الاعتقاد الديني والعلمانيّة مسألة نموذجيّة

فئة :  ترجمات

الاعتقاد الديني والعلمانيّة مسألة نموذجيّة

الاعتقاد الديني والعلمانيّة

مسألة نموذجيّة

ما مكانة المعتقد الديني وما نوع إثباته -وكذلك بالنسبة إلى كلّ قناعة روحيّة- المُمكِنين في مجتمع يتميز بقانون علماني؟ للإحاطة بهذا السؤال يجب التفكير في معنى وفي تبعات تعيين الخيارات الروحيّة ضمن الفضاء الخاص. إنّ المقتضيات الخاصّة بالمَثَل الأعلى العلماني هي موضوع النظر هنا. لقد أراد صنّاع العلمانيّة الوقاية من خطر الصراع، الذي ينتج عن الخلط بين التعبير الجماعي عن العقيدة الدينيّة وتحكّمه متعدّد الأشكال بالفضاء العام. ومن هنا تأتي أهميّة إجراء الفصل القانوني الذي يجعل حريّة التعبير الفرديّة والجماعيّة عن المعتقدات ممكنة، وكذلك تنظيمها الاجتماعي في إطار جمعيّات ينظمها القانون العام.

يدلّ التحوّل القانوني، وفق هذا التصوّر، على أنّ إظهار الإيمان في الفضاء العام ينبغي أن يفصل بشكل تام عن تحكّمه فيه؛ فالإظهار يبقى ممكناً، وأمّا التحكّم فهو غير ممكن. وهكذا إنّ مسألة الحدود بين الفضاء العام والفضاء الخاص تُعدُّ حاسمة. ومن المعروف أنّها محلّ نزاع سواء على مستوى التثبيت الهووي للأشخاص أم على مستوى تصوّر المدينة.

كذلك باسم «الحاجات الروحيّة» للناس كثيراً ما تمّ نقد «خصخصة الديني». لا توفّر الخصخصة لتلك الحاجات مكاناً مناسباً، كما أنّها تتطلّب جهداً للحياد مصطنعاً، وصعب التطبيق. والأسوأ أنّ الطبيعة، التي تخشى الفراغ، جعلت الأفراد المنعزلين والباحثين، على الرغم من كلّ شيء، عن المعنى وعن الورع، تحت رحمة الإغراءات الأكثر لاعقلانيّة، بل تحت رحمة الطوائف التي تعرض عليهم جِناناً مصطنعةً. يبدو أنّ مثل ذلك الخطاب، بعلم أو بغير علم، يستعيد فكرة «ما هو سَويّ دينيّاً»، ويرفض التمييز بين الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ.

باختصار، من جهة يمكن أن يكون المؤمن مُحفَّزاً لإثبات نفسه كما هو، من خلال الإشهار العمومي لانتمائه إلى جماعة دينيّة، والتخلّي عن الحياد في إظهار إيمانه. وبذلك، يُوضَع حدٌّ للانفصام الناتج عن المكانة القانونيّة الخاصّة للأديان. ومن جهة أخرى، سيكون الفضاء العمومي، عندما يتخلّى عن كونيّته المطلوبة لصالح إعلان صريح وبارز للاختلافات، منتعشاً أكثر بواسطة التوكيد الهووي، فيكتسب بذلك ألواناً مختلفة. إنّ هذا الأفق، للأسف، محرّف وخطير. محرّف لأنّه يخلط بين الحياة الاجتماعيّة والفضاء العمومي المحدّد قانوناً، ولأنّه يفترض أنّ الفضاء العمومي يكون فارغاً وغير مجسّد إذا لم يتماهَ مع تعدّديّة ثقافيّة أو دينيّة. وفي هذه الفرضيّة يبدو أنّ فكرة كون الخير المشترك بين الجميع هو سبب وجود الفضاء العمومي تُعدُّ خيالاً.

تفضي قراءة ليبراليّة معيّنة للحقوق الاجتماعيّة المُثبتَة بواسطة القانون العام، أو التي تطالب بها مجموعات تُقدّر أنّها ضحيّة ظلم اقتصادي، إلى إثباتات غريبة. لا يرى الناس الدولة أبداً إلّا أداةً لتحقيق مصالحهم الخاصّة؛ أي إنّهم «يطوّعونها» لغاياتهم الخاصّة...، وهكذا، بين «الخصخصة» الحِرفيّة لدولة مستعملة من قِبَل «مجموعات مصالح» واعتبار الهويّات الدينيّة عموميّة، يكون المَثَل الأعلى العلماني خيالاً يجمع بين وهمين: وهم فضاء عام محدّد إيجابيّاً بمقصد الخير المشترك، ووهم فضاء خاص حرّ تماماً في مجاله الخاصّ، شريطة أن تكون تلك الحريّة نفسها معترفاً بها لكلّ الآخرين، وأن يتمّ احترام الفضاء العام الذي يجعل الحريّة المتساوية ممكنة. يقصي ذلك الاحترام كلّ وضع تحت الوصاية وكلّ تجزئة جماعاتيّة. إنّه يتضمّن إذن تأكيداً غير متحيّز للمعتقد أو للخصوصيّة.

تتمثل النقطة المظلمة في التشجيع على الإثبات الهووي في كون القبول به وترسيخه يقضي نهائيّاً على التنظيم العمومي الذي يجعل وجود الاختلافات ممكناً من دون التخلّي عن القانون المشترك. هي قطعاً حالة قصوى، ولكن يجب استعمالها للتبصُّر بالتوجّهات التي تظهر. تتناظر تلك النقطة المظلمة، وبشكل غريب، مع الحرمان الليبرالي الكلاسيكي من الحقوق الاجتماعيّة المُتمَثّل في تكريس المصالح، في حين أنّه يمكن أن يُفهَم بوصفه تكفّلاً بالمصلحة المشتركة، باعتبار أنّ العدالة الاجتماعيّة تساهم في انسجام الجماعة بشكل جوهري تماماً مثل الحقوق السياسيّة.

يمكن التنبيه، على سبيل المثال، إلى وجود صلة بين ارتداء الخمار في المدرسة، وهو مثال ذكرناه سابقاً، ورفض دروس في مادة البيولوجيا، وكذلك بين التمسك بإظهار الهوية والمطالبة بقانون للأحوال الشخصيّة يكون متلائماً مع التقاليد. لا توجد علامة تتعلق بالهوية قابلة للعزل، كما لا يمكن تجاهل المطالبة بـــ «الحقوق الثقافيّة» التي تستعمل ذريعة لاستثناء البعض من الخضوع للقانون العام المشترك بين الجميع.

أن يعيش المرء عقيدته في بلد علماني

يُطرح السؤال بخصوص معرفة ما إذا كانت العلمانيّة مقبولة من وجهة نظر دينيّة، وكذلك من أيّ وجهة نظر أخرى تتضمّن تصوّراً معيّناً للحياة الروحيّة. الرهان مهمّ: التفكير في شروط إمكان جماعة سياسيّة قادرة على أن تتعامل بعدل، وبشكل متزامن، مع المقتضيات المشروعة للوعي الديني والتمشّي الروحي الذي يرافقه، ومع أشكال الروحانيّة الأخرى كالنزعات الإنسانيّة الملحدة، وبطبيعة الحال مع ضرورات التنظيم السياسي. يُلاحظ أنّ الحاجات الروحيّة للحياة الإنسانيّة يمكن أن تتطوّر من حيث أنماطها، ومن حيث توجّهاتها، وهي لا تنطوي على أيّ احتكار للديانات التقليديّة. ولكنّ قراءة علمويّة (scientiste) لعقلانيّة الأنــــــــوار لا يمكنها، بالتأكيد، أن تُشبع تلك الحاجات، خاصّة أنّ شدائد العالم المعاصر شوّهت صورتها بسبب الخلط المتسرّع الذي يبدو أنّه أفقدها أهليّتها أو على الأقلّ بيّن عدم كفايتها.

يجب، إذن، الاضطلاع بالانشغال بعالم مشترك بين الجميع، مفهوماً في وحدته حيث يحترم أصحاب الخيارات الروحيّة بعضهم بعضاً في إطار حريّة الاعتقاد والتفكير الخاصّة بهم. يُوجّه الاحترام، إذن، إلى الشخص وليس بالضرورة إلى محتوى معتقداته، المحتوى الذي يجب أن يكون موضوعاً لنقاش حرّ، بل يجب أن يخضع لنقد حاد. إنّ ما هو مطروح للنظر هنا هو وضع معيّن للمعتقَد. إنّ احترام المعتقِدين، من حيث إنّ لهم حريّة الاعتقاد، لا يعني بالضرورة احترام معتقداتهم، إلّا إذا أريد إرجاع المنع الذي قاد ديدرو (Diderot) إلى سجن الباستيل باسم ما «هو سَويٌّ دينيّاً». وبالمِثل، إنّ احترام حريّة تهكّم واستفزاز الكُتّاب لا يعني احترام مضمون أقوالهم. يمكن أن تكون تلك الأقوال شائنة ومخزية دون أن تتطلّب تدخّل العدالة. إنّ لسلمان رشدي (Salman Rushdie) ولميشال ويلبيك (Houellebecq) الحقّ في التهكّم بالإسلام، كما تهكّم فولتير (Voltaire) بما هو «سافل»، الأمر الذي يعني بالنسبة إليه المسيحيّة المتعسّفة.

من المفيد، على الرغم من كلّ شيء، أن يتبنّى المرء مباشرة، لا فقط وجهة نظر المُعتقِدين وتمثّلاتهم، بل أيضاً، وبشكل خاص، وجهة نظر العقيدة الدينيّة مفهومة في أصالتها بالنظر إلى كلّ موقف نفوذ ذاتي. هناك أربعة مفكّرين يمكن الاستناد إليهم لتوضيح ذلك: بايل واسبينوزا وكانط وهيغل.

إيتيقا التسامح

مع بايل، يجب التفكير في كلّ استِتْباعات التسامح بالنسبة إلى مؤمنٍ يعيش إيمانه التزاماً حرّاً خاصّاً بضميره، ويرى أنّ كلّ إكراه لا يتوافق مع الدين الحقيقي[1]. بهذا الصدد ليس للمؤمن أن يتصوّر، عن حسن نيّة، أنّ الله سيرضى عنه عندما يسعى إلى تعزيز دينه بإكراه الآخر، أو من خلال محاولة الحصول على امتيازات بسبب عقيدته. سيبدو له كلّ تمييز مؤسّس على قناعة روحيّة كفراً. التسامح، إذن، مطلوب لمنع الفوضى التي تنتج عن عنف الاضطهاد وعن أشكال عنف الممانعة المضادّ الناتج عن ذلك الاضطهاد. إنّ غياب التسامح بالأحرى هو الذي يثير الفوضى[2]. ذلك يبيّن أنّ شرط التطوّر الحرّ للتعدّديّة الروحيّة، التي تشتمل على الملحدين واللّاأدريين إلى جانب مختلف المؤمنين، يجب أن يكون هو المساواة المبدئيّة بين جميع البشر. إن ربط جوانية الإيمان أو الاعتقاد بالطابع الخارجي للامتيازات المؤسّساتيّة الخارجيّة، يتعارض في الحال مع قيمتها الروحيّة الخالصة، التي لا تنفصل عن لامبالاتها بالمصالح الزمنيّة وعن الحرية اللّازمة عنه.

حريّة مدعّمة بالفصل

ذلك أيضاً ما يؤكّده اسبينوزا الذي يدعو إلى فصل قطعي بين الدولة والدين. في الفصل الرابع عشر من (رسالة في السلطات اللّاهوتيّة والسياسيّة)، يوضح ضرورة الفصل بين الفلسفة التي «لا تقدّم إلّا الحقيقة» والإيمان «أو اللّاهوت» الهادفين إلى «الخضوع» و«السلوك الورع». يضيف اسبينوزا: «يترك الإيمان إذن لكلّ واحد الحريّة التامّة للتفلسف. إلى حدّ أنّ كلّ واحد يمكنه، من غير أن يرتكب جرماً، أن يفكّر كما يشاء بخصوص أيّ مسألة وُثوقيّة. ولا يحْكُم بالهرطقة والانشقاق إلّا على الأفراد الذين يتجاهرون بمعتقدات من شأنها أن تُحدث بين مواطنيهم العصيان والحقد والصراعات والسخط»[3]. في الفصل الثامن عشر من الكتاب نفسه، يوضح اسبينوزا ضرورة الفصل القطعي بين الدولة و«رعاة العبادة»: «1: من المؤسف جدّاً، بالنسبة إلى الدين وبالنسبة إلى الجماعة السياسيّة، أن يُعطى المديرون المتخصّصون بميدان المقدّس حقاً حصريّاً أو حكوميّاً مَهمَا كان نوعه. من أجل تحقيق أكبر استقرار اجتماعي، من المهمّ، على العكس من ذلك، التضييق على نشاطهم، حيث يقتصرون على الإجابة عن الأسئلة المطروحة. وعلاوة على ذلك، عليهم أن يتقيّدوا في تعليمهم وممارستهم العبادة بالمذاهب التقليديّة المعروفة. 2: من المؤسف ربط القانون الإلهي بمذاهب تأمُّليّة خالصة، ووضع قوانين تتعلق بالآراء؛ لأنّ الناس يثيرون بخصوصها نقاشات أو هم يقدرون يوماً ما على الخوض فيها. يتوجّب على النفوذ السياسي، تبعاً لذلك، أن يستند إلى العنف الأسوأ إذا ما أمكن التعامل مع الآراء، التي تنتمي إلى الحقّ الفردي غير القابل للتنازل، كما يتمّ التعامل مع الجرائم»[4].

تجدر ملاحظة أنّ كانط (Kant) يتبنّى هذا التصوّر ويطوّره بالتمييز بين أنظمة التصديق، وهي الرأي والإيمان والمعرفة (انظر نقد العقل الخالص، المنهجية المتعالية، الفصل II، القسم 3). ينتمي إلى «الرأي»، أو ينبغي أن ينتمي إليه، الوعي بالنقص المضاعف الخاص به: ذاتي (الرأي ليس إلّا رأياً ولا يتضمّن أيّ يقين حقيقي)، وموضوعي (نقص الدليل الموضوعي مُدرك بشكل واضح)، وإلى «الإيمان» ينتمي الاقتناع الشخصي، وكذلك الوعي بعدم إمكانيّة المعرفة الموضوعيّة. مَنْ يعتقد يعرف أنّه يعتقد وأنّه لا يفعل شيئاً غير أن يعتقد. إنّ مثل تلك المعرفة أساسيّة لمنع كلّ موقف متعصّب. لا يتضمّن ذلك أدنى شك في الإيمان ذاته، بل يتضمّن موقف انفتاح وتسامح مرتبط بالشعور بالاختلاف بين القوّة الخاصّة بالاعتقاد والتظنّن الموضوعي المتعلق بموضوعه. إنّ مجرّد ملاحظة أنّ أناساً آخرين يحملون قناعات ويؤمنون بها إيماناً راسخاً أمر يدعو إلى اتخاذ تلك المسافة، وفي الوقت نفسه، يهيّئ لتقبّل فكرة تنظيم سياسي مشترك متحرّر كليّاً من أيّ عقيدة خاصّة.

وأمّا في ما يتعلّق برغبة المرء في أن يُعترف به من وجهة نظر دينيّة، فحدّها هو شرعنة الاعتراف نفسه بالنسبة إلى الجميع: ملحدين، ولا أدريين، ومؤمنين مختلفين. إذا كان الأمر كذلك، يمكن تخيّل شكلين للمساواة: التقارب الطائفي والاندماج العلماني في إطار مشترك بين الجميع. لا يستجيب الشكل الأوّل لمقتضى تأسيس عالم مشترك بين الجميع لمّا كان يكرّس نوعاً من التمييز، من الانغلاق على الاختلاف. كما أنّه لا يسمح بحلّ المشكلات الخطيرة التي يمكن أن تظهر بين المنتسبين إلى جماعات مختلفة ما دام لا يوجد أيّ بروتوكول قانوني مشترك لتنظيم علاقاتهم. وأخيراً، هو يغلق أفق الكونيّة الذي يمكن أن تتوجّه نحوه كلّ جماعة عندما تؤسّس وحدتها على مبادئ الحقّ، التي من شأنها أن ترقّي في الآن نفسه المساواة والحريّة. الشكل الثاني هو شكل الدولة العلمانيّة، الذي يتأكّد في انفصال واضح عن كلّ دين رسمي. ولكنّ ذلك الانفصال لا يجعل الشأن السياسي غير متلائم مع الإيمان الديني لمّا كان يحقق فعليّاً نزعة الجماعة السياسيّة الكليّة، وذلك بتصوّرها شرطَ إمكانِ التثبيت الحرّ للمسارات الروحيّة.

لا يعني الانفصال، إذن، التعارض، بل يعني التمييز بين السجلّات. لقد ذهب هيغل (Hegel) إلى القول إنّ الدولة تحقق، بواسطة التعميم، شيئاً ما له خاصيّة المطلق؛ أي، بلغته، الله. ذلك يبيّن أنّ المطلق لا يتحقق إلّا بواسطة التعدّديّة الفعليّة، ويُعرَف من خلال التواصل الحرّ في الفضاء المدني. وشرطه يتمثل في أنّ ذلك الفضاء المدني ليس فقط محايداً بصورة قطعيّة من وجهة النظر العقائديّة، بل إنّه يضطلع بوضوح بخاصيّته غير العقائديّة: على مجموعة الإجراءات التي تنظّمه أن تتجنّب كلّ امتياز يعطى لدين معيّن وأيضاً للشكل الديني للاعتقاد. جوانية الإيمان أو الاعتقاد الداخلة في الحوار لا تُعوَّض ولا تُدعَم بأيّ امتياز زمني خارجي، وقناعة هيغل هي أنّه بذلك يكون نمط إثبات الدين مطابقاً بدقّة لحريّة الروح والوعي الذي لا ينفصل عنها[5].

ثمّة دليل قويّ يأخذ مكانه في مثل هذا الاستدلال الفلسفي. بحسب هيغل يعمل التعبير الديني عن المطلق بواسطة التمثيل العياني والشعور. ولا يمكن فيما يتعلّق بهذا الموضوع إقرار الإجماع بشكل اعتباطي ولا إحداثه بواسطة برهنة عقليّة. في الحالة الأولى سيكون ثمّة عدم مشروعيّة لعنف يُمارس ضدّ الوعي، وفي الحالة الثانية سيتمّ تجاهل خصوصيّة الاعتقاد الديني. يجب على الدولة أن تهتمّ بالمعتقد لا أن تفرضه، وذلك من خلال تطوير المعرفة العقليّة. تهدف الدولة إلى المطلق الذي يمثّله التطوّر الحرّ لتعدّديّة القناعات، إلى الحضور الفعلي لحياة الإنسانيّة الروحيّة. لقد فكّر هيغل بدقة في الدولة العلمانيّة مع اهتمامه بالإثبات المتعقِّل للديني.

معنى تخصيص الديني للفضاء الخاص

على الدولة أن تحكم لصالح الخصوصيّة بالسماح لها بالاكتمال في الفضاء الخاص، من دون أن يُختزل ذلك الفضاء المحدّد قانونيّاً إلى سطحيّة النزوة الفرديّة. إنّ أنتيغونا (*)، المنشغلة بأداء الواجبات المقدّسة، التي يستحقها الموتى تجاه أخيها (Polynice)، هي، بهذا المعنى، حاملة للكونيّة: ليس طقس الدفن هو الذي يمكن أن يختلف، ليس هو الكوني، بل مجرّد احترام الموتى، الذي يسمّيه هيغل بطريقة لافتة «قانون الليل»، وذلك من أجل الإشارة إلى سبب وجوده، وللتذكير بأنّ له غالباً كينونة خفيّة وغير معروفة بل مكبوتة بفعل سطوة صروف الحياة. لا تكون لكونيّة القانون السياسي، قانون النهار المجسّد بواسطة الدولة والمسؤول عنها (Créon) مشروعيتها التامّة إلّا في إطار الحياة العامّة التي تعطي الحقّ لذاتيّة الأفراد الدينيّة أو الميتافيزيقيّة، وتترك لها الفضاء المناسب للتحقق.

من المؤكّد أنّ قراءة أخرى ممكنة لشخصيّة أنتيغونا (Antigone)، قراءة ترى فيها المرأة المتمسكة المزعجة بتصوّر ضيّق لرابطة الدّم العائليّة، تصوّر جامح إزاء المصلحة العامّة، المُمثّلة في القانون السياسي، بحكم كونه مشدوداً إلى تضامن قَبَلي أو عشيري. لقد جعلها سوفوكل (Sophocle) تعارض قانون الدّم غير المكتوب -«أنتِ دمي» قالت لأختها إسمان (Ismène)- بالقانون السياسي المكتوب. لم يَغب خطر التمجيد المتحمّس للأهل (ضدّ غيريّة القانون الذي يجسّد العلاقة بالقريب) عن هيغل الذي يريد حقاً تجاوز هذا البُعد الحصري: يجب أن يتوسّط هذان القانونان كلٌّ منهما الآخر بالتبادل، تماماً مثلما يحمل كريون في داخله أنتيغونا. التوسّط هو إمكانيّة المرور من قانون إلى آخر، من انفتاح أحدهما على الآخر. كذلك يمكن أن توصف بطريقة إشكاليّة القسمة بين الفضاء الخاصّ والفضاء العامّ. يرسم هيغل هنا تقسيماً لمجالات متكاملة، من دون التأكيد على تعيّنه القانوني، يتضمّن تحديد مجال تدخّل السلطة العامّة.

العقل والاعتقاد

يمكن العودة إلى هيغل أيضاً لإبراز أنّ العقل لا يتكوّن ضدّ معارف الذهن الجزئيّة أو الاعتقاد الديني. ولا ضدّ شهادة الإدراك الحسّي غير الدقيقة، بل بوساطة الجهد المنهجي لفهم ودمج علاقاتها المتبادَلة، مع إعطاء التناقضات التي تظهر كامل خاصيّتها التكوينيّة عوض أن يُرى فيها علامةً على شيء من النقص. مع موضوع مشترك: كلّية الوجود في فروقاته الديناميكيّة. تكتسب تلك الكليّة قيمةَ المطلق من حيث إنّها تكوّن الأفق الأخير لكلّ شيء متناهٍ. يمكن أن يدرك المطلق أيضاً، مفهوماً من قِبل العقل في وحدته في ما وراء التمزّقات التي هي بمنزلة النمط اللّازم لوجوده، بواسطة التمثّل، كما يفعل الإيمان الديني الذي يقود، في نهاية الأمر، ولكن بطريقة مختلفة، إلى الموضوع نفسه الذي يقود إليه العقل. لا حاجة للمؤمن إلى أن يضحّي بإيمانه على مذبح العقل، ولا حاجة للعقلاني إلى أن يعيش إيمانه بخزي كما لو كان دليلاً على نقص في المعقوليّة. يشتغل التوفيق الهيغلي بين الإيمان والمعرفة في إطار فلسفة تقرّ بأولويّة العقل. ولكنّ أولويّةً كهذه لا تستقيم من دون إرادة جمع معنى تعبيرات الثقافة الإنسانيّة المختلفة وأشكال الروحانيّة التي تنتمي إليها، معنى حياة الروح.

وبالفعل لا يحيط الاعتقاد بالعالم بواسطة المعرفة العقليّة نفسها. إذا كان من اللازم نقد الاعتقاد نقداً قاسياً عندما يتبلور في مشاريع تاريخيّة لعدم التسامح، ويرمي إلى استبعاد الفحص الحر، فإنّه من المهمّ إعادة تقييمه إيجابيّاً عندما يعبّر بواسطة الشعور والتمثّل عن الإدراك الحرّ للمطلق وعندما يسمح بفهم الأشياء في حقيقة تناهيها. هل يصلح ذلك الأفق فقط للمؤمن المنشغل بإثبات قيمة الإيمان شعوراً تمثّلياً أرفع من المعرفة المفهوميّة التي يسمح بها العقل؟ قد يميل المرء للوهلة الأولى إلى الإجابة بنعم.

يسمح تغيير التمشّي الهيغلي بتصوّر قيمته الكليّة ما دامت أولويّة المعرفة العقليّة تقترن فيه بالاهتمام بإعطاء قيمة للكيفيّات الذاتيّة التي، تحت اسم الإيمان أو الاعتقاد، تنتسب إلى عنصر التمثّل. وهذا الأخير يمكن أن يأخذ شكلاً دينيّاً، ولكنّه يكتمل كذلك في بُعد المتخيّل الرمزي والفنّي، في ما يفتحه لحضور الأشياء خارج كلّ استعمال، وخارج كلّ انغلاق على براغماتيّة الوقائع المتناهية. بهذا المعنى يدلّ الشعر على ما يحرّر من العالَم المباشر، ولكنّه يغوص في ماهيته. يمكن لهذا الانفتاح أن يكتمل بطريقة داخليّة بالنسبة إلى الوجود الزماني المعطى لكي يُخلّص من حدوده. من وجهة النظر هذه، يستدعي ذلك التخليص نوعاً من تجاوز المدلول للدالّ كما هو الحال في الرمز، ويمكن الحديث عندئذٍ عن التعالي، من دون أن يتطلّب ذلك متلازمة إلهيّة، أو على الأقلّ من دون أن يكون الإثبات الدوغمائي لوجودها ضروريّاً.

مراعاة لكلّ نسبة، الوظيفة الرمزيّة والشعريّة، مع انفعالاتها الخاصّة، هي النظير الذاتي للإيمان الديني. ويمكنها أن تضطلع بما يتطابق مع أحد أدوار المقدّس التقليديّة كوضع لــــ«كلّ آخر»، ولكنّها لا تماثله من حيث سبب وجوده ولا من حيث كيفيّته. عندما يتكلّم العقل أوّلاً، فإنّ الترميز يعمل على قاعدة تلك الأولويّة المنطقيّة والكرونولوجيّة، ولكنّه لا يمكن أبداً أن يشتغل بالطريقة نفسها.

يحسن في هذه النقطة الاستشهاد بنصّ كانط الجميل، «حول نبرة السيّد الأكبر في الفلسفة» (Sur un ton grand seigneur en philosophie)، حيث يتخيّل الفيلسوف الانطباع القوي الذي تولّده عظَمة تمثال إيريس (Iris) الكهنوتيّة. ويوضّح أنّه يتأتّى من الشعور بأنّه يرمز إلى المقتضى الأعلى للقانون الأخلاقي. ولكن فيما بعد، يدخل الانطباع في تناغم مع ما قاله العقل العملي؛ لأنّ هذا الأخير هو الذي «تكلّم أوّلاً». يوضح كانط الأمر بالطريقة الآتية: «[...] إن الخطّة التعليمية المتمثلة في ردّ القانون الأخلاقي الذي في داخلنا إلى مفاهيم واضحة، بحسب منهج عقلي، هي المسار الفلسفي الوحيد بحق. في حين أنّ الخطّة التي تشخّص ذلك القانون، والتي تجعل العقل، الآمر أخلاقيّاً، هو الإلهة إيزيس المحجبة [...] هي طريقة جماليّة لتمثيل الموضوع نفسه بدقة»[6]. ويضيف: «[...] من المؤكّد أنّه يمكن استخدام ذلك النوع من التمثل، إذا كانت المبادئ قد قادت من خلال المنهج الأوّل (العقلاني) إلى وضوحه، لتنشيط تلك الأفكار من خلال عرض حسّي، حتى وإن كان تماثليّاً فقط، وذلك بالرغم من خطر السقوط في رؤية متحمسة»[7].

بالنسبة إلى المؤمن، المعتبر والمجسّد من قبل هيغل، تختلف الكيفيّة التي بحسبها يوفّق بين المعرفة والإيمان عن الطريقة التي بها يوفّق بينهما المؤمن كما يراه ويجسّده كانط. يمكن هنا استعمال التمييز الاصطلاحي المقترح من قبل برنارد بورجوا (Bernard Bourgeois) ضمن تدقيق توضيحي[8]. لا يتعلّق الأمر، عند هيغل، بالحدّ من ادّعاءات العقل معرفة الحقيقة بصورة تامّة، التي هي المطلق، بل بإثبات أنّ الإيمان الديني في حدود مجاله الخاص له طموح مماثل ومشروع، فموضوعه لا يختلف عن موضوع العقل. بالنسبة إلى كانط، المعرفة والإيمان يحدّد أحدهما الآخر، والمكانة المعطاة للإيمان، هي بمعنى ما، علامة على نقص العقل. وباستثناء ذلك فإنّ العقل نفسه في تصوّره النقدي هو الذي يرسم الحدود. لا يُنقذ هيغل الدين بالتقليل من شأن العقل بل بالعكس. إنّه لا يستطيع أن يتصوّر ولا يقبل نظاماً لاهوتيّاً تقليديّاً معيّناً. إنه يَقرِن قوّة الإيمان بعجز العقل المفتَرَض. وأمّا كانط، فإنّه يفتدي تحديده لادّعاءات العقل بإسناد مبدأ ذلك التحديد إلى العقل ذاته. يقدّم كلا الفيلسوفين، كلٌّ على طريقته، تصوّراً يعترف، في الوقت نفسه، بالاعتقاد الديني وبالعلمانيّة.

يقع التمييز الكانطي بين أصناف التصديق كما التمييز الهيغلي بين أصناف الوعي تحت سلطة العقل المشترك بين الناس جميعاً، على خلاف الاعتقاد الديني. لقد لاحظ هيغل أنّ الدين يتوجّه إلى كلّ الناس، ويوفّر لهم منفَذاً إلى الحقّ الذي هو المطلَق. غير أنّه يوضح أنّ المعرفة العقليّة والفلسفيّة يجب أن توجّه أيضاً إلى الجميع ما دام طريق الثقافة الطويل يمكن أن يجعلها كونيّة. وفي النهاية تنقلب العلاقات: يصبح العقل كونيّاً، ويتحدد الدين ككيفيّة خاصّة لإدراك المعنى. لا يتحقق تعميم الحريّة في التاريخ الذي تحدّث عنه هيغل في (دروس في فلسفة التاريخ) من دون تعميم الفلسفة بوصفها الشكل المكتمل للروح التي هي الحريّة ذاتها. وأمّا الدين، «يوم أحد الحياة»، فهو يسمح للحريّة بأن تُختبر في تلك النظرة التي تَعد كلّ شيء متناهياً وتقوده باستمرار نحو الحركة التي تتجاوزه بأن تعطيه حقيقته كلحظة متمَلَّكة بواسطة ذاكرة المعنى.

خطر الطوائف مبرّراً لمناهضة العلمانيّة

ثمّة نقطة أخيرة تستحقّ الفحص لتجنّب كلّ التباس فيما يتعلّق بالعلاقة بين الاعتقاد الديني والعلمانيّة. إنّها مسألة الطوائف أو الجماعات التي أصبحت اليوم مثيرة للاهتمام بما فيه الكفاية حيث يستحسن مقاربتها منهجيّاً. وهنا أيضاً، إنّ الإحالة على الإطار العلماني، وتحديد دور الدولة فيه، هو أمر حاسم. إنّها تضع حدّاً لكلّ المماحكات القانونيّة المتعلقة بالتجمّعات الطائفيّة.

يمكن أن تأخذ حاجات الوعي الإنساني الروحيّة أشكالاً مختلفة، وتؤدّي إلى تبعيّات شديدة بقدر ما تنشأ على خلفيّة حرمان عاطفي أو أخلاقي معلَن. إنّ النتيجة اللازمة عن تفريد الاعتقاد، الذي أكّده علماء الاجتماع، هي فقدان الشخصيّة بالنسبة إلى أولئك الذين يعتقدون أنّهم يستطيعون حلّ صعوبات الحياة بنذر أنفسهم لبعض أساتذة الحكمة المتنبّئين ولدفء الطوائف المصطنع.

ليست الدولة العلمانيّة حكَماً بين المعتقدات، وليس لها إذن أن تقبل بالتموقع في الميدان الذي تريد الطوائف أن تجرّها إليه، وخاصّة عبر استحضار بُعدها الديني المفترض لإخفاء ممارسات التلاعب التي تميّزها في الواقع. من المفيد التذكير بمبادئ وفكرة العلمانيّة لتوضيح أنّ معنى الحقيقي والعادل المطوّر بواسطة التعليم العمومي لا يترك الناس عزّلاً أمام المناورات الرامية إلى ترسيخ الهيمنة عليهم. تقرّ ماريان (Marianne)، وهي صورة الشعب السيّد الذي يشرّع قوانينه بنفسه، بحقوق الإنسان غير القابلة للتقادم. كما أنّها تُثبّت الحدّ بين العمومي والخاصّ بحسب معيار واضح: ينبغي أن يتحدّد مجال القانون بما يمثل مصلحة مشتركة دون تقييد ولا إسراف. يندرج التعليم الذي يحرّر الناس ويؤسّس لاستقلاليّة حكمهم في ذلك المجال. تحرص الدولة العلمانيّة على أن يكون الحصول على الثقافة وعلى الاقتدار على الحكم العقلاني غير متناسب مع فوارق الوضعيّة الاجتماعيّة، وفي المقابل عليها أن تمتنع عن تفضيل أو وصم خيار روحي معيّن.

لا يقع المجال الذي تحدّد فيه العلمانيّة، إذن، في مستوى مجال الخيارات الروحيّة الجزئيّة نفسه. وبحكم أنّه ينتمي إلى رتبة حقوق الإنسان نفسها، فبإمكانه أن يتناغم مع أيّ واحد منها مادامت تقع في سجلّ مسار روحي خالص. وفي الحالة المعاكسة لا تكون الروحانيّة المذكورة إلّا ستاراً لإرادة السيطرة. ما يمكن أن يلاحظ هو أنّه في الظاهرة الطائفيّة، كما في الأشكال التعسفيّة للكليروسيّة، تظهر إرادة السيطرة على الناس لتدلّ على الانشغال بالأرض لا بالسماء.

الحق العلماني والتصرّفات الطائفيّة

يتيح القانون المشترك لكلّ واحد حريّة تحديد أخلاق حياته ومساره الروحي. إنّه لا يعيبُ أيّ صيغة للروحانيّة، ولكنّه لا يتجاهل الحريّات الإنسانيّة. إنّه لا يحكُم فيما يتعلّق بالمعتقدات والآراء الروحيّة والميتافيزيقيّة، ولكنّه يهتمّ، في المقابل، بالأعمال والممارسات الفعليّة التي تدخل في مجال المشرّع والحاكم. وأمّا بخصوص الحماية من الأعمال، فإنّها لا يمكن أن تُضمَن بتشنيع المعتقدات أو بمحاولة إيجاد سند أخلاقي بترميم السيطرة العموميّة للأديان التقليديّة التي يجب أن نذكر ألّا أحد منها يتمتّع الآن بأيّ اعتراف رسمي، فجميعها يمكنها أن تتطوّر في الفضاء الخاصّ الفردي أو الجماعي، مع الاحترام الكامل للفضاء العام. لا يمكن، إذن، ردّ العلمانيّة إلى إطار صوري أدنى وإلى تصوّر نسبوي، لكي يتمّ التلميح بعد ذلك إلى أنّها تجعل الناس عُزّلاً في المجال الروحي والأخلاقي نظراً لأنّها تعني تحطيم كلّ القيم. تبرز هنا الدلالة الجداليّة لموضوع «نزع الطابع السحري عن العالم» (désenchantement du monde) الشهير الذي تمّ توظيفه، بصورة مفارقة، لتجريد العلمانيّة من الأهليّة باعتبارها سبب فقدان المعنى. إنّ الدفع إلى الاعتقاد بأنّه لا شيء يُرتجى من المجتمعات المُعَلمنة يعني فتح الطريق أمام غواية الطوائف التي تزعم أنّها تعوّض الفقدان الخيالي للمعنى.

على المستوى «القانوني» أوّلاً، يمكن للمبادئ أن تترجم واقعيّاً. تتمثل استراتيجيّة المنظّمات الطائفيّة في إظهار بُعدها الديني المفتَرَض بغاية الاستفادة من عدم تدخّل الدولة بمقتضى حيادها العقائدي. إنّ القبول بذلك التقديم سيكون وقوعاً في الفخّ؛ أي عدم التفطّن إلى حقيقة الأعمال التي تميّز الطوائف في الواقع. ليس الأمر اعترافاً بــ «حركات دينيّة جديدة» بقدر ما هو تجديد للاعتراف العمومي بالأديان التقليديّة. وليس من الضروري اقتراح تعريف للدين «الحقيقي»، وهو ما سيكون في كلّ الحالات موضوعاً للنقاش، للقيام، بسبب الاختلاف، بإجراء قضائي ضدّ الطوائف. يتعلّق الأمر بالفعل باستهداف الوضعيّات والممارسات الطائفيّة، وبوصف الطوائف، لا من جهة معتقداتها ومبادئها المرجعيّة، بل من جهة تصرّفاتها فحسب. بمعنى أنّ التكوين القانوني لمعنى الطائفة يجب ألّا يَستخدم إلّا الاعتبارات المتعلقة بتصرّفاتها والبنى التي تنظّمها، وأن يكلّف لهذا الغرض الهيئات الجمهوريّة المختلفة، التي يمكن أن تمارس حقّ التدخل في هذا الموضوع (مثلاً مستشاريّة، وزارة العدل، محكمة المحاسبات... إلخ.) إنّ الأعمال فقط هي التي تقع تحت طائلة القانون. وزيادة على ذلك، إنّ الاعتراف الرسمي بالتمييز بين المعتقدات يُعدّ مخالفاً لمبدأ العلمانيّة.

من أجل القيام بعمل الكشف، يكفي ملاحظة أنّ توسّلَ الروحانيّة يُستخدَم غطاءً إيديولوجياً لدى منظّمات غايتها السيطرة على الضمائر والأجساد مع كلّ المنافع الماليّة التي تنجرّ عن ذلك. بعد كشف حقيقتها وتمييزها يجب أن تدخل الطوائف تحت طائلة قوانين الجمهوريّة: إشهار كاذب، خداع موصوف، ممارسة غير قانونيّة لمهنة الطّب، استعمال غير قانوني للوسم في المجال التربوي، تلاعب مدبَّر، استغلال وضعيّات الحرمان... إلخ. تكفي وضعيّات واقعيّة كثيرة، بعدما يتمّ التأكّد منها، ليتدخّل القضاة وللإدانة الجزائيّة، بل لمنع تلك الطوائف عندما يتّضح من درجة تنسيق المنظمّة المعنيّة أنّ هدفها هو التحيّل والخداع، ومن ثم الإضرار بالحريّات، طبقاً لمفهوم الطائفة الذي لا يتضمّن أيّ تأشير من نوع عقائدي، وإن كان من الممكن تحديده قانونيّاً.

يمكن التذكير بأمر بديهي: إنّ جرماً يُرتكَب باسم الدين لا يفقد خاصيّة كونه جرماً؟ فالذي اغتال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين (Yitzhak Rabin) برّر فعله بآية من التوراة. وقد زعم مخرّبو قاعة السينما الباريسيّة، التي عرض فيها فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» (La dernière tentation du Christ) أنّهم تصرّفوا باسم الإنجيل. قتَل الإسلاميّون المتطرّفون وهم يردّدون آيات قرآنيّة تتحدّث عن الجهاد. لقد تمّ توظيف «الديانات الكتابيّة» الكبرى هي أيضاً في مشاريع الاستعباد الإنساني والحدّ من الحريّات، ولكن لا أحد ارتأى أن تمنع عقائدها بواسطة القانون بتعلّة أنّ المتعصّبين المنتسبين إليها سيردّون الفعل بالقتل والإخضاع. ذلك يعني أنّه إذا كانت فكرة الصعود من الأفعال إلى ما يجعلها ممكنة صحيحة، فإنّها تتضمّن تغيراً للسجّل في طبيعة التدخّل؛ لأنّه لا يمكن أن نعلِّم بوساطة محاكمة النوايا. إنّ التربية على الحريّة، القائمة على التعليم والمدعّمة بإعلام هادف ومتعدّد الأشكال، هي التي يجب أن توضع في المقام الأوّل. عندما تتفادى الدولة العلمانيّة فخّ النزعة النسبيّة أو التسامح المجرّد، فإنّها ستكون صلبة بمقدار صلابة الحريّة الإنسانيّة. وخاصّيتها العلمانيّة ستمثّل الاستعراض الحاسم ضدّ المغالطات القانونيّة للطوائف التي تتخفّى وراء استلهام الروحانيّة. وقد تذهب تلك الطوائف أحياناً إلى استحضار علمانيّة الدولة لتمنعها من أن يكون لها حقّ مراقبتها.

«لنجعل العقل شعبيّاً» (كوندورسي)

يترتب عن ذلك التصور نتائج معينة على المستوى التربوي. من واجب الجمهوريّة اللائيكية «أن تجعل العقل شعبيّاً» بحسب عبارة كوندورسي (Condorcet). يتطلّب المثل الأعلى العلماني التوقي من اللّاعقلانيّة ومن النتائج المنحرفة لنزعة نسبيّة تقود بطريقة غير مباشرة الى إعطاء مجال للإغراءات الطائفيّة، أو إلى التشنّجات المتطرّفة الخاصة بالديانات التقليديّة. ولذلك إنّ الوقاية الوحيدة، التي لها أهميّة وذات صلاحيّة قانونيّة بالنسبة إلى دولة علمانيّة، تتمثل في التعليم والإعلام: التعليم من أجل ترقية استقلاليّة الحكم والروح النقدي لدى جميع المواطنين، والإعلام من أجل التفطين إلى التلاعب المتخفّي، الذي يتّخذ مظاهر تافهة وغير مؤذية بهدف إبطال كلّ ارتياب وكلّ حيطة. الثقافة والعقل، الروح النقدي والتبصّر، تلك هي الأهداف الأساسيّة للمدرسة الجمهوريّة. ذلك يبيّن أنّ الاهتمام بالحقيقة غير قابل للفصل عن التربية على الحريّة التي ليست عزلاء بسبب نزعة نسبيّة غالباً ما تُعد علامةً على استقلاليّة الروح. يبيّن الفهم العقلاني للواقع والمطوّر بشكل فعّال أنّ متعهّدي المعنى هم مشعوذون يتفادون، بشكل وهمي، الشجاعة وصعوبة الحياة، اللّتين لا يمكن حصرهما في وصْفات أو في طقوس.

يتوازى الفعل التربوي مع إعادة تنشيط المواطنة. يمكن للدفاع العلني عن القيم الجمهوريّة والسياسة القائمة على العدالة الاجتماعيّة، التي تجعله جديراً بالثقة، أن يعطيا حياة ومعنى أكبر للفضاء العمومي المؤسّس على العلمانيّة. إنّ وجود ذلك الفضاء الذي يجب أن يُميَّز، بطبيعة الحال، عن نسخته الإعلاميّة المشوّهة، يمكّن من تجنّب الانغلاق والانحرافات الانعزاليّة التي تقود إلى الافتتان الطائفي. يُظهِر الفضاء العام، المدعّم بتعليم منفتح على الثقافة الكونيّة، والمنشغل بمعنى المعارف والممارسات، القيمَ التي تَستحق العيش بها ومن أجلها.

الاستعمال الجدالي لعبارة «نزع الطابع السحري عن العالم»

ليس صحيحاً أنّ العلمانيّة مرادفة لعالَم خالٍ من السحر والفتنة، وبلا ضوابط أخلاقية أو أطر مرجعية. يُوحّد المَثل الأعلى العلماني بين الناس بوساطة ما يرفعهم وفي الوقت نفسه يخلصهم، بمعنى أن يصبح المرء سيّد أفكاره لكي يصبح، قدر المستطاع، سيّد أفعاله. إنّ التحرّر الفكري هو المهمّة التي تضطلع بها المدرسة العلمانيّة التي فيها يجد شروطه ومعَالِمه التي توفّرها ثقافة منفتحة على الكوني. يتعلّق الأمر، في الوقت نفسه، بإقامة حصن أمام الانحرافات الظلاميّة التي تقود إلى أنماط وجود منقطعة عن الواقع، وبترقية، عن طريق التعليم المرتكز على الثقافة والعقل، استقلاليّة حقيقيّة للأشخاص بما في ذلك الاستقلاليّة على المستوى الأخلاقي. وتُعدّ هذه الأخيرة أساسيّة في البحث عن المعنى وابتكاره، وكذلك القيم التي تنير ممارسة الوجود.

من هنا يتأتّى الموقف القوي المناهض للمشعوذين، الذين يعِدون بالسعادة ويقيّدون الناس ببحث شبه طفولي عن وَصفات وحلول جاهزة. يبني زعماء الطوائف نفوذهم الكبير عادة على ادّعاء ديماغوجي يتمثل في تجاوز صعوبة الحياة، التي لا توجد وصفة بشأنها. لا يمكن إلغاء نفوذهم إلّا بالتطوير العمومي لمقتضيات العقلانيّة النقديّة التي من شأنها أن تؤسّس للاستبصار، مع العمل بطبيعة الحال على إيجاد عالم أكثر عدلاً وأكثر إنسانيّة. وأمّا تربية العقول على التفكير الحرّ والردع القانوني للأعمال التي تضرّ فعليّاً بالحريّات، وقد رأينا ذلك، فهُما محوَران مكمّلان.

[1] - «La nature de la religion est d'être une certaine persuasionde l'âme par rapport à Dieu», «تتمثل طبيعة الدين في أنّه نوع من يقين الروح في علاقتها بالله» انظر: P. Bayle,De latolérance : commentaire philosophique, op. cit. p. 100.

[2] - Ibid., p. 73.

[3] - Spinoza, Traité des autorités théologiques et politiques, trad. M. Francès, Gallimard, coll. «Folio essais», p. 225

[4]- Spinoza, Traité des autorités théologiques et politiques, p. 290-291

[5] - Hegel, Principes de la philosophie du droit, trad. P. Derathé, Vrin, 1988, § 270. (*)

يحيل الكاتب على الميثولوجيا اليونانيّة من خلال مسرحيّة سوفوكل

[6]- E. Kant, Sur un ton grand seigneur en philosophie, Œuvres complètes, Gallimard, coll. «Bibliothèque de la Pléiade», t. III, p. 415

[7] - Ibid.

[8] - B. Bourgeois, L'idéalisme allemand, I, chap. V: «Savoir et foi : réconciliation hégélienne contre conciliation kantienne», Paris, Vrin, 2000, p. 79 et suiv.