الاندماج وثقافة الترحيب؛ حوار بين كورنيليا زِنغ وحسام الدين درويش
فئة : حوارات
الاندماج وثقافة الترحيب؛
حوار بين كورنيليا زِنغ([1])
وحسام الدين درويش
كورنيليا زِنغ: دعنا نتحدث عن البدايات؛ لقد جئت أنت، مع عنان زوجتك، إلى فِرمِلسكيرشِن في آب 2014. وفي تشرين الأول 2014 كانت بداية مبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن". وفي الأيام التي تلت عيد الميلاد عام 2014، خططنا لإقامة "حفلة تعارف". وقد أردتُ أن ألقي كلمةً ترحيبيةً عامةً، في تلك الحفلة التي جرت في مركز أبرشية القديس ميشيل. وكنتُ في حاجةٍ إلى من يُترجِمَ لي كلمتي القصيرة من الإنجليزية إلى العربية. وقد سمعت حينئذٍ عن وجود زوجين يقطنان في منزل في شارع لِندنفِغ Lindenweg سبق لهما الدراسة في فرنسا وإنجلترا. وعلى هذا الأساس، جئت إلى منزلكم لزيارتكم في الساعة الرابعة بعد الظهر، وكنتم تضعون على الطاولة بطاطا مقلية ودجاج، وهو ما كان غريبًا جدًّا بالنسبة إلي، بوصفي معتادةً على روتيني الألماني اليومي، لكنكما وافقتما فورًا على مساعدتي وساندتماني كثيرًا. وفي الحفلة، ألقيت كلمتي بالألمانية والإنجليزية، وترجمت إلمازِه Elmazé الكلمة إلى الصربية الكرواتية، وترجمتها عنان إلى العربية. هذه كانت بداية ثقافة الترحيب في فِرمِلسكيرشِن.
لقد كان عظيمًا كيف احتفل السكان المحلّيون واللاجئون معًا في حفلة التعارف تلك. اللقاء مع الناس من ثقافةٍ أخرى كان مثيرًا للاهتمام والبهجة، في الوقت نفسه. لقد استمتعت كثيرًا برفقة أناسٍ آخرين، من البلقان وألبانيا ومن الشباب الأريتيريين والسوريين أيضًا. وينبغي لي أن اعترف بأنه، في البداية، كانت لدي بعض الهواجس والمخاوف أيضًا، بخصوص وجود عددٍ كبيرٍ من الأجانب. لكن حفلة التعارف كانت، بالنسبة إلي، بمنزلة الدليل على أن تلك المخاوف غير مسوَّغةٍ. فبوصفنا بشرًا، نستطيع أن نأكل ونحتفل مع بعضنا البعض بسعادةٍ. وهذا ما قمنا به وأبلينا فيه، بلاءً حسنًا. ما هي ذكرياتك عن هذه البدايات؟
حسام الدين درويش: على الرغم من أن ذاكرتي ليست قويّةً عادةً، إلا أنني ما زالت أذكر جيّدًا "حفل التعارف" ولقاءنا الأول. في نهاية ذلك الحفل، سألتني صحفيةٌ عن شعوري ونظرتي إلى هذا الحفل. وقد أجبت بكل صدقٍ حينها أنني شعرت للمرة الأولى منذ قدومي إلى ألمانيا، نوعًا ما، في وطني/ بيتي، قبل أن نلتقي بك، سنحت لنا الفرصة لأن نلتقي بأناسٍ غايةٍ في اللطف، مثل راينهِلد برِنز Reinhild Prinz، وهارارلد بِرغِرهوف Harald Berghof، وبِرجيتَ كريبس Brigitte Krips، (والناس المتطوعون في مؤسسة تافل، عمومًا) الذين كانوا ودودين جدًّا معنا. على الرغم من ذلك، فقد شعرنا بالضياع والعزلة في المكان الجديد والمجتمع الغريب. لقد شعرنا دائمًا تقريبًا أننا لاجئون وغرباءٌ، وأن الناس عمومًا غير مبالين بنا. لم نلمْهُم، لكننا لم نشعر بالارتياح كثيرًا لوجودنا في ذلك الوضع.
مع مبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن"، تغيّر كل شيءٍ تغيُّرًا جذريًّا. الالتقاء بك وبالآخرين في حفل التعارف كانا نقطة البداية لهذا التغيُّر الجذري. بعد هذا الحفل، لم نعد نشعر بأننا مجرد لاجئين؛ بل أصبحنا نشعر بإمكانية أن نكون بشرًا مرةً أخرى، وأن نستعيد جزءًا من إنسانيتنا المجروحة. لقد شعرت أن "حفل التعارف" ومبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن" سيُشكّلان، على الأرجح، نقطة انطلاقٍ لعلاقةٍ واعدةٍ جدًّا، بين اللاجئين والمجتمع المحلي في فِرمِلسكيرشِن. وقد أثبتت الأيام التالية صحة هذا الشعور، حيث إن "حفل التعارف" ومبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن" جسَّدا ثقافة الترحيب بامتيازٍ.
كورنيليا زِنغ: في ذلك الوقت، كان وضعكم في ألمانيا، بوصفكم لاجئين، جيّدًا. كان لديكم مسبقًا سكنكم الخاص، وكنتم مسجلين مسبقًا في دروس اللغة الألمانية. وكنتم تحظون بكل ما كان برنامج السلطات المحلية الألمانية يمنحه للاجئين، في هذا الخصوص، وربما أكثر من ذلك قليلًا. ما لم أفهمه حتى الآن، لماذا كان ذلك اللقاء مهمًّا كثيرًا بالنسبة إليك؟ هل يمكنك أن توضح، بتفصيلٍ أكبر، لماذا كان "حفل التعارف"، بالنسبة إليك، نقطة تحولٍ جذريٍّ؟
حسام الدين درويش: في ذلك الوقت، كنا مجرَّد لاجئين. في الواقع، في ذلك الوقت، لم يكن هناك اعترافٌ بنا، بوصفنا لاجئين. لقد استغرق الأمر خمسة عشر شهرًا إضافيًّا، ليُعترف بنا رسميًّا، بوصفنا لاجئين (عنان وريمي وأنا).
في ذلك الوقت، كنا مجرد لاجئين بين أناسٍ يبدو عمومًا أنهم لامبالون تجاهنا (باستثناء الأشخاص المذكورين آنفًا). ولهذا كان هناك خطر عدم الاكتراث بنا أو حتى رفضنا، من قِبَل المجتمع. كما أننا كنا معرضين لخطر أن يتم رفض طلب لجوئنا، وأن يتم ترحيلنا إلى إسبانيا، من قِبَل السلطات القانونية والرسمية في ألمانيا. لقد كانت السلطات الرسمية (مكتب الأجانب، والمكتب الاجتماعي، على سبيل المثال) تساعدنا كثيرًا بالتأكيد، ولم يكن بإمكاننا أن نعيش بدون مساعدتهم، لكنهم كانوا يقومون بعملهم، بوصفه عملًا فقط، لا أكثر. على سبيل المثال، لم يكن باستطاعتهم مساعدتنا في العثور على عيادة طبيبٍ أو مكتب محامٍ، لأنه ليس من شأنهم أو واجبهم الوظيفي القيام بذلك. لقد اعتقدوا أنه ليس منصفًا أن يرشدونا إلى عيادة هذا الطبيب أو ذاك. لكن بالنسبة إلينا، بوصفنا غرباء، كان ذلك سخيفًا ومنافيًا لكل منطقٍ، لأنه لم يكن من السهل علينا أن نصل إلى المعلومات المتعلقة بالأطباء والمحامين ...إلخ.
"حفل التعارف" كان بداية تحوّلٍ جذريٍّ، لأنه منحنا فرصة الالتقاء بأناسٍ لطيفين وودودين جدًّا، والذين كانت تحفزهم مشاعر الحب والإرادة الطيبة والنيات الطيبة. عملهم الطوعي/ التطوعي معنا لم يكن مجرد واجبٍ أو عملٍ، لقد كان قائمًا على الحب والتعاطف أو التضامن الإنساني، بالدرجة الأولى. وهذا هو السبب الذي جعل العلاقات معهم تتحوّل أحيانًا إلى صداقاتٍ. مع هذا النوع من العلاقات، لم نعد مجرد لاجئين، بل عدنا من جديدٍ لنكون، جزئيًّا فقط بالتأكيد، كائناتٍ إنسانيةً أيضًا، في مجتمعنا الجديد. وهذا هو السبب الذي جعلني أشعر دائمًا أن "ثقافة الترحيب" تتجسَّد في المجتمع المدني والأهلي، أكثر من تجسّدها لدى السلطات الرسمية.
كورنيليا زِنغ: في الواقع، أنت تصف، إلى حدٍّ كبيرٍ، محور اهتمام مبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن". جان فانييه "Jean Vanier"، الفيلسوف الكنديّ الذي أحبه، تحدث عن "الحياة في تكافلٍ في ما بيننا". فكل كائنٍ حيٍّ – وليس نحن، البشر، فقط – يعتمد الإرادة الطيبة لمحيطه. الحب أو التعلق بالغير هو حاجةٌ (وليس عاطفةٌ) موجودةٌ لدى كل كائنٍ حيٍّ. إن خبرة صناعة الحب الأساسية هي التي تعطي الناس الفرصة، ليصبحوا أنفسهم أناسًا محبين.
في ردّه على سؤال "ما الحياة؟"، أجاب المسيح: « ينبغي أن تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ"، هذا هو كل شيءٍ. هذا هو حقًّا صميم الإيمان المسيحي. "الرب هو الحب وليس شيئًا آخر"، يقول الأخ روجيه (روجيه لويس شوتز). في ثقافة الترحيب، رأينا، نحن المسيحيين، أن الانشغال بحياة الإحسان، في إطار دستور جمهورية ألمانيا الاتحادية، يناسبنا جيّدًا. فوفقًا لهذا الدستور، إن كرامة الإنسان، كل إنسانٍ، غير قابلةٍ للمساس بها.
أنا شخصيًّا تعلمت ألا أكون فخورةً كثيرًا بألمانيا التي ولدت فيها. وعلى الرغم من أن احترام كرامة الإنسان ليس مماثلًا للإحسان، فأنا ما زالت أراه نتيجةً منطقيةً له. أنا أعلم أن حقوق الإنسان مهمةٌ لك بقدر ما هي مهمةٌ لي. وأنت تقول إنك "غير متديّنٍ"، وإنما مجرد مسلمٍ "تقليديٍّ"، بالمعنى الثقافي، وغير مؤمنٍ بوجود الله. ما الأساس الذي تقوم عليه، من وجهة نظرك، كرامة الإنسان، والاعتقاد بأن النساء والرجال أحرارٌ، في الوقت نفسه، وبأن كل شخصٍ يمكنه أن يتمتع بالحرية الدينية؟ هل هناك أساسٌ عقلانيٌّ بحتٌ لحقوق الإنسان؟
حسام الدين درويش: هذه الأسئلة بالغة الأهمية، وتستحق أن نفكر فيها ونناقشها معًا، لكن لا ينبغي لنا أن نميل إلى إغلاقها أو إنهائها بإجابةٍ واحدةٍ وأحاديةٍ ودوغمائيةٍ. دعيني أبدأ بسؤالك الأخير. للوهلة الأولى، يبدو لي أن الإجابة عن هذا السؤال سهلةٌ جدًّا، أو مفرطة السهولة: كلا، ليس هناك أساسٌ عقلانيٌّ بحتٌ لحقوق الإنسان". لكن قبل إعطاء مثل هذه الإجابة، ينبغي لنا أن نفكر في السؤال ذاته، وأن نقوم بمساءلته. فلفهم هذا السؤال وفهم الإجابات الممكنة عنه، ينبغي لنا أن نفهم ما الذي تعنيه العقلانية. هل تتضمن العقلانية بعدًا معياريًّا أو أخلاقيًّا؟ هل تأخذ العقلانية في حسبانها القيم والمبادئ الأخلاقية؟ إذا كانت الإجابة عن مثل هذا السؤال هي سلبية، كما أفترض، فعندها ينبغي للعقلانية ذاتها أن تكون مسوَّغةً، لتصبح بعدها قادرةً على أن تكون مسوِّغةً للقيم الأخلاقية، ممثلةً هنا بكرامة الإنسان وحقوقه. إن فعل التسويغ يتضمن مسبقًا بعدًا أخلاقيًّا.
من جهتي، أرى أن حقوق الإنسان هي أساسٌ لتسويغ العقلانية، وأنه ينبغي أن تتحول عقلانيتنا لتصبح نوعًا من المعقولية، حيث تتضمن بالضرورة بعدًا أخلاقيًّا، ولا تكون مجرد حسابٍ أداتيٍّ لتحقيق غاياتٍ أو مصالح معينةٍ.
في الفلسفة، هناك عددٌ من المحاولات للتنظير لذلك التسويغ: تسويغ حقوق الإنسان عقلانيًّا.، لكنني شخصيًّا، لا أعتقد بنجاح هذه المحاولات، ولا أشعر أنني بحاجةٍ إلى ذلك النوع من التسويغ، كما لا أرى أننا بحاجةٍ إلى كائنٍ فوق إنسانيٍّ (إلهٌ)، لتسويغ القيم الأخلاقية المتمثلة في الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان أو الرؤية المضادة للتمييز العنصري. أعتقد أن (لا-) وجود مثل هذا الإله ينبغي أن يسوَّغ أخلاقيًّا. في الواقع، السبب الرئيس لعدم اعتقادي بوجود الله لا يكمن في أنني أعلم، أو أستطيع البرهنة، أن الله غير موجودٍ (فعلى غرار كانط، أنا لا أعتقد بإمكانية امتلاك أيّ شخصٍ لدليلٍ قاطعٍ أو برهانٍ حاسمٍ، في هذا الخصوص)، وإنما لأنّني لا أرى إمكانية وجود تسويغٍ أخلاقيٍّ لذلك الوجود المفترض/ المزعوم. دعيني أكون واضحًا هنا. أنا أتحدث هنا عن إلهٍ قادرٍ على كل شيءٍ، وعالمٍ بكل شيءٍ، وموجودٍ في كل مكانٍ، كما يصفه غالبًا اللاهوتيون في الأديان التوحيدية. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار معاناة الناس في العالم، لا أعتقد بإمكانية وجود مثل هذا الإله. وحتى لو كان مثل هذا الإله موجودًا، لا أرى أنه يستحقّ حبنا واحترامنا وعبادتنا.
أنا أعلم أن "إلهك" مختلفٌ عن هذا "الإله الديني العادي أو التقليدي". وهذا هو السبب في أنني أرى أنك لست دينيةً/ متدينةً، على الرغم من أنك تؤمنين بوجود إلهٍ، في حين أنني أرى نفسي أو أرى فكري، دينيًّا، على الرغم من أنني لا أؤمن بوجود إلهٍ. الإله الذي تؤمنين به أنت أراه غامضًا، وهو يعجبني بمعنى ما، لكنني لا أعتقد أنني بحاجةٍ إليه، لتسويغ اعتقادي بحقوق الإنسان أو بأية قيمٍ أخلاقيةٍ أخرى، ذات صلةٍ بهذه الحقوق. كما لا أعتقد أنني بحاجةٍ إلى إلهٍ، ليخبرني بأيّ شيءٍ، حتى أعلم مدى قيمة الحب وأهميته وضرورته في حياتنا، بوصفنا كائناتٍ إنسانيةً. من جهتي، أرى أن الحبّ هو أساسًا شعورٌ يمكن التعبير عنه جزئيًّا، من خلال الأفعال والكلمات والإيماءات...إلخ. إن ثقافة الترحيب، في مبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن"، تقوم على الحب الذي عُبِّر عنه بعدة طرقٍ واضحةٍ. ومن خلال تلك الثقافة، عوملنا، ونُعامَل عمومًا، بحبٍّ واحترامٍ، ليس بوصفنا لاجئين فحسب، بل بوصفنا كائناتٍ إنسانيةً وأشخاصًا وأفرادًا أيضًا.
كورنيليا زِنغ: إذا كنت قد فهمتك جيدًا، أنت لا تعتقد بوجود أساسٍ عقلانيٍّ لاحترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان. خسارة ...! يؤسفني ذلك، لكنني توقعته إلى حدٍّ ما.
أعتقد أن المشكلة أكبر بكثيرٍ مما تبدو عليه في الفلسفة؛ السؤال الذي يشغلني حاليًّا، في هذا الخصوص، هو: ما الذي يمكن توقعه أو انتظاره من أناسٍ/ شعوبٍ لم يعتادوا على العيش وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان؟ في الإسلام، لا يوجد تحفيزٌ في اتجاه حقوق الإنسان. كما يتمحور الإسلام حول السلطة والصراع والتشريع ووضع الحدود، وليس حول حقوق الإنسان وكرامته. بعض الناس يقولون إن الأفكار المتعلقة بكرامة الإنسان تجد جذورها في العقيدة المسيحية. لكن تبقى مسألة الأصل والجذور مسألة إشكاليةٌ، وهي، في كل الأحوال، ليست مهمةً كثيرًا. الحقيقة هي أن المسيحيين وجدوا أنفسهم في قصة حبٍّ مستمرةٍ عبر العالم. وفي هذه السيرورة، حيث يكون حب الله محايثًا للعالم، يكون هذا الحب جزءًا من النضال من أجل كرامة الإنسان. وبالتأكيد، يسعدني الحديث عن هذا الموضوع، لكن نحن أردنا أن نتحدث عن الاندماج، وهذه هي المشكلة القابعة خلف سؤالي.
هل يمكن للناس القادمين من الثقافة العربية الإسلامية أن يقبلوا حقوق الإنسان، كما هي مطبقةً في ألمانيا؟ على سبيل المثال، هل يمكنهم قبول حصول النساء على حقوقٍ مماثلةٍ لحقوق الرجال، وأن يكون من حق كل شخصٍ أن يقرر دينه بحريةٍ. فإذا ما أرادت زوجة رجل عربيٍّ مسلم أو ابنته ألا تبقى مسلمةً، ما علاقة الرجل بهذا الأمر؟ هل يقبل هؤلاء الأشخاص التخلّي عن حق ضرب أولادهم؟ ألا ينبغي ألا يكون للرجل سلطة اتخاذ القرارات الخاصة بزوجته أو ابنته الراشدة؟
لدي شعور بانسحاب عددٍ كبيرٍ من المسلمين وانغلاقهم على ثقافتهم ودينهم القادمين معهم، ومحاولتهم أن يتمايزوا عن غير المسلمين، وأن يكونوا أو يصبحوا مسلمين أكثر مما كانوا ربما في بلدهم. فما الذي ينبغي فعله مع هؤلاء الأشخاص الذين لديهم مثل هذه الأفكار والاعتقادات، ليعيشوا في هذا المجتمع (الألماني)، وليقبلوا بقوانين الدولة الألمانية، بدون أن ينسحبوا إلى ثقافاتهم الفرعية ويتقوقعوا فيها؟ إنني، وكثيرين من الأشخاص المنتمين إلى الجهات التي تحاول الترحيب باللاجئين ومساعدتهم، نشعر أحيانًا باللا-جدوى أو حتى بأن هؤلاء اللاجئين يستغبوننا، عندما يقتصرون على أخذ المساعدات بعنجهيةٍ، ومن ثم تجنب أي احتكاكٍ اجتماعيٍّ وديٍّ معنا. نحن نشعر أن هؤلاء الأشخاص يعيشون مع عائلاتهم وجماعاتهم الإثنية أو القومية، بدون أن يكون لديهم أي اهتمامٍ ببقية أفراد أو جماعات المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا بقواعد هذا المجتمع.
لكن علينا أن نتعلم أن نعيش معًا، وأن نحترم بعضنا بعضًا. هل الطريقة الوحيدة لجعلهم يحترمون القوانين وواجباتهم هي إجبارهم على ذلك، لكونهم يعيشون في بلدٍ أجنبيٍّ؟
حسام الدين درويش: مع هذا النوع من الأسئلة، نحن ننتقل، انتقالًا جزئيًّا على الأقل، من ثقافة الترحيب إلى الثقافة العقلانية، ومن الحب إلى المصلحة الذاتية، ومن العطاء إلى الحساب، ومن النزعة الأخلاقية المبدئية إلى النزعة البراغماتية، وربما أيضًا من موقفٍ إنسانيٍّ إلى موقفٍ أناني متمحورٌ حول الأنا أو حول أوروبا أو حول المسيحية.
مع هذا النوع من الأسئلة، يكون التركيز الأساسي منصبًّا لا على معاناة الآخر وحاجاته، وإنما على احتمال معاناتنا نحن بسبب هذا الآخر. مع هذا النوع من الأسئلة، نتوقف عن التفكير في المشاكل التي يمكن أن يعاني منها الآخر، وننشغل في التفكير في الآخر، بوصفه مشكلةً فعليةً أو محتملةً.
الانشغال بهذا النوع من الأسئلة مشروعٌ تمامًا، فهذه الأسئلة تطرح مشاكل حقيقيةً. لكن هذه الأسئلة، يمكن أن تعبِّر، في المقابل، عن تحيزاتنا وأحكامنا المسبقة، وعن سوء أو عدم فهمنا، ليس للآخر، بوصفه شخصًا أو شعبًا أو ثقافةً أو تاريخًا، فحسب، وإنما لذواتنا ولثقافتنا الخاصة وتاريخنا وديننا أيضًا. وعلى هذا الأساس، أرى أن مساءلة هذا النوع من الأسئلة أكثر أهميةً من محاولة الإجابة عنها، على فرض وجود إجابةٍ ما عنها فعلًا.
لنأخذ، على سبيل المثال، السؤال التالي: "ما الذي يمكن توقعه أو انتظاره من أناسٍ/ شعوبٍ لم يعتادوا على العيش وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان؟"
يفترض سؤالك هذا تمييزًا بين أناسٍ/ شعوبٍ اعتادوا على العيش وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان (شعوب أوروبا الغربية، على سبيل المثال) وأناسٍ/ شعوبٍ لم يعتادوا على العيش وفقًا لهذه المنظومة (المسلمون والعرب، على سبيل المثال). في بعض الأحيان، من الضروري تذكير "الأوروبيين- المسيحيين"، من ناحيةً أولى، ببعض الوقائع/ الحقائق عن تاريخهم الخاص، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، بتاريخ الشعوب والثقافات الأخرى، ومن ناحيةً ثالثةٍ، بالعلاقة بين بلدانهم وثقافاتهم، من جهةٍ، والبلاد والثقافات الأخرى، من جهةٍ أخرى.
فمن ناحيةٍ أولى، وفيما يتعلق بالتاريخ الأوروبي الخاص، من الضروري الانتباه إلى أن قوننة حقوق الإنسان، واندراجها في المنظومة القانونية في الدول الغربية، لم يحصلا إلا منذ فترةٍ قريبةٍ عمومًا. وانطلاقًا من ذلك، يبدو أنه من المبكِّر جدًّا الحديث عن اعتياد "الشعوب الأوروبية المسيحية"، اعتيادًا كاملًا، على منظومة حقوق الإنسان، وقدرتها على محاكمة الشعوب والثقافات الأخرى، في هذا الخصوص. أظنك تعلمين أن زواج المثليين جنسيًّا، على سبيل المثال، لم يُشرعَن ويصبح قانونيًّا في ألمانيا إلا منذ مدةٍ قصيرةٍ فقط. ولهذا أعتقد أنه على "الشعوب الأوروبية" أن تكون واعيةً بالتمييز الاجتماعي والقانوني السائد تاريخيًّا، على سبيل المثال، ضد النساء، والسود، واليهود، والمسلمين، والمثليين ...إلخ، في البلاد والمجتمعات الأوروبية ذاتها، قبل تبني الاعتقاد أو الزعم القائل بأنها اعتادت على العيش، وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان.
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، وفي خصوص تاريخ الشعوب والثقافات الأخرى، من المفيد التذكير بأنه على العكس من ذلك التعميم القائل بأن الناس الآخرين (السوريين، على سبيل المثال) غير معتادين على العيش وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان، ينبغي ﻟ "الأوروبيين الغربيين المسيحيين" أن يعلموا، على سبيل المثال، أن النساء في سورية حصلن على حق التصويت عام 1949، قبل أن تحصل النساء على هذا الحق في معظم البلدان الغربية. وعلى الرغم من أن المسيحيين يشكلون أقليةً دينيةً في سورية، حيث لا يمثلون أكثر من عشرة بالمئة من سكانها تقريبًا، فقد كان "المسيحي" فارس الخوري رئيسًا للمجلس النيابي السوري عام 1936، ورئيسًا لمجلس الوزراء عام 1944. حاولي أن تتخيلي متى سيكون "عاديًّا" وممكنًا تسلم شخصٍ مسلمٍ، على سبيل المثال، منصب مستشار ألمانيا الاتحادية أو منصب رئيس الولايات المتحدة الامريكية (التي تولى فيها منصب الرئاسة شخصٌ كاثوليكيٌّ مرةً وحيدةً عام 1961).
ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، وفي خصوص العلاقة بين البلاد والثقافات الأوروبية، من جهةٍ، والبلاد والثقافات الأخرى، من جهةٍ أخرى، يفترض السؤال مسبقًا أن الناس الآخرين غير معتادين على العيش وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان، بسبب ثقافتهم الإسلامية أو دينهم الإسلامي تحديدًا أو خصوصًا، في حين أن "الغربيين المسيحيين" معتادون على العيش وفقًا لهذه المنظومة، لكونهم مسيحيين خصوصًا أو تحديدًا. أنا لا أوافق مطلقًا على هذا التأويل أو الفهم الثقافوي، ولا أعتقد بإمكانية تفسير احترام أو عدم احترام حقوق الإنسان، في سورية ومصر وألمانيا والولايات المتحدة الامريكية، تفسيرًا كافيًا و/ أو مقنعًا، بالإحالة على القرآن أو الإنجيل أو على أي نصوصٍ مقدَّسةٍ أخرى. كما لا أعتقد أن ثمة دينًا يدعم أو يعزز بالكامل قيم حقوق الإنسان والسلام والحب، في حين أن دينًا آخر يعارض هذه القيم معارضةً كاملةً. أعلم بوجود نسخةً معاصرةً من المسيحية، تجعل منها دينًا للحب وحقوق الإنسان، وأنا معجب بهذه النسخة، لكنني على اطلاعٍ على نسخٍ أخرى – بعضها قديمٌ وبعضها ما زال معاصرًا، من هذه المسيحية – تدعم انتهاك حقوق الإنسان والحرب والكراهية. يخبرنا تاريخ أوروبا بأن عشرات الملايين من الأوروبيين وغير الأوروبيين كانوا ضحيةً لحروبٍ مسيحيةٍ أو صليبيةٍ داخل أوروبا وخارجها. أعتقد أن الوضع الثقافي القائم، في سورية، وفي البلاد ذات الغالبية المسلمة، يمكن فهمه وتفسيره، من خلال الإحالة على السياسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وعلى الديكتاتوريات وسيادة الهيمنة وعلاقات القوة المحلية والعالمية، أكثر بكثيرٍ من إمكانية فهمه وتفسيره، من خلال الإحالة على العوامل الثقافية والمذاهب الدينية.
إن "الثقافة الإسلامية" لا تعلي أو تخفض بالضرورة من شأن حقوق الإنسان. ومن المهم فردنة فهمنا للآخر، ويعني ذلك ضرورة أن نفهم ثقافته من خلال فهمنا له، بدلًا من أن نحاول فهمه من خلال فهم ثقافته. فمن المهم معاملة الآخر وفهمه ليس على أنه شخصٌ ينتمي إلى هذه الثقافة أو تلك، وإنما على أنه شخصٌ ذو أبعادٍ ثقافيةٍ فرديةٍ مختلفةٍ في شخصيته.
كورنيليا زِنغ: وماذا عن الاندماج الرسمي أو الثقافي؟ وماذا عن فرص نجاحه أو فشله؟
حسام الدين درويش: الاندماج هو واجبٌ بقدر تعلقه باحترام القوانين، لكن ينبغي النظر إلى الاندماج الثقافي على أنه خيارٌ وليس فريضةً أو واجبًا؛ كما ينبغي تجنب التخيير الذي يتخذ الصيغة القائلة، ضمنًا أو صراحةً، "اندماج أو إذلال...!". وبكلماتٍ أخرى، لا ينبغي فهم الاندماج والتعامل معه على أنه امتحانٌ أو اختبارٌ، سيتعرض من يخوضه إلى الإذلال او المهانة، في حال عدم نجاحه فيه.
ويحيل الاندماج الثقافي على تثاقفٍ متبادلٍ، وليس على انصهار طرفٍ في طرفٍ آخر. ويمكن لسيرورة الاندماج أن تغني الطرفين أو الثقافتين، لكن يمكن لها أيضًا أن تواجه أيضًا صعوباتٍ وعقباتٍ حقيقيةً. وليس نادرًا تضمُّن هذه السيرورة لخبراتٍ مؤلمةٍ لأحد الطرفين أو لكليهما. وتزداد فرص نجاح الاندماج الثقافي، على الأرجح، بقدر قيام العلاقة بين الطرفين على الحب والإرادة الطيبة والغايات الجيدة. لكن ليس هناك ما يضمن حصول هذا النجاح. وفي المقابل، تزداد فرص فشل الاندماج الثقافي، على الأرجح، عندما تقوم العلاقة بين الطرفين على التحيزات والاحكام المسبقة السلبية المذكورة آنفًا.
ينبغي لحقوق الإنسان (المساواة بين المرأة والرجل، وحقوق الطفل، على سبيل المثال) أن تُنفَّذ وتُحترم من قبَل كل الأطراف، ومن ضمنها السلطات الرسمية. وبدون هذا التنفيذ و/ أو الاحترام، يمكن الحديث عن وجود معايير مزدوجةٍ. وعلى هذا الأساس، يبدو نفاقًا تأييد حرمان عددٍ كبيرٍ من الأطفال والآباء من حق لم الشمل مع أسرهم، من جهةٍ، والدفاع عن قيم منظومة حقوق الإنسان، من جهةٍ أخرى.
ومن حيث المبدأ، يجب على الناس بالطبع أن يحترموا القوانين والتشريعات والقواعد القانونية والرّسمية، لكن يجب على القوانين، في المقابل، أن تحترم الناس أيضًا. ومع التعقيدات المتزايدة في البيروقراطية والوضع الاجتماعي والسياسي، يبدو أحيانًا أنه يُطلَبُ من بعض الناس أن يحترموا القوانين والقواعد والتشريعات وأن يطيعوها أو يتقيدوا بها، بدون أن يكونوا محترمين من قبلها أو من قبل الناس الذين يؤولونها و/ أو يطبقونها.
لا يملك الاندماج الرسمي و/ أو الثقافي فرصةً كبيرةً للنجاح، طالما أن اللاجئين يعاملون، ليس فقط بوصفهم مشكلةً، بل بوصفهم المشكلة أيضًا. وينبغي أن يكون مفهومًا أن اللاجئين نزحوا من بيوتهم وبلادهم، ليس بسبب أنهم هم ذاتهم يمثلون مشكلةً، وإنما لأنهم كانوا يواجهون عددًا كبيرًا من المشاكل والأخطار والتهديدات المحلية والعالمية. ولتعظيم فرص أو إمكانيات نجاح الاندماج، ولتسهيل سيرورته، ينبغي لكل الأطراف المعنية أن تتعاون مع بعضها بعضًا، بدون نظر كل طرفٍ إلى الطرف الآخر على أنه مشكلةٌ.
لقد أثبتت ثقافة الترحيب قيمتها، أخلاقيًّا وبراغماتيًّا، نظريًّا وعمليًّا. وينبغي للثقافة العقلانية أن تكون مكمِّلةً لثقافة الترحيب، ومتأسِّسةً عليها، لا مناقضةً لها. ويمكن وينبغي للثقافة العقلانية أن تتأسّس على ثقافة الترحيب، وليس العكس. ولهذا السبب، أنا لا أعتقد بوجود حجةٍ عقلانيةٍ أو أساسٍ عقلانيٍّ لحقوق الإنسان أو لثقافة الترحيب. أنا اعتقد بالأحرى أن القيم المكوِّنة لحقوق الإنسان و/ أو ثقافة الترحيب تجسِّد، أو ينبغي لها أن تجسِّد، أساسًا ممكنًا لعقلانيتنا وقاعدةً متينةً لها. ويمكن لهذه القاعدة الأخلاقية أن تحوِّل العقلانية إلى نوعٍ من المعقولية.
من وجهة نظري، تشكِّل النقاط السابقة الإطار العام للتفاعل مع أية مشكلةٍ محددةٍ أو متعينةٍ تواجهها مشكلة الاندماج حاليًّا، أو يمكن أن تواجهها لاحقًا.
كورنيليا زِنغ: يمكن لكلامي السابق أن يُفهم على أنه يعبِّر عن غطرسة من يعتقد أن الغرب أعلى شأنًا و/ أو قيمةً ثقافيًّا. بالتأكيد أنا لا أتبنى هذا الموقف على الإطلاق. وما يدفعنا نحن الألمان إلى الابتعاد عن تبني مثل هذا الموقف هو مسؤوليتنا عن جرائم الهولوكوست. وحتى في تلك الفترة المخزية من تاريخنا، كان بلدنا وثقافته "مسيحيان". وفي كل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كنا نشعر بالخزي والعار. وبالتدريج بدأت ألمانيا تصبح، من جديدٍ، بلدًا "عاديًّا". وقد لاحظنا مؤخَّرًا مدى الاخطار التي تتهدد حقوق الأنسان والدستور الألماني؛ إذ يبدو أن احترام القرارات السياسية لمنظومة حقوق الإنسان يتضاءل أكثر فأكثر. على سبيل المثال، يتعارض إيقاف العمل بلم الشمل العائلي، لعددٍ كبيرٍ من اللاجئين، مع أحد الحقوق الأساسية المتعلقة بالعائلة والمنصوص عليها في الدستور الألماني. وثمة قوى قوميةٌ ويمينيةٌ، شعبويةٌ ومتطرفةٌ، تمثِّل أيضًا خطرًا حقيقيًّا ينبغي لنا مواجهته.
أنت محقٌّ بالتأكيد في أنه يجب علينا ألا نتعامى عن الاختلافات القائمة بين الناس (اللاجئين) وألا نتحدث عنهم بوصفهم كتلةً واحدةً متجانسةً؛ فاللاجئون في ألمانيا ينحدرون من جنسياتٍ وبلادٍ مختلفةٍ: من أفغانستان وسورية والعراق وبلاد إفريقيةٍ عديدةٍ. ويشير هذا الأمر وحده إلى حجم الاختلافات القائمة بينهم. لكن الإنسان هو أكثر من مجرد انتمائه إلى هذا البلد أو ذاك. يضاف إلى ذلك، أن كل شخصٍ له تاريخٌ شخصيٌّ، يتفاعل فيه عددٌ كبيرٌ من العوامل التي تتبادل التأثير والتأثر. ولا تقتصر هذه العوامل على مجرد القومية والدين. وأنا نفسي لا أود أن تتم مماهاتي مع سائحةً ألمانيةً موجودةٍ في جزيرة مايوركا الإسبانية.
وأتفق معك في أن الاندماج هو واجبٌ بقدر تعلقه باحترام القوانين، وفي أن الاندماج الثقافي خيارٌ وليس فريضةً أو واجبًا. ويمثِّل العمل على إنجاح الاندماج الثقافي المرحلة التالية من ثقافة الترحيب، من منظوري. أعتقد أننا، ما زلنا عمومًا في المرحلة الأولى من مراحل الاندماج؛ وهي المرحلة التي تركّز، تركيزًا أساسيًّا، على مساعدة الناس في العثور على مكان سكنٍ مناسبٍ، وفي تعلم اللغة الألمانية، وفي العثور على عملٍ يبرز قيمتهم بوصفهم، كائنات إنسانيةً. لقد استغرقت هذه الأمور فترةً أطول بكثير مما كان مفترضًا في البداية. وأحد أهم أسباب ذلك يكمن في كون مجتمعنا معقَّدًا كثيرًا، وفيه بيروقراطيةٌ كبيرةٌ، وله متطلبات كثيرةٌ جدًّا.
كيف ننجح في الخطوة أو المرحلة الثانية من مراحل الاندماج؟ الأنموذج الأسوأ سيكون الإقصاء المتبادل، حيث تعيش مجموعاتٌ أو جماعاتٌ عضويةٌ، جنبًا إلى جنبٍ، بدون أي تواصلٍ أو احتكاكٍ إيجابيٍّ فيما بينها، وربما مع وجود رفضٍ متبادلٍ فيما بينها. كما سيكون من السيء هيمنة اللامبالاة، أو التسامح بوصفه لامبالاةً. إن مصطلح "مجتمع متعدد الثقافات" يُشتمُّ منه رائحة التسامح اللامبالي البارد. ولهذا، فنحن نفضل البحث عن بديلٍ أفضل من ذلك المجتمع. قد يكون هذا البديل كامنًا في نموذجٍ اجتماعيٍّ، حيث يسود التكافل بين أعضاء المجتمع الذين يكترثون لبعضهم بعضًا، بدون هيمنةٍ أو سلطةٍ لطرفٍ على الأطراف الأخرى، وضمن إطار احترام القوانين. إن احترام القوانين أمرٌ بالغ الأهمية لجميع الأطراف. نحن لا نستطيع التفكير في الاندماج، بدون أن يتضمن ذلك الاندماج احترام القوانين. واحترام القوانين واجبٌ علينا جميعًا: واجبٌ علينا نحن المواطنين الألمان، واجبٌ على السلطات الألمانية، وواجبٌ على أيّ شخصٍ جاء إلى ألمانيا، بوصفه مهاجرًا أو لاجئًا، ليعيش فيها معنا.
ألاحظ أن كل الناس القادمين من إفريقيا و"الثقافات الشرقية" لديهم، بغض النظر عن دينهم، مشاكل مع الحرية المتاحة والمعيشة في مجتمعنا. في المقابل، يبدو أن معظم اللاجئين قد جاؤوا من ثقافةٍ إسلاميةٍ، ومعظمهم عانى من هذه الثقافة: الأزيديون، بالإضافة إلى الكرد الذين اختاروا طوعيةً أن يكونوا مختلفين عنكم، أنتم العرب؛ وهناك أناسٌ من "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، ومسيحيون من إفريقيا عمومًا، ومن نيجيريا خصوصًا. معظم الأفراد المنتمين لهذه المجموعات أو الجماعات يجدون سهولة أكبر نسبيًّا في إيجاد مكانٍ لهم في مجتمعنا، لأنهم سعداء بأنهم ما عادوا مضطرين إلى أن يعيشوا في دولةٍ إسلاميةٍ. المسلمون (ليس جميعهم!) لديهم ميلٌ أقوى للانسحاب من مجتمعهم أو محيطهم الجديد والانغلاق في عائلاتهم وجماعاتهم الصغيرة، ولقبول القوانين والقواعد المرتبطة بالنزعة البطريركية/ الأبوية المهيمنة والتمسك بها في العائلة والثقافة الإسلامية. ولدي مخاوفٌ من أن يكون ذلك كله مستندًا إلى الإسلام ومنصوصٌ فيه عليه، حيث يدعم الإسلام فعلًا سلطة الرجال وينظر إلى أعضاء الأديان الأخرى على أنهم تابعون أو خاضعون للمسلمين، أو يجب أن يكونوا كذلك. وعلى الأرجح، تحظى الشريعة وتعليمات الإسلام، بالنسبة إلى كثيرٍ من المسلمين، بأهميةٍ كبيرةٍ تفوق غالبًا أهمية القوانين الوطنية في بلدٍ يُنظَر إليه على أنه بلدٌ مسيحيٌّ. يمكن لهذه الأفكار أن تخلق صعوباتٍ هائلةً في وجه ممكنات العيش المشترك وعمليات اندماج الناس الذين يريدون أن يبقوا مسلمين ملتزمين بدينهم. فالمشكلة (الأساسية) هنا لا تكمن في الناس، وإنما في الاعتقادات والاعتراضات المتضمَّنة في الإسلام ذاته.
وأنا لا أتفق معك على أن الأسئلة التي طرحتها تجسِّد انتقالًا "من الحب إلى العقلانية والأحكام المسبقة". فالحب لا يفتقد للأسباب العقلانية، وهو ليس مجرد إيثارٍ. إنه حبٌ للذات أيضًا، فأنا أحب حياتي وأعتني بنفسي. وثقافة الترحيب ليست "الأم تيريزا"؛ هي ليست مجرد عطاءٍ للآخر، بدون أخذ أنفسنا في الحسبان. وأنا أحاول دائمًا أن أكون واضحةً في توقعاتي، وأن أوضح قواعد الأمور للآخرين. فعلى سبيل المثال، طلب مني شابٌّ أفريقيٌّ مسلمٌ، أن أبحث له عن عملٍ. وبدا لي أنه شديد التدين وصائمٌ غالبًا، وليس في رمضان فقط. لهذا أخبرته بصراحةٍ: لقد أرسلك الله إلى هنا وأرادك أن تعيش وتعمل هنا، وهو يعلم أنك تملك القوة لفعل ذلك. سأساعدك في البحث عن عملٍ، لكن يجب عليك ربما أن تتفق معي على ضرورة التوقف عن الصيام، في حال شعرت بتأثيره السلبي على قدرتك على العمل.
أعجبتني كثيرًا فكرة النظر إلى ثقافة الترحيب على أنها تمثِّل أساسًا ممكنًا لثقافةٍ عقلانيةٍ ما. أشعر أن هذا ما أحاول فعله. والخطوة الأولى التي يجب اتخاذها، في هذا الطريق، هي التقبل الكامل لمنظومة حقوق الإنسان في السياسات الألمانية والحركة الثقافية عمومًا. ومن الضروري أيضًا، إعطاء الناس الذين يملكون قصص حياة مختلفةً الفرصة، لأن يقبلوا منظومة حقوق الإنسان، ويتقبلوها، ويستمتعوا، في الحياة، وفقًا لها ويدعموا هذه الحياة.
حسام الدين درويش: أنت على حقّ! ثقافة الترحيب ليست "الأم تيريزا" تمامًا. ومع ذلك، أعتقد جازمًا أن عددًا من الناس الذين جسَّدوا هذه الثقافة وطوروها، هم، بطريقةٍ أو بأخرى، "أم تيريزا" من نوعٍ ما. لقد كانوا وما زالوا يفكرون في اللاجئين، ويبذلون قصارى جهودهم في مساعدتهم ومساندتهم، وفي تشجيع الآخرين على فعل الأمر ذاته، بدون أن يتوقعوا أو ينتظروا شيئًا مقابل ما يقدمونه، وبدون أن يأخذوا في حسبانهم حبهم لذواتهم ومصالحهم الخاصة، وبدون أن يرتكز الحب الذي يقدمونه على أية عقلانيةٍ حسابيةٍ. على الأرجح، لم يضحّ هؤلاء الأشخاص ﺑ "كل شيءٍ" من أجل الآخرين، لكنهم ضحُّوا، بدون أن يشعروا أو يفكروا أنهم يقدمون تضحيةً. قد يبدو هؤلاء الناس في أعين أناس آخرين ساذجين قليلًا أو كثيرًا. قد لا يكون بمقدور كل إنسانٍ أن يكون مثل هؤلاء الناس، لكن من الصعب على المرء انتقادهم، أو الشعور بالفخر، لكونه ليس مثلهم أو واحدًا منهم. هل يفتقرون إلى الأسباب التي تدفهم إلى التفكير والشعور والتصرف بالطريقة التي يفكرون ويشعرون ويتصرفون بها؟ لا أعتقد ذلك. أعتقد أن الحب، وبعض القيم الأخلاقية الأخرى المرتبطة به، يمكن أن تكون ليس مجرد سببٍ فحسب، وإنما السبب الأهم للأفكار والأفعال أيضًا. وهذا هو الحال مع الناس الذين يجسدون ثقافة الترحيب، الذين أشرت إليهم آنفًا. وفي مثل هذه الحالات، يمكن للحب أن يكون أساس عقلانيةٍ ما.
يمكن للثقافة العقلانية أو حب الذات أن يكونا أساس "حب الأخرين"، بالمعنى المزدوج للإضافة: حبنا للآخرين وحب الآخرين لنا. ومع ذلك، حينما نشعر بإمكانية وجود صراعٍ بين حب الآخرين، بمعناه المزدوج، وحبنا لذواتنا، ينبغي لنا، على الأرجح، أن نختار بين هذين الطرفين. أنت تعلمين أن بعض الناس قد اعتقدوا بوجود صراعٍ ما، في السنوات القليلة الماضية في ألمانيا، بين السلم الاجتماعي والعدالة حيال اللاجئين. وفي مواجهة هذا التخيير، اختار بعض الناس التضحية بالعدالة للحفاظ على السلم الاجتماعي. أظنك سمعتِ بقرار منظمة "تافل"، في العام الماضي، في مدينة إِسِن. فعلى الرغم من أن هذه المنظمة كانت جزءًا من ثقافة الترحيب في ألمانيا، إلا أنها قررت التوقف عن منح المساعدات للاجئين والأجانب، وجعلها حصريةً للألمان فقط، لأن منح هذه المساعدات للاجئين والأجانب أثر سلبًا على الفقراء والمحتاجين الألمان في المدينة، من وجهة نظرها.
أرى أن قيمة ثقافة الترحيب تتضاعف، بقدر عدم تأسسها على أساس العقلانية الحسابية. وتحظى ثقافة الترحيب بسمعةٍ عطرةٍ، لهذا السبب تحديدًا. لقد كانت ثقافة الترحيب في عيون عددٍ كبيرٍ من الناس، جيّدةً إلى درجةٍ يصعب تصديقها وتصديق واقعيتها. لقد كانت غير قابلةٍ للتصديق، لدرجة أن بعض اللاجئين كانوا يبحثون عن المصالح الذاتية التي يمكن أن تقف وراء ثقافة الترحيب الألمانية الرائعة، لكنهم عجزوا دائمًا (تقريبًا) عن إثبات صحة شكوكهم أو تشكيكاتهم. من جهتي، لم تنتابي هذه الشكوك كثيرًا، ولم أجد أي أساسٍ يسمح لي بتحويلها إلى تشكيكٍ، عند وجودها.
أعتقد أن معظم اللاجئين قد نزحوا من بيوتهم وبلادهم، لأسبابٍ سياسيةٍ، ولأسبابٍ تتعلق بالحرب والاستبداد في بلدانهم، وليس بسبب تعرضهم للتمييز الديني. وحتى في حال تعرضهم لتمييز دينيٍّ، فإن هذا التمييز هو، في جوهره، سياسيٌّ، أكثر من كونه دينيًّا. والأوضاع في سورية والعراق وأفغانستان وأريتيريا، ليست سيئةً بسبب وجود التمييز الديني. وفي كل الأحوال، لا يمثل التمييز الديني السبب الأكبر و/ أو المباشر لسوء الأوضاع في هذه البلاد.
عندما تتحدثين عن "البلاد المسلمة"، أظنك تقصدين "البلاد ذات الغالبية المسلمة". فهذه البلاد بلادٌ إسلاميةٌ، بقدر كون ألمانيا، على سبيل المثال، بلدًا مسيحيًّا. وحتى في حال اعتبرنا أن سورية أو العراق بلدٌ إسلاميٌّ، وأن ألمانيا بلدٌ مسيحيٌّ، فلا يمكننا، ولا ينبغي لنا، أن نفهم أوضاعها، ونفسرها، بالدرجة الأولى، بالإحالة على العوامل والأسباب الدينية. والأمر ذاته يمكن قوله في خصوص فهم تصرفات "الشّعب المسلم" وتفسيرها. على سبيل المثال، البارحة قتل أحد اللاجئين السوريين زوجته السابقة، بطعنها عدة طعناتٍ بالسكين، في حضور أولادهما. لقد فسر عددٌ من الأشخاص هذه الجريمة الفظيعة بالعوامل الثقافية، عمومًا، وبالعوامل الدينية خصوصًا. لكن حتى لو كانت هذه التفسيرات صحيحةً، ينبغي ألا ننسى أو نتجاهل أن الغضب والاستهجان والتنديد كان السمة المشتركة الأبرز لردود فعل معظم "السوريين المسلمين" على هذه الجريمة. فمعظم هؤلاء لم يروا أنها عملٌ لا-أخلاقيٌّ فحسب، بل ورأوا فيها أيضًا عملاً منافيًا للدين وللتعاليم الدينية. في المقابل، وفي اليوم ذاته الذي ارتكب فيه هذا اللاجئ المسلم السوري جريمته، قتل رجلٌ ألمانيٌّ زوجته بطعنها بالسكين أيضًا. وكما يمكنك أن تتخيّلي، لم يُشَر إلى جنسية الرجل ولا إلى دينه ولا إلى انتمائه الثقافي على الإطلاق، عند محاولة تفسير الجريمة، والحديث عن عواملها وأسبابها.
أشعر بعدم الارتياح أو بالأسف، بسبب الشعور السائد لدى السوريين واللاجئين (و)المسلمين في ألمانيا عمومًا، بحاجتهم المستمرة إلى أن يثبتوا أنهم ليسوا أناسًا سيئين عمومًا. ويبدو أن لا نهاية قريبةً أو محتملة لهذه "المهمة المستحيلة"، ولا إمكانية لإنجازها، إنجازًا حاسمًا ونهائيًّا. وعلى هذا الأساس، كلما كانت هناك جريمةٌ مرتكبةٌ من قبل مسلمٍ ما في ألمانيا أو أوروبا، نشعر، نحن اللاجئين، بالحاجة إلى اتخاذ موقفٍ دفاعيٍّ، وإلى تبرئة أنفسنا، وإلى التأكيد للآخرين أننا مختلفون عن المجرم الذي لا يمثِّل قيمنا ومعتقداتنا وثقافتنا.
هناك عددٌ من المشاكل العملية، و/ أو الإشكاليات النظرية، المتصلة بمسألة "ثقافة المسلمين" أو "الثقافة الإسلامية". دعيني أشير إلى أحد أهم تلك المشاكل والإشكاليات، وهي مشكلة النزعة الماهوية المرتبطة بالتحيزات والأحكام المسبقة والنمطية لدى الناس والثقافات عن بعضهم بعضًا. تنص الرؤية الماهوية الغربية أن "الإسلام الحقيقي" أو "المسلم الحقيقي" هو سيءٌ ومتطرفٌ و/ أو مضادٌ لحقوق الإنسان، بطبيعته ... إلخ. ولدى العديد من المسلمين (وربما معظمهم) أحكامٌ مسبقةٌ ونمطية عن الأوروبيين أو الغربيين وعن دينهم وعن تحيزاتهم وأحكامهم المسبقة والنمطية عن المسلمين. يمكن لهذه التحيزات والأحكام المسبقة والنمطية المتبادلة أن تكون صحيحةً وموضوعيةً، جزئيًّا ونسبيًّا، لكنها يمكن، في المقابل، أن تؤدي دورًا سلبيًّا، في سيرورة التواصل والاندماج بين "اللاجئين المسلمين" و"الألمان المسيحيين". وفي هذا السياق، يُنظر إلى الفهم المسبق عمومًا على أنه سوء فهمٍ (مقصودٌ).
لقد ذكرتِ أنك تفكرين حاليًّا في المرحلة الثانية من مراحل الاندماج. أنا أعلم أن المرحلة الأولى كانت عظيمةً، وأنك كنت رائعةً فيها. وعلى الرغم من أن المرحلة الأولى لم تكن سهلةً على الإطلاق، لا أعتقد أن المرحلة الثانية يمكن أن تكون أكثر سهولةً، أو بالأحرى أقل صعوبةً. تتمثّل المرحلة الثانية في الاندماج الثقافي الذي يحيل على الفهم والتقبل الطوعي والمتبادل بين طرفين (أو أكثر)، بما يسهم في إغناء كلٍّ منهما للآخر واغتنائه به، وفي التفاعل الإيجابي بين الطرفين أو الأطراف المعنية. كيف يمكننا أن نبني معًا هذا المجتمع الواحد، والمتعدد الأبعاد، والمتكامل، في الوقت ذاته؟
يعتمد نجاح الاندماج الثقافي على عوامل عديدةٍ: توقعاتنا ومعايير النجاح من وجهة نظرنا، السياسات التي تتبعها السلطات الرسمية تجاه اللاجئين، مدى توجه اللاجئين وتوقعاتهم في خصوص البقاء في ألمانيا أو العودة الطوعية أو الإجبارية إلى بلدانهم التي جاؤوا منها، الطريقة التي يتوجه بها كل طرفٍ نحو الطرف الآخر، ويتعامل بها معه، من حيث كونها متأسسةٌ على المصلحة الذاتية العقلانية، أو من حيث اتخاذها شكل المفاوضات العقلانية، أو من حيث كونها قائمةً على حب الآخر واحترامه، بما يسمح بقيام علاقاتٍ حواريةٍ وديةٍ بين الطرفين.
ويمكن للاختلاف الثقافي أن يكون عقبةً ومشكلةً، بقدر إمكانية أن يكون فرصةً للتفاعل الإيجابي البنّاء. "اللاجئون الناجحون"، في المرحلة الأولى من مراحل الاندماج (أي الذي نجحوا في الاستقرار في سكنٍ وعملٍ و/ أو دراسةٍ ... إلخ)، لديهم فرصٌ أكبر عمومًا للنجاح في المرحلة الثانية. وبالتأكيد هناك دائمًا أخطار حصول الإقصاء المتبادل والنزعات الانفصالية أو الانعزالية والجماعاتية والتسامح اللامبالي في المجتمع المتعدد الثقافات. والنجاح في مواجهة هذه الاخطار وتجاوزها، يعتمد على مدى توفر الإرادة لدى أفراد كل طرفٍ، لبناء علاقاتٍ إيجابيةٍ مع أفراد الطرف الآخر، على الرغم من الاختلاف الديني والثقافي والإثني أو القومي والقيمي بين الطرفين أو الأطراف المعنية. وفيما يتعلق باللاجئين المسلمين، لا أعتقد أن سيرورة اندماجهم ستكون ناجحةً جدًّا، في حال الإصرار على اختزال هويتهم من قبلهم، أو من قبل غيرهم، إلى البعد الديني/ الإسلامي منه، وجعل هذه الهوية في حالة تضادٍّ أو تناقضٍ مع الهوية المسيحية، الفعلية أو المزعومة، للألمان والأوروبيين عمومًا. ولا يمكن للاندماج الثقافي أن يحصل بدون وجود احترام متبادلٍ مع الآخرين، بوصفهم أفرادًا و/ أو جماعاتٍ و/ أو مؤسساتٍ و/ أو قوانين، في المجتمع الألماني عمومًا. لكن هذا الاحترام هو شرطٌ أوليٌّ فقط، وهو ليس كافيًّا لحصول الاندماج الثقافي. فحصول هذه الاندماج يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك الاحترام الأولي والضروري.
كورنيليا زِنغ: لقد كنت متردّدةً في أن أقول "إننا، نحن الممثلين لثقافة الترحيب، و/ أو المؤمنين بها، لسنا الأم تيريزا" لسببين؛ يكمن السبب الأول في كوني معجبةً كثيرًا بما قامت به هذه الإنسانة الرائعة طوال حياتها، ومحبةً لها ولأعمالها. أما السبب الثاني، فيتمثل في أن ماهية ثقافة الترحيب تشبه، إلى حدٍّ كبيرٍ، ماهية أفعال الأم تيريزا. على هذا الأساس أقر بأنك كنت على حقٍّ في هذا الخصوص، لكن ...!
أنا لا أرى أن الحبّ هو أن تفعل شيئًا ما تجاه شخصٍ آخر تحبه. الحب هو ذاك الشوق أو التوق لأن تكون في حالة وصالٍ وتواصلٍ مع الآخر، لأن تتشارك الحياة معه، بطريقةٍ ما. لا يُفهم الحب الحياة بطريقة "نحن هنا وأنتم هناك". فهو تحديدًا الاستمتاع بالحياة معًا. الحب هو التوق إلى التواصل وتقدير إمكانيات الحياة التي خلق الرب الآخرين من أجلها. كل إنسانٍ هو جزءٌ من عمليةٍ أكبر تجري في العالم، وأنا مهتمةٌ بإسهام الإنسان في هذه العملية؛ وأود أن يعرف كل إنسان بوجود هذه العملية وأن يشارك فيها، من خلال الحب والاستمتاع بالحياة والمشاركة فيها. لا أتخيل الحياة الإنسانية على أنها حياةٌ أحاديةٌ؛ فالحياة، من منظوري، هي دائمًا في الاتصال بالآخرين والتواصل معهم. هذه هي الفكرة القابعة خلف الاعتقاد المسيحي ﺑ "الثالوث الإلهي المقدس". فالرب ليس واحدًا وحيدًا، وإنما هو ذاته تواصلًا وتوقًا إلى التكاتف أو العمل الجماعي مع مخلوقاته.
بالتأكيد، كان هناك الكثير من الأفعال الإيجابية في ثقافة الترحيب، ومن اللطيف معرفة رأيك المقدِّر لهذه الثقافة وللأفعال الإيجابية التي تضمنتها. لكن هل يمكن لهذه الأفعال، والحب الملازم لها، أن يعنيا فتح الأبواب أمام التكاثف والعمل الجماعي القائم على احترام الاختلاف؟ من الممكن، على سبيل المثال، قيام مؤسسة "تافل" بتوزيع المساعدات الغذائية على اللاجئين، لتحل بعض المشاكل الموجودة (مشاكل لألمانيا، مشاكل هدر المواد الغذائية، مشاكل الناس الفقراء)، بدون احترام وجود هؤلاء الناس هنا، وبدون تقديرهم تقديرًا إيجابيًّا، بوصفهم بشرًا أندادًا.
أعلم أن الحب يواجه دائمًا خطر أن يُساء فهمه أو يُهمَل ويُتجاهَل. بعض الناس يكونوا مشتبهين ومرتابين: "ماذا تريد منا هذه المرأة؟"، "هل تريدنا أن نتحول إلى المسيحية؟". ويرى ألمانٌ كثرٌ أنني، مثل كل المؤمنين بقيم ثقافة الترحيب، ساذجةٌ. لكن هذه هي المخاطرة أو الأخطار التي علينا مواجهتها، وتحمل مسؤولية النتائج المترتبة عليها. إن مخاطرة أو مغامرة تعرض الحب للرفض، هو ما يفكر فيه المسيحيون في فترة أسبوع الآلام "Passionszeit".
أحاول دائمًا التعبير عن نفسي، في هذا الخصوص، بأوضح صورةٍ ممكنةٍ، للألمان واللاجئين، على حدٍّ سواء. فللألمان، أحاول التشديد على أن ما نفعله في خصوص اللاجئين هو تقديرٌ شخصيٌّ، وللاجئين أقول: "لست قادرةً على حل مشاكلكم، سأحاول أن أكون معكم وأن أقف إلى جانبكم، وللدفاع عن حقوقكم، لكن أنتم من عليكم أن تحيوا حياتكم وفقًا لما ترونه مناسبًا". لا أشعر بأن كثيرين، من الألمان واللاجئين على حدٍّ سواءٍ، يفهمون فعليًّا ما أقوله لهم. وأعتقد أن عملية أو سيرورة الفهم المتبادل، ومعرفة بعضنا بعضًا، وتعلمنا المشترك، كل ذلك وما يشابهه، سيستغرق وقتًا طويلاً.
الرؤية التي أتبناها وأسعى إلى تحقيقها في هذا المجال، تتعلق بالإسهام في بناء مجتمعٍ يحترم الاختلافات الثقافية والدينية، ويقوم على التكاثف والتعاضد فيما بيننا، بوصفنا بشرًا محبين ومحبوبين يعيشون مسؤولية حيواتهم الخاصة ومسؤولية المجتمع والعالم أيضًا. ربما هذا هو الحلم الباقي من مارتن لوثر كينغ.
حسام الدين درويش: إذا وضعنا جانبًا فكرتك عن الله، يبدو لي أنه لا يمكن لاتفاقي معك، وموافقتي على تعريفك للحب، وتجسُّده في مبادرتك/ مبادرتنا "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن"، أن يكونا أقوى من حالهما الآن. في المقابل، لا أعتقد أننا بحاجةٍ إلى الله، لشرح فكرتك عن الحب؛ فالحب هو من يحتاج إلى ناسٍ مثلك، ليتم توضيحه، حتى من قِبًل الله.
أتفق معك، اتفاقًا تامًّا، في خصوص أهمية التكاثف والوجود الإيجابي مع بعضنا بعضًا. وكما قال هايدغر "الوجود الإنساني هو وجودٌ- مع" “Dasein ist Mit Sein”. أن "نكون معًا" ليس أمرًا إيجابيًّا دائمًا بالتأكيد، لكن الحب يجعل دائمًا هذه الكينونة، مع بعضنا بعضًا، خبرةً أفضل بكثيرٍ. الحب ليس كافيًا دائمًا، للحصول على علاقةٍ جيدةٍ مع الآخرين، لكن يمكن للحب عمومًا أن يكون كافيًا في بعض السياقات أو العلاقات. وقد لا يكون الحب شرطًا كافيًا لإقامة علاقاتٍ اجتماعيةٍ متينةٍ وجيدةٍ، لكنه، غالبًا على الأقل، عاملٌ ضروريٌّ في هذا العلاقات، ولقيام هذه العلاقات أصلًا.
وعلى الرغم من اعتقادي أن "الحب الحقيقي" لا ينتظر مكافأة، إلا أنه يمكنني أن أتخيل مدى صعوبة أن يساء الحكم علينا، ويساء فهمنا، من قِبَل الأشخاص الذين عاملناهم بحب وتعاطفٍ. أنا أعلم أنه سبق لك التعرض لهذه الخبرة المؤلمة، لكنني، مع ذلك شعرت بالدهشة أو حتى بالصدمة، حين عرفت منك أنك تعتقدين أن قلةً فقط من الناس الذين تحتكين معهم يفهمون منظورك عن الحب وتعاملك الودي. أعلم أنك ومبادرتك/ مبادرتنا "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن" تستحقان كل ممكنات الحب والاحترام والتقدير. على الرغم من كل ذلك، لا أرى غرابةً كبيرةً في ارتياب كثيرين وتشككهم في خصوصك وفي إساءة فهمهم لك. لا أرى ذلك غريبًا، لأن الناس تميل عادةً إلى الاعتقاد بأن المصلحة الذاتية هي المحرك الأساسي لشخصياتنا وتصرفاتنا. وعلى هذا الأساس، تبدو أفكار "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن" والحب و"ثقافة الترحيب" جيدةً لدرجةٍ يصعب معها تصديقها والاعتقاد بمصداقيتها وواقعيتها. آمل أن تحظي بفهمٍ وتفهمٍ أكبر، بما يسمح لك بأن تحظي بمزيدٍ من الحب والتقدير المستحقين، من الجانبين: من جانب اللاجئين، ومن جانب الألمان، على حدٍّ سواءٍ.
"كيف يمكننا أن نبني معًا مجتمعًا يتضمن احترامًا للآخر (الشخص الآخر، الثقافة الأخرى، الدين الآخر ...إلخ) وللاختلافات والتمايزات بين البشر، بوصفهم جماعاتٍ وأفرادًا وأشخاصًا؟"، هذا هو سؤالك وسؤالنا جميعًا. وأعتقد أن الإجابة العملية عنه قد انطلقت مسبقًا، في ألمانيا، مع قيام ثقافة الترحيب وتجسدها في مبادراتٍ وتنظيماتٍ وأشخاصٍ كثرٍ. لم تكتمل الإجابة حتى الآن بالتأكيد، وربما لن يحصل هذا الاكتمال مطلقًا؛ لكن ممثلي ثقافة الترحيب، ومتبني قيمها، هم على الطريق الصحيح بالتأكيد. النجاح ليس مضمونًا، نظرًا إلى اعتماده على عوامل، كثيرةٍ وكبيرةٍ، ليست مضبوطةٍ أو يصعب كثيرًا ضبطها وتوجيهها. إن الرؤية التي تتبنينها، أو المثل الأعلى الذي تتطلعين إلى تحقيقه، جذَابان جدًّا، وأود كثيرًا أن أكون جزءًا من ذلك المثل الأعلى، من خلال إسهامي في كل جهدٍ يسعى إلى تحقيقه أو الاقتراب ما أمكن منه. ومثل كل مثلٍ أعلى، هذا المثل الأعلى غير قابل لأن يتحقق تحققًا كاملًا بالتأكيد، لكنه يبقى قادرًا على القيام بدور البوصلة أو التوجيه الإرشادي المفيد والضروري.
كورنيليا زِنغ: على الرغم من "وضعك لله جانبًا"، يدهشني ويسرّني دائمًا فهمك الكبير، وفقًا لشعوري، للأفكار المتعلقة بالحب والتقدير التي أتحدث عنها. من منظوري الخاص، إنه أمرٌ وجوديٌّ وأساسيٌّ أن الرب يدعمني في تبني هذه الأفكار والقيم والتنظير لها وممارستها. لم أكن لأكون، أو لأكون على ما أنا عليه، بدون الرب وأفكار يسوع الناصري. لكنني أتفق معك، اتفاقًا كاملًا، في إمكانية "وضع الله جانبًا"، إذا كان غير داعمٍ لي، في هذا النضال من أجل الحب والتكاتف أو التعاضد بين البشر.
هل تذكر حديثنا عما يمكن أن يكون الأسوأ في هذه الحياة؟ لقد اتفقنا حينها على أن الموت ليس أسوأ ما في الحياة. أشعر الآن أن أسوأ ما يمكن أن يكون في هذا الحياة هو أن تكون أنت على حقٍّ، وأن لا يكون هناك ربٌّ لديه اهتمامٌ بالأفكار والقيم المرتبطة بالحب. أنا أحتاج إلى هذا الاتصال مع كلمات الإنجيل، ومع أفكار الناس الذين يعجبونني، أمثال جان فانييه ومارتن لوثر كينغ، من أجل أن أتشجَّع كل يومٍ. لكن، في بعض الأحيان، وعلى الرغم من كل هذه العقائد والأفكار والقيم، أشعر بالإحباط والعجز حين أنظر حولي وإلى العالم عمومًا. إن قرار التحلّي بالثقة والشجاعة والتمسك بقيم الحب والعدالة، كل ذلك وما يماثله هو أشبه بقرارٍ ينبغي لنا اتخاذه يوميًّا. وليس هناك أي ضمانٍ أن تكون نتيجته ناجحةً، أو أن يفضي إلى الحصول على شكر الآخرين وامتنانهم. أنت محقٌّ في ذلك، لكن يبقى النجاح أمرًا مرغوبًا ولطيفًا بالتأكيد.
في بعض الأحيان، يمكن لنا أن نحظى بخبرة هذا الحب الروحاني الأخلاقي. على سبيل المثال، في سهرتي اليوم مع بعض الأزيديين، قال بعض الناس إنهم شعروا بالسلام والأمان خلال ساعات الاحتفال القليلة. الاحتفال الودي مع عددٍ كبيرٍ من الناس المنتمين إلى أديانٍ وأنماط حياةٍ مختلفةٍ كل أنحاء العالم، هو أمرٌ بالغ الإيجابية من منظوري، وأشعر بالامتنان لأنني حظيت بتلك الفرصة، بطريقةٍ تلقائيةٍ وعفويةٍ؛ ولا يمكن عمومًا أن ننال مثل هذه الخبرة بالقسر أو الإكراه. وخبرات الحب هذه تتضمن دائمًا مخاطرةً ما غير محسوبة العواقب.
في هذه الأيام، لدينا مشكلةٌ أخرى: ثمة صراعٌ أو توترٌ مع هؤلاء الأزيديين أنفسهم، الذين لدينا علاقة جيدةٌ جدًّا معهم. لقد أردنا أن نعرض فيلمًا عن قصةٍ في مخيمٍ في العراق. القصة هي عن امرأةٍ أخذتها داعش من أهلها بالقوة، قبل أن يعيدها خطيبها إلى عائلتها لاحقًا. لكن كل المحيطين بها عانوا كثيرًا في التفاعل مع هذا الموضوع. من منظوري، هذه أيضًا قصة حبٍّ مؤثرةٍ جدًّا. إنها تُظهر المشاكل التي يمكن لأية عائلة بشريةٍ أن تواجهها. وأعتقد أنه من المفيد جدًّا أن يشاهد الألمان مثل هذه القصص، ليفهموا الحرب والعنف والظلم الذي عانى منه الأزيديون. لكن أفراد الجماعة الأزيدية المقيمة في فِرمِلسكيرشِن، واتباعًا لتوجيهات قياداتهم، اعترضوا على عرض هذا الفيلم، لأنه لا يُظهر الحقيقة العقائدية التي يودون أن يراها الآخرون. الفيلم يُظهر الوجه الإنساني "العادي" من هذه الجماعة، وليس وجهها الديني. لقد طلبوا مني أن ألغي عرض الفيلم، وإلا فإنهم سيأتون لإيقاف هذا العرض في بدايته. قلت لهم إنني أرحّب بحضورهم، للتحدث إلينا، ولعرض وجهة نظرهم، وللنقاش العلني في هذا الخصوص. للأسف، أخشى أنهم يشعرون أننا، إراديًّا وعن قصدٍ، لم نظهر الاحترام والتفهم والتقدير لهم ولأفكارهم وقيمهم ومشاعرهم.
لست متأكدةً مما ينبغي لي ولنا فعله، في هذا الخصوص؟ هل يجب التمسك بحقنا في عرض الفيلم، حيث يتعلم الأزيديون معنى الديمقراطية وضرورة احترام المنظورات المختلفة، وليتعلموا أيضًا ضرورة أن ينظروا إلى الناس على أنهم بشرٌ بالدرجة الأولى، قبل إظهار انتمائهم إلى هذه العقيدة الدينية أو تلك؟
هذ ما يحصل حاليًّا هنا، إلى جانب محاولات التحدث إلى المسلمين الأتراك المقيمين هنا منذ مدةٍ طويلةٍ. لكن هذا موضوعٌ آخر، وسيكون هذا أحد مواضيع نقاشنا القادم الذي سيتناول أيضًا حامد عبد الصمد وكتابه "الاندماج".
[1] كورنيليا زِنغ "Cornelia Seng" لاهوتية وقسيسة ألمانية والمنسقة العامة والمؤسسة الأبرز لمبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن Willkommen in Wermelskirchen" المجسِّدة لثقافة الترحيب die Willkommenskultur باللاجئين في ألمانيا. وقد جرى هذا الحوار، باللغتين الإنجليزية والألمانية، خلال العام الماضي. ومن المخطط أن يكون النص الحالي جزءًا أو فصلًا من كتابٍ يتضمن حوارات أخرى معها، عن مسائل الاختلاف الثقافي و(سوء) الفهم المتبادل بين الأفراد والشعوب والثقافات والأديان، والاعتراف وقضايا الهوية والانتماء وقيم التسامح والاحترام والحب.