الاستطيقا بين الفلسفة والسياسة
فئة : مقالات
الاستطيقا بين الفلسفة والسياسة(*)
"كُلّ ما يكون بَشِعا، يُوهِن الإنسان ويُحزِنُه فزيولوجيا" نتشه
إذا كانت الحقيقة هي موضوع بَحثِنا، سواء في مجال الفن أو الفكر كما سبق لـ "هيغل" أن أكّد، فالمعضلة تكمن في محاولة البعض طمس هذه الحقيقة عينها، باعتبار أن التعاطي مع الفن أو الفكر هو في كل الأحوال من أجل الفن والفكر ليس إلا. لعل ما يتناساه أنصار هذه النزعة، إنما هو أننا "عندما نُجرِّد الفن من مهمة تخليق الناس وإصلاحهم، فنحن لا نُريد بالتالي أن يبقى الفن كُلِّيا بلا غاية وبدون هدف وخاليا من كل معنى؛ أي أننا بتعبير آخر لا نُريده فنّا من أجل الفن، كأفعى تعُضُّ ذيلها"[1]، بل فنّا مُحرِّرا للحياة، وفِكرا مُناهِضا للغباء، حفَّازا للإرادة.
في هذا السياق إذن، أجرؤ على القول بأنّ السينما المعاصرة أصبحت مجرد فن ضارّ منذ أن طغى عليها هوس المال بدل هوس الكشف عن الحقيقة، وحَلّت السينما التجارية محل السينما الإبداعية. يشاطرني هذا الرأي أيضا "بنجمان بيري"، الذي استطاع في كتابه بعنوان "ضد السينما التجارية" الصادر عام 1951، أن يوضح بأن "الإبداع والمال عدوان أزليان"؛ مؤكدا أن طغيان هاجس الربح لم يقتل الفن السينمائي فحسب، بل جعله بالأحرى فنا مُبشِّرا بنهاية الفن؛ نهاية سرعان ما اتضحت مَعالِمها، خاصة عندما صارت السينما تعمل على تعويض الواقع بالخرافة والتاريخ بالرواية، ماضية في استبدال الوضوح بالغموض والعالم الواقعي بالافتراضي والمحسوس بالمثالي والشيء بفكرة الشيء والعقلانية بالأسطورة. ولعل هذه النقلة التي هَزَّت أركان عالمنا الحديث، هيّ ما أجاد في التعبير عنها أيضا، "جان بودريار" منذ 1983، عندما أعلنَ نهاية مجتمع الفرجة، وحلول عصر "الصورة المحاكية" أو النسخ غير ذات الأصل المُحدَّد."[2] باعتبارها صورا قاتلة للواقع، جراء قدرتها الخارقة على إعادة صياغة نماذج بديلة سرعان ما تحظى بالأسبقية على الأشياء.
وتبعا لذلك، نلاحظ أن هذه النزعة التي انخرط فيها الفن المعاصر بعد أن تعزَّز تقنيا، نزعةٌ تُعيد إلى أذهاننا ذلك الجدل القديم الذي نشب بين الفلسفة الواقعية والفلسفة الاسمية؛ لكن لنحترس لأن اللغة هنا خداعة: إذ غالبا ما يتم الاعتقاد خطأ بأن الواقعي هو مَنْ يكترِث بالواقع الملموس، في حين أنه، بعكس ذلك تماما، هو مَنْ يعطي الأولوية للفكرة باعتبار أنها الحقيقة الخالدة ويؤمن بعالم المُثل؛ هذا بينما الاسمي هو مَنْ يُدرك أنّ الألفاظ مهما علا شأنها فهي مجرد ألفاظ، ولا يمكنها البتة أن تنوب عن الشيء وما يجسده كواقعة تنفلِتُ من حبال اللغة. إنّ الاسمي إذن بقدر ما يرى بأن المفاهيم المجردة لا تنطوي على أيّ وجود حقيقي، لأنها مجرد أسماء لا غير، فاصلا فصلا تاما بين الكلمة وما تمثله كشيء، وعازلا اللفظة عما ترمز إليه كمدلول، منتصرا للطرف الثاني ضد الأول، بقدر ما ينزع الواقعي إلى تغليب كفّة الاسم على الشيء المُسمَّى، والفكرة على ما تدل عليه عينيا والمفهوم على ما ينحدر منه حِسِّيا. ولابأس أن نذكركم والحالة هاته، بأن هذا الجدل الذي يندرج ضمن الصراع التاريخي العنيف الذي نشب بين الفلسفة المادية من جهة والمثالية من جهة ثانية، جدل انخرطت فيه بداية، الأفلاطونية في سياق المهمة الموكولة إليها، من لدن الفيتاغوريين، بغاية التصدي للذريين الذين كانوا يمثلون الاتجاه المادي. ومقابل هذه النزعة السلبية، التي تروم لا النفي الجدري لكل وجود حقيقي يَخُصّ العالم المادي فحسب بل أيضا، إعلاء شأن "المفهوم" باعتباره المبدأ الوحيد والمطلق في الوجود، نلفي عند الماديين سواء منهم الأيونيين أو الذريين، نزعة فلسفية إيجابية تحاول إضفاء الطابع المادي على الواقع rematérialisation du réel وذلك بالنظر إلى الفكر كشيء ملموس ما فتئ أنطولوجيا يعكس العالم الخارجي. لا أستحضر هنا الأنطولوجيا، باعتبارها عِلما للأفكار أو فلسفة الوجود من حيث هو وجود، بل أستحضرها من حيث هي أنطولوجيا مادية بحثة؛ أي من حيث كونها لا تكترث بالأشياء إلا في عينيتها والوقائع إلا في فوريتها. آيتنا في ذلك، تعود إلى الهوة الشاسعة التي تفصل الشيء عن فكرة الشيء، حيث إن فكرة الشيء سواء كانت دلالة أو اسما هي ما يتبقى عالقا بأذهاننا حالما نكون قد نسينا أو أتلفنا السمات المميزة للشيء. فأنا مثلا، عندما أُجرِّدُ الكتب التي أمامي الآن من اللون والشكل، لن يتبقى عندها، عالقا بذهني سوى فكرة الكتاب، باعتبارها ما يُعبِّر أفلاطونيا عن العام ضد الخاص، والأيقونة ضد السيمولاكر، والروح ضد الجسد. وإذا كانت الأفلاطونية كما لا يخفى على أحد، تُكِنُّ حقدا واضحاً للجسد الذي يتغذى ويتنفس، يمرض ويصحّ، يُحس ويتذوّق، يرى ويسمع، يتكلم وينصت، فذلك ليس لأنها ظلت تجِلُّ الجسد النوميني ضد الجسد الظاهراتي، باعتبار هذا الأخير جسدا واقعيا يمتزج فيه اللون بالرائحة والوهن بالقوة فحسب، بل لأنها أيضا تحاول كفلسفة مثالية أن تتصدى لفلسفة مضادة هي الفلسفة المتعوية التي تصون التنوع وتضمن التباين. فبقدر ما تنتصر الأولى من حيث هي فلسفة متعالية، للماهية والماوراء بقدر ما تُصرُّ الثانية على تمجيد الحواس والتشبث بالهنا والآن. أما السبب في هذا التنافر الكامن بين الفلسفتين، والذي بموجبه تروم الواحدة مَثْلَنة الحياة idéaliser la vie في الوقت الذي تسعى فيه الأخرى إلى خلع الطابع المادي عليها، فإن كان يعود إلى شيء، فإنما يعود إلى كون الأفكار بالنسبة إلى الأولى، أشبه ما تكون بكائنات خرافية ما فتئت تشتغل لذاتها بمعزل عن العالم، بينما هي بالنسبة إلى الثانية نتاج إكراهات وجودية، إن لم نقل إنها على حد تعبير نتشه سليلة أنشطة غريزية «activités instinctives» وحصيلة ضرورات فيزيولوجية «éxigences physiologiques» .
غالبا ما يتم الاعتقاد بأن الواقعي هو مَنْ يكترِث بالواقع الملموس، في حين أنه، بعكس ذلك تماما، هو مَنْ يعطي الأولوية للفكرة باعتبار أنها الحقيقة الخالدة ويؤمن بعالم المُثل.
وإذا كان الأمر كذلك، فما يلفت الانتباه، إنما هو كون هذا الصراع المرير، الدائر بين التيارين، والذي وسم تاريخ الفكر الفلسفي برمته بدءا على الأقل من أفلاطون كما رأينا، حتى الفلاسفة المعاصرين، صراع كثيرا ما سكن عالم الفن الذي لم يستطع بدوره أن يبقى في منأى عن هذا الجدل، خاصة عندما أعلنت السينما في صيغتها الليبرالية، الحرب ضد الحقيقة التاريخية، فانطلقَتْ في استبدالها بسلسلة من الحكايات والقصص المُنَمَّقة تَنْميقا يُجتَزأ فيه الواقع تجزيئا ويُقتطَع تقطيعا ليُقدَّم، على نحو توليفي وِفق رؤية المخرج من جهة والساهر على المونطاج من جهة ثانية، بشكلٍ تُزَوَّر فيه الأحداث ويُفتقَد فيه المعنى ويَنتصِب فيه الكذبُ سلطانا للعصر بعيدا عن الدقة والأمانة العلمية. مما زجّ بالناس في نوع من الشرود القاتل، افتقدوا جراءه أدنى علاقة تَصِلُهم بالواقع، مُكْتفِين بالانغماس كُلِّيا في العالم الافتراضي، باعتباره عالما يُبْقِي على الأحلام قائمة الذات في نفس الوقت الذي يفتح فيه الباب مُشَرَّعا أمام المُمْكن. ولعل هذا الممكن الذي سمّاه اليونان بـ"الدوناتون" dunaton من حيث هو ما ليس بالضرورة خاطئا، وينطوي في حد ذاته على إمكانية الوجود بالفعل بالرغم من أنه غير موجود، هو ما تَشَكَّل اليوم كصورة افتراضية، فصار يشتغل، في خضم الخدعة الإلكترونية المعاصرة، على نحو أشبه ما يكون بتلك "الآلة التي ما أن أخذت بدلا منا تنظُر وتُحِسّ، حتى ردّتنا كائنات سلبية بعد أنْ كُنّا كائنات فعّالة"[3]؛ ذلك أن السيلان المتدفق والمباغت للصور عبر مختلف قنوات التواصل، بقدر ما لم يَعُد يَترُك للمتلقي أدنى فرصة للتحليل أو التفكير بقدر ما يُقحِمُه على وجه السرعة، في سلسلة من الاختيارات اللاإرادية، ويَزُجّ به في عوالم افتراضية غدت أكثر وَقْعا عليه من الواقع عينه؛ هكذا أصبحنا في ظل عولمة الزمان، وهيمنة "الإيماغولوجيا" على حد تعبير ميلان كونديرا، نحيا بواسطة تمثلات جاهزة، تكاد تفقدنا بلا رجعة كل صلة تربطنا بالواقع، خلافا للأمس القريب، حيث كنا نقتني السلع تحت تأثير الإشهار وننقاد إيديولوجيا وفق سلطة "البروباغندا". إن الأمر، لم يعد كالسابق يتعلق بمجرد عرض لصور زائفة للواقع أكثر مما يتعلق بمحاولة طمس كلي لحقيقة التزييف ذاتها التي طرأت على الوقائع وجَعْل اللبس يطال كل شيء إلى حدّ تبدو فيه الأشياء الحقيقية غير حقيقية، فتعم الفوضى كل المجالات ويطال الفساد لا السياسة فحسب، بل الاقتصاد أيضا؛ ذلك هو ما يتبدّى جليا من خلال طبيعة العلاقة التي أُرِيدَ لها أن تقوم بين الطرفين، حيث ظلت السياسة تابعة للاقتصاد على الدوام لا العكس. مما أدى إلى الانتصار لمنطق السوق في كل المجالات والخضوع لسلطان المال، باعتباره إله الأزمنة المعاصرة كما كان يقول ماركس. ففي الوقت الذي كنا ننتظر فيه أن يلعب الفن دورا رياديا، تتحلى فيه السينما بالخصوص بحد أدنى من الأخلاق، تُحترَم فيه الحقائق وتُستَعاد معه الوقائع على نحو يَرفَع من الوعي ويُسهِم في تربية الذوق بناء لمنظورات جديدة وفتحا لإمكانات غير مسبوقة في الحياة، نتفاجأ اليوم بما آلت إليه الأوضاع من ترَدّ جراء تسييس الفن la politisation de l’art أحيانا وإضفاء الطابع الفني على السياسة أحيانا أخرى l’esthétisation de la politique.
وإذا كانت فكرة إقامة التطابق بين الصيغة السياسية والصيغة الجمالية، فكرة تعود في الأصل على حد تنبيه "ميشال أنفراي" إلى يعقوب بورخات الذي قال بـ"الدولة كعمل فني أو كظاهرة جمالية" عام 1860، في كتابه بعنوان: "حضارة عصر النهضة في إيطاليا"، (صدر في ثلاثة أجزاء عام 1958، مترجما عن الألمانية من طرف سميت H.Schmitt)؛ فإن العديد من الكتاب، قد دأبوا على الرغم من ذلك، على النهل منها وتوظيفها دون أدنى ذكر لصاحبها، وهذا شأن "فلتر بنيامين" Walter Benjamin الذي دعا إلى العمل على مواجهة النّازيّة الأوروبيّة عبر "تسييس الفن"[4] بعدما لاحظ في مؤلفه بعنوان: "العمل الفني في عصر استنساخه التقني" كيف تسعى هذه الأخيرة إلى "إضفاء الطابع الفني على الحياة السياسة". لكن هيهات هيهات، فأنّى كانت النّازية ذات طابع جمالي؟ ومَن منحها هذا الوسام؟ بل فضلا على ذلك نلاحظ أن "تسييس الفن، على حد توكيد "أنفراي"، قبل أن يكون هوّ الرد الناجع على النزعة النازية، فهو يدل بالأحرى، على مدى التقاطع الكامن بين النزعة الوطنية الاشتراكية من جهة والبولشيفية من جهة ثانية، باعتبارهما معا نزعتين منذورتين لتسييس الفن أكثر منه لإضفاء الطابع الجمالي على السياسة"[5]. ولئن كان كل أولئك الذين استعادوا فرضية "بنيامين"، يمضون بعيدا في تأويلهم لمقولة "النزعة الوطنية الجمالية" le national-esthétisme باعتبارها بنظرهم مقولة تساعد على فهم أكبر للنازية فلسفيا، فذلك ليس إلا لأن "الفوهرر" أو الرايخ الثالث بحسبهم، كان يرغب في ممارسة السياسة تماما كما لو كانت فنا مادّتُه الشَّعب الذي ينبغي تشكيله وصياغته جماليا حتى يغدو عملا فنيا. لكن حقيقة كل هاته الادعاءات سرعان ما تنكشف عندما نلفي عند أحدهم ألا وهو "فيليب لاكو-لابارت" عبارة يُصرح فيها علانية على "أن العنصرية، وبالأخص النزعة المناهضة لليهود، هي قبل أي شيء آخر نزعة جمالية"[6]. مما حدا بهذا الفيلسوف إلى التنقيب في أرشيف الصور والرسومات المُمجِّدة للحزب الوطني-الاشتراكي، عَلَّه يعثر فيها، عما يُبرِّر زعمَه، بشكل يبدو فيه اليهودي بشِعا ومَحطَّ هُزأة. وأكثر من ذلك، فـ "لاكو-لابارت"، هو مَن ظَلَّ يُصِرُّ على فرضيته تلك، مستنجدا بسينما "سيبربرغ" Syberberg، صاحب فيلم بعنوان "هتلر" الذي أنجزه عام 1977 أي ثلاثون عاما بعد تحرير المعتقلات، باعتباره وثيقة تضم سلسلة من الحقائق أشبه ما تكون بالحقائق التي قد نَتحصَّل عليها من خلال روبورتاجات المرحلة.
بناء على هذا، نتساءل عما إذا كان بإمكاننا أن ننقاد بكل أريحية وراء الاستعارة، والحِبكة بدل التاريخ، لنُميِّز تمييزا واضحا بين الوهم والحقيقة؟ وإلى أيّ حدّ يجوز لنا أن نَعتمِد الترّهات كحجة لتمحيص الواقع والمجاز كبرهان نستدل به بدل الوقائع؟ بل منذ متى اكتسبَتِ السينما قيمة أنطولوجية تكاد لا تقل شأنا عن تلك العائدة للعالم الذي تحاول أن تُجسِّده؟ والحق أن ثمة اعتبارين اثنين، يشفعان لنا طرح هذه التساؤلات، أولهما أن بنيامين، لم يكن على علم لا بالمحرقة ولا بسياسة الإبادة وقت خوضه في مسألة النازية كظاهرة جمالية عام 1936، ثانيهما أن الرجل كان على جهل تام بكل الحقائق التاريخية المأساوية التي داعت كالوباء بعد عام 1945. وعلى ما يبدو، فالنازية بقدر ما هي نزعة عرقية بيولوجية محضة، أكثر مما هي نزعة وطنية- جمالية، بقدر ما هي الدعوة إلى تسييس الفن التي طالب بها "فلتر بنيامين" كرَدّ عن هذا النزوع إلى تجميل السياسة، دعوة لا مبرر لها إطلاقا، طالما كانت تعمل كدعوة لا على معارضة النازية بالبلشفية كما قد نخال، بل على المصالحة بينهما من أجل الاستحواذ على الفن وجعله خدوما للأغراض السياسية ليس إلا.
تبعا لذلك، أليس حريا بنا، بدل تجميل السياسة أو تسييس الفن، أن نطمح بالأحرى، في نوع من التعاطي الشامل مع الفن une esthétique généralisée كما اقترح "أنفراي"، على نحو يتم فيه تجاوز كل تلك التناقضات التي ما فتئت تُقيم التعارض ما بين الفنّ والحياة، الشارع والمتحف؟ لعل هذا الأمر نفسه هو ما حاول نتشه في إطار خصامه التاريخي مع كانط أن يوضحه ويراهن عليه، مدافعا عما يدعوه بـ"استطيقا الفنان" بدل "استطيقا المتفرج". توضيحا لهذه المسألة، يشير نتشه في مؤلفه جنيالوجيا الأخلاق، إلى أن شوبنهاور قد استفاد من التصور الكانطي فيما يخص قضية الاستطيقا، بالرغم من أنه لم يكن ينظر إليها بأعين كانط ذاته الذي "كان يخال أنه يرفع من شأن الفن عندما يولي اهتمامه لتلك الأوصاف التي، مِن بين شتى أوصاف الجميل، تُمجِّد المعرفة واللاشخصية والكونية"[7]. ثم يضيف نتشه مؤكدا أن الأمر هنا إن كان يتعلق بشيء، فإنما يتعلق "بكون كانط شأنه هنا شأن سائر الفلاسفة، فهو بدل أن يتطرق لقضية الاستطيقا اعتمادا على تجربة الفنان (المبدع)، مكث يتأمل الفن والجميل كـ"متفرج"؛ ودونما وعي منه أقحم "المتفرج" في مفهوم "الجميل""[8]؛ أقحَمَهُ فيه حتى ولو أنه لم يكن بالنسبة إليه يُشكِّل واقعة عظيمة، وتجربة شخصية كبرى، بل أيضا دون أن يَعتبِر أنه نتاج سلسلة من الاختبارات الأصيلة والمتينة، ودون أن يدرك أيضا أنه نتاج رغبات ومفاجآت مشمولة بالاستلذاذ في نطاق الجميل. وخلافا لمعظم الفلاسفة الذين اكتفوا على منوال كانط، بوضع تعريف للجميل يكاد يخلو تماما من كل تجربة شخصية دقيقة، عارض نتشه التحديد الكانطي للجميل من حيث "هو ما يُمتِعُنا بصورة مُنزَّهة"، أي بدون منفعة، مفضلا تعريفا آخر يعود لـ"ستاندال" مؤداه "أن الجميل هو وَعْدٌ بالسعادة".
عارض نتشه التحديد الكانطي للجميل من حيث "هو ما يُمتِعُنا بصورة مُنزَّهة"، أي بدون منفعة، مفضلا تعريفا آخر يعود لـ"ستاندال" مؤداه "أن الجميل هو وَعْدٌ بالسعادة
إن ستاندال كـ "متفرج" حقيقي بتعبير نتشه، قد "أفلح في تنحية ادعاء النزاهة، وهو محق فيما جاء به من تحديد لأننا سنكون مثار السخرية والضحك كلما زعمنا أنه بمقدورنا أن ننظر "بشكل نزيه" إلى تماثيل نساء عاريات، ونحن في غاية الانبهار بجمالهن"[9]. وبالفعل، فالنزاهة مجرد قناع أخلاقي يُخفي أكثر مما يُظهِر، ركاما من التزمُّت وتاريخا من الكَبت، تَعيشُه سائر المجتمعات بما فيها مجتمعاتنا العربية؛ هذه المجتمعات التي بقدر ما تَكْره الفن بشتى تلاوينه فلسفة كان أو سينما، شعرا أو رسما، نحتا أو موسيقى، بقدر ما تعمل جاهدة على حصره سياسيا في فضاءات خاصة، وأمكنة مغلقة ومعزولة. أما حالما يتم الترخيص للفن لكي يخرج إلى الفضاء العام، فهو يخرج في زَيّ محافظ، كوجه آخر لتلك الثقافة الرسمية التي تُفيد في عقد المصالحة بين الفرد ونظام اقتصادي استغلالي ليس إلا .معضلة الفن هنا، أنه لا يعمل سوى على توسيع نطاق المهمة التربوية والتعليمية المرصودة لتهذيب المرء وتعويده على الانضباط والإذعان تحملا لعبء وجودي في مجتمع تعوزه الحرية. فهو إذن ما يُوَلِّد كأسلوب للتسامي، يحُلُّ محل الإشباع البدني الحقيقي، نوعا من الانفصام في الشخصية، سرعان ما يجعل الكبت ينغرس كثقافة والتزهد يترسَّخ كأسلوب للعيش. على هذا النحو أيضا، صار الحب مسألة واجب، والجنس مجرد وظيفة اجتماعية ترمي إلى الإبقاء على النوع، مثلما أُفرِغ الجسد من محتواه كنظام للرغبة ليتحول إلى نظام للحاجة. وِفْق نظام الحاجة يحيا المرء متعة المُنْهَكِين لا متعة الأقوياء. الأوائل يتنكرون لطبيعة الرغبة التي تسكنهم جراء تعاملهم مع أجسادهم كخصوم يلزم كبح جماحها وإحكام السيطرة عليها؛ بينما الآخرون يَحْيَوْن، وهُم على وعي تام بقوة داخلية تؤجج كياناتهم. لعل الفرق بين الاثنين إن كان يعود إلى شيء، فإنما يعود إلى موقف كل منهما، المسبق من الجمال؛ إذ بقدر ما يرى الأوائل على أن تأمل الجمال لا ينبغي أن يؤجج فينا الرغبة أو يُحمِّس الإرادة، لأن هذه الأخيرة تجلب المعاصي وتدنّس صفاء الروح، بقدر ما يرى الآخرون بعكس ذلك على أن تأمل الجمال لابد له أن يحملنا نحو السامي le sublime باعتباره إحساسا فريدا يتأتى بعد وعينا بتلك المفارقة الكامنة بين عظمة الكون وشساعته بالمقارنة مع صغر وجودنا ككائنات عابرة أشبه ما تكون بنقطة ماء في بحر. بوسعنا القول والحالة هاته، بأن التناقض بين الطرفين، هو تناقض يقوم بخاصة على ذلك التنافر الكامن بين منظوريهما للحياة لا غير. فلما كان الأوائل محكومين برؤية تشاؤمية، ما فتئت تعتبر الحياة مجرد تكفير عن الخطيئة الأولى، صاروا من فرط ما يعانونه من نقص وعوز، يسعون إلى العثور في الفن عما يهدئ من شعورهم ويخفف من إحباطاتهم خلافا للآخرين الذين دأبوا على القبول بالحياة كما هي، والتعاطي معها كيفما كانت، جراء منظورهم التراجيدي المشمول بنزعة دينوزوسية لا تفتأ تزداد قوة وحبورا باستمرار. فبدل التفاؤل الذي يُبقي على الإنسان في نوع من الانتظارية القاتلة راهنا إياه بمستقبل غير مضمون العواقب، وبدل التشاؤم الذي يزرع فيه روح الكآبة منذ البداية، يلوذ التراجيدي بطمأنينة منقطعة النظير، لأنها تمنحه نفسيا نوعا من القدرة على جعل الأشياء جميلة حتى عندما لا تكون كذلك. ليس التجميل هنا نفيا للواقع بل هو عملية شاقة، تنشأ ما بين المرء وذاته، وتنِمُّ عن نوع من الانهمام بالذات. لكن هذا الانهمام الذي يقتضي تقديسا للحاضر مقرونا بالإصرار على البناء الزهدي للذات، انهمام لن يتحقق إلا في مجال مغاير هو ما أسماه بودلير بمجال الفن: حيث يمكن أن ينشأ ما يدعوه هذا الأخير بـ"الغندور" le dandy؛ ذلك أن الغندور ببساطة هو كل إنسان يسعى جاهدا إلى ابتكار أسلوب جميل في الحياة؛ أي أنه بمعنى آخر نظير ذلك الشخص الناجح في توظيف وقته لا ماله، غير مكترث بالذهب الذي يقدسه البرجوازيون، مصرّا على إخضاع الواقع لإرادته، محولا العنف إلى قوة والضرورة إلى حرية. هذه الحرية التي لا شيء بالنسبة إليه يعلو فوق عرشها. يصف بودلير المتخمين بهذه النزعة السامية كالتالي: "إن هذه الكائنات لا شُغل لها عدا تجميل ذواتها وإشباع رغباتها؛ ولا همّ لها عدا أن تُحِسّ وأن تُفكِّر". لكن إذا كان صاحب أزهار الشر، يربط الجمال بالإحساس والتفكير كما الشأن هنا، فذلك على ما يبدو لأنه يدرك إدراكا تاما، على أن النزعة الجمالية، لا تخص شخصا لوحده أكثر ما تخص الجميع، أفرادا وجماعات؛ لنقل إنها في الوقت ذاته، قضية الحضارة وقضية الإثبات الدينزوسي للحياة، مادام أن الإنسان بتحليه بالنزعة الدينوزوسية "لن يبقى إنسانا فنانا فحسب، بل سيصير هو بنفسه لوحة فنية" أي أنه "سيصير شاعر حياته في أدق التفاصيل كما في أكثرها ابتدالا حتى"[10].
على هذا النحو، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى السينما التي لا تقل في هذا الشأن أهمية من الفلسفة، لاسيما وأن الصورة أداة ناجعة لتمرير العديد من الرسائل، والتأثير على جمهور غفير من الناس، خلافا للكتب التي تتطلب من عشاقها بدْل مجهود كبير، بل والانزواء أيضا في وضعيات من العزلة التي عادة ما تكون غير مريحة. بديهي إذن أن تضحى المراهنة على الفن مفتاحا لكل معضلاتنا السياسية، سيما عندما نستند على عظماء التاريخ من طراز "شارلي شابلان" على سبيل المثال لا الحصر، الذي استطاع في فيلمه بعنوان "الأزمنة المعاصرة" أن ينتقد العالم الرأسمالي انتقادا لاذعا، مُشخِّصا حياة العامل ضمن سلسلة من الإكراهات التي وجد فيها نفسه مرهونا "سيزيفيا" بنظام الإنتاج الآلي، الذي غدا فيه مجرد قطعة آلية قابلة للتعويض في أية لحظة. والظاهر أن "شابلان" هو من يشك في إمكانية العثور على نظام اقتصادي بديل، بالرغم من إحالاته العديدة في هذا الفيلم إلى ماركس. لكن لا بأس والحالة هاته، أن نشير من ناحية أخرى إلى مسألة في غاية الأهمية بمكان، مؤداها أن المخرج الناجح بحسبنا، بداية من "شارلي شابلان" حتى "وودي ألان"، كان دوما هو المخرج القارئ للنصوص الفلسفية والمهووس بالإشكالات الوجودية، خاصة عندما يكون من عيار "نيكول كيدمان وكليف ووين" اللذين استطاعا، في فيلمهما بعنوان "همنغواي وغيلورن"، باعتباره فيلما يكاد لا يخرج البتة عن نطاق الأفلام الفلسفية التي تتقاطع فيها رؤية خاصة للوجود بفن للعيش يناسب لحظات حياتنا، حتى عندما تكون كارثية المنزع بتعبير كامو، استطاعا في هذا الفيلم بالذات أن يجعلا المتفرج يُدرك أنه ملزم بأن يعثر لنفسه في الحياة على مسلك خاص به، يشُقُّه لوحده، باحثا عن ذاته وخباياها الغابرة في ثنايا تستدعي الابتكار والخلق: لكن كيف ؟ أولا بإخلاصه لرغباته؛ ثانيا بنحته لذاته؛ ثالثا بتحرُّرِه من الأوصياء؛ رابعا بالقدرة على مواجهة الأحداث والطوارئ كيفما كانت درجة خطورتها. هكذا يمارس همنغواي الجنس مع غيلورن والقنابل تتساقط عليهما من كل حدب وصوب، مدركين على نحو هراقليطسي أن الحياة لا تُعاش إلا مرة واحدة، مستوعبين أن اللحظة لا تُعوَّض. إن هذا الفيلم مليء بالعِبر، إذ يُعلِّمنا أكثر من ذلك على أن الانتقالات في الحياة والترحال من موقع إلى آخر، أمور لا تتطلب سوى قدرا يسيرا من الجرأة، بموجبه استطاع الرجل أن يُطلِّق وأن يتزوَّج لمرات عديدة دونما تعقيدات؛ كيف لا وهمُّه الوحيد إن كان لابد له من هَمّ، إنما هو الوفاء للذات، التي دأب على التعامل معها بنوع من الصرامة اللازمة، مدركا أن الصرامة مع الذات هي وحدها المَعبَر المؤدي إلى مُصاحبتها. هكذا تتوالى المشاهد وتتناسل اللقطات واحدة تلو الأخرى، ليبدو همنغواي في كل مقطع من مقاطع الفيلم أشدّ إصرارا على السعي وراء سعادته أينما حل وارتحل، سواء في الكتابة التي يعتبرها صراعا أشبه ما يكون بصراع الملاكمين، أو في الحرب التي شارك فيها بروح أبيقورية لا تهاب الموت. وإذا كان الرجل هو من قال بأنك لن تكتُب بكل ما أوتيت من قوة، إلا إذا حَكمْتَ على نفسك بالعزلة، فذلك ليس إلا لأنه يخبر أن العزلة مكمن السعادة الحقيقية باعتبار السعادة شعور. "شعور بأن قوتنا في ازدياد، وإحساس بأننا في طور تجاوز عائق من العوائق"[11]. إلى هذا الحد، يمكننا القول إن تقاطع الشاعر بودلير مع الفيلسوف نتشه سواء في ربطهما الإحساس بالتفكير، أو في وصلهما الجمال بفعالية ونشاط الحواس؛ تقاطع ينم عن مدى أولوية الذوق لديهما، كأداة للتقويم سواء في مجال الأخلاق أو في مجال الإستطيقا. وإذا كان بودلير يصله بفن بناء الذات ويربطه بنوع من التزهد المرهون بأسلوب الغندرة فصاحب المعرفة المرحة، لا يستعمل والحالة هاته، مفهوم الذوق Geschmach بمعناه الألماني، بل كما يتصوره الأخلاقيون الفرنسيون؛ أي باعتباره ما يدلّ على الدقة المتناهية في فن التمييز بحسب ظروف الحياة الأكثر تنوعا، بين الرداءة ونقيضها، كما بين النبيل والخسيس. ليس يعني ذلك أن هذه القدرة أو السلطة شرط كاف لتحديد قيمة شيء ما أو تفاهته، بل يعني بأن الذوق يلزمنا أخذه بعين الاعتبار عند كل عملية تقويم كما لو كان الوسيلة المثلى لحل المشاكل الجمالية والفلسفية. فضد الإهمال والتبخيس الذي كان مفهوم الذوق عرضة لهما طيلة تاريخ الفكر الفلسفي، يدعونا نتشه إذن إلى الاستعانة بهذه الملكة بالموازاة مع قضية القيمة معتبرا الحياة، كل الحياة صراعا من أجل الأذواق والألوان، ينبغي للفيلسوف الفنان أن ينخرط فيه على نحو استراتيجي، لأنه الوحيد الذي يشعر ويحس حقا بانتمائه إلى عالم الأحياء. ولربما كان هذا الداعي ذاته هو ما يشفع لنا نشدان نوع من التعاطي الشامل مع الفن une esthétique généralisée حتى لا يبقى هذا الأخير، رهين فضاءات بعينها ومحصورا على عدد محدود من المحظوظين.
*- نص المداخلة التي شاركنا بها في مؤتمر عيد الفلاسفة الذي نظمته جمعية أصدقاء الفلسفة بفاس يومي 4 و5 مايو 2018
[1] Friedrich Nietzsche, Le crépuscule des idoles, Traduction d’Henri Albert, Flammarion, Paris, 1985. Flâneries inactuelles, §24, P.144
[2] شاكر عبد الحميد، عصر الصورة، السلبيات والإيجابيات، عالم المعرفة، يناير 2005، ص.130
[3] Entretien avec Paul Virilio, Le Monde de l’éducation, mai 2001, P.134
[4] Michel Onfray, Politique du rebelle, Traité de résistance et d’insoumission, éd.Grasset & Fasquelle, 1997, P.240
[5] Idem, PP.247-248
[6] Idem, P.246
[7] Friedrich Nietzsche, La généalogie de la morale, traduction D’Henri Albert, 1995, Cérès Editions, §6, P.100
[8] Idem, §6, P.100
[9] Idem, §6, P.101
[10] Friedrich Nietzsche, Le Gai Savoir, Traduction, notes, bibliographie et chronologie par Patrick Wolting, 2008, Flammarion, Paris, §299, P.277
[11] Friedrich Nietzsche, L’Antéchrist, Traduit de l’allemand par Jean-Claude Hémery, Ed. Gallimard, 1974, §2, P.16