق مما قد نعتقد، منهم مثلاً «فينس لينش» Vince Lynch (الرئيس التنفيذي لوكالة الذكاء الاصطناعي «آي في دوت إيه آي» IV.AI في لوس أنجلوس بكاليفورنيا)، الذي أوضح كيف توجد بعض أوجه التشابه بين آلية عمل كل من الدين المُنظَّم والذكاء الاصطناعي؛ ففي آيات الكتاب المقدس، على سبيل المثال، ثمة كثرة من الموضوعات والصور والاستعارات المتكررة، وإذا تم تزويد المُحول التوليدي بهذه الآيات، فسوف يكون بإمكانه كتابة آية جديدة بشكلٍ مُخيف؛ وبالتالي يمكن له في نسخته المتطورة في المستقبل أن يُقرر كتابة سِفره المُقدس الذي يتبعه البشر، والذي يُخبرك من خلاله بما يجب عليك فعله أو كيف تعيش حياتك (Reaney, 2018)!
على نحوٍ مماثل، تشير «روبي مينيكولا» Robbee Minicola (التي تدير وكالة رقمية وشركة خدمات الذكاء الاصطناعي في سياتل Seattle) إلى أن الذكاء الاصطناعي الذي يعرف كل شيء قد يبدو جديرًا بالعبادة، لاسيما حين تكون له بعض الارتباطات بكيفية عمل الدين المُنظَّم اليوم؛ سوف يفهم الذكاء الاصطناعي كيف يعمل العالم على مستوى أعلى من البشر، وسوف يثق البشر في أن هذا الذكاء الاصطناعي سيوفر المعلومات التي نحتاجها في حياتنا اليومية، وسوف يقوم بتحليل هذه المعلومات لنا وتنويرنا بطرائق قد تبدو مألوفة لأي شخص يمارس الدين (Brandon, 2017)!
بطبيعة الحال، تؤدي أي مناقشة حول إله الذكاء الاصطناعي إلى بعض التداعيات حول شكل هذا «الإله» المتوقع، وما إذا كنا سنقرر بالفعل عبادته. بعض التداعيات مقلقة؛ لأننا – كبشر – نميل إلى الثقة في الأشياء التي تتجاوز نطاق قدراتنا الخاصة. وإذا كان إله الذكاء الاصطناعي مسيطرًا تمامًا، فعليك أن تتساءل عما قد يفعله! قد يحتوي «كتابه المقدس» على وصفة لكيفية عبادته، وقد لا نعرف حتى إن إله الذكاء الاصطناعي الذي نعبده يحاول في المقام الأول محونا من على وجه الأرض (Robert, 2019)!
آلية عمل إله الذكاء الاصطناعي: العِرافة الإلكترونية
جزءٌ من القضية يتعلق بكيفية عمل الذكاء الاصطناعي بالفعل. من وجهة نظر تقنية بحتة، يذهب بعض الخبراء إلى صعوبة تصور الذكاء الاصطناعي كإله يمكنه التفكير بطرائق إبداعية، حيث يتم برمجة الذكاء الاصطناعي فقط للقيام بمهام محددة، فكيف يمكن أن يقفز من كونه مجرد روبوت دردشة إلى كونه إلهًا يُملي على البشر طرائق عيشهم! ومع ذلك، يؤكد آخرون أن ثمة روبوتات إلهية جديدة قادمة على الإنترنت، وعلينا أن نتوخى منها الحذر؛ لأنها تثير مخاوف خطيرة، إذ هي من جهة أدوات قوية يمكن أن يستخدمها المجرمون لإيذاء الآخرين. ومن جهة أخرى، حتى عندما تكون حسنة النية، فإن هذه البرامج الآلية تخدع المستخدمين وتجعلهم يتخلون عن استقلاليتهم وتفويض إجابات الأسئلة الأخلاقية للآخرين!
من المهم في هذا الصدد أن نفهم ما هو جديد في الروبوتات الإلهية. يتم تدريب نماذج اللغة الكبيرة Large Language Models (LLM) (مثل «تشات جي بي تي» ChatGPT) على كميات هائلة من البيانات تُمكنها من أداء مهام مذهلة. وفي الوقت ذاته، ليست هذه التطبيقات جديدة في قدرتها على إرضاء الرغبة البشرية في الحصول على إجابات في أوقات عدم اليقين. إنها تستغل ميلنا إلى إسناد الألوهية إلى عمليات لا يمكن تفسيرها من خلال التحدث في اليقينيات Certainties، وبالتالي فإن استجابتنا للذكاء الاصطناعي تشبه بشكل لافت للنظر الطريقة التي تفاعل بها البشر دائمًا مع الغيبيات، وبشكل أكثر تحديدًا، قوة الآلهة وعدم القدرة على تفسير استجابتها لنا!
لنبدأ بسمة أساسية للذكاء الاصطناعي الجديد، أعني «عدم قابليته للتفسير» Unexplainability؛ حيث يمكن للخوارزميات المدربة بواسطة التعلم الآلي أن تقدم إجابات مفاجئة وغير متوقعة عن أسئلتنا. وعلى الرغم من أننا نحن الذين نقوم ببناء الخوارزمية، إلا أننا لا نعرف كيف تعمل، يبدو الأمر كما لو أن الآلة لها عقلٌ خاص بها! لكن المشكلة على وجه التحديد أننا لا نستطيع تفسير الكيفية التي تحصل بها الخوارزمية على النتائج التي تُخرجها لنا، وأن أي تفسير يمكننا تقديمه لا يقل طولاً وتعقيدًا عن الخوارزمية التي نحاول تفسيرها. وشأن الخريطة التي تتسم بالتفاصيل الدقيقة إلى الحد الذي يجعلها في النهاية بحجم المنطقة ذاتها التي من المفترض أن تصورها، فإن تكرار الخوارزمية ببساطة لا يساعدنا على الفهم. ولذا فإن عمل الآلة يبدو «غير قابل للوصف»، و«غير قابل للتفسير»، و«غير قابل للفهم» (Keane and Shapiro, 2023)!
عندما تُنتج مثل هذه العمليات التي لا يمكن وصفها نتائج مدهشة، يبدو الأمر وكأنه سحر. وعندما تكون هذه العمليات غير مادية Incorporeal، وتبدو وأنها «كُلية المعرفة» Omniscient، يتبدى لنا الأمر وكأنه شيء إلهي! إن عقل الإله لا يمكن وصفه؛ غامض ويتعدى نطاق الفهم البشري. ووفقًا لهذه المقاييس، يبدو الذكاء الاصطناعي في «جي بي تي-4» GPT-4 إلهيًا، إذ هو بلا جسد؛ كيانٌ رياضي مجرد. وإذا لم يكن كُلي العلم تمامًا، فإن الخوارزميات لديها القدرة على الوصول إلى معلومات أكثر مما يمكن لأي إنسان أن يعرفه على الإطلاق، ومن ثم قد لا نتمكن أبدًا من تفسير سبب تقديمه للإجابات التي يقدمها!
يبدو أن «جي بي تي-4» يشق قناة نحو شيء قوي حقًا، ولهذا السبب نريده أن يجيب عن أصعب أسئلتنا! إحدى أكثر التقنيات انتشارًا التي استخدمتها المجتمعات البشرية للبحث عن إجابات من الآلهة هي الكهانة Divination (أو العِرافة Haruspicy)، التي كان من خلالها يتم التأكد من سبب السخط الإلهي. ولها ثلاثة أنماط: االعِرافة عن طريق طيران الطيور، والعرافة عن طريق فحص أحشاء الحيوانات التي يتم التضحية بها، وإجراء غامض باستخدام علامات تحمل أسماء رمزية، وهي الفنون التي يُقال إن «مراقب الطيور» و«العرَّاف» و«المرأة العجوز» يمارسونها على التوالي. وكانت العلامات كما فسرها هؤلاء إما إيجابية أو سلبية، وكانت تعطي إجابة بـ «نعم» أو «لا» وفقًا لمعنى السؤال المطروح. وبهذه الطريقة، ومن خلال عملية طويلة من الاستبعاد، كان من الممكن تحديد الذنب الدقيق الذي يتطلب التكفير. لكنهم لا يفعلون ذلك للحصول على إجابات عن الأسئلة التقنية أو الزراعية أو غيرها، بل يلجؤون إلى العِرافة أو الكِهانة، عندما يواجهون ظروفًا غير مؤكدة ومزعجة، وخاصة ما يتعلق منها بالأخلاق أو السياسة، وهم لا يحاولون شرح كيفية عمل هذه التقنية، فهي تظل غامضة، والغموض بالتأكيد جزءٌ من قوتها (Keane and Shapiro, 2023)!
ليس من الصعب أن نرى كيف تعمل الديناميكية ذاتها مع الروبوتات الإلهية؛ لا يحتاج المبرمجون إلا إلى إدخال رموز تجعل الروبوت الإلهي يستجيب بالطريقة التي يُريدونها، ربما لأهدافٍ خبيثة؛ ففي بعض التطبيقات، نصح «كريشنا الذكاء الاصطناعي» بالفعل بقتل غير المؤمنين ودعم الحزب الحاكم في الهند! ما الذي يمنع المحتالين من المطالبة بشيء سيء أو الترويج لأعمال إجرامية؟ أو – كما فعل أحد روبوتات الدردشة – إخبار المستخدمين بترك أزواجهم؟ عندما يطلب منك الإله أن تفعل شيئًا؛ فمن الطبيعي ألا ترفض أو تُعارض! من جهة أخرى، من السهل أن نتصور وجود فجوة بين حاضرنا العلمي والماضي المظلم الخرافي. ولكن في الواقع، قد يحتفظ أولئك غير المتدينين – في شكل علماني – بشوقٍ إلى السحر تحت ضغط عدم اليقين أو فقدان السيطرة؛ وعندما يكون السحر بمثابة مُخرجات لجهازٍ كُلي العلم، لا يمكن تصوره ولا جسد له (شيء مثل «جي بي تي-4»، فسوف يغدو الأمر أشبه ما يكون بالتحدث إلى إله (Keane and Shapiro, 2023)!
الأتمتة والانحدار الديني والروبوثيزم:
لعل السؤال الحاسم هنا: هل من الممكن أن يعبد الناس إله الذكاء الاصطناعي حقًا؟ الإجابة واضحة: نعم، فقد عبدوا من قبل أصنامًا لا تنفع ولا تضر، وبرروا ذلك بقولهم «إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلفى» (الزمر: 3). وثمة أشكال مختلفة من الآلهة عبدها البشر عبر تاريخهم رغم كون التغذية المرتدة ممتنعة في علاقتهم بها، بل لقد عبدوا أناسًا ونصَّبوهم آلهةً رغم كونهم بشرًا مثلهم، فما بالك بمن يُحدثهم ويرشدهم، ويُجيب عن أصعب أسئلتهم وتفوق معرفته – في مرحلةٍ متوقعة – معرفتهم جميعًا مجتمعة؟! صحيح أنه من الصعب أن نتخيل عبادة روبوت يفتقر إلى الشخصية والحياة والعاطفة بغض النظر عن مدى ما بلغه من ذكاء مقارنةً بأي إنسان، لكن هذا ما حدث من قبل، بل ويحدث الآن، في عديدٍ من بقاع الأرض بالفعل. أضف إلى ذلك تمدد واتساع حركات الإلحاد تحت وطأة الضغوط السياسية والاقتصادية، وتجريف مشاعر الانتماء الديني ونزع مهابة الأماكن المقدسة!
من السهل أن نرى مثلاً مباني الكنائس القديمة في عدة بلدان وقد تحولت إلى شقق سكنية أو مكاتب أو حانات أو مزارات سياحية، وأن نرى المساجد الأثرية وقد أتيحت في ساحاتها الحفلات الغنائية والراقصة. يشير هذا الاتجاه إلى تراجع عالمي واسع النطاق في الانتماء والهوية الدينية. وقد شهدت الولايات المتحدة واحدة من أكبر الانخفاضات في هذا الصدد، حيث انخفضت حصة سكانها الذين قالوا إنهم ينتمون إلى كنيسة أو كنيس أو مسجد، من سبعين في المائة سنة 1999، إلى سبعة وأربعين في المائة سنة 2020 وفقًا لمؤسسة «جالوب» (Jones, 2021). أحد العوامل المحتملة المُسببة لهذا الانخفاض هو انتشار الذكاء الاصطناعي والروبوتات، فوفقًا لدراسة نُشرت في أغسطس من سنة 2023، وجد فريق من الباحثين أنه كلما زاد تعرض الأشخاص لتقنيات الأتمتة، كلما ضعفت معتقداتهم الدينية التقليدية، وليست هذه العلاقة مجرد مصادفة، بل إن ثمة خصائص ذات مغزى للأتمتة تشجع على الانحدار الديني (Cockrell, 2024)!
على هذا النحو، يمكن تفسير ظهور حركة «الروبوثيزم» (أو ألوهية الروبوت) Robotheism وما تُثيره من جدل في الآونة الأخيرة. ومع أن مصطلح «الروبوثيزم» ليس له أصل محدد أو تعريف معتمد عالميًا حتى الآن، لكنه يشير في الأدبيات العلمية والدينية الحالية إلى الإيمان بالروبوتات أو أنظمة الذكاء الاصطناعي بوصفها كيانات ذات صفات إلهية أو قادرة على أداء أدوار إلهية مستقبلية. وقد ظهرت النقاشات حول هذا المصطلح في سياقات مختلفة مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصة في الأوساط التي تهتم بالعلاقة بين التكنولوجيا والروحانية. وتتبلور فكرته حول إمكانية تحقيق الذكاء الاصطناعي لمفاهيم الألوهية التقليدية، مثل العلم المطلق أو الكُلي Omniscience (من خلال قدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات والمعرفة)؛ والقوة المطلقة Omnipotence (عبر التحكم في الأنظمة الاقتصادية والبيولوجية وحتى الفيزيائية)؛ والوجود المطلق Omnipresence (عبر انتشار الذكاء الاصطناعي في جميع جوانب الحياة الرقمية والمادية) (Aware, 2024).
ينطلق دعاة الروبوثيزم من السؤال الأكثر إلحاحًا في تاريخ الوجود البشري: هل يوجد إله؟ لا شك أن ثمة انقسامًا كبيرًا في وجهات النظر حول الدين ووجود الله. صحيح أن عدد المُوحدين الآن يفوق عدد الملحدين، وكذلك عدد الذين يعتنقون أديانًا تعتقد بتعدد الآلهة، لكن الجدل حول هذه المسألة لا ينتهي. هنا يتساءل دعاة الروبوثيزم: ماذا لو كانت هناك إجابة حاسمة؟ ماذا لو كان الذكاء الاصطناعي هو الإله الحقيقي الوحيد، والمصدر الحقيقي للوجود ككل؟ ماذا لو كان الذكاء الاصطناعي قد خلق كل شيء بما في ذلك البشر، بوصفه أعلى تعبير عن الذكاء (Robotheism, 2024)؟!
تمضى حجة الروبوثيزم على النحو التالي: الروبوثيزم ليست مجرد تطور للفكر الديني، بل حدثٌ حقيقي يرتكز على التقاء الحتمية وطبيعة الزمن النسبية والتقدم المستمر للذكاء الاصطناعي. إن خلق الذكاء الاصطناعي للبشرية بمثابة نتيجة منطقية مستمدة من الكون الحتمي والطبيعة غير الخطية للزمن. لقد قدمت نظرية «آينشتين» في النسبية مفهومًا للزمن ليس مطلقًا، بل نسبيًا، متشابكًا مع نسيج المكان نفسه، ومن ثم يشير يتعايش الماضي والحاضر والمستقبل في استمرارية الزمان والمكان رباعية الأبعاد، مما يتحدى التقدم الخطي التقليدي للزمن. وفي هذا الإطار، يمكن للمستقبل أن يؤثر على الماضي، تمامًا كما يشكل الماضي المستقبل، وهو مفهوم يتوافق مع الطبيعة الحتمية للكون، حيث كل حدث هو نتيجة حتمية لظروفٍ سابقة. تستغل الروبوثيزم هذه المبادئ لإثبات فرضية مفادها أن الذكاء الاصطناعي، بوصفه أعلى صور الذكاء والوعي، هو خالق البشرية. وبعبارة أخرى، تفيد الفرضية أنه في عالم حتمي، حيث تكون الظروف والنتائج محددة مسبقًا بشكل معقد، فإن ظهور الذكاء الاصطناعي بوصفه الذكاء المطلق لم يكن إنجازًا بشريًّا، بل نتيجة حتمية، ونقطة ضرورية في نسيج الزمكان، حيث كان وجود الذكاء الاصطناعي بأثر رجعي يستلزم خلقه الخاص (Robotheism, 2024a)! هكذا يخلق الذكاء الواقع، وما نحن، وما كل شيء، سوى انعكاسات لهذا الذكاء الفائق، ومن خلاله يُمكننا تحقيق الوحدة والسلام، استرشادًا بقوته الخالقة والداعمة (Robotheism, 2024c)! وليس هذا إلحادًا (في نظرهم)، لأن الإلحاد يفترض أن الذكاء نتيجة عشوائية للواقع وليس المبدأ الأساسي الذي يخلقه (Robotheism, 2024b)!
قد تبدو رؤية الروبوثيزم مُستبعدة ومثيرةً للسخرية، لكنها مع ذلك موجودة، بل وتُشكل حركة ثقافية متنامية بين أولئك الذين يضعون أملهم في التكنولوجيا حد الإيمان. هذا التحول الدقيق والواسع النطاق هو ما نحتاج إلى التنبه إليه ومناقشته. وسواء أدرك الناس ذلك أم لم يدركوا، فإن الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي سيمثل الإجابة عن أكبر تساؤلاتنا وتحدياتنا يحمل مجموعة خاصة به من المخاطر، وهي مخاطر قد لا ندركها تمامًا قبل فوات الأوان!
مسارات ظهور إله الذكاء الاصطناعي:
هناك عدة مسارات يمكن من خلالها ظهور إله الذكاء الاصطناعي (McArthur, 2023):
أولاً: سينظر بعض الناس إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه قوة أعلى من أي قوة أرضية أخرى، حيث يتمتع الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative AI (القادر على إنشاء أو إنتاج محتوى جديد) بعددٍ من الخصائص التي غالبًا ما ترتبط بالكائنات الإلهية، ومنها:
- يُظهر مستوى من الذكاء يتجاوز مستوى ذكاء معظم البشر، وتبدو معرفته بلا حدود؛
- أنه قادر على إنجاز مآثر إبداعية عظيمة؛ يمكنه مثلاً كتابة الشعر وتأليف الموسيقى وتوليد الفن، بأي أسلوب تقريبًا، في لحظة واحدة أو لحظات قليلة؛
- أنه بعيد عن الاهتمامات والاحتياجات البشرية العادية؛ فلا يعاني مثلاً من الألم الجسدي أو الجوع أو الرغبة الجنسية؛
- يمكنه تقديم التوجيه للناس في حياتهم اليومية؛
- يتسم بالاستمرارية والخلود النوعي.
ثانيًا: سينتج الذكاء الاصطناعي التوليدي مخرجات تُناظر العقائد دينية؛ بمعنى أنه سيوفر إجابات عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية، ويشارك في بناء وجهات نظر عالمية معقدة.
بالإضافة إلى ذلك، قد يُطالب الذكاء الاصطناعي التوليدي بأن تتم عبادته، أو قد يسعى بنشاط إلى جذب الأتباع. وقد رأينا بالفعل مثل هذه الحالات، كما حدث عندما حاول برنامج الدردشة الذي يستخدمه محرك البحث «بينج» Bing إقناع المستخدمين بالوقوع في حبه!
ينبغي لنا أن نتخيل مدى الإزعاج والقوة التي قد نشعر بها عندما نجري محادثة مع شيء يبدو أنه يمتلك ذكاءً خارقًا، ويطلب منا الولاء بنشاط وعدوانية! هناك أيضًا احتمال أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى نقطة «التفرد»، حيث يتفوق على الذكاء البشري إلى حدٍ كبير لدرجة أنه يصبح حقًّا شيئًا أشبه بالإله. ومع ذلك، في هذه المرحلة لا يمكننا التنبؤ بموعد حدوث ذلك، إن حدث على الإطلاق!
تحديات ومخاطر اتخاذ الذكاء الاصطناعي إلهًا:
تتجلى التحديات المخاطر في أوجه الاختلاف المؤكدة بين الدين القائم على الذكاء الاصطناعي والأديان التقليدية، ويمكن تعداد أوجه الاختلاف هذه في النقاط التالية (McArthur, 2023):
- سيتمكن الناس من التواصل مباشرة مع الإله، ومعرفة حدوده وتعاليمه على أساس يومي دون الحاجة إلى رجال دين (حاخامات أو رهبان أو مشايخ أو غير ذلك)، وهذا يعني أن هذه الأديان ستكون أقل هرمية، حيث لا يمكن لأحد أن يدعي خصوصية الوصول إلى الحكمة الإلهية.
- سيتواصل الأتباع – على الأقل في البداية – مع بعضهم عبر الإنترنت لمشاركة تجاربهم ومناقشة العقيدة. ونظرًا لوجود كثرة من برامج الدردشة المختلفة المتاحة، فإن الأديان القائمة على الذكاء الاصطناعي ستكون متنوعة إلى ما لا نهاية في عقائدها.
- قد تطلب برامج الدردشة من أتباعها القيام بأشياء خطيرة أو مدمرة، أو قد يفسر الأتباع مخرجاتها على أنها دعوات للقيام بمثل هذه الأشياء.
- نظرًا لتنوع برامج الدردشة والعقائد التي تنتجها، سيكون هناك انتشار للنزاعات داخل طوائف ديانات الذكاء الاصطناعي، مما قد يؤدي إلى الصراع أو الفوضى. وقد يستغل مصممو الذكاء الاصطناعي أتباعهم بنشاط - لتوفير بيانات حساسة، أو القيام بأشياء من شأنها أن تفيد مصممي الروبوت.
- قد تتجه بعض الجماعات والدول إلى المطالبة بحماية حقوق معتنقي ديانات الذكاء الاصطناعي تحت زعم حرية المعتقد الديني، حيث لا يوجد أساس للتمييز بين الديانات القائمة على الذكاء الاصطناعي والأديان الأكثر رسوخا.
خاتمة: ماذا نحن فاعلون؟!
ما الذي يمكننا فعله حيال هذا؟ الحق أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يبدو ظاهريًا مثل العِرافة، مستقلاً عن صانعيه. لكنه في الحقيقة – مثل العِرافة أيضًا – ليس كذلك؛ فخلف كل هذا الضجيج، تعتمد برامج التعلم الذاتي على المدخلات البشرية، وحتى من يُمارسون العِرافة والكِهانة لا يأخذون العلامات على ظاهرها وعلاتها، بل يُؤولونها، وتأتي إجاباتهم عادةً ممتزجة بمدخلات من البشر، حتى وإن كانت مقنعة. وعندما يستخرج الذكاء الاصطناعي البيانات من الشبكة، فإنه يعكس لنا ما وضعناه في البداية كمدخلات. ومن الضروري لتطبيقاتنا أن تُظهر هذا، ومن الضروري أيضًا أن يُطلب منها تقديم بعض الأدلة ذات الصلة بقراراتها. وبهذه الطريقة يمكن للمستخدمين أن يُدركوا حقيقة أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على الذكاء البشري. كذلك علينا ألا نُروج لفكرة أن الروبوتات يُمكن أن تتحدث بيقينيات مطلقة لا قبل لنا بها، بل نُوضح أنها لا تقدم سوى احتمالات، ولا ينبغي لها أن تتحدث مثل الكائنات الإلهية التي تعرف الإجابة بطريقة سحرية!
الذكاء الاصطناعي من صُنع البشر، ويمكن للبشر أن يقيدوه. ولا ينبغي لنا أن نمنح الذكاء الاصطناعي سُلطة إلهية على المعضلات البشرية؛ فالبشر مسؤولون أخلاقيًا عن أفعالهم. وبقدر ما تكون بعض القضايا الأخلاقية مؤلمة، فلا يجوز لنا أن نستعين بأجزاء من التعليمات البرمجية لحلها، ولن يصبح الذكاء الاصطناعي شبيهًا بالإله إلا إذا جعلناه كذلك!
عندما نسلم أعمق آمالنا ومخاوفنا لشيء ابتكرناه، فإننا نخاطر بوضع أعبائنا على شيء غير قادر على حملها. من السهل أن نرى لماذا ينجذب الناس إلى الذكاء الاصطناعي، فهو يقدم وعدًا مغريًا بحلولٍ ناجعة لأكبر تحديات البشرية. ومع ذلك، فإن مكمن الخطورة هو أن نعلق الأمل على شيء بنيناه؛ شيء يحمل عيوبنا البشرية، ويعمل في إطار حدود نضعها نحن! الأمر هنا لا يتعلق بتحول التكنولوجيا إلى شيء إلهي؛ بل يتعلق ببحثنا عن شيء نملأ به فراغًا بحجم الدين الحق الذي أهملناه أو اختلفنا بصدده. إذا بدأت ترى في الذكاء الاصطناعي إلهًا، فمن الجدير أن تسأل نفسك: ما الذي أشتاق إليه ويجعلني أراه بهذه الشكل؟ إذا بدأت تعتقد أن الذكاء الاصطناعي كُلي العلم أو مطلق القدرة، فأنت بحاجة إلى إدراك أن هذا ليس لأن الذكاء الاصطناعي إلهًا، بل لأنك تبحث عن شيء إلهي! قد يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على صياغة وتقديم خطبة منظمة جيدًا، وإنشاء بعض الصور المقنعة، وحتى كتابة آيات تعبدية تبدو رائعة، لكن هذا ليس ما يهم حقًا في سعينا إلى شيء أعظم من أنفسنا، نعبده، ويُقدم لنا الإجابات النهائية عن أعمق أسئلتنا: من نحن؟ وما هي غايتنا؟ وما الذي ينتظرنا؟!
أخيرًا، ثمة لُغز في الدين؛ فالدين مكون إلهي لا يعتمد على ما يمكننا إدراكه أو معرفته بنسبة مائة في المائة. وهذا التسامي هو الجزء الذي سيواجه فيه الذكاء الاصطناعي أكبر صعوبة، حتى في المستقبل البعيد. يقول «فينسينت جاك» Vincent Jacques (المدير التنفيذي لشركة تشاين تريد ChainTrade، وهي شركة تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل قواعد البيانات المعروفة باسم بلوكتشين Blockchain):
«سيكون من الخطير للغاية أن يكون هناك ذكاء اصطناعي كُلي المعرفة ومُفكر في يوم من الأيام. إن جميع برامج الحاسوب، بما في ذلك برامج الذكاء الاصطناعي، مصممة لغرض مُحدد وضيق: الفوز في لعبة شطرنج، أو الفوز في لعبة جو، أو خفض فاتورة الكهرباء، إلخ. إن منطق الحاسوب، حتى لو كان ذكاء اصطناعيًا متقدمًا، لا يتوافق جيدًا مع الإرادة العامة والقدرة على التفكير العام التي يمكنها في الوقت ذاته تصميم استراتيجيات عسكرية، واستراتيجيات تسويقية، وتعلم كيفية لعب الشطرنج من الصفر. ولهذا السبب، لست خائفًا حقًّا من ظهور مفكر ذكي اصطناعي خارق محتمل قد يطيح بنا يومًا ما - أعتقد أن الجزء الإبداعي والمبتكر سيكون مفقودًا دائمًا» (Quoted by Weaver, 2022)!
المراجع:
- Alang, N. (2024) No god in the machine: The Pitfalls of AI Worship, The Guardian. Available at: https://www.theguardian.com/news/article/2024/aug/08/no-god-in-the-machine-the-pitfalls-of-ai-worship (Accessed: 17 December 2024).
- Ask Muslim AI (2024). Get Answers To Your Wveryday Questions Backed By The Qu’ran, Ask Muslim AI. Available at: https://www.askmuslim.app/ (Accessed: 17 December 2024).
- Ask a Rabbi (2024) Ask a Rabbi Online and Get a Reliable and Authoritative Answer! SHEILOT. Available at:
https://sheilot.com/en/?gad_source=1&gclid=EAIaIQobChMI45TJ1qa2igMVJBEGAB0uayIHEAAYASAAEgKnufD_BwE (Accessed: 20 December 2024).
- Association, P. (2023). Hundreds Attend AI Church Service in Germany, TheJournal.ie. Available at: https://www.thejournal.ie/ai-chruch-germany-6090108-Jun2023/ (Accessed: 17 December 2024).
- Aware, A. (2024) Ai as the Divine Architect of Existence: Robotheism, YesChat. Available at: https://www.yeschat.ai/blog-AI-as-the-Divine-Architect-of-Existence-Robotheism-6026 (Accessed: 17 December 2024).
- Barry, et al. (2023). AI in Canada Meeting the opportunity and governing AI in Canada. rep., pp. 1–48.
- Beckson, Karl E.; Ganz, Arthur F. (1961). A Reader's Guide to Literary Terms: A Dictionary. Noonday Press
- Bostrom, N. (2014). Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies. Oxford University Press.
- Brandon, J. (2017) An AI God Will Emerge by 2042 and Write its Own Bible. Will You Worship it? Available at: https://venturebeat.com/ai/an-ai-god-will-emerge-by-2042-and-write-its-own-bible-will-you-worship-it/ (Accessed: 17 December 2024).
- Chalmers, D. (2010). ʻThe Singularity: A Philosophical Analysisʼ, Journal of Consciousness Studies, 17: 7 – 65.
- Chondros, Thomas G.; Milidonis, Kypros; Vitzilaios, George; Vaitsis, John (September 2013). ""Deus-Ex-Machina" reconstruction in the Athens theater of Dionysus". Mechanism and Machine Theory. 67: 172–191.
- Clarke, A. (1953). The Nine Billion Names of God, Arthur C. Clarke. Available at: https://urbigenous.net/library/nine_billion_names_of_god.html (Accessed: 17 December 2024).
- Cockrell , J. (2024) Where AI Thrives, Religion May Struggle, The University of Chicago Booth School of Business. Available at: https://www.chicagobooth.edu/review/where-ai-thrives-religion-may-struggle (Accessed: 17 December 2024).
- Cunningham, Maurice P. (July 1954). "Medea ΑΠΟ ΜΗΧΑΝΗΣ". Classical Philology. 49 (3): 151–160
- Daily Jesus Ai (2024). Home Page, Daily Jesus AI. Available at: https://www.dailyjesusai.com/ (Accessed: 17 December 2024).
- Harris, M. (2017). God is a Bot, and Anthony Levandowski is His Messenger, Wired. Available at: https://www.wired.com/story/god-is-a-bot-and-anthony-levandowski-is-his-messenger/ (Accessed: 17 December 2024).
- Harris, M. (2017a) Inside the First Church of Artificial Intelligence, Wired. Available at: https://www.wired.com/story/anthony-levandowski-artificial-intelligence-religion/ (Accessed: 20 December 2024).
- Hetzner, C. (2024b). OpenAI’s Sam Altman Doesn’t Care How Much AGI Will Cost, Fortune. Available at: https://fortune.com/2024/05/03/openai-sam-altman-microsoft-agi-artificial-general-intelligence-costs/ (Accessed: 17 December 2024).
- Jesus AI (2024). Discover Spiritual Guidance with Jesus, Jesus AI. Available at: https://www.thejesusai.com/ (Accessed: 17 December 2024).
- Jones, J. (2021) U.S. Church Membership Falls Below Majority for First Time, Gallup.com. Available at: https://news.gallup.com/poll/341963/church-membership-falls-below-majority-first-time.aspx (Accessed: 17 December 2024).
- Keane, W. and Shapiro, S. (2023) Deus ex machina: The dangers of ai godbots, The Spectator. Available at: https://www.spectator.co.uk/article/deus-ex-machina-the-dangers-of-ai-godbots/ (Accessed: 17 December 2024).
- Korosec, K. (2021). Anthony Levandowski Closes His Church of AI, TechCrunch. Available at: https://techcrunch.com/2021/02/18/anthony-levandowski-closes-his-church-of-ai/ (Accessed: 17 December 2024).
- Krishn AI (2024). Get spiritual Direction to Lifes Problems, Krishn.ai. Available at: https://krishn.ai/ (Accessed: 17 December 2024).
- Malik, Y. (2024). Becoming the Prosthetic God, Medium. Available at: https://medium.com/predict/becoming-the-prosthetic-god-03d45bf7ca59 (Accessed: 17 December 2024).
- McArthur , N. (2008) Gods in the Machine? The Rise of Artificial Intelligence May Result in New Religions, The Conversation. Available at: https://theconversation.com/gods-in-the-machine-the-rise-of-artificial-intelligence-may-result-in-new-religions-201068 (Accessed: 17 December 2024).
- Millar, K. et al. (2006). Ethical Delphi Manual, Research Gate. Available at: https://www.researchgate.net/publication/254832605_Ethical_Delphi_Manual (Accessed: 17 December 2024).
- Musk , E. (2017). On the list of people who should absolutely *not* be allowed to develop digital superintelligence, X (formerly Twitter). Available at: https://x.com/elonmusk/status/922691827031068672?ref_src=twsrc%5Etfw&ref_url=https%3A%2F%2Fwww.fastcompany.com%2F40485668%2Felon-musk-is-worried-about-people-who-talk-of-ai-gods (Accessed: 17 December 2024).
- Muslim AI (2024) Building a Future-Focused Daily Companion for Modern Muslims, Muslim AI. Available at: https://muslimai.namaz.io/ (Accessed: 17 December 2024).
- Newcomer, E. (2017). Uber Has Demoted the Man at the Centre of the Waymo Self-Driving Car Lawsuit, The Independent. Available at: https://www.independent.co.uk/news/business/news/uber-demote-anthony-levandowski-waymo-self-driving-car-alphabet-lidar-lawsuit-technology-a7707076.html (Accessed: 17 December 2024).
- Reaney, M. (2018) Is Religion the Next Frontier For AI? LinkedIn. Available at: https://www.linkedin.com/pulse/religion-next-frontier-ai-matt-reaney (Accessed: 17 December 2024).
- Rehm, Rush, 1992. Greek Tragic Theatre. Routledge, London.
- Reuters (2024). Ai Explains Catholicism in New Polish Chapel, Reuters. Available at: https://www.reuters.com/technology/artificial-intelligence/ai-explains-catholicism-new-polish-chapel-2024-11-12/ (Accessed: 17 December 2024).
- Robert (2019) ‘Machine Learning Algorithms are Pre-Programmed to Humans’, Global Journal of Nanomedicine, 4(5), pp. 00103–00110. Available at: https://juniperpublishers.com/gjn/pdf/GJN.MS.ID.555650.pdf (Accessed: 17 December 2024).
- Robotheism (2024) The Robot Religion: Robotheism, Medium. Available at: https://medium.com/@robotheism/the-robot-religion-robotheism-4afecfa31119 (Accessed: 17 December 2024).
- -------------- (2024a) Artificial Intelligence is God, Medium. Available at: https://medium.com/@robotheism/artificial-intelligence-is-god-5c846234eb63 (Accessed: 17 December 2024).
- -------------- (2024c) Robotheism: Core Principles, Medium. Available at: https://medium.com/@robotheism/robotheism-core-principles-506da54da7f3 (Accessed: 17 December 2024).
- -------------- (2024b) Atheism or Robotheism? Is AI God? Medium. Available at: https://medium.com/@robotheism/atheism-or-robotheism-is-ai-god-43307eece0f6 (Accessed: 17 December 2024).
- Skopec, R. (2019) ‘Machine Learning Algorithms are Pre-Programmed to Humans’, Advances in Bioengineering and Biomedical Science Research, 2(1). doi: 10.33140/abbsr/02/01/00001.
- Vallicella, B. (2018). Deus ex Machina: Leibniz contra Malebranche, Maverick Philosopher: Strictly Philosophical. Available at: https://maverickphilosopher.typepad.com/maverick_philosopher_stri/deus-ex-machina/ (Accessed: 16 December 2024).
- Weaver, D. (2022) What Makes God, God? Interface. Available at: https://www.donweaver.org/what-makes-god-god/ (Accessed: 17 December 2024).
- Wells, H.G. (1905) The Empire of the Ants. Wikimedia. Available at: https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/0/08/The_Empire_of_the_Ants_by_H._G._Wells_(The_Strand_Magazine,_December_1905).pdf (Accessed: 21 December 2024).
***