الإمام الشافعي مؤسسا لعلم أصول الفقه ومجدّدا له
فئة : مقالات
يعتبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) أحد مؤسسي المذاهب السنية الأربعة الكبرى في العالم الإسلامي، وهو المذهب الشافعي. ومن أهمّ ما وصلنا من هذا الفقيه الحجازي العربي كتاب فقهي موسوم بكتاب "الأم"، وكتاب "الرسالة" الذي عدّ الأثر التأسيسي لعلم أصول الفقه.
وقد عدّ بعض علماء أهل السنة الشافعي مجدّد القرن الثاني للهجرة؛ فما هي مستندات هذا الرأي في صلته بعلم أصول الفقه؟
يقوم هذا الرأي أساسا، على أساس كتاب الرسالة الذي صنّف الشافعي نسخة أولى منه، إمّا في مكّة أو في بغداد، وهذه النسخة القديمة لم تبلغنا. إلاّ أنّ كثيرا من نصوصها توجد في كتب بعض العلماء المتأخرين. وعلى خلاف ذلك، وصلتنا النسخة الجديدة من الرسالة، وهي موضوعة في مصر بين سنة 199 هـ، وهو التاريخ الذي وصل فيه الشافعي إلى هذا البلد، وسنة 204 هـ تاريخ وفاته.
والملاحظ، أنّ اسم الرسالة ليس من وضع مؤلّفها، الذي أطلق عليها اسم الكتاب؛ ويظهر أنّها سمّيت الرسالة في عصره بسبب إرساله إياها إلى عبد الرحمان بن مهدي، وهو أحد محدّثي البصرة (ت. 192 هـ أو 198 هـ)، وكان هذا المحدّث قد طلب من الشافعي أن يضع له كتابا يتضمّن معاني القرآن، ويجمع فيه قبول الأخبار؛ أي شروط قبول الحديث، ويبيّن فيه حجيّة الإجماع والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنّة[1]، فأجابه الشافعي إلى طلبه الذي عدّ السبب الظاهر لتأليف الرسالة.
ويمكن تبويب مباحث الرسالة إلى عناصر أربعة؛ أوّلها المباحث المتصلة بالقرآن، كالخاص والعام والنسخ، والثاني المباحث الخاصّة بالسنّة، وخاصّة خبر الآحاد واختلاف الحديث، والثالث خاص بالإجماع، والرابع بالقياس. ولئن كانت الرسالة لم تذكر إلاّ نادرا في كتابات القرن الثالث، ولم تُثِر أيّ ردّ أو شرح، فإنّ أواخر هذا القرن شهدت بداية الاهتمام بها بفضل عدد من أعلام الشافعيّة، في مقدّمتهم أبو العباس بن سريج (ت. 306 هـ)، الذي وصف بالشافعي الصغير ومجدّد القرن الرابع؛ فقد كان زعيم المذهب الشافعي، ومن أهمّ ناشريه بسبب كثرة تلاميذه.
وقد وضعـت فـي هـذا القـرن عـدّة شـروح للرّسالـة لـم تصلنـا كلّهـا، على غرار شرح أبي بكر الصيرفي (ت. 330 هـ)، وشرح أبي الوليد النيسابوري (ت. 349 هـ)، وشرح القفال الكبير الشاشي (ت. 365 هـ)، وشرح أبي بكر الجوزقي النيسابوري (ت. 378 هـ)، وشرح أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين (ت. 438 هـ).
لذلـك نستغـرب ما قرّره بعـض الباحثيـن المعاصريـن، مـن أنّ شـرّاح الرسالة كانوا بين متكلّمين وفقهاء، فنزع كلّ فريق منهم المنزع المناسـب لفنّه، فعني الفقهاء بجانب الاستنباط والتفريع، واهتمّ المتكلّمون بما توحي به مباحث الكلام.[2]
لكنّ الاحتفاء برسالة الشافعي منذ القرن الرابع بالخصوص، لم يمنع من نقدها داخل الفكر السنّي أو خارجه، من ذلك نقد الجصاص لها في كتابه "الفصول في الأصول". ومن خارج الدائرة السنيّة ظهر نقض لرسالة الشافعي كتبه أبو سهل النوبختي الشيعي[3] (ت. 311 هـ)، كما دوّن القاضي النعمان الإسماعيلي (ت. 361 هـ) "الرسالة المصرية في الردّ على الشافعي".[4]
ولئن كان السبب الظاهر والمباشر لتأليف الشافعي رسالته، يتمثّل في طلب عبد الرحمان بن مهدي، فإنّ الدوافع الخفيّة لعمله تكمن في الواقع التاريخي الذي رسم له ابن قتيبة (ت. 276 هـ) صورة قاتمة[5]؛ فالبيان القرآني أضحى يتهدّده اقتحام الدخيل اللغة العربية، ممّا أدى إلى فساد السليقة العربيّة، وضعف المدارك عن فهم مقاصد الشريعة. وقد ندّد الشافعي بشدّة في مقدّمة رسالته بقوم وصفهم بأنّهم تكلّموا في العلم، وهم يجهلون أساليب العربيّة، وهذا مصدر الاختلاف والتنازع في نظره.[6]
إلى جانب هذا، كانت وضعيّة الفقه قد بلغت حدًّا من الاضطراب والفوضى، بسبب حريّة الاجتهاد في ذلك العصر، وحدوث مشكلات لم يرد فيها نصّ قرآني صريح، واختلاف فقهاء الأمصار المستندين إلى أعراف مناطقهم. وقد ظهر الخلاف الفقهي منذ نشأة المدارس الفقهيّة، حوالي النصف الأوّل من القرن الثاني للهجرة؛ وهي مدارس تتوزّع على ثلاثة مراكز جغرافيّة هي: الحجاز والعراق والشام. وقد أدى ذلك إلى تعدّد الأحكام، والاجتهادات الفرديّة وتنوّعها، إلى درجة تناقضت معها أحكام القضاة في نفس القضيّة، بين منطقة وأخرى. ولعلّ أهمّ تجليات هذا الخلاف، المناظرات التي جمعت علماء المدينة الواحدة أو علماء المدن المختلفة[7]، واشتداد الخلاف بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث خصوصا.
ومن تجليات اهتمام المعاصرين بكتاب الرسالة، كثرة طبعاتها، وخاصة الطبعة التي حققها أحمد محمد شاكر، ونشرت بالقاهرة سنة 1940، وهي مقسمة إلى 1821 فقرة مرقمة. أمّا ترجمتها إلى اللغات الأجنبية، فقد دشنت بترجمة هولاندية سنة 1934L Graf,al Shafii’s verhandeling over de Wortelen van den fikh , Leiden, 1934
ثم ظهرت ترجمة إنجليزية للرسالة سنة 1961، على يد مجيد خدوري، ثم طبعها مجددا سنة 1987 (Imam al-Shafi`i, tr. Majid Khadduri, Al-Shafi`i’s Risala: Treatise on the Foundations of Islamic Jurisprudence (Cambridge, 1987
وبرزت ترجمة فرنسية جزئية للرسالة سنة 1972، على يد (Ph.Rancillac )، في العدد 11 من مجلة MIDEO. أمّا الترجمة الفرنسية الكاملة لها، فقد أنجزها لخضر السوامي، ونشرت بباريس سنة 1997 في 527 صفحة .lakhdar Souami, la Risala, les fondements du droit musulman, Sindbad, Paris, 1997
ومن الركائز التي استند إليها لاعتبار الشافعي مجددا، تأسيسه لعلم أصول الفقه، لكن إلى أيّ مدى يمكن اعتبار الشافعي مؤسّس علم أصول الفقه؟
تكاد المصادر القديمة تجمع على أنّ الشافعي أوّل من صنّف في أصول الفقه، وهذا الموقف غير خاص بعلماء الشافعيّة، بل شاطرهم فيه أيضا علماء المالكيّة والحنبليّة وغيرهم.
فعلى صعيد علماء المذهب الشافعي، نجد الجويني يقرّ أنّه لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها.[8] أمّا فخر الدين الرازي؛ فهو يعتبر أنّ نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطوطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وهو يرى أنّ الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلّمون في مسائل الفقه ويستدلّون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كليّ يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفيّة معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للناس قانونا كليّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلّة الشرع.[9]
ونسج الزركشي على نفس المنوال، معتبرا أنّ أول من صنّف في أصول الفقه هو الشافعي، صنّف فيه كتاب "الرسالة"، وكتاب "أحكام القرآن"، و"اختلاف الحديث"، و"إبطال الاستحسان"، وكتاب "جماع العلم"، وكتاب "القياس" الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثمّ تبعه المصنّفون في الأصول.[10]
وتوجد شهادات أخرى تبرز أوليّة الشافعي في تأسيس علم أصول الفقه عند غير علماء الشافعيّة، من ذلك موقف ابن عقيل الحنبلي الذي اعتبر الشافعي أبا علم أصول الفقه،[11] وكذلك ابن خلدون المالكي؛ فهو يعتبر الشافعي أوّل من كتب في علم أصول الفقه، أملى فيه رسالته المشهورة[12]. لكن هل يوجد إجماع حول اعتبار الشافعي أوّل من صنّف في أصول الفقه، كما ذهب إلى ذلك الأسنوي الفقيه الشافعي وغيره[13]؟
إذا نظرنا في موقف المذهب الشيعي من المسألة، أمكن لنا التمييز بين مستويين؛ ففي المستوى الأوّل نجد الشيعة الذين يقرّون أنّهم لم يبتكروا علم أصول الفقه، وهذا التيّار يقف على رأسه الطوسي في كتابه "العدّة" يقول: "ولم يصنّف أحد من أصحابنا في هذا المعنى، إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله في المختصر الذي له في أصول الفقه[14]. وكانت لهذا الموقف امتدادات في العصر الحديث، فقد تبنّاه مثلا محقّق كتاب "العدّة"، معتبرا أنّ الشيعة الإماميّة كانوا في غنى عن القواعد الأصوليّة إلى بداية عصر الغيبة الكبرى؛ أي إلى سنة 329 هـ؛ ففي هذا التاريخ انتهى عصر الأئمّة المعصومين الذين كانوا امتدادا للرسول في بيان الأحكام، وبدأ العصر التمهيدي في علم الأصول. لكنّ هذا الباحث يشير إلى أن تقدّم أهل السنّة في تطبيق قواعد الأصول، لا يعني سبقهم في إبداع علم الأصول، بل إنّ الإماميّة في نظره أسبق من أهل السنّة في مجال وضع الأبحاث الأصوليّة.[15]
أمّا في المستوى الثاني، فإنّنا نجد بعض الشيعة المعاصرين يرفضون سبق الشافعي في تأسيس علم أصول الفقه، وينسبون هذا الشرف إلى علمائهم، ولعلّ من أهمّ من يمثّل هذا التيّار حسن الصدر؛ فهو يعتبر أنّ أوّل من أسّس أصول الفقه الإمام أبو جعفر الباقر (ت. 114 هـ)، ثم بعده ابنه الإمام أبو عبد الله الصادق (ت. 148 هـ)، يقول: "وقد أمليا على أصحابهما قواعده، وجمعوا من ذلك مسائل رتّبها المتأخرون على ترتيب المصنّفين فيه، بروايات مسندة إليهما متصلة الإسناد"[16]. ويرى هذا الباحث أن أوّل من صنّف في أصول الفقه قبل الشافعي، هشام بن الحكم (ت. 199 هـ)، المتكلّم من أصحاب أبي عبد الله الصادق، وقد ألّف فيه "كتاب الألفاظ ومباحثها".
[1]- انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 64/2-65
[2]- راجع مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 247
[3]- الطوسي، الفهرست، ص 40
[4]- ابن خلكان، وفيّات الأعيان 166/2
[5]- يقول ابن قتيبة: "فإنّك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام لأهل الحديث واتهامهم وإسهابهم في الكتب، بذمّهم ورميهم بحمل الكذب، ورواية المتناقض، حتى وقع الاختلاف، وكثرت النحل، وتقطّعت العصم، وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم بعضا، وتعلّق كلّ فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث"، تأويل مختلف الحديث، ص 29
[6]- الشافعي، الرسالة، ص 40
[7]- كانت هذه المناظرات تتمّ مشافهة تارة، ومكاتبة عن طريق الرسائل تارة أخرى، من ذلك أنّه لما بلغ مالكا أن الليث بن سعد (ت. 175 هـ)، وهو فقيه مصري يفتي بغير ما عليه أهل المدينة، كتب إليه رسالة يناظره فيها، وردّ عليها الليث ردّا جامعا بين فقه الرأي والحديث. انظر الرسالتين لدى ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين، 75/3
[8]- هذا الموقف ذكره الجويني في شرح رسالة الشافعي، انظر الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، 10/1
[9]- راجع الرازي، مناقب الإمام الشافعي، ص ص 98-99
[10]- الزركشي، المصدر نفسه، 10/1
[11]- يقول ابن عقيل: "وذلك أن الشافعي أبو هذا العلم وأمّه، وهو أوّل من هذب أصول الفقه، ومن غزارة علمه وكثرة فضله علم أن البيان ممّا لا يضبطه أحد"، الواضح في أصول الفقه، ص 103
[12]- راجع المقدمة ،816/1
[13]- انظر هذا الموقف لدى ابن العماد، شذرات الذهب، 9/2-10
[14]- المقصود الشيخ المفيد، انظر العدّة، 3/1-4
[15]- راجع محمد رضا الأنصاري القمي، فصل "دور الشيعة في تأسيس علم أصول الفقه"، ضمن مقدّمة تحقيق كتاب "العدّة" للطوسي.
[16]- حسن الصدر، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، ص 310