الاِسْتِنْبَاطُ، وَالاِسْتِقْرَاءُ، وَالْفَرضِيَّةُ

فئة :  ترجمات

الاِسْتِنْبَاطُ، وَالاِسْتِقْرَاءُ، وَالْفَرضِيَّةُ

الاِسْتِنْبَاطُ، وَالاِسْتِقْرَاءُ، وَالْفَرضِيَّةُ

تأليف: تشارلز ساندرز پورس

تحقيق: ناثان هاوزر وكريستيان كلاوزل

ترجمة وتحليل: الدكتور أحمد فريحي

تقديم المترجم:

تدخلُ هذه المقالة في المَشروع المَنهجي والمنطقي الَّذي سمَّاه پورس "توضيحات"، وأصدرَ فيه ست مقالات (وقد ترجمنا مقالتين منها)، [1] وتعدّ هذه المقالة هي السَّادسة والأخيرة، ممَّا يجعلُها تتويجاً لمشروعه. إنَّها الرِّسالة الأخيرة من پورس الَّتي مفادها أنَّ المنطق أو المنهج القويم الَّذي يسعى إلى الحقيقة العلمية لا يمكنُ أنْ يكون سوى المنطق أو المنهج العلمي المُرتبط بالواقع التَّجريبي، والَّذي له أثرٌ وفعلٌ في الواقع.

لقد أبدع پورس في هذه المقالة قاموساً جديداً في المنطق لمْ يكن معهودا في الاصطلاحات القديمة، نلمسُ فيه الرُّوح العلمية والتَّجريبية. ففي الوقت الَّذي وجدنا فيه المناطقة القدماء يمجدون القياس الحملي البرهاني في أسمى أضربه الَّذي هو ضرب Barbara، ويهمشون الاستقراء والتَّمثيل، نجدُ پورس في الفترة المُعاصرة يردُ القياس الحملي البرهاني المُجرد إلى أصله الطبيعي الَّذي هو الاستقراء التَّجريبي، ويجعلُ التَّمثيل جزءاً من الاستقراء (لأنَّ التَّمثيل في الأصل ليس إلاَّ استقراء ناقصا)، ويضيفُ الفرضية بوصفها استدلالا منطقيّاً جديداً، وجد له مكانة بارزة في المُمارسة العِلمية المُعاصرة.

لقد قسَّم پورس في هذه المقالة الاستدلالات إلى قسمين: هناك استدلالٌ تحليلي هو الاستنباط، وهناك استدلالٌ تركيبي هو الاستقراء والفرضية. ولمَّا تحدَّث عن بنية القياس الكلاسيكي، اقترح أسماء جديدة، فسمَّى المقدمة الكبرى القاعدة Rule، وسمَّى المقدمة الصُّغرى الحالة Case، وسمَّى النَّتيجة Conclusion النَّتيجة Result. وانطلاقا من هذه التَّسميات، فبدلاً من تعريف الاستنباط (القياس) بأنَّه "استدلال بكلي على جزئي"، اعتبره "حملُ قاعدة على حالةٍ، وتصريح بنتيجة"، وبدلاً من تعريف الاستقراء بأنَّه "استدلالٌ بجزئي على كلي"، اعتبره "استنتاج قاعدة من حالة ونتيجة"، وألغى الحديث عن التَّمثيل باعتباره "استدلالا بجزئي على جزئي"، وأحل محلَه الفرضية، واعتبرها "استنتاجُ حالةٍ من قاعدة ونتيجة".

إنَّ كلَّ من يدقِّقُ النَّظر في هذا التَّجديد، يلمسُ الطَّابع العملي والعلمي للمنطق؛ فالقاعدةُ تنسجمُ مع القانون العلمي، والحالةُ تنسجمُ مع العينة المدروسة، وبما أنَّ الاستقراء استنتاج قاعدة من حالة ونتيجة، فهذا يدلُ على أنَّ العالِم الَّذي ينطلقُ من حالات فردية أو عينات، ويجري التَّجارب عليها، يخلُص في النِّهاية إلى قاعدة عامة، وهذه القاعدة العامة ليست شيئا سوى القانون العلمي. وإذا أراد أنْ يُفسِّر ظاهرة ما، فإنَّه يفسِّرها انطلاقاً من قوانين تحكمُها، وبذلك يستعملُ استدلالا استنباطيا، بمقتضاه يحملُ القانون على الحالة، ويتوصل إلى النتيجة الَّتي هي التَّفسير العلمي للظاهرة.

نلمسُ في هذه المقالة نزعة اسمية وتجريبية تتوخى التَّدقيق والتَّحقيق الواقعيين والفعليين في العالم التَّجريبي بدلا من التَّجريد الذِّهني، وربط العلاقات الفارغة بين الأفكار، وهي امتداد للآلة الجديدة الَّتي صنعها فرنسيس بيكون، ووسَّع دائرَتها جون ستيوارت مل. كما أنَّها تروم في مُجملها بيان أهمية الاستقراء والفرضية في العلم، وهي تحليلٌ دقيق للتشابه والاختلاف بينهما، وكلُّ ذلك معزَّز بأدلة من العلم التَّجريبي المعاصر. فيما يخصُ التَّشابه بين الاستقراء والفرضية قال پورس في الفقرة 24: «إنَّ تشبيهَ الفرضيةِ بالاستقراء قويُّ جدًا لدرجة أنَّ بعضَ المناطقة قدَ خلط بينهما. لذلك، سُميِّت الفرضيةُ باستقراءِ الخصائص. لقدْ تم العُثور على عددٍ من الخصائص الَّتي تنتمي إلى فئةٍ مُحدَّدةٍ في شيءٍ محدَّدٍ؛ ومن هنا يُستنتج أنَّ كلَّ خصائص تلك الفئة تنتمي إلى الشَّيء المحدَّد. وهذا بالتأكيدِ ما يجعلُ الفرضية تنطوي على نفس مبدأ الاستقراء؛ ولكن في صورة مُعدَّلة.». ورغم إشارته إلى هذا التَّشابه، فإنَّه قد ذكر كثيرا من الاختلافات بينهما، قال: «يكونُ الاستقراءُ حيثُ نقومُ بتعميمِ عددٍ من الحالاتِ الَّتي يكونُ فيها شيءٌ ما صادقا، ونستنتج أنَّ نفسَ الشَّيءِ يصدقٌ على الفئةٍ برُمتِها. أو يكون الاستقراء حيثُ نجدُ أنَّ شيئًا محدداً يصدق على نسبةٍ مُحدَّدةٍ من الحالاتِ، ونستنتجُ أنَّه يصدق بنفسِ النِّسبةِ على الفئةِ برُمتها. وتكونُ الفرضيةُ حيث نجدُ في بعضِ الظُّروف المثيرة للفضول جدا، والَّتي يمكنُ تفسيرُها بافتراضِ أنَّها كانت حالة لقاعدة عامةِ محددةٍ، ومن ثم نتبنَّى هذا الافتراض. أو تكون الفرضية حيثُ نجدُ أنَّ هناكَ تشابهًا قويًا بين شيئيْن في جوانبَ مُحدَّدة، ونستنتج أنَّ أحدَهما يُشبه الآخر بشدةٍ في جوانبَ أخرى.» (الفقرة [8])، ثم يضيف في الفقرة رقم [30] الفرق بينهما من خلال قوله: «فمن خلالِ الاستقراء نستنتجُ أنَّ الوقائع، المُشابهة للوقائع الملاحظة، تكونُ صادقةً في الحالات الَّتي لمْ يتم فحصُها. ومن خلال الفَرضية يكون وجودُ واقعة مختلفة تمامًا عن أيِّ شيء تمت ملاحظُته، وعن تلك التي سينتج عنها بالضرورة، وفقًا للقوانين المعروفة، شيء مُلاحظ. فالأول [أي الاستقراء] استدلالٌ بجزئيات على قانونٍ عام؛ والثَّاني [أي الفرضية] استدلالٌ بنتيجةٍ على سبب. فالاستقراءُ يُصنِّفُ، والفرضية تُفسِّر.». وقال في الفقرة رقم [37]: «إنَّ الفرقَ الكبيرَ بين الاستقراء والفرضية يتجلى في أنَّ الاستقراء يستنتجُ وجود ظواهر مثلَ الَّتي لاحظناها في حالاتٍ مُشابهة، في حين أنَّ الفرضية تفترضُ شيئًا من نوعٍ مختلفٍ عمَّا لاحظناهُ مباشرة، وفي كثير من الأحيان سيكونُ شيئاً من المستحيلِ أنْ نلاحظَه مباشرة.». وقال في الفقرة [39]: «من الجلي أنَّ الاستقراءَ استدلالٌ أقوى بكثيرٍ من الفَرضية؛ وهذا هو السَّبب الأول للتَّمييز بينهُما. يُنظر أحياناً إلى الفرضياتُ على أنَّها هي ما يُحتاج إليه مؤقتا، والَّتي يجبُ استبدالُها بالاستقراءات مع تقدُّم العلم. لكنَّ وجهة نظر هذه خاطئةٌ. إنَّ المنطقَ الافتراضي يستنتجُ في كثيرٍ من الأحيانِ واقعةً غير قادرة على المُلاحظة المُباشرة.». وقال في الفقرة [41]: «وهناك مِيزة أخرى للتَّمييز بين الاستقراءِ والفَرضية، وهي تلك الَّتي تؤدي إلى تصنيفٍ جد طبيعيٍّ للعلوم وللعقول الَّتي تترصدهُما. إنَّ ما يجبُ أنْ يفصلَ بين أصناف العلماء أكثر من أيِّ شيء آخر هو الاختلافاتُ في تقنياتِهم. فلا يُمكنُنا أنْ نتوقعَ من علماء يشتغلون بالكتب أنْ يستووا بعلماء قضوا حياتَهم في المُختبرات. ولكن، بعد الاختلافات من هذا النَّوع، تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية الاختلافات في أنماطِ التَّفكير. ».

تقديم المُحَقِقَيْن:

هذه هي المقالة 123 المنشورة في: مجلة "العلم الشعبي الشَّهرية" (يوم 13 غشت سنة 1878): ص. 470-482. [نُشرت أيضًا في W3: 323-38، وفي CP 2.619-44.] يختتم پورس بهذه المقالة سلسةً المقالات الَّتي اختارَ لها عنوان: "التَّوضيحات"، ويناقشُ فيها الأنواع الثلاثة من الاستدلال (الاستنباط، والاستقراء، والفرضية) استنادًا إلى الصُّورة العامة للاستدلال القياسيّ المنطقيِّ المؤلف من: القاعدة والحالة والنَّتيجة. يبيِّن پورس من خلال أمثلة من تاريخ العلم أنَّ الفرضية تختلف عن الاستقراء التَّام في أنَّ "الفرضيةَ تفترض شيئًا من نوعٍ مُختلفٍ عمَّا لاحظناه مباشرة، وتفترض، في كثير من الأحيان، شيئًا سيكونُ من المُستحيل بالنِّسبة إلينا أنْ نلاحظه مباشرة"، غير أن الاستقراء "يستدل فقط على وجود ظواهر مثلَ تلك الَّتي لاحظناها في حالاتٍ مُشابهة".

للاطلاع على الملف كاملا المرجو  الضغط هنا

[1]- المقالة الأولى تحت عنوان: تشارلز ساندرز پورس، "ترسيخ الإيمان"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ترجمات، 27 فبراير 2024. والمقالة الثانية تحت عنوان: تشارلز ساندرز پورس، "كيف نجعل أفكارنا واضحة؟"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ترجمات، 09 غشت، 2024