الإنسان العربي وحصار الثقافة
فئة : مقالات
الإنسان العربي وحصار الثقافة
يوسف هريمة
كلنا أو جلّنا أو بعضنا قد طرح يوما ما هذه الأسئلة: لماذا يطلبون منا أن نردد دوما ما يعرفون؟ أي ما هو ثابت في المجتمع، أو ما هو مستقر في وعينا ولا وعينا الثقافي، لماذا لا يتقبلون منا أن نكون أحرارا نتنفس ولو جزءا من إنسانيتنا وكينونتنا المختطفة؟ وهل التاريخ الذي نقرأه اليوم ويراد لنا أن نردده هو التاريخ نفسه الذي وقع في زمن ما، أو مرحلة معينة من هذا الزمن اللامتناهي أم التاريخ الحقيقي هو ذلك التاريخ غير المكتوب وليس التاريخ المكتوب؟. فنحن نعرف بأن الإنسان يولد معافىً إلا من سموم التّاريخ، بها وفيها يتشكل عقله. ولكي يستعيد نقاءه، عليه أن يكون خاليا من التاريخ ليكون مليئا بالحقيقة على رأي الجبران.
كل هذه الأسئلة وغيرها، تجرنا بشكل أو بآخر إلى أن نخوض تجربة نستحضر فيها هذا الاستعصاء الذي نعيشه ونحياه بوعي منا أو بغير وعي؛ لأننا نحتاج بالفعل إلى السؤال؛ لأنه وحده القادر على أن يجعلنا نبوح، أو نقول، أو نجرؤ على ما يمكن أن يكون بالفعل مأساة أو قلقا وجوديا يكشف عن محدودية وجودنا.
تحاصرنا الثقافة حدّ الموت، حينما تطلب منّا أنْ نردّد ما يعرفه النّاس لا ما نعرف؛ مشهد تختزله لحظة الاحتضار في الثّقافة اليابانية والإسلامية كما يرسم ذلك جمال علي الحلاق في روايته "تأجيل اللذة"؛ ففي الثقافة اليابانية عندما يصل شاعر للحظة الاحتضار، يطالبونه بقول جملة شعرية أخيرة، يسمّونها "نص الموت". أمّا في الثّقافة الإسلامية، فالأمر على النّقيض تماما، يحاصر المحتضر من المحيطين به بترديد "التشهّد"؛ أي بترديد ما يعرفون وليس ما يعرف.
الناس تعشق من يكون على شاكلتها؛ لأنها تخشى الاختلاف. تريدك أن تقول ما يقولون وتعرف ما يعرفون، وتحب ما يحبون، وتكره ما يكرهون، ولم لا تكون وجها من وجوه أعطابهم، أو أمراضهم، أو جروحهم. يحكي أن عليا بن أبي طالب قال للناس: "سلوني قبل أن تفقدوني" راغبا في قول ما يعرف، أو يعلم، لكنهم لم يستوعبوا الدرس، وانبرى أحدهم يسأله عن عدد شعرات لحيته. فكان السؤال من جنس السائل.
لكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا، هو كيف يمكنك أن تقول أو تحاول أن تقول شيئا لم يقل أو لا يراد لك أن تقوله؟
يمكنك ذلك أولا من خلال القراءة:
قبل أن نتحدث عن القراءة، يمكننا أن نشير إلى أنها ليست فقط تهجيا للحروف، وليست أيضا بكثرة الاطلاع الميكانيكي على أساطين الفكر والثقافة والأدب والفلسفة والتاريخ. لهذا القراءة شيء آخر يخشاه الناس، ويحدث في نفوسهم الكثير من عدم الأمان. الناس تخشى القراءة ليس لأنها لحظة من لحظات التفكير الموجع، ولا لأن ليس لديها من الوقت ما يكفيها لحمل هذا الكتاب أو ذاك، بل لأن المعرفة تشبه الفخ، تنصبه لكنك قد تقع فيه؛ معنى ذلك أن تجربة القراءة هي تجربة حادة تجعلنا نرى كل شيء بمنظار مغاير لما هو متداول، أو مستهلك، أو بديهي. إنها تشبه إلى حد بعيد المشي وسط حقل ألغام، كل حركة غير محسوبة فيه معناها التشظي والانفجار.
هنا تحضرني عبارات لألبرتو مانغويل، وهو يحدثنا عن القراءة، ذلك النشاط الإبداعي الذي يجعلنا في كل الأحوال إنسانيين؛ معنى ذلك أننا كائنات نختلف عن غيرنا بالقراءة، فنحن في الجوهر حيوانات قارئة، وأن القراءة تميزنا؛ معنى ذلك أننا كائنات مصممة على أن نقرأ قصة في أي شيء. في منظر طبيعي، في كون محيط بنا، في وجوه الآخرين وطباعهم؛ أي إننا نقرأ كل شيء كما نقرأ حياتنا، وحياة مجتمعاتنا.
حينما نقرأ كتابا أو صورة أو لوحة، يغدو هذا الشيء شيئا آخر؛ لأن القراءة ليست فقط ذلك النشاط الإبداعي الذي يميزنا عن كل ما هو غير إنساني، بل إن الكلمات المقروءة أو المشاهد، أو الصور تكون صدى لتجاربنا الخاصة، أو تهيئنا لتجارب جديدة، أو تروي لنا عن تجارب لن يكتب لنا الحظ أن نكون إحدى شخصياتها. يروي لنا ألبرتو مانغويل أنه حين ابتلي سكان ماكوندو بداء يشبه فقدان الذاكرة، وأدركوا أن معرفتهم بالعالم بدأت تختفي بوتيرة متسارعة، اكتشفوا أن الكلمات وحدها هي الترياق. وكي يتذكروا ما كان في عالمهم كتبوا بطاقات، وعلقوها على البهائم والأشياء (هذه بقرة/هذه شجرة...).
لكن ما معنى أن لا تقرأ؟. إنه ببساطة أنك لم تغطس في سحر الوجود بعد.
ما يبقى ثابتا هو متعة القراءة، متعة إمساك كتاب بيدي والشعور فجأة بذلك الشعور والإحساس الغريب من الدهشة والإدراك والفهم والحب. وإذا زاد على هذه المتعة الإنسانية متعة أخرى، وهي متعة النقد، والترجمة، والإضافة ازداد هذا العالم جمالا وكمالا. ولأن لهذا النشاط الإنساني متعة لا تشبهها متعة، فإن له أيضا جانبه الخطير والمهم والصعب والمثير في عالم الإنسان. لهذا قد حرموا علينا قراءة تاريخنا وتراثنا وأفكار من سبقونا واجتهاداتهم ومقولاتهم؛ لأن القراءة هي النشاط الصعب والمهدم لكل ثبات أو كل فكرة لا تستطيع الصمود أمام النقد وتقلبات الأفكار النقيضة. إن التاريخ كما يؤكد الحلاق لا ينهار بأكمله، ولا يختفي أيضا دفعة واحدة؛ لأن اختفاء عائلة، أو حركة ما، يعني ظهور عوائل وحركات كانت في طور الكمون، والكتمان. لأن انسحاب الضوء عن حدث ما، سيقود في النهاية إلى إضاءات هنا وهناك تجعل حركة التاريخ تأخذ طرقا أخرى.
التاريخ والتراث وما كتب في الماضي حي وولود؛ لأنه كتب بمتعة الكاتب أو الجهة التي كتبته أو رسمته، أو أقرته ليكون المزود الرسمي للأجيال المقبلة. إنها تنمية مستدامة من نوع آخر، تنمية لإشكاليات التاريخ ومآزقه حينما يورثها كل جيل للجيل الذي بعده. التاريخ يكتُبه السّيف لا القلم. ولأنّ وجوه النّاس كما عقولهم مفعمةٌ بالكذب... يتحوّلون إلى سماسرة يمشون سوية لا يفصل بينهم وبين الموقف سوى النفاق والشقاق...
يحكى أنه لمّا توجّه نابليون إلى باريس قادماً إليها من جزيرة ألبا، قال الفرنسيون: الخائن في الطّريق إلى باريس.
ولما دنا من أسوار باريس، قالوا: نابليون على أبواب باريس.
ولما دخل نسوا خيانته، وقالوا: البطل في باريس.
هذه هي لعنة التّاريخ، وهذا هو بؤس الإنسان.
فإذا كانت القراءة تقودها المتعة، فهل كتابة التاريخ والثقافة والحضارة والتراث تخضع لنفس المنطق؟
نعم، هي كذلك الكتابة مثلها مثل أيّ شكل من أشكال التعبير والتفكير والتأمل ليست فعلاً يقوده الاغتصاب. لماذا؟ يجيبنا جمال علي الحلاق بأن الكاتب وربما أيضا المفكر وكل من يجترح مناطق التفكر والتأمل لا يقع وقوع البهيمة على الورقة البيضاء. صحيح أن البياض يغري ويغوي، ولكنه يتطلب شهوة تتقن الدخول كلص يجعل البياض يرفع راية الاستسلام. لكن الكتابة ولو قادتها متعة الكتاب والأدباء والمؤرخين، إلا أن الحقيقة التاريخية التي يراد لها أن تطمس هي أن الناس على مدار التاريخ الطويل الذي عشناه، أو عاشوه، أو سيعيشه من بعدنا هم إما غالب أو مغلوب، وأن الغالب يطمس ما لدى المغلوب، وأن المغلوب يحاول جهده، ويقاوم ما استطاع إلى ذلك سبيلا أن يترك في هذا التاريخ أو ذاك ما يثبت وجوده، أو هويته. وهنا يمرّ الغالب إلى تقنية أخرى من تقنيات تهريب التاريخ وسرقته. وهذه التقنية تعتمد على ثلاث استراتيجيات كبرى وجب التنبه إليها:
1- التعمية: تتجلى هذه الممارسة بذكر الأخبار دون ذكر أصولها، فتبدو بلا تجذير، كما لو أنها نبتت في فراغ، كاستخدام أحدهم جملة من قبيل قال أحد الحكماء، أو قال أحدهم، أو عن بعض أهل العلم.
2- التضبيب: تتجلى هذه الممارسة بجعل الخبر أكثر انفتاحا، في القراءة والتأويل والفهم.
3- التجزيء: من خلال طرح جمل قصيرة وامضة سرعان ما تختفي في ظلمات الكتب الضخمة، لو أخذت على انفراد لما أنتجت معنى، يمكننا أن نؤسس عليه فهمنا، أو تأويلنا لحدث أو واقعة، أو قصة. لكنها في حالة تجميعها معا وإعادة تركيبها، فإنها تتحول في النهاية إلى آلية يمكن من خلالها الوصول أو الاقتراب من قراءة حادثة تاريخية معينة على أقل تقدير.