الإنسان وعقدة التفوق
فئة : مقالات
الإنسان وعقدة التفوق
يوسف هريمة
قد تصطفّ ضدّك كلّ مشاريع الجهل، وقد تصادفك وأنت في طريق البحث عن ذاتك عقبات، وعوائق تحولت بفعل مؤامرة الزمن إلى أقانيم مقدسة، يصعب تجاوزها، أو حتى الاقتراب منها في ثقافة تنكر عليك الحق في النقد، والحق في مراجعة الذات، والانطلاق نحو التأسيس لقناعاتك بعيدًا عما استقر عليه الوعي الجمعي المتغير والمتبدل كذلك. لكن كل ذلك لا يهم. ما يهم في أيّ سياق نقدي هو أنه يجب عليك أن تتذكَّرْ دوماً ما قاله جمال علي الحلاّق: "ولأنّ الغباءات أوضح من أنْ يشار إليها، اترُكْها جانباً، واتجِّه عميقاً في الزّمن"[1]. ولا تنسَ وأنت تحدّق في عيونهم، أو قلوبهم، أو ما يسمّى عقولهم... أنْ تدرك أنّهم هنا لا ليتعلَّموا، بل لينسوا.
الإنسان كلمة صعبة التحديد، بالرغم من أنها تبدو كلمة مفرطة في البشاشة، لهذا عنون بها أليكسس كاريل كتابه "الإنسان ذلك المجهول". المجهول في بداياته، ونشأته، وطرق تطوره، وأنماط تفكيره. كما أنه مجهول فيما يختلج نفسه من مشاعر، وعواطف، وأفكار تمتزج بهذا الفائض من الأحداث التي يمرّ منها الكائن الإنساني في مختلف فترات حياته، ومع ذلك فهناك شعور عميق بتفوق الإنسان عن غيره من الموجودات التي بثت على جنبات هذا الكون الفسيح، ومنحت لهذا الكائن نظرة الاستعلاء والتكبر على جميع الكائنات، في الوقت الذي لا يستطيع أن يثبت وجهة نظره هذه، والوقائع تكذبه، حينما يعلو ويصطف ويحارب، ويستأصل بني جنسه لمجرد فكرة، أو عقيدة، أو وجهة نظر.
ما معنى أن يكون لك عقل؟ أو بالأحرى أن تتميز بالعقل؟
ليس هناك أية ميزة ما دام الكل يمتلك هذه الخاصية بدرجات متفاوتة، إذ العقل هو هذه الملكة التي تربط بين الأشياء، وليس آلة ممنوحة سلفا، لمن تربّع على عرش الكون كما يتوهّم. إن العقل ليس سوى تلك الخاصية من الربط، والقدرة على التحليل التي طورها الإنسان على مدار تاريخ طويل، جعلت منه العنصر المتحكم، والمتطور، والمتجاوز لحدود الغريزة، لا حدود الكون كما يتوهم البعض. ولكي نوضح الأمر بشكل أكبر نقول بأنه، بالرّغم من أنّ غالبية النّاس ترى بأنّ العنصر المميّز الوحيد للكائن الإنساني هو العقل، أو الإحساس والعاطفة كما يرى البعض الآخر، أو العيش ضمن سياق اجتماعي كما يرى أرسطو. فقد استفاض لوك فيري[2] مثلا في الحديث عن هذه الجزئية ضمن التفريق بين الحيوانية والإنسانية، ليعطيها بعداً آخر يستحقّ التأمّل والتوقّف. فعند ديكارت مثلاً، لا يؤخذ فقط بمعيار العقل والذّكاء، بل يضاف إلى ذلك معيار الانفعال والإحساس؛ أيْ بتعبير آخر الحيوانات هي عبارة عن آلات دون مشاعر وانفعالات، خلافًا للكائن الإنساني، وهو تفسير راجع لعدم قدرتها على التّعبير والكلام. هذا التوجّه الفكري والفلسفي في النّظرة إلى الفرق بين الإنسان والحيوان، سيأخذ بعداً آخر مع روسو؛ أيْ رفض فكرة أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك الانفعال والإحساس. لسبب بسيط، هو أنّ هاتين الخاصيتين، وربّما اللّغة أيضاً غير كافية لتجعل من الإنسان عنصرًا مميّزا، بل إنّ ما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات، خاصّة الحيوانية، هو ما سمّاه روسو: "قابلية التّحسين"؛ أيْ قدرة الإنسان على تحسين ذاته طوال حياته. ففي الوقت الذي يخضع فيه الحيوان لنظام طبيعي غريزي صارم، يملك الكائن الإنساني القابلية للتمرّد عليه، وهو ما تنبّه إليه روسو، هي القابلية للتحسّن، كما أشار روسو ما يميّزنا عن غيرنا، وهذا لا يعني الأفضلية؛ فالاختلاف لا يعني شيئا غير الاختلاف، كما يحبّ أنْ يوحي لنا بعض من يعتبرون كلّ ميزة فضيلة، وكلّ اختلاف هو مدعاة للتّفاخر.
فإذا كانت ميزة الإنسان هي هذا التوظيف المفرط للعقل، أو قابليته للتحسن بتعبير روسو، فإن الاستخدام المفرط للذّكاء الإنساني، وتجاوزه حدود المعقول، جعل أيضا من هذا الاستخدام نقطة ضعف مميتة في هذا السّياق الإنساني المعاصر، الموتور بالأحداث والوقائع؛ إذ إن لكل شيء وجهان، وفي الكثير من العقلنة تكمن مظاهر، وظواهر من اللامعقول. وهنا، وجب التنبيه أن الإنسان لا بدّ أنْ يدفع ضريبة ذكائه، وتطور قدرته على التفكير، واختراق حواجز العقل، والتعقل. لماذا؟؛ لأنّه ببساطة يصنع ما لا قِبَل له بالسّيطرة عليه، أو يقْدِم على أعمال لا يستطيع أنْ يتنبَّأ بمفاعيلها وامتداداتها؛ فمشاريع الإنسان تستهلك أفكاره، وأعماله تستنزف موارده[3]؛ أي إن الإنسان يبدو ظاهرًا أنه يمتلك كثيرًا، وله القدرة على استعمال أشيائه كثيرا، لكنّه في الحقيقة لا يساوي إلاّ القليل. إنه ضحية ما يصنعه، أو ضحية هذا الاستعمال المفرط لذكائه، وتعقله.
لكن كيف يتحول هذا العقل إلى جهاز لصناعة الأصنام الذهنية؟
هنا تحديدا، يمكن الإشارة إلى دور الثقافة، والمؤسسات الساهرة عليها في تأبيد فكرة، أو محوها وإزالتها. والثقافة هنا ليست سوى العناصر المشتركة لمجموعة معينة، أو مجتمع ما في فترة زمنية محددة. ودور هذه الثقافة أو تلك، هو أن تضع قوالب جاهزة ينشأ فيها العقل الإنساني، حيث يصعب عليه الانفكاك منها، فتتحول مع مرور الزمن هذه القوالب إلى نماذج جاهزة تشكل الجهاز العقائدي للإنسان، والمتمثل في آليات تفكيره، وأنماط سلوكياته.
يختار الإنسان في كل مكان وزمان دوماُ تغذية جانبه النّفسي بصناعة الأصنام الذّهنية، والعكوف عليها، ومحاولة التقرب من نماذجها الجاهزة إلى الحدّ الذي يصعب فيه الانفصال، وهي نماذج دائمة التّجديد في مسيرة متواصلة، ومستمرة على امتداد آفاق العقل الإنساني، كلّما حطّم الإنسان صنماً إلا وأقام آخر مكانه، ودافع عنه، أو مات من أجله، أو كانت ضحية لنزعات تعصّبه تجاهه. وهنا نفهم أن الإنسان يتنفس الإيديولوجيا، ويتنفس ما تصنعه الثقافة من نماذج، وأقانيم تتحول إذا ابتعدت عن النقد إلى مشاريع للجهل المقدس.
وهل التطرف إلا أحد تجلّيات هذا الجهل الممتد في كل واقع؟. إنه جنون الإيمان كما يسمّيه برنار شوفييه أو لنقل بتعبير أدق، هو جنون المؤمن أو الجماعة المؤمنة، حينما تصنع لنفسها أوهاماً تدور حولها، أو أصناما ذهنية تتعصّب من أجلها، إلى درجة تحويل الآخر إلى عدمٍ في وجوده عن طريق الإقصاء، أو التّهميش، أو الاستئصال المباشر من الوجود؛ إذ كلّما تجدّد الفعل الإرهابي، أو بالغ البعض في استعمال الشّطط والعنف والتسلّط إلا وأرهقتْنا الحيرة، ونحن نبحث عن هذا الإنسان المفقود، لندرك من جديد كما أشار الجبران أنّنا لسنا فقط كاذبون في وجودنا، ولكن نحن خطأ الوجود، وأضيف ربما خطؤه الوحيد. وحدها العقائد والدّوغمائيات والسّرديات الكبرى من بمقدورها أنْ تعرّي حقيقتنا، وتصدمنا في كلّ حين لا نستشعر فيه أنّنا الكائن الوحيد الذي تتجاوز فيه السّيطرة الحاجة إلى التحكّم، لتتحول إلى نزوة سطوة pulsion d'emprise. إنّها نزعة لا تهدف إلى إيلام الآخر، وإنّما لا تدخله في الحسبان أصلا حسب لابلانش وبونتاليس. لا بد من الاعتراف أنّنا أمام صنمية ذهنية تتجاوز المألوف، وتتحدّى مستحيلات العقل الإنساني، حينما يلجأ إلى التعصّب تجاه ما صنعته أوهامه، وآليات تفكيره، ومنتوجات ثقافته. صحيح أنّ المتعصب إنسان المقدّس بامتياز. كما يرى برنار شوفييه، لكنّه ليس أيّ إنسان ولا المقدّس أيّ مقدّس. فالإنسان هنا يهب نفسه وروحه في سبيل قضيته، كما أنّ المقدّس هنا يتقمّص المثال والمطلق، لدرجة أنّه يغطّي حتى ذلك المجال الذي يفترض أنْ يكون بعيدًا عنه؛ أيْ مجال المدنّس.
مشكلة هذه الأصنام الاجتماعية والثّقافية والدّينية هي أنّها تتأسّس على مسلَّمات قبلية نابعة من أعراف الجماعة وثقافات الشّعوب والقوميات والقبائل؛ وليست خاضعة لمنطق العلم والمعرفة، أو بمعنى أدق إنّه تغليب الجانب الاعتقادي على الجانب المعرفي في تشكيل وعي الإنسان بذاته ومحيطه. ولعلّ أكبر مأزق تضعك فيه الأصنام الذّهنية هي أنّها تجعلك تعيش الحاضر بعيون الماضي؛ أيْ إنّ لديها سلطة إرجاعك إلى القوالب الجاهزة التي تمّ إنشاؤها سلفاً في محطّات تاريخية استجمعت بالنّسبة إلى هذا العقل كلّ شروط النّقاء والصّفاء والعدالة، حيث يستحيل الانفكاك عن نماذجها الجاهزة. وهذا هو نفسه الإشكال المطروح على العقل السّلفي اليوم، بتعبيراته ونماذجه المتنوّعة.
[1]- جمال، علي الحلاق. تأجيل اللذة. مكتبة الفكر الجديد، ط1، 2012. ص: 14
[2]- فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ. ص: 167
[3]- انظر إلى ما كتبه علي حرب في الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2