الاستعمال العمومي للعقل وسؤال الشرعية لدى راولز وهابرماس

فئة :  مقالات

الاستعمال العمومي للعقل وسؤال الشرعية لدى راولز وهابرماس

الاستعمال العمومي للعقل وسؤال الشرعية

لدى راولز وهابرماس

ملخص تنفيذي

شكل هاجس شرعية الأنظمة السياسية ومقومات بنائها وتأسيسها، انشغالا كبيرا من انشغالات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، نحاول من خلال هذا البحث النظر فيها من خلال نموذجين فلسفيين كبيرين راولز وهابرماس، يختلف راولز عن هابرماس في الحدود التي يمنحها كل واحد منهما للديمقراطية، غير أنهما يتفقان حول الدور الجوهري الذي يلعبه التبرير عبر آلية التداول والنقاش العقلاني العمومي لصياغة منظومة معيارية توافقية وبلورة القوانين، ومن ثم تحقيق وإضفاء الشرعية على الاجتماع السياسي والبناء الديمقراطي برمته.

*****

إن التأصيل لمسألة الشرعية تستدعي التعامل مع المفهوم ودلالاته وأصله في إطار تاريخي منفتح. لذلك، لا نرى ضرورة التقيد بتجربة تاريخية وسياسية محددة؛ ذلك أن البحث الفلسفي بما هو معياري ينظر في كليات الأمور دون التقيد بمكان أو زمان. تشترك الأمم في جملة المفاهيم السياسية، غير أن كل أمة تسم المفهوم بسمة خاصة تتماهى مع حضارتها وتاريخها ودينها وثقافتها. ينشغل السؤال الفلسفي من حيث هو آلية لمساءلة المفاهيم دونما ربطها، بالضرورة، بمكان أو زمان معين بهاجس الوصول إلى خلاصات أو على الأقل معالم لفهم مرحلة تاريخية معينة.

إن تفحصنا لمفاهيم الفضيلة والعدالة والحُرّيَّة، التي تشكل أسس الشرعية السياسية، يفضي بنا إلى خلاصة مفادها أن الاتفاق حولها قديم، رغم أن واقع الأحداث التاريخية يثبت ما يخالف ذلك، نرى أن الاتفاق حول هذه المعايير الكونية موجود في كل الثقافات، حتى التي قد تبدو متباينة ومتنافرة أشد التنافر مثال ذلك، ما ذهب إليه ابن خلدون في القرن الرابع عشر من أن "العدل أساس وقوام العمران البشري"، نجد الخلاصة نفسها عند مفكري وفلاسفة القرن العشرين، مثال ذلك ما ذهب إليه جون راولز، في نظريته للعدالة، من أن العدالة هي الفضيلة الأولى للتنظيمات الاجتماعيّة. نلاحظ أن السياقات التاريخية، وإن كانت متباعدة زمنيا ومتنافرة أخلاقياً، قد تدعونا إلى مساءلة هذه المفاهيم الكونية التي تواضع عليها العنصر البشري. هكذا تتجلى لنا، من خلال هذا الطرح، معالم الفكر الفلسفي السّياسِيّ، الذي يتوسّل بحقول معرفية أخرى (التاريخ والسياسة وعلوم الطبيعة...)، لمحاولة الخروج بأجوبة وأحكام وخلاصات تتعلق بالمفهوم وتعالقه الشديد مع سياقه التاريخي ومع غيره من المفاهيم.

لم تشكل مسألة الشرعية في الفلسفة السّياسِيّة، هاجساً كبيراً للمجتمعات الأولى بقدر ما كانت تُطرح في قالب وصفي للمؤسسات القائمة، حيث كانت تخضع لمعايير الحكم الأخلاقي. نجد ذلك ظاهراً عند الفلاسفة الكلاسيكيون، كأفلاطون وأرسطو؛ فالأمر عندهم كان متعلقاً بالمثل العليا للحكومة والمدينة والجمهورية، ولم ينشغلوا بمسوغات السلطة من حيث هي منبثقة من الواقع التاريخي للإنسان. لذلك، لم تشكل مسألة الشرعية انشغالاً، في أوروبا وغيرها، إلا عندما دشنت مساراً تاريخياً جديداً من خلال التفكير في علمنة أو دنونة نظريَّة الشرعية Laïcisation de la légitimité[1]. أما العامل الأساس، الذي ساهم في عدم انبعاث مفهوم الشرعية، فقد كان مرتبطاً بنظرة البشر إلى الكون ومعاني الحقيقة والدين والاعتقاد، والتي تغيرت من خلال مسار تاريخي طويل لا مجال هنا لبسطه، غير أننا سنلمح له من خلال حقيقة تاريخية، وهو أن الفكر السياسي اليوناني الأفلاطوني والأرسطي وبعد القروسطي كانت فيه الحقيقة ثابتة، وبالتالي فالشرعية كانت لا تاريخيّة ولا وجود لها في تلك السياقات.

إن الكلام عن الشرعية، في السياق الغربي المعاصر، يجرنا إلى فكرة "علمنة" مجال الممارسة السّياسِيّة؛ إذْ إن أوروبا في أزمنتنا المعاصرة، قد قطعت مع الدين كمصدر معياري في السياسة بعد أن عاشت، في العصر الوسيط، سياسياً واجتماعياً في ظل "نظريَّة الحق الإلهي"، والتي كانت تشكل أساساً للمشروعية، والتي خولت تبرير وتسويغ سلطة الملوك؛ حيث دعمت السلطة الكنسية سلطة الملوك لانتزاع اعترافٍ قسريٍ بها. كان ذلك من خلال تبرير كنسي في شكل ظهير أو مرسوم إلهي يخول للملوك البث في أمور الرعايا الخاصة والعامة. هكذا كان الوضع في أوروبا في العصر القروسطي. لم يتمخض الفكر السياسي عن انبعاث مفهوم الشرعية بالشكل المعاصر إلا في حدود القرن السابع عشر أو ما سمي بعصر التنويرLes siècles des lumières.

تستمد السلطة السّياسِيّة في الدولة الحديثة، حسب ماكس فيبر، شرعيتها من التزامها بدستور مصمم على أسس عقلانيّة تهدف خدمة الدولة والمواطنين[2]. وتفقد كذلك شرعيتها حسب عبد الله العروي، حينما يغيب الاعتراف، وتكون السلطة مصادرة بالقسر والإرغام، وتضيع معاني المساواة والحرية، فتغدو بذلك السلطة "مرفوضةً لا شرعيّة سيّئة، وليدة الطبيعة الحيوانية في الإنسان"[3].

يتساءل هابرماس عن مدى إمكان إعطاء أساس لمبدأ الشرعية الديمقراطية بناء على الاستقلال الأخلاقي للمواطنين في سياق اجتماعي وثقافي أصبح "ما بعد ميتافيزيقيا". ومن ثم، يكون من الضروري تبني خطاب ولغة تأخذ في الاعتبار "نزع السحرية عن العالم" désenchantement du Monde؛ أي "غياب أي معيار مستقل ومسبق للعدالة"، كما عند راولز، أو "اختفاء معايير اليقين" كما عند ليفورتClaude Lefort [4]. كيف يمكن إعادة التفكير في أسس المؤسسات والممارسات الدِّيمُقرَاطِيّة، في سياق أزمة العقل النظري والعملي؟ كيف يمكن الاستمرار في التأكيد على أولوية الحقّ على الخير، والقانون على الاختيارات، وسط "حرب الآلهة"؟ إنّ إسناد الشرعية الديمقراطية ببساطة إلى مبدأ "موافقة" المواطنين هو النهج الذي أخفق في كلا المثالين، على حد سواء. لقد أظهرت النازية، أكثر من الأشكال المختلفة من الشمولية، مدى إمكانية استبعاد هذا الطرح.

إن الخلفيات المختلفة جدًّا التي أتى منها الفيلسوفان راولز وهابرماس لم تمنعهما من تركيز جهودهما للوصول إلى طريقة جديدة لشرعنة الديمقراطية ومن تحقيقهما استنتاجات متقاربة. لا يمكن أن تنشأ معيارية القانون والعدالة إلا من استقلالية أخلاق المواطنين أنفسهم، والتعاون والنقاش بينهم في ظل شروط الحرية والمساواة، حيث "يستفيدون من حقوقهم في التعبير عن وجهات نظرهم وتوجيهها نحو الصالح العام. لكن بدلاً من التفكير في الاستقلالية الأخلاقية كقيمة خارجية للعملية السياسية الديمقراطية، فهم راولز وهابرماس، على حدّ سواء، هذه العملية بطريقة براغماتية؛ أي بكونها مجموعة من الممارسات والعمليات الممأسسة التي تضمن مسؤولية المواطنين عن المبادئ والمعايير التي يجب عليهم التَّوافق عليها والالتزام بها. وبالتالي، فإن التبرير العمومي يفترض وجود عنصر أو شرط جديد فيما يتعلق بالموافقة البسيطة: وجود نقاش عام حقيقي، حيث يمكن للجميع تقديم "أسبابهم ومبرراتهم" لجميع المواطنين الآخرين، ومن ثم، المساواة في وصول الجميع إلى عمليات التداول وصنع القرار، التي تلعب دور المعيار المتجاوز للعدالة.

أعلن هابرماس في عمله الرئيس لعام 1992 "القانون والديمقراطية"[5]، عن طموح وتصور جديد، وهو أن تطبيق نظريَّة التداول لم يعد على الأخلاق فقط، كما في الأخلاق والتداول وأخلاقيات التداول، Morale et communication وL’éthique de la discussion,، ولكن أيضاً لتجديد مفهوم القانون الوضعي في السياق الديمقراطي المعاصر. يبرر هابرماس هذا المطلب بحجة المخاطر التي يتعرض لها حكم القانون الديمقراطي ومبدأ شرعيته. يجب فهم هذا المشروع من خلال اهتمام هابرماس بالديمقراطيات من حيث كونها هشة. لا يكفي، في الواقع، أن تمتلك الدولة مؤسسات دولة القانون، Rechtsstaat أو سيادة القانون، بل يجب أن تكملها ثقافة سياسية ديمقراطية ومجتمع مدني نابضين بالحياة، يتمتعان بالاستقلالية والحرية عن السلطة السياسية.

القانون الوضعي، على وجه التحديد، هو من يسمح -أو لا يسمح- بإضفاء الطابع المؤسسي والاستقرار على المدى الطويل. مصادر الشرعية هذه، هي التي بدونها يتوقف حكم القانون عن الديمقراطية. ولكن كيف يمكن تقوية المحتوى المعياري للقانون دون الوقوع مرة أخرى في أوهام المذاهب الكلاسيكية للحق الطبيعي؟ كانت هذه النقطة هي محل التقاء هابرماس بأعمال راولز، "نظريَّة في العدالة" و"الليبرالية السياسية" فيما بعد. لا تخفى التباينات الثقافية والفلسفية التي تميز الفيلسوفين، حيث يظهر لقاؤهما سطحيًا، يغلب عليه سوء الفهم بينهما، فهما غير متماثلان؛ فراولز لم يفصح، إلا متأخرًا عن أطروحاته، كما لاحظ هابرماس، بينما عمل هذا الأخير على تبني العدالة كإنصاف في أعماله، والذي من خلاله، رغم بعد المسافات، أثار تبادلاً مهماً ومميزًا، وبلغت هذه المناقشة الموضوعية ذروتها في مقالين للفيلسوفين نُشرا في سنتي 1995 و 1996 في مجلة "The journal of philosophy": "المصالحة من خلال الاستخدام العمومي للعقل" لهابرماس[6]، و"الليبرالية السّياسِيّة: الرد على هابرماس" لراولز[7] وفي مقال هابرماس الموسوم بـ "أخلاق تصورات العالم: العقل والحقيقة في الليبرالية السياسة لراولز"[8]. لقد كان هذا التبادل العميق يمثل حدثًا رئيسًا يستحق الوقوف عنده، إذا أردنا فهم التحولات التي تمر بها حاليًا النَّظرية المعيارية للديمقراطية. قبل مناقشة وجيزة للعديد من نقاط سوء الفهم التي فرقت راولز عن هابرماس، وجعلت المقارنة بينهما غير مثمرة، لنرى ما الذي يوحد الرجلين:

إنه الدور المحوري الذي يلعبه التبرير ""La justification، من خلال ممارسة المناقشة العقلانية في إضفاء الشرعية على العدل والقانون والحاجة إلى دمقرطة دولة القانون، من خلال الممارسة العامة للنقاش والتداول أو "الاستعمال العمومي للعقل". نرى، وبجلاء إذن، كيف يشترك راولز وهابرماس في نفس القناعة الثابتة، بأن الديمقراطية ليست مجرد طريقة لإدارة المصالح المتضاربة، أو نظام حكومة الأغلبية التمثيلية، ولكنها النموذج المثالي للحياة الأخلاقية، الذي يسعى إلى تحقيق إمكانات كل شخص في ظروف من الكرامة والسلامة؛ وذلك بفضل نظام الحقوق المنصوص عليها في الدستور. والملاحظة التي تثير الإعجاب، عند كل من راولز وهابرماس، هي الطريقة التي يربطان بها بين حماية الحقوق والمشاركة السياسية وبقاء الديمقراطية. إنهما يريان في الديمقراطية الدستورية؛ أي "دولة (هابرماس)، الشكل الوحيد الصالح للديمقراطية المعاصرة. لكن الجديد هو أن هذا المجتمع الأخلاقي لا يقوم على الهوية المشتركة، أو على نفس مفهوم الخير والحياة الجيدة، بل على النقيض من ذلك، على التنوع وحرية الاعتقاد لأعضائها، وبالتالي فهي هشة وغير مستقرة بسبب تنوع وتعدد أنظمة القيم والمفاهيم (الشاملة)، التي تتكاثر في سياق الحرية والأمن الذي يوفره القانون. إنهما (=هابرماس وراولز) يرفضان التخلي عن طموحات الفلسفة المعيارية، السياسية والأخلاقية والقانونية باسم إملاءات "الوقائع"، كما أنهما يرفضان أي سياقية أو نسبية ثقافية تكوِّن رؤية عن الديمقراطية الدستورية على أنها إبداع ثقافي مؤقت، والتي يكون تنفيذها خاص بحيز متميز من الكوكب. وذلك ما يقترحه ريتشارد رورتي[9]. وأخيرًا لا يعتقد واحد منهما أن الجماعاتية le communautarisme تضع حلاً للمشكلات الجديدة، ويظلان أوفياء للشرط الكانطي: العادل مختلف عن الخير ومقدم عليه. ويعولان على تدخل أكبر للمجتمع المدني وعلى العقل العمومي، وبالتالي على المواطنة الفاعلة، وهو ما يعبر عنه بالديمقراطية التشاورية أو التداولية la démocratie délibérative.

وضع الفيلسوف هابرماس نظريته حول ّأخلاقيات النقاش في إطار مشروع العقل التواصلي كبديل عن العقل الأداتي، بقي هابرماس ضمن الأفق الذي حدده كارل أوتو آبل، الذي ظل باحثاً عن كيفية تأسيس أخلاقيات التواصل. يقول هابرماس في هذا المضمار: "بدلا من أن يتم فرض قولة على الجميع أريد لها أن تكون قانونا عالميا، فمن الواجب علي إخضاع قولتي هذه أمام الجميع؛ وذلك بهدف تفحص ادعاءها العالمية بواسطة النقاش، هكذا يجري احتمال انسحاب: أن مركز الجاذبية لم يعد يكمن في ما يتمنى كل واحد تحقيقه قيميا من غير أن يعترض عليه، كما لو أنه قانونا كونيا، وإنما-يكمن- في ما يستطيع الجميع الاعتراف إجماعاً به باعتباره معيارا كونيا"[10]. وعليه، نخلص إلى أن الفعل التحاوري يعطي إمكانيات الحجاج والاستدلال والمناقشة والنقد، ومن ثم فهو يعطي الحقّ في القبول أو الرفض. هكذا يكون فعل التواصل والتحاور قاعدة أساس أكد عليها هابرماس في تحليله للفعل التواصلي، الذي يستدعي لغة ومنطقاً يخولان إيجاد شروط معيارية مضبوطة ومقبولة، شريطة أن تتوفر الرغبة الحقيقية للمتحاورين للوصول إلى قناعة معينة في الفكر أو نجاعة في الممارسة.

تتمثل التحديات التي تعترض طريق الفعل التواصلي حسب هابرماس في العنف اللفظي بجميع أصنافه، وفي الخداع والتمويه والكذب والوقاحة واستعمال الحيل الفكرية واللغوية ولكل صنوف السفسطة. لابد إذن، بالنسبة إلى هابرماس، من تحديد منظومة معيارية واضحة حقوقياً ومؤسساتياً، لتكون بمثابة الضمانة لجدية ومصداقية فعل التواصل وحرية التفكير والتأويل. هكذا تتبين لنا أسس ثقافة الحوار التي تنبني على قاعدتين أساسيتين، وهما: التعقل والحرية وعلى بعدين جوهريين هما: إنتاج المعنى وضبط الاحترام والتسامح.

أسس هابرماس، من خلال نظريته، "أخلاقيات المناقشة" ليجعل نظريَّة الفعل التواصلي[11] فعالة، ولتكون نموذجا للمجتمع الذي ارتضى الديمقراطية نظاماً سياسياً لتدبير حياته السياسية والاجتماعية برمتها. تشكل هذه الأخلاقيات معايير مضبوطة، سواء أخلاقياً أو سياسياً لكل حوار أو تداول. أسس لذلك من خلال المنطق السليم والقوانين الوضعية الضامنة لحقوق الأفراد والمجتمع. هذا الحوار مرتبط أساسا بالاتفاق الحاصل بين الأطراف المتحاورة، والتي تحتكم دائما ّإلى المنظومة المعيارية حتى يتسنى إخضاع كل الأحكام وكل الاختلافات، بل كل وجهات النظر، إلى الأدلة والحجج، ليتوصل بعد ذلك إلى التَّوافق أو الإجماع. يجزم هابرماس أن هذه العملية يجب ألا تكون مسلطة من طرف على طرف مع مقتضيات الاتفاق.

يسعى هابرماس، من خلال تبنيه لنظريَّة الفعل التواصلي، إلى عقلنة بنية الوعي، من دون أن يلزم أفراد الجماعة البشرية بأسلوب حياة معين أو نمط سياسي محدد. يقول في هذا الشأن: "إن هذا البراديغم حول الحق لا يدعي، بأي حال، توقعاً محدداً لمجتمع مثالي، كما أنه لا يسعى إلى تقديم رؤية محددة لحياة سعيدة. مثلما لا يقدم خياراً سياسياً محدداً. إنه، بهذا المعنى، صوريّ؛ لأنه يسعى فقط إلى تعيين الشروط اللازمة التي تجعل من الذوات القانونية قادرة على التَّوافق بوصفهم مواطنين، حول المشاكل الخاصة بهم وكذا الحلول التي ينبغي لهم القيام بها"[12].

إن عملية التذاوت صعبة المنال، حسب كارل آبل أوتو، الذي جادل هابرماس فيها، غير أن هذا المعيار أخلاقيّ بامتياز، ومن ثم، فإن أخلاق الحوار هي الضامنة للتواصل السليم والحقيقي في آخر المطاف. لقد أسس هابرماس لأخلاقيات الحوار من خلال وضعه لقاعدتين أصليتين لكل عملية حوار ممكنة؛ قاعدة الكونية وقاعدة الديمقراطية. لا يتأتى -تبعا لهاتين القاعدتين- للحوار أن يتم إذا لم يكن الطرفان المتحاوران قد اتفقا، سلفاً، على شروط ومعايير التحاور، هذه الشروط وجب أن تكون مقبولة من، حيث مضمونها ومن حيث نتائجها، من قبل الجميع؛ أي من طرف الأطراف المتحاورة.

هكذا نتبين أن أخلاقيات الحوار، عند هابرماس، هي عقلانية وتواصلية تنبني على المنطق والعقل والحرية والإجماع. نستشف ذلك من خلال الحوار الذي دار بينه وبين راولز حول إشكالية العدالة السّياسِيّة. لا يمكن للحوار أن يدور إلا بين أفراد مستقلين يمارسون حياتهم بحرية؛ هذه الحرية التي تعني ببساطة خضوعهم الواضح للقوانين التي قبلها الجميع وتواضعوا عليها، على أساس الاستعمال العمومي للعقل بواسطة آلية الحوار، وذلك ما ينماز به النظام الديمقراطي عن غيره. هذا النظام الذي تنبثق فيه القرارات التي تهم الجميع، وتأخذ حجيتها بعد التداول والنقاش واستعمال العقل بشكل علني وعمومي بين مواطنين أحراراً تربط بينهم علاقة المساواة والحوار.

هكذا يؤسس كلٌّ من هابرماس وراولز مجتمعاً حديثاً في مكنه تفادي علاقة الغلبة والقوة للحصول على الخيرات الأساسية؛ فالحرية جوهرية وهي ما يخول للحوار أن ينتج العدالة والمساواة والسعي الحقيقي من خلال التواصل والتداول الدائمين إلى تحقيق الخير والسعادة للجميع.

تتبين لنا نقط التشابه والالتقاء بين هذين العلمين من أعلام الفلسفة، فأسئلتهما مماثلة والتزاماتهما متماثلة واستنتاجاتهما متقاربة، فأين يكمن إذن الفرق بين الإثنين؟

من يُفتّش عن الاختلاف الهابرماسي الراولزي يعثر عليه في الحدود التي يمنحها كل منهما للديمقراطية. ففي حين يعتقد راولز أن تأسيس المُجتمع المُحكم التنظيم تحكُمه مبادئ العدالة، التي لا ينبغي أن تخضع لأي اعتبار ديمقراطي أو للنقاش عمومي، بحُسبانها مبادئ قبلية؛ يرى هابرماس، في المقابل، أن كل القواعد القانونية، حتّى تحتاز الشرعية، ينبغي أن تكون موضوع نقاشٍ وتداولٍ من طرف المعنيين بالخضوع لها، بما فيها -وعلى رأسها- المبادئ الحاكمة للنظام السّياسِيّ، شريطة أن يحتكم النقاش والتداول العقلاني إلى أخلاقيات النقاش، كما صاغها في عمله أخلاق المناقشة[13]، وأن يخلو النقاش من أدوات السُّلطَة: سُلطَة السوق (المال) وسلطة الإدارة (البيروقراطية). هكذا عارض هابرماس النزعة التأسيسية[14] fondationnalisme، القائمة على وضع حقوق قبلية طبيعية -كما كانت الحال مع لوك- أو مبادئ للعدالة -كما هي الحال مع راولز، أو كما تبدو، في التجارب السّياسِيّة المعاصرة في شكل مبادئ دستورية. علة هذا الرفض الهابرماسي هي انتقاصه من الدِّيمُقرَاطِيّة وترتيبها تالية بعد المبادئ تلك. هكذا جاء المشروع الهابرماسي الدِّيمُقرَاطِيّة التداولية بديلا عن نظريَّة العدالة الراولزية.

لكن على الرغم من هذه الاختلافات، الفائدة من هذا النقاش هو ما دفعنا إلى التفكير في طبيعة "الحكم الأخلاقي السياسي" من وجهات نظر متميزة، ولكنها قابلة للمقارنة، إما لكونها "اتجاه إجرائي للعدالة" أو كمعيارية ضمنية في كل حوار معلل بحجج. أولوية العادل على الخير ضمنية ومنطوية في تمرين قدرتنا على الحكم. ليست المعيارية خاصية غامضة. إنها تنبعث من الحد الأدنى من شروط التواصل والتعاون.

شرعية النظام الديمقراطي إذن من وجهة نظر الفيلسوفين، تتجلى من خلال مبدأ تعليق الشرط الإبستيمولوجي، وبناء صرح الديمقراطية والعقد الاجتماعي على أسس تداولية في الفضاء العام، وعلى مبدأ التبرير لصياغة التَّوافقات الممكنة؛ وذلك ما يعطي الاستعمال العمومي للعقل ومؤسسات المجتمع المدني فاعليتها في شرعنة الأسس والقواعد ومن ثم القوانين الناظمة للفرد والمجتمع.

[1] Baubérot, Jean. «Sécularisation, laïcité, laïcisation», Empan, vol. 90, no. 2, 2013, pp. 31-38

[2] Max Weber, le savant et le politique (Paris: La Découverte, 2003), p. 120

[3] عبد الله العروي، مفهوم الدولة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة التاسعة، 2011) ص ص. 14-15

[4] Claude Lefort, Essais sur le politique, XIXe-XXe siècles (Paris: Éd. Du Seuil, 1986), p. 30

[5] Jürgen Habermas, Droit et démocratie entre faits et normes, trad. par Rainer Rochliz et Bouchindhomme (Paris: Gallimard, 1997).

[6] Jürgen Habermas, «Reconciliation Through the Public Use of Reason: Remarks on John Rawls’s Political Liberalism», Journal of Philosophy, Vol. 92, No. 3 (Mar., 1995), pp. 109-131. Disponible sous format pdf [En ligne] sur: < https://www.jstor.org/stable/2940842>, Consulté le: 05 -05-2022.

[7] John Rawls, “Political Liberalism: Reply to Habermas” Journal of Philosophy, vol. 92, no 3, 1993, p. 109-131 et p. 132-180. Disponible sous format pdf [En ligne] sur: < https://www.jstor.org/stable/2940843>, Consulté le: 05 -05-2022

[8] Haber, Stéphane. «Sur quelques résonances historiques dans la critique habermassienne de Rawls», Le Télémaque, vol. 20, no. 2, 2001, pp. 103-120

[9] Cf: Richard Rorty, «Y a-t-il un universel démocratique. Priorité de la démocratie sur la philosophie», in L’interrogation démocratique, Paris, Éd. du Centre Pompidou, 1987, p. 157-187

[10] أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورغن هابرماس: الأخلاق والتواصل (بيروت: دار التنوير، 2012)، ص. 255

[11] "إن مهمة الفلسفة كانت دائما موجهة نحو الشروط الصورية لعقلانية المعرفة والتفاهم اللغوي والفعل: هذه الشروط يمكن البحث عنها سواء في الحياة اليومية، أو في مستوى التنظيم والنسق المنهجي للتجارب، أو كذلك في المستوى النسقي للمناقشة. في هذا السياق تكتسي النَّظرية الحجاجية دورها لأن مهمتها إعادة بناء المقومات والشروط التداولية الصورية لسلوك عقلاني واضح"؛ يُنظر،

Jürgen Habermas, Théorie de l’agir communicationnel, Tomme 1, Trad par: Jean-Marc Ferry (Paris: Ed, Fayard, 1987), p. 18

[12] Jürgen Habermas, Droit et Démocratie, Entre faits et normes, Op. Cit, p.474

[13] Cf: Jürgen Habermas, De l'éthique de la discussion, trad. par Mark Hunyadi (Paris: Cerf, 1992).

[14] Cf: Stéphane Courtois, «Droit et démocratie chez John Rawls et Jürgen Habermas: fondationnalise du droit ou démocratie délibérative, Disponible sous format pdf [En ligne] sur: <https://www.erudit.org/en/journals/ps/2003-v22-n2-ps617/007876ar.pdf >, Consulté le: 10 -01-2022