الإنسان والمجتمع في تنظير المدرسة التأويلية المعاصرة (دراسة تحليلية – تطبيقية)
فئة : مقالات
الإنسان والمجتمع في تنظير المدرسة التأويلية المعاصرة
(دراسة تحليلية – تطبيقية)
”من أقوال "شلايرماخر" المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله: (إن الهرمينوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة): إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمينوطيقا العامة. تبدأ الهرمينوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار؛ فهي "حوارية" Dialogical في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمينوطيقا وجهةً جديدة، وجهها إلى أن تصبح علماً“. (من كتاب فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، عادل مصطفى، ص: 62-63).
تمهيد:
إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد على أهمية البناء الاجتماعي في تشكيل وتوجيه أفراد المجتمع والتأثير على سلوكهم الإنساني، فإن منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة على الطرف الآخر تولي اهتماماً كبيراً لدور الفعل والتفاعل بين أفراد المجتمع في تكوين تلك البنى.
في حقيقة الأمر. إن عودة العلوم الإنسانية إلى دائرة الهرمينوطيقا (علم التأويل) هي بمثابة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، حيث تعدّ الهرمينوطيقا علماً لتأويل النصوص كيف ما كان نوعها وطبيعتها؛ لأن غايتها الأساسية هي الكشف عن المعنى، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل سليم إلا إذا تمكنت الهرمينوطيقا من خلق علاقات متبادلة ومنسجمة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا والابستيمولوجيا والفينومينولوجيا والاثنوميثودولوجيا، وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية مبدأ التطبيق الذي يعني الانتقال من النص إلى الفعل عبر أو بواسطة العقل، بمعنى استحضار الواقع بكل أحداثه ومعطياته في عملية التأويل، فالواقع إذن يصبح هو دليل التأويل وبرهانه.
تتعلق الهرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشرية الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص، وهي بوصفها معرفة منهجية توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. يرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة في حياة الإنسان؛ فالتأويل نشاط إنساني حاضر في كل وقت وحين ينطلق كلما تطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهما في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، ولحق هذا التحول مبحث التأويل نفسه.
ويُعرف التأويل في اللغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه. وفي الفلسفة هي المبدأ المثالي الذي من خلاله تكون فيه الحقائق الاجتماعية (وربما أيضاً الحقائق الطبيعية) رموزاً أو نصوصاً والتي بدورها يجب أن يتم تفسيرها بدلاً من وصفها أو إيضاحها. وفي نظرية الفهم يرى فريدريك شلايرماخر (1768- 1834) أن الهرمينوطيقا هي فن الفهم؛ أي الفن الذي لا يمكن الوصول إلى الفهم إلا من خلاله. وانطلاقاً من أن تفسير الفهم معرض دائما لخطر الابتلاء بسوء الفهم، اعتبر شلايرماخر الهرمينوطيقا مجموعة قواعد منهجية تُستخدم لرفع هذا الخطر.
وقد بدل هذا الفهم الهرمينوطيقا من مجموعة قواعد إلى علم منظم ومتناسق. وبعبارةٍ أخرى: الهدف الأساس من هذا الفهم للهرمينوطيقا هو بيان شروط الفهم في كل محاورة، حيث يمكن عد أصولها أساساً لأي نوع من الفهم والتأويل. والجديد في هذه النظرة إلى الهرمينوطيقا، أنه عُرِّف هذا العلم لأول مرة بأنه الباحث عن نفس الفهم. وعلى هذا الأساس، كان شلايرماخر في صدد بيان أن الهرمينوطيقا نوع من الفنون - أي هي شرح منهجي للقواعد الحاكمة على النصوص - يُعنى ببيان كيفية التأويل بحيث لا نقع في التفسير بالرأي.
وفي المنهج العام للعلوم الإنسانية يرى فيلهلم دلتاي أن الهرمينوطيقا منهج عام وعلم أساس تُبنى عليه كل العلوم الإنسانية. لذا، سعى أن ينظم علم الهرمينوطيقا كمنهج جامع للفهم والتأويل في هذه العلوم. وكان يريد أن ينقل نهضة كانط في العلوم الطبيعية إلى العلوم الإنسانية، لكن بمنهج يتناسب معها. فكما أن كانط استفاد من نقد العقل المحض لفهم العلوم الطبيعية وبيانها، فإن دلتاي رأى أنه يجب أن نبدأ من "نقد العقل التاريخي" في العلوم الإنسانية. ويعتقد دلتاي أن الهرمينوطيقا هي أفضل منهج يمهد للفهم الصحيح في العلوم الإنسانية.
ويؤكد دلتاي أن حصول الاطمئنان في العلوم الطبيعية مرهون للمنهج الصحيح الحاكم فيها. ومن جهة أخرى، خلص إلى أن الفراغ الأساس في العلوم الإنسانية هو عدم الاستفادة من منهج جامع. لذا، صب كل جهده لتقعيد علم الهرمينوطيقا الذي يمهد المباني المنهجية للعلوم الإنسانية.
أما في مجال السوسيولوجيا، فقد عرف هذا المفهوم استعماله الشائع مع السوسيولوجي ماكس ڨيبر الذي كان يقول إن مهمة عالِم الاجتماع هي "الفهم من خلال التأويل لتلك الأفعال الموجهة بصورة لها معنى". ويبرز في الحقل السوسيولوجي اليوم رجل مثل جيدنز مدافعاً بشدة عن ضرورات إحياء التراث التأويلي ومنتقداً ما أسماه الإجماع المتزمت، الذي يعتمد على وحدة المنهج العلمي وعلى إمكانية تطبيق قوانين عامة على الظواهر الاجتماعية كما في المجال الطبيعي؛ لأن البقاء عند مستوى مادية الوقائع الاجتماعية بوصفها أشياء، إنما تنتقص من الواقع الحقيقي للعالم الاجتماعي الذي يمتلئ بالرموز، ومنه فلا يجب المغالاة في البحث عن العلاقات السببية ولكن علينا أن نعترف في البداية أن العلوم الاجتماعية هي علوم تأويلية؛ لأنها تسعى إلى الفهم المتعمق للفعل الإنساني، الذي يعد بطبيعته فعلاً قابلاً للفهم، ويتحقق ذلك فقط باكتشاف المعاني الخفية وراء الأفعال عن طريق دراسة القواعد التي يتبعها الفاعلون في سلوكهم، فالسلوك ذو المعنى هو نشاط موجه بالقواعد التي تمنح الفاعل تبريرات لسلوكه. وعملية فهم المعنى والتبريرات تلزم الباحث ربط السلوك الملاحظ بالقواعد المحددة له، وهذه الأخيرة لا تأخذ مطلقاً شكل قانون مثلما هو عليه الحال في العلوم الطبيعية؛ لأنها عبارة عن واجهات خارجية للمعاني الداخلية المرتبطة بأفعال الأفراد.
واقعياً، أدت أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته في ستينيات القرن العشرين المنصرم إلى بروز المدرسة التأويلية على الساحة الأكاديمية لعلم الاجتماع الغربي. ومن أهم تلك الأحداث ارتباط اليسار الجديد بحركات الاحتجاج الاجتماعي وبالأخص الاحتجاجات الطلابية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية عام 1968، حيث جاءت تلك الأحداث كرد فعل على فشل النظريات البنائية الكبرى (الوضعية، الوظيفية، الماركسية) في سعيها لإيجاد حلول مناسبة للمشاكل التي تعترض المجتمعات الغربية بسبب تعدد الاتجاهات والإيديولوجيات التي تتحكم بنظرتها وفهمها وتفسيرها للواقع الاجتماعي.
تهتم هذه المدرسة بشكل خاص بتحليل الأنساق الاجتماعية الصغرى (الميكرو سوسيولوجي) Micro Sociology. وتدرس الأفراد في المجتمع ومفهومهم عن المواقف الاجتماعية، والمعاني والأدوار، وأنماط التفاعل الاجتماعي فيما بينهم.
خلاصة ما تقدم، يتعين علينا قبول هذا الواقع بأن ثمة اتجاهات نظرية متقابلة وأن علماء الاجتماع يحملون تصورات وأفكار، ويستخدمون أساليب بحثية تنتمي لأكثر من اتجاه نظري. فالنظريات البنائية تؤكد أن المجتمع خارج عن الأفراد ومستقبل عن وعيهم وإرادتهم وهو يصوغ سلوكهم ويحدد هذا السلوك. وهذه العوامل والمتغيرات الخارجية تشكل مجتمعة ما يسمى بالبناء الاجتماعي. وتركز النظريات البنائية على بحث الوحدات الكبرى وتعتمد المناهج والأساليب الكمية والمسوح الاجتماعية والمقارنة، وتستخدم الاستبيانات والمقابلات المقننة. وفي مقابل ذلك، فإن النظريات التأويلية تركز على الأفعال الفردية ذات المعنى والهدف أو القصد والغرض، وتميل إلى استخدام المناهج والأساليب البحثية الكيفية، وتعتمد على الملاحظة المشاركة وغير المشاركة والمقابلات غير المقننة، وهي أساليب تختلف كثيراً عن الأساليب المتبعة في النموذج الكلاسيكي لعلم الاجتماع.
وأخيراً، يرى أصحاب المنظورات التأويلية أن علم الاجتماع بالنسبة لهم هو مصدر الفهم السببي والتأويلي للعالم المحيط بهم. إن المهمة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي هي دراسة الفرد وفعله باعتباره وحدة البحث الأساسية في علم الاجتماع المعاصر. فالفرد هو النهاية القصوى للفعل ذي المعنى، والناقل الوحيد له. ومهمة عالِم الاجتماع هي اختزال مفاهيم مثل الدولة والنظام والطبقة...إلى فعل قابل للفهم طالما أن هذه المفاهيم ترمز إلى أنماط معينة من التفاعل الإنساني.
أولاً- تعريف المدرسة التأويلية في علم الاجتماع: تهتم هذه المدرسة بالدرجة الأولى بكيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه، بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد والجماعات؛ بمعنى آخر تمثل المعاني التي ينتجها الأفراد في تفاعلاتهم جوهر الأطروحة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي، فيمكن اعتباره اتجاهاً في تأويل المعنى أساساً.
يركز هذا التحليل السوسيولوجي (قصير المدى) على الأنساق الاجتماعية، بوصفها نتاجاً إنسانياً يتشكل عملياً بموجب تفاعلات الأفراد مع بعضهم البعض وهذه الفكرة تقف على الجانب الآخر من الوجود الاجتماعي الذي ركزت عليه المدرسة البنائية في علم الاجتماع المعاصر.
كما تسعى هذه المدرسة إلى الابتعاد عن أي نظرة ترى المجتمع كياناً قائماً بذاته مستقلاً عن الأفراد المكونين له والتركيز بدلاً من ذلك تركيزاً فجاً على الأساليب التي يخلق بواسطتها البشر عالمهم الاجتماعي. بمعنى آخر في علم الاجتماع التأويلي يتم التنكر لكل القوى الخارجية التي يمكنها أن تمارس تأثيراً على الأفراد وتوجه سياقات المعنى في تفاعلاتهم بصفتهم هم من يشكلون الحقيقة الاجتماعية.
ترى المدرسة التأويلية أن الناس يتجهون في حياتهم من الذات إلى خارجها مؤكدين أن الأفراد هم الذين يشكلون المجتمع، من خلال التأكيد على أهمية المعاني للاتصال بما يشمله من لغة وإيماءات وإشارات، بالإضافة إلى التوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف مواقف معينة خلال عملية التفاعل الاجتماعي.
تعتمد المدرسة التأويلية على منهجية فهم الفعل الاجتماعي وتأويله، مع تفسير هذا الفعل المرصود سببياً بربطه بالآثار والنتائج. ويقصد بالفعل سلوك الفرد أو الإنسان داخل المجتمع، مهما كان ذلك السلوك ظاهراً أو مضمراً، صادراً عن إرادة حرة أو كان نتاجاً لأمر خارجي. ومن ثم، يتخذ هذا الفعل - أثناء التواصل والتفاعل - معنى ذاتياً لدى الآخر أو الآخرين، مادام هذا الفعل الاجتماعي مرتبطاً بالذات والمقصدية. وهنا ينتقل علم الاجتماع التأويلي من عالم الأشياء الموضوعية إلى الأفعال الإنسانية. أي انتقل من الموضوع إلى الذات، أو من الشيء إلى الإنسان. كما تجاوز المقاربة الوضعية نحو المقاربة الهيرمونيطيقية التي تقوم على الفهم والتأويل الذاتي الإنساني. وبهذا قد أحدث قطيعة ابستمولوجية، ضمن مسار علم الاجتماع، بتأسيس مدرسة الفعل الاجتماعي أو المدرسة التأويلية.
- المنهج التأويلي لفهم الفعل الاجتماعي عند فيبر: تسعى المقاربة التفهمية الفيبرية إلى فهم الظاهرة الاجتماعية، باستخلاص دلالات أفعال الأفراد، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. وفي هذا السياق نجد أن فهم الفعل الإنساني - حسب فيبر- ليس مسعى سيكولوجياً، بل هو السعي إلى فهم السيرورة المنطقية التي تقود الفاعل الاجتماعي إلى اتخاذ قرار ما في ظرف خاص؛ إذ يتعين إعادة تشكيل المنطق العقلي للفاعل، كما ينبغي، أيضاً، فهم الجانب العقل في سلوكه، تبعاً للأهداف التي يتوخاها والوسائط التي يتوسلها، من أجل التوصل إلى فهم تفسيري للفعل.
بمعنى أن فيبر يعتمد منهجاً تأويلياً يستند إلى الفهم (دراسة المعنى الداخلي)، والتأويل (إدخال الذات والمرجع على مستوى القراءة). ويعني هذا أن الفعل الاجتماعي أو الفعل الإنساني مرتبط بثقافة مجتمعية معينة. وبالتالي لا يمكن دراسة الثقافة أو الإنسان من خلال المنهج الوضعي، بل لا بد من الاعتماد على منهج الفهم في ذلك. أضف إلى هذا أن الظاهرة الإنسانية مرتبطة بمجموعة من الأسباب، وليس بسبب واحد. لذا يصعب تطبيق المنهج الوضعي على الظاهرة الاجتماعية التي يحضر فيها الإنسان باعتباره فاعلاً ومنفعلاً، وكائناً واعياً ومتغيراً.
ونستنتج مما تقدم، أن منهج فيبر يرتكز على ثلاثة مقومات أساسية هي الفهم والتاريخ والثقافة؛ وذلك بالاعتماد على منهج الفهم في دراسة السلوك الاجتماعي، ورصد أشكال الهيمنة والسلطة، ويعني هذا أنه من مؤسسي نظرية الفهم والتأويل في علم الاجتماع. ويعني ذلك أيضاً أن منهجية فيبر تهدف إلى فهم معنى التفاعلات السلوكية للأفراد داخل المجتمع؛ أي إن علم الاجتماع يدرس الفعل الاجتماعي الذي يقصد به مجموعة من الوسائل التي يستند إليها المجتمع للحفاظ على اتساقه وانسجامه، وخاصة الوسائل القانونية والتنظيمية أو الأعمال التي تدفع الأفراد والجماعات التي تعيش نوعاً من الهشاشة إلى العيش الكريم، والانصهار في وحدة المجتمع.
ثانياً- الروافد الفكرية والفلسفية للمدرسة التأويلية المعاصرة: تعد المدرسة التأويلية إحدى أهم المدارس السوسيولوجية المعاصرة. تنهض على أسس فلسفية ونفسية متأثرة إلى حد كبير بالفلسفة البراغماتية (النفعية) Pragmatic Philosophy، والفلسفة الوجودية Existential Philosophy.
أ- البراغماتية: بوصفها دليل عمل سوسيولوجي للفلسفة البراغماتية التي تهتم بالخبرة الإنسانية باعتبارها منبعاً للمعرفة، فالواقع أو التجربة هو المقياس لأي نظرية أو فكرة.
ب- الوجودية: لتأكيدها على خبرات الفرد الذاتية ودورها في رسم تصورات الإنسان الخاصة مع نفسه والآخرين. كما أنها تعبّر عن اتجاه فلسفي يغلو في قيمة الإنسان، ويبالغ في التأكيد على تفرده وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. وهي فلسفة عن الذات أكثر منها فلسفة عن الموضوع.
كما تعود جذور تلك المدرسة (التأويلية) في الدراسات الكلاسيكية لعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وكانت لأفكار ماكس فيبر دوراً كبيراً في فهم العالم الاجتماعي من خلال فهم اتجاهات الأفراد الذي تتفاعل معهم، وأن فهم الطواهر الاجتماعية يكون من خلال تحليل الفعل الاجتماعي في المجتمع.
وقد أكد فيبر أن المجتمعات الإنسانية يمكن دراستها من خلال فحص المعاني الفردية، وفهم معنى السلوك بالنسبة إلى الأفراد الذين يتفاعلون مع بعضهم، وهي طريقة التي أطلق عليها فيبر الفهم، وطور مدخل الفهم كوسيلة لدراسة الحياة الاجتماعية، ومن خلاله حاول علماء الاجتماع بطريقة عقلية أن يضعوا أنفسهم محل الآخرين بهدف التعرف على أفكارهم ومشاعرهم، وقد ذهب فيبر إلى أن الناس يتصرفون طبقاً لتفسيرهم لمعاني عالمهم الاجتماعي.
ثالثاً- أهداف المدرسة التأويلية:
تنحصر في ما يلي:
1. فهم وتفسير الواقع الاجتماعي من خلال أعين الفاعلين ونشاطاتهم والاهتمام بكيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد.
2. إعادة روح النزعة الإنسانية للعلوم الاجتماعية، التي افتقدتها في ظل فلسفة الاتجاه الوضعي الذي اتُخذ كمبدأ أساسي لدراسة الواقع الاجتماعي من قبل المدرسة البنائية.
3. التأكيد أن المعاني التي ينتجها الأفراد خلال عملية تفاعلهم الاجتماعي تمثل جوهر الأطروحة الأساسية لهذه المدرسة التأويلية.
4. النظر إلى الأنساق الاجتماعية على أنها تمثل نتاجاً إنسانياً يتكون عملياً بموجب تفاعلات الأفراد مع بعضهم البعض.
5. تفعيل البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار في الواقع الاجتماعي.
رابعاً- المنطلقات النظرية للمدرسة التأويلية المعاصرة: تنطلق المدرسة التأويلية في رسم حدودها النظرية من خلال المنطلقات رئيسية التالية:
1) التركيز على تفاعلات الوجه لوجه الفاعلين الاجتماعيين عن طريق عملية التفاعل والتواصل بين الأفراد عن طريق اللغة أكثر من التركيز على الوحدات الاجتماعية المجردة (كالطبقات الاجتماعية).
2) اعتبار اللغة من أهم الرموز اللازمة للتفاعل الاجتماعي. فالكائنات الإنسانية تتقاسم فيما بينها الرموز ذات الدلالة، بدليل أننا لا نفهم المعاني التي يقصدها أحد المتحدثين بلغة غير مألوفة وتكتسب الكلمات المعاني التي يقول الأفراد إنهم يقصدونها من هذه الكلمات.
3) التركيز على المعاني أكثر من الوظائف لذلك تحاول تفسير المعاني التي يلصقها الأفراد بأفعالهم. وهذا الفهم على عكس فهم البنائية الوظيفية لوظيفة الأنساق الاجتماعية (الجزء في خدمة الكل).
4) التركيز على الخبرة المعاشة أكثر من التركيز على المفاهيم المجردة (المجتمع، المؤسسات)، وبذلك تمثل تلك المدرسة اتجاهاً مغايراً يسعى نحو الابتعاد عن أي نظرة ترى المجتمع كياناً قائماً بذاته مستقلاً عن الأفراد المكونين له.
5) التركيز على الأساليب التي يخلق بواسطتها البشر عالمهم الاجتماعي؛ فالأفراد هم الذين يصنعون الحقائق الاجتماعية لتفسير ما يحدث في العالم الذي يعيشون فيه.
6) المعنى حسب هذه المدرسة يتكون من خلال العملية الاجتماعية، ويمكن وجود المعنى موضوعياً حتى في غياب الإدراك. مثال ذلك، في مبارزة السيف تعد محاولة التجنب تأويلاً لمحاولة الطعن.
7) إنكار المدرسة التأويلية لكل القوى الخارجية التي يمكن أن تمارس تأثيراً على الأفراد وتوجه سياقات المعنى في تفاعلاتهم وبشكل خاص بناءات القوة وعلاقاتها.
خامساً- رؤية منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة للإنسان والمجتمع: يتضمن التحليل السوسيولوجي من وجهة نظر المدرسة التأويلية المعاصرة عدة منظورات سوسيولوجية سنسعى إلى استعراض أهم مقولاتها باختصار شديد منعاً للإطالة والاسترسال، وقد حرصنا على عرضها كفقرات قصيرة لسهولة الفهم والتركيز، وهي كالآتي:
1- التفاعلية الرمزية (جورج هربرت ميد/ هربرت بلومر): تنظر التفاعلية الرمزية للإنسان والواقع من خلال ما يلي:
أ- الإنسان قادر على تحسين ذاته وبناء شخصيته وتشكيل واقعه الاجتماعي خلال عملية التفاعل الاجتماعي.
ب- يتكون البناء الاجتماعي والحفاظ عليه عن طريق استخدام الرموز مثل اللغة وعن طريق عمليات التفاعل الرمزي والتصرف ضمن توقعات الآخرين.
ج- لا يمكن فهم أنماط التنظيم الاجتماعي من دون معرفة العمليات الرمزية بين الأفراد الذين يشكلون في النهاية هذه النماط.
د- ظواهر المجتمع ليس لها وجود خارج وعي الأفراد أو مداركهم.
هـ- المجتمع نسق متفاعل باستمرار؛ أي كيان متجدد باستمرار بين كل لحظة وأخرى.
و - تلعب التنشئة الاجتماعية دوراً مهمّاً ومؤثراً في ربط الفرد بالجماعة وربط الجماعة بالمجتمع.
2- الاثنوميثودولوجيا/ منهجية الحياة اليومية (هارولد جارفينجل): من أهم مقولات تلك النظرية، ما يلي:
أ - الإنسان كائن إيجابي، أفراد المجتمع هم الذين يشكلون الواقع والحقيقة الاجتماعية دون تصورهم في حالة خضوع مستمر للقوى الخارجية.
ب - الإنسان كائن عقلاني له أفكاره وتصوراته الخاصة التي تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات السائدة.
ج- تتكون تصورات الإنسان العقلانية خلال علاقات التفاعل، ومن خلال المعاني الذاتية التي يُضفيها هؤلاء الأعضاء على أفعالهم ومن خلال نقل المعرفة للآخرين.
د- يهدف المنظور الاثنوميثودولوجي إلى وصف كيفية قيام أفراد المجتمع بصياغة المفاهيم حول المواقف المختلفة وكيفية تشكيل الحقيقة الاجتماعية.
هـ- تعد عملية تشكيل الحقيقة الاجتماعية عملية مستمرة في التغير؛ وذلك نظراً لأن مواقف الحياة المختلفة تعد عملية متغيرة غير ثابتة.
و- الواقع الاجتماعي في حالة تغير دائم، وهذا المنظور يحث الأفراد على تغيير ذواتهم بدلاً من تغيير النظام الاجتماعي القائم.
ز- الأبنية الاجتماعية القائمة في المجتمع فيها الكثير من القواعد والمعايير الاجتماعية الغير معروفة بشكل واضح لأعضاء المجتمع. لذا لا بد من الكشف عن الطرائق والإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع لجعل أفعالهم وأهدافهم وخبراتهم الماضية قابلة للتفسير والفهم من قبل الأعضاء الآخرين في المجتمع.
3- الفينومينولوجيا / الظاهراتية (ألفريد شوتز): ترى الإنسان والمجتمع من خلال المقولات السوسيولوجية التالية:
أ- الإنسان يمتلك المبادأة في الفعل الاجتماعي، فالفاعل الاجتماعي يقف على علاقة جدلية مع الواقع؛ فهو يعد خالق هذا الواقع ونتاجاً له في ذات الوقت.
ب- التركيز على كل ما هو في قالب الشعور مع القيام بجهد أو قصد نحو سبر غور باطن الشعور ومضمونه.
ج- عقل الفاعل ليس مجرد، بل مكتسب اجتماعياً حصل عليه من محيطه الاجتماعي. وعالم الحياة المعيش يتسم بتوتر إدراكي يجعل الفاعل يقظاً وحذراً من الفواعل والأحداث التي يواجهها ويتفاعل معها.
4- التبادل الاجتماعي (بيتر بلاو): ترى الفرد والمجتمع من خلال العلاقة القائمة ما بين التكلفة والعائدة وما يترتب عليها من ممارسات اجتماعية، وهي كالآتي:
أ- ترى هذه النظرية الإنسان يتصرف بشكل منطقي وعقلاني، فكل إنسان يضع أمامه مجموعة من الأهداف ويحدد لنفسه أكثر الوسائل كفاءة لبلوغ هذه الأهداف.
ب- يتطلع البشر في علاقاتهم الاجتماعية إلى تجنب السلوك المكلف الذي لا يعود بالفائدة عليهم ويتأسس التبادل وفقاً لذلك على أساس حساب التكلفة والعائد.
ج- التبادل الاجتماعي لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، وإنما يرتبط بالجوانب النفسية والاجتماعية فتسير الحياة وفق سلسلة من التبادلات ذات التكلف والعائد.
د- أما فيما يتعلق برؤية هذا المنظور لطبيعة المجتمع، فيرى أن الحقيقة الاجتماعية يجب أن نبحث عنها في الفرد وليس المجتمع، وتتخذ هذه التبادلات بمرور الوقت شكل التنظيمات الاجتماعية المعقدة كالجامعات، والشركات، والمؤسسات.
هـ- المجتمع عبارة عن شبكة عمليات تبادلية، ومن خلال هذه العمليات التبادلية يؤدي المجتمع وظائفه المختلفة؛ إذ إن الموارد محدودة ويجب أن يحصل الأفراد على حاجتهم من الآخرين عن طريق تكوين العلاقات الاجتماعية وتبادل الخدمات والسلع.
5- نظرية الفعل التواصلي (يورغن هابرماس): تحاول هذه النظرية إعادة الاعتبار للنزعة الإنسانية من خلال ممارسة الفعل التواصلي القائم على مبادئ العقلانية التواصلية. تؤمن هذه النظرية بأن اللغة تشكل الوسيط الحيوي والمقولة الأولية التي تميز النشاط الإنساني عن الباقي المخلوقات الأخرى.
أ- إن النشاط التواصلي لن يتم إلا من خلال علاقة تفاعل بين فردين أو أكثر داخل سياق العالم المعيش، ولذلك فمن حق كل شخص له القدرة على الكلام والفعل أن يشارك في التجربة التواصلية، على أن يعلن اعترافه بمزاعم أو مطالب الصدق المتفق عليها.
ب- تتم عملية التواصل من خلال اللغة مما يؤدي إقامة علاقة بين المشاركين في التفاعل وبين العالم الخارجي، وبينهم وبين الذوات الأخرى، باعتبارها – اللغة – الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي، وعن طريقها يتم الوصول إلى نوع من التفاهم بتوظيف الجمل والعبارات أو التعبيرات التي يتلفظ بها أعضاء الجماعة المشاركة في التواصل سواء كانوا متحدثين أو مستمعين.
ج- تهدف التجربة التواصلية للوصول إلى اتفاق بين الذوات المشاركة في التفاعل ويفترض هذا الاتفاق وجود معرفة مشتركة بينهم، أو على الأقل وجود نوع من التقارب في وجهات النظر، وأن يتم الاعتراف المتبادل على مزاعم الصدق من أجل الوصول إلى إجماع.
د- أما عن رؤيتها لطبيعة المجتمع فإنها تسعى إلى تأسيس «المجتمع الديمقراطي التشاوري (التواصلي)». الذي تقوم ديمقراطيته على أساس جماعة مثالية للتواصل خالية من أي هيمنة أو سيطرة ما عدا غلبة أفضل حجة. كما أن مفهوم التشاور يعد مفهوماً مركزياً، في ديمقراطية المجتمع الجديد المؤسسة على المناقشة؛ لأنه في التشاور يعطى للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية، وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في المجال العام.
سادساً- الانتقادات الموجهة للمدرسة التأويلية المعاصرة: تعرضت مقولات المدرسة التأويلية في نظرتها للإنسان والواقع إلى مجموعة من الانتقادات، وهي كالآتي:
1- إن اهتمام المدرسة التأويلية المتزايد بدراسة الشخصية أو الذات الفاعلة، مما دفع روادها إلى دراسة التفاصيل الصغيرة وإهمال دراسة النظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي.
2- صعوبة تعامل منظورات المدرسة التأويلية مع الجوانب التنظيمية الكبيرة الحجم داخل البناء الاجتماعي.
3- عدم قدرة المدرسة التأويلية على فهم عملية التغير الاجتماعي، مما جعل تفسيرها السوسيولوجي ينحصر في نطاق التغير النفسي للأفراد وليس التغير في الوحدات الاجتماعية الكبرى.
4- فشل أغلب المنظورات السوسيولوجية للمدرسة التأويلية في تقديم افتراضات مترابطة حول طبيعة الإنسان أو الحقيقة الاجتماعية.
5- أما على صعيد المنظور التبادلي، فنجد أن الإنسان يبحث عن أهدافه بعقلانية، ويقوم باختيارها من خلال بدائل بنائية محددة، إلا أن تلك الأهداف تتأثر بعض العوامل التي ترجع إلى البناء الاجتماعي.
6- وفيما يتعلق بمسلمة الوضع التواصلي الأمثل عند هابرماس، نجد أن هذا المسلمة يشوبها الكثير من النقائض، بالاستناد إلى مجريات الواقع الاجتماعي وتفاعلاته، فالنزاعات والصراعات الاجتماعية لم يتم تجاوزها؛ لأن الشروط والعوامل التي تنتجها لازالت قائمة، وهذا ما يظهر بجلاء من شعور الأفراد والجماعات ووعيهم بالظلم بما يسمى الاحتقار أو الازدراء الاجتماعي المسلط عليهم، وخاصةً تجاه المهاجرين الأجانب في أوروبا.
سابعاً- نماذج تطبيقية في تفسير منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة للمشكلات الاجتماعية: في هذا السياق، سنسعى إلى توظيف منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة (التفاعلية الرمزية، التبادل الاجتماعي، الاثنوميثودولوجيا) في تفسير مشكلة الطلاق من خلال عنوان البحث التالي: العوامل المسؤولة عن الطلاق وآثاره على الحياة الأسرية والاجتماعية (دراسة حالة لعينة من الأسر في مدينة ما).
من خلال ما سبق، يمكن للباحث الاستناد إلى مجموعة من النظريات السوسيولوجية التي ستشكل بمجملها مرجعيته العلمية في تحليل وتفسير كيفية حدوث مشكلة الطلاق واشتقاق التساؤلات (الفروض) التي سنجيب من خلالها عن الأسباب الكامنة خلف حدوث مشكلة البحث، وهي كالآتي:
1- النظرية التفاعلية الرمزية: ينصب التركيز الأساسي لنظرية التفاعلية الرمزية على أن الفرد يعيش في عالم من الرموز والمعارف المحيطة به في كل موقف أو تفاعل اجتماعي يتأثر بها، ويستخدمها يومياً وباستمرار. ويتضح استخدام الفرد للرموز من خلال معانيها للتعبير عن حاجاته الاجتماعية ورغباته الفردية، وتتجلى أهمية الرموز عند استخدامها من قبل أفراد المجتمع على صعيد الممارسة اليومية في الحياة الاجتماعية، حيث يتعلم الفرد من خلال تفاعله مع الآخرين المحيطين به بشكل شعوري أو لا شعوري استخدام الرموز مثل: استخدام اللغة، أو تحريك الرأس للدلالة على الرفض أو القبول، لبس الخاتم عند الزواج، ووفقاً لهذه النظرية، فإن التفاعل الرمزي في الأسرة يشير إلى دراسة التفاعل والعلاقات الشخصية بين الزوجين وزوجته وأولادهما. بناءً على ذلك، نجد أن سلوك الأفراد في الأسرة ما هو إلا تفاعل اجتماعي، وانعكاس للرموز التي يشاهدها الفرد، ويتأثر بها سلباً أو إيجاباً في مواقف الحياة اليومية بشكل مباشر؛ أي إن الأسرة من خلال هذا التفسير يجب ألا تدرس كنموذج مثالي، بل يجب أن تدرس كما هي في الحياة اليومية فليس هناك أسرتين متشابهتين لدرجة التطابق؛ فكل أسرة لها علاقتها الخاصة بها، والتي تميزها عن الأسر الأخرى.
وهذا يعني، أن نظرية التفاعلية الرمزية تفترض أن العالم الرمزي والثقافي يختلف باختلاف البيئة اللغوية والعرقية أو حتى الطبقية للأفراد، وفي ضوء هذه الفرضية يهتم دارسو الأسرة بطبيعة الاختلاف بين العالم الرمزي للزوج والزوجة وتأثير هذا الاختلاف على تحديد توقعات أدوارهما وعلى مجريات التفاعل بينهما، وقد أكدت الدراسات في هذا الصدد أنه كلما كان العالم الرمزي مختلفاً ومتبايناً (كما يحدث في الزيجات بين أفراد ينتمون إلى بيئات لغوية وثقافية مختلفة)؛ أي كلما تبلورت توقعات الأدوار بينهما بشكل ضعيف وبطئ، كلما شهد التفاعل بينهما ضروباً من التوتر والصراع مما يؤدي إلى حدوث الطلاق في أغلب الأحيان.
خلاصة القول تلعب الأسرة دوراً مهمّاً في تلقين الأفراد أدوارهم المستقبلية؛ وكل أسرة لها مجموعة من الرموز والمعايير التي تعلمها لأبنائها في مرحلة الصغر وهذه الرموز والمعاني تختلف من أسرة لأخرى، فالفرد يحاول أن يستوعب الدور المتوقع منه أولاً، ثم يحاول من خلال تعامله اليومي مع الآخرين إدخال بعض التعديلات على دوره وفقاً للرموز التي اكتسبها في مرحلة الصغر ووفقاً للظروف المحيطة به. لذلك نجد أن كل علاقة زوجية تختلف عن العلاقات الزوجية الأخرى بسبب اختلاف عملية التنشئة الاجتماعية. فكلما كانت المعاني والرموز التي اكتسبها الزوجان من أسرهما متقاربة ساعد ذلك على تحقيق التفاهم بينهما والتصرف ضمن توقعات الآخرين والعكس صحيح، فكلما كانت الرموز والمعاني متباعدة بل متنافرة بين الزوجين، أدى ذلك إلى خلق فجوة بينهما مما يؤدي إلى بروز الخلافات والصراعات لينتهي الأمر بحدوث الطلاق.
2- نظرية التبادل الاجتماعي: ترى نظرية التبادل الاجتماعي أن البشر يمارسون سلوكاً يجلب لهم منافع ويشبع لديهم حاجات، حيث يتمحور موضوع بحثها حول السلوك الفعلي للأفراد، وهو يعني أن تبادل النشاطات الإنسانية يتم في ضوء العائد (المكافأة) والتكلفة. وأن تلك النشاطات تفسر من خلال المقارنة بين تكلفة أفعال معينة، والمكاسب التي تتحقق من وورائها بالنسبة إلى الفاعل، حيث يحاول كل فاعل من خلال فعله أن يختزل التكاليف ويعظم من المنفعة والأرباح. فعندما تتعذر الحياة الزوجية بين الطرفين وتصبح الحياة مليئة بالصراعات والمشاحنات، فإن كلا الطرفين أو أحدهما يحاول أن يحسب مقدار الخسائر المترتبة من هذا الطلاق ومقدار المكاسب فإذا أحس أن مكاسبه من الطلاق تفوق خسائره، فإنه يتخذ قرار الطلاق والعكس صحيحاً إذا كانت الخسائر أكثر من المكاسب، فإنه يستمر في حياته الزوجية، وأن هذه المكاسب أو الخسائر ليست هنا مادية فقط وإنما هي مادية أو معنوية أو اجتماعية.
خلاصة القول إن العلاقات الاجتماعية بين الأفراد تبدأ بالتغير وبالانهيار، عندما لا تتوافق التكلفة مع العائد أو الأخذ والعطاء أي تناقض المصالح والغايات بين أفراد الجماعة.
3- نظرية الاثنوميثودولوجيا: تنظر هذه النظرية إلى الإنسان بصفته كائناً إيجابياً قادراً على تشكيل الحياة الاجتماعية دون الخضوع المستمر للقوى الخارجية، كما أنها ترى أن الإنسان كائن عقلاني له أفكاره وتصوراته الخاصة التي تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات السائدة فيها. وترى هذه النظرية أيضاً أن تصورات الإنسان تتكون من خلال علاقات التفاعل والمعاني الذاتية التي يضفيها أعضاء المجتمع على أفعالهم. بذلك يهدف المنظور الاثنوميثودولوجي إلى وصف كيفية قيام أفراد المجتمع أثناء تفاعلهم في الحياة اليومية بصياغة المفاهيم حول المواقف المختلفة وكيفية قيامهم بتشكيل الحياة الاجتماعية من خلال الطرائق والإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع لجعل أفعالهم وأهدافهم وخبراتهم الماضية قابلة للتفسير والفهم من قِبل الأعضاء الآخرين في المجتمع.
وعندما يفشل الزوج والزوجة في صياغة تصورات مشتركة تؤدي إلى عدم التوافق والتفاهم حول حياتهما الاجتماعية، بسبب الاختلاف الثقافي وعدم اتباع طرق مناسبة، لجعل أفعالهما وخبراتهما المتراكمة قابلة للفهم والتفسير في إيجاد أسلوب معين تقوم عليه الحياة الزوجية، سيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى عدم قدرة الزوج والزوجة على صياغة الحقيقة الاجتماعية المتعلقة بالحياة الزوجية، وهذا يعني أن كل من الزوج والزوجة يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الاجتماعية دون الآخر مما ينذر بتفاقم الخلافات والمشاكل التي ستفضي لا محال إلى حدوث الطلاق.
المراجع المعتمدة:
- إبراهيم عيسى عثمان: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق، عمان، ط1، 2008
- أنور مقراني: محاولة في تأصيل مفهوم التأويل في العلوم الاجتماعية، مجلة الكلمة، العدد: 65، السنة السادسة عشر خريف 2009. https://kalema.net/home/article/view/921
- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 244، أبريل/ نيسان، 1999
- ثيودور جورج: الهيرمينوطيقا، ترجمة: كوثر فاتح، مجلة حكمة، 19/08/2020، ص(2). https://2u.pw/s1TZgPWe
- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019
- حسام الدين فياض: الإطار النظري في البحوث الاجتماعية؛ توظيف المقولات النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية (دراسة تحليلية – تطبيقية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، المجلد: 5، العدد: 46، سوريا، 2024، ص(128-218).
- حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021
- حسام الدين فياض: ماهية علم الاجتماع التأويلي، صحيفة الحوار المتمدن، العدد: 8031، 07/07/2024. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=835153
- حسام الدين فياض: منهجية الفهم والـتأويل عند ماكس ڨيبر ”إنك تدرس لكي تفهم“ (دراسة تحليلية – نقدية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، المجلد: 7، العدد: 48، سوريا، 2024، ص(292-325).
- حسام الدين فياض: نظرية التشكيل البنائي لدى أنتوني جيدنز (محاولة للتوفيق بين البنية والفعل في فهم المجتمع الإنساني)، المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث (مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية) مجلة علمية دولية محكمة، المجلد: 4، العدد7، يوليو 2020
- حسام الدين فياض: وجهات نظر في نظريات علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية - نقدية)، صحيفة الحوار المتمدن، العدد: 7395، 08/10/2022. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=770798
- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012
- سمير نعيم: النظرية في علم الاجتماع (دراسة نقدية)، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1985
- صفدر إلهي راد: مفهوم الهرمينوطيقا، مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد: 19، بيروت، السنة الرابعة - ربيع 2020 م / 1441 هـ.
- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999
- عادل مصطفى: فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2018
- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012
- علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ.
- عبد الله شلبي: علم الاجتماع الاتجاهات النظرية وأساليب البحث، دار الشمس للطباعة، القاهرة، 2008
- غسان اكويندي: ما التأويل؟ ملاحظات في علم التأويل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط (المغرب)، 24 مايو 2022. https://2u.pw/quzFa6PE
- فيليب جونز: النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، مصر العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2010
- محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975
- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008
- مصطفى خلف عبد الجواد: نظرية علم الاجتماع المعاصر، دار المسيرة، عمان، ط2، 2011
- ميل تشيرتون وآن براون: علم الاجتماع النظرية والمنهج، ترجمة هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2075، ط1، 2012
- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978