الإنسان وأقانيمه المقدسة


فئة :  مقالات

الإنسان وأقانيمه المقدسة

الإنسان وأقانيمه المقدسة

يوسف هريمة

مشكلة هذا الكائن الإنساني أنه منذ لحظة تفتق الوعي الأولى يجد نفسه مضطرا لأن يواجه الوهم، يعيش به تارة، ويحاربه تارة أخرى ليسقط في وهم آخر، وهكذا تعلّمنا كيف ننسج من الأوهام أحلاما، وكيف نجعل من الانتظار طريقا للخلاص. الأخطر في كل هذا الواقع هو أنّ في حلمك على حد تعبير بافيزي لستَ أنت المؤلف. لماذا؟؛ لأنّك لا تعرف حتى كيف سينتهي؟. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخروج من متاهات الوهم يبدأ منذ اللّحظة التي يتخلَّص فيها العقل الإنساني من الحماسة المفرطة في امتلاك الحقيقة.

لكن كيف تصير الفكرة أقنوما مقدسا يصعب تجاوزه أو تخطيه؟

ما يهم في هذا السياق، هو أن نثير الانتباه إلى دور المشتغلين بحراسة الأفكار في عالمنا المعاصر وهم ثلاثي (السياسي/المثقف/الأصولي)؛ فالفكرة قبل أن تتحول إلى أقنوم مقدس، يجب أن تمر من مصفاة ممتدة في الثقافة، وأهمها وجود الراعي الرسمي أيا كانت تسميته. والإشكالية هنا ليست قضية حرية فكرية، أو حق إنساني في التقديس أو التبخيس. وإنما المشكلة الحقيقية هي أن التقديس ليس رفعا للفكرة، ولا تطويرا لها. إنه مقتل الفكرة ذاتها من حيث لا تحتسب، حين تنقلب إلى ضدّها؛ وذلك لأنّ الأفكار كما يقول علي حرب، ليست شعارات ينبغي الدفاع عنها، أو مقولات ينبغي تطبيقها، بقدر ما هي أدوات لفهم الحدث، وتشخيص الواقع.

ولكي يتّضح الأمر بشكل جليّ، نأخذ أمثلة تجسد خطورة تقديس الأفكار، وعدم إخضاعها لمنطق النقد. فالعقلانية مثلا: ليست فكرة تقوم بذاتها ولذاتها، بقدر ما هي صياغة لتجاربنا وعلاقاتنا بالأشياء والأحداث، بلُغة مفهومية لا تكون نهائية، بل تخضع للنّسخ والتّعديل والتّطوير. كذلك الأمر بالنّسبة إلى الاستنارة، فهي مفهوم يتمّ تداوله بشكل واسع، دون الوعي بأنّه فسحة لممارسة حيوية الفكر، على نحو متواصل، للعودة النّقدية للفكر على ذاته، ومساءلة بداهاته وآليات اشتغاله. أمّا الحرية، فهي ليست مجرّد وهم نتعلّق به للتحرّر من سلطة الاستعباد والديكتاتورية، بقدر ما هي اندراجنا في هذا العالم بقواه وسلطاته، بأنظمته ومؤسَّساته عبر تفكيك المعنى، وأصول الحق، ومرجعيات القصد. وخلاصة الأمر، فدورنا ليس هو ترداد المفاهيم، وصياغتها واستهلاكها دون وعي لمآلاتها الواقعية، ولكنْ هو ذلك الّذي يقيم مع منظومة المفاهيم والقيم علاقة نقدية، تتيح له القدرة على إغناء مفاهيمه حول الحرية والاستنارة والعقلانية.

ربّما نحن ضحايا هذا اليقين الذي تختزنه ذاكرتنا البعيدة، تلك الذّاكرة الموشومة بطابع الإطلاق في كلّ شيء، إلى الحدّ الذي بتْنا نعيش حالة كرهٍ يشبه الهلوسة، أو الوسوسة من الآخر. هذه الحالة الثقافية المستعصية على الفهم، أو على الأقلّ على التفهّم نمرّ منها أفرادا وجماعات، وهي نتيجة حتمية ليقين نحمله كاللّعنة، ومفاده أنّ أولئك الذين يملكون أكثر منّا، قد كسبوا ذلك من خلال سرقتنا؛ فالسّلطة سرقت حريتنا، والأغنياء سرقوا أموالنا، والغرب سرق حضارتنا، وكأنّنا بهذا اليقين نتطهَّر من إثم وذنب نشعر به تّجاه الآخرين، أولئك الذين كانوا وما زالوا السّبب الرئيس في كوننا لا قيمة لنا في عالم اليوم. وهكذا تنمو عاطفتا الظلم والضّغينة كما يؤكّد جون ريفيير بوصفهما إسقاط معرفتنا اللاشعورية بكسلنا وخستنا على الآخرين. اليقين في الأشياء باختصار شديد هو المشهد الأخير من نهاية الوعي، أو الثّمرة الكبرى لمن يلاحق بكلّ دهشة حيوية الكسل والفشل.

اليقين والسير نحو الانهيار

خلف كلّ هذا اليقين المختزن في ذاكرتنا الجماعية، هناك أناس جعلوا من تديّنهم فاصلاً بين الحق والباطل، وبين الهداية والضلال، وبين أن تراعى حقوقك أو تهضم. داخل هذه الأنساق المغلقة، يقف الإنسان في مواجهة أيّة محاولة للتعقّل، أو الوقوف أمام ذاته لمساءلتها، أو التحاور معها بالشكل الذي يسهل عليه التعرف عليها، قبل أن يتعرف إلى الآخرين. هنا المفارقة، وهنا تكمن تفاصيل مؤلمة عن كيف يتحول الإنسان بعقائده ويقينياته إلى آلة في يد أفكاره، وأوهامه. دوماً كان الاقتراب من فهم الذّات، والخوف من تحطيم أصنامها، أو ما خالَه العقل يوماً من ثوابتها، أو خطوطها الحمراء مصدر الفزع الأكبر. نعم، إنّه الخوف من الاقتراب من المساحات المسكوت عنها، أو المساحات التي يراد أنْ يسكت النّاس عنها، أو هو الحظر المضروب على كلّ عقل يأبى التّسليم، ويستعيذ من كلّ عقل يقنع أو يشبع من السّؤال.

لم يتمّ كل هذا المسار بمعزل عن استراتيجيات، وآليات الضّبط والقمع الفكري، وعلى قمّتها الخوف؛ أيْ الخوف من المجهول، أو الخوف من الأفق الذي يحرّكه التّغيير، والتزحزح عن مناطق أماننا. لا شيء يحول بيننا وبين ما نصبو إليه غير الخوف. إنّه في كلّ مكان، وفي أيّ زمان، تتغيّر وسائله، وتقنياته، ودواعيه، ومبرّراته، ويبقى وجهُه مطلاًّ يحرُمنا أمل كلّ وصول. هو الخوف أو ذاك الشّعور الذي يلازمنا دون أنْ نتعرّف على كنهه أو ماهيته، سوى أنّه المحطم للآمال، أو الدّافع الخفيّ لكلّ المشاعر السّلبية، أو الهادر لوجودنا الذّاتي والجماعي.

هكذا تعلَّمْنا، وهكذا نشأْنا في بيئة تؤبّد فِعل الخوف والتّخويف، ليصير عقيدة في عُرف من استحال التّفكير لديهم إلى طابوهات ومحرّمات لا يمكن المساس بها. هو المسار نفسه يتكرّر ويتكرّر، لا شيء ينذر بقرب نهاية المشهد، بل كلّ ما هنالك هو تأبيدٌ هذا الفعل من أجل المزيد من الهدر الإنساني على جميع المستويات، والمحافظة على الوضع القائم ثقافياً بتجريم وتحريم وتأثيم النّقد، غير مدركين بأنّ النقد مهما قسا، فهو عملية تطهير شامل تؤلِم ولكنّها تريح. لم يكن سيوران واهماً، وهو يشير إلى أنّ النّقد هو تفسير خاطئٌ ومعكوس: ينبغي أنْ تتمّ القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر. ربّما يشير سيوران إلى أزمة المعنى، فكلّ ما يشير إليه النَّقد في ثقافتنا، يكون في اتّجاه الآخر، متناسين ذواتنا، وأشياءنا وأفكارنا، وما نشأْنا فيه ومنه بفعل القهر الاجتماعي. لهذا، ونحن نستلهم ما قاله سيوران نقترح أو بالأحرى نتساءل ماذا لو انسحبنا إلى دواخلنا، أو عكَسنا نظرتنا للآخر في اتّجاه عيوبنا أو خيباتنا أو نواقصنا؟. نقد الآخر، عبر الطُّرق الأخلاقية، والنُّصح، والنّقد ليس سوى ذلك اللّباس الذي يتنكَّر فيه البؤساء. نعم، نحتاج للأخلاق. لكنْ وجب التّذكير كما أشار أندريه كونت سبونفيل أنّ السّؤال الأخلاقي هو ماذا يجب عليَّ أنْ أفعل que dois-je faire؟ وليس ما يجب على هذا أو ذاك que dois faire tel ou tel؟ بمعنى أنّ الأخلاق ليس لها شرعية إلا في ضمير المتكلّم "أنا" أمّا بالنسبة إلى الآخرين فالقانون والرحمة تكفي.

نحن لا نخاف النّقد؛ لأنّنا موقنين بأنّ ما عليه ثقافتنا يكتسب طابع الإطلاق واليقين والثّبات، بل فقط لأنّ الخوف والتردّد من ملامسة المسكوت عنه مهمّة صعبة في واقع ثقافي مغلق، يعكس بجلاء حجم الهوة السّحيقة التي وضعتنا فيها الثقافة، وكذلك يكشف الممارسات المكشوفة والخفية التي تمارسها الثقافة لضمان استمراريتها وبسط نفوذها على هذا الكائن الإنساني، في رغبة ملحَّة وأبدية هدفها التّكرار من أجل الاستمرار. ولا ضير ما دامت وظيفة كلّ فكرة مغلقة، هي أنْ تنزَع بالإنسان، ليكون فردا ضمن قطيع، أو فردا يفضل الطّاعة على التّفكير، والخضوع على بديهيات وأولّيات الفعل الإنساني.

كلّ فكرة تموت لحظة التوقّف؛ أي لحظة غياب النّقد، أو على الأقل عدم استحضار أهميّته. لهذا ليس هناك حياة بعيدة عن النّقد الذاتي كما أشار إليه سيوران بوصفه عملية تفسير معكوسة تّجاه الذات أولا. فنحن نحيا وسط ألغام ثقافية لا يراد لها أنْ تكشِف محنتنا، أو مواطن تزييف الوعي فيها، وتلك آفة تفكيرنا. فالخروج من دائرة المغلق هي المهمّة المستحيلة في نظر البعض، وفي الوقت ذاته هي الأمل المرجوّ للكتابة، باعتبارها البداية للبحث عن هوامش الانفلات من القبضة المحكمة التي تفرضها سطوة العقل الجمعي على مفاصل تفكيرنا. فالنقد هو الاقتراب من كشف بعض خبايا الفم المقموع كما يسميه جمال علي الحلاّق، وليس فقط قراءة التّاريخ وفق ما تناقله الفم النّاطق. لكن لا بدّ من الانتباه أنّ ممارسة النّقد لا يعني بحال أنّك بدأت تتلمّس الطّريق، بل فقط أنت في الخطوة الأولى لتذوّق لذّة الحيرة والتيه، مخطئ من يرى أنّ التّفكير هو شهوة، أو لحظة، أو فرصة. إنّه حياة يبدأ، لكنَّه قد يتوقّف، وهذا يذكّرنا بما قاله إنجلز مودِّعا صديقه ماركس بعد وفاته، حيث وقف إنجلز للتّأبين وقال: "الآن فقط توقّف هذا الرأس عن التفكير". معلِناً بذلك ومن خلال عبارة "الآن فقط" أنّ التّفكير حياةٌ وليس لحظة.