البرهان على وجود الشياطين
فئة : ترجمات
البرهان على وجود الشياطين[1]
ملخص المقال:
يتناول المقال موضوع وجود الشياطين من خلال تأكيده على الوجود اللّغوي/اللساني لمفهوم الشيطان، على اعتبار أن هذا الوجود اللّغوي ليس اعتباطياً، وإنّما وجد للدلالة على شرّ غير مفهوم. وينطلق الكاتب من فلسفة العقل المعاصرة، الماديّة الإقصائيّة، الّتي تُعالج فهمنا المغلوط للكثير من الأمور النفسيّة والذهنيّة من منطلقات علميّة بحثة، إلا أن الكاتب يتجاوز هذه الفلسفة وينتقدها ليعلن في النهاية أن إنكار الوعي والعقل، واعتبارهما مجرد تفاعلات عصبيّة، كما تذهب المادّية الإقصائيّة، لا معنى له؛ لأنه إنكار لوجودنا أصلاً بصفتنا كائنات تمتلك عقلاً وروحاً.
المقال
تُعدّ الماديّة الإقصائيّة (El materialismo eliminativo) من إحدى فلسفات العقل المعاصرة، وهي فلسفة تؤكد أنه بين الدماغ والعقل تنشأ الهُوية الجوهريّة والمطلقة؛ إذ يؤكد مفكرو المادية الإقصائيّة أن التفريق الّذي نعتقده في العادة ما بين العقل والدماغ يرجع إلى اللّغة اليوميّة، الّتي ظهرت وتطورت في حقب زمنيّة كان يُعتقد فيها أن الرّوح مادة منفصلة عن الجسد. وعليه، فإن قول "حبّ" أو "إدراك" هو مثل قول "ارتفاع هرمون الإندورفين في الدماغ" أو "استقبال المحفزات العصبيّة". إننا سنقع في نفس المشكلة المعرفيّة، إذا فكرنا أن "مبتور اليد"[2] و"الشخص الّذي فقد يده" يشيران إلى أمرين مختلفين.
ولهذا، وحتى لا يطول أكثر هذا الخطأ الذي يمنعنا من معرفة أنفسنا، فإن مفكري الماديّة الإقصائية يقترحون حذف كلّ لغة تشير إلى العقل، وتعويضها بمصطلحات تتعلق بالدماغ. وبما أنه لدينا دليل على وجود الجهاز العصبي، فإنه يجب أن نأخذ الأمر مثل تفسير لواقعنا، وبالتّالي ينبغي ترك استخدام لغة تتصور الحواجز، حيث لا توجد هناك حواجز.
هذا القول الذي يبدو في جوهره أمراً جديداً، يدافع عنه أصحابه بكونه ميلاً طبيعياً في الإنسان، الّذي يقطع مع تلك العناصر اللّغويّة حين يكتشف أنّها خاطئة، والمثال الذي يطرحونه هو نوبات الصرع، الّتي كان يُنظر إليها في القديم على أنّها مسّ شيطاني. أمّا اليوم، فتصوراتنا عن نوبات الصرع تغيرت.
غير أن هؤلاء المفكرين تركوا خارج منهجهم سؤالاً عميقاً، وهو ماذا لو كانت الشياطين موجودة بالفعل؟
الشياطين
إذا واصلنا دعوى الماديّة الإقصائيّة، فإننا سنجد أنفسنا ملزمين بجمع اللّغة ومصطلحاتها لكي نضعها على محك الواقع.
حسناً، من جهة، يمكن التّأكيد بوضوح أن الشياطين موجودة، على الأقل ككلمة، والدليل على هذا سيكون حشواً[3] غير ضروري؛ لأننا للتو استخدمنا مصطلح الشياطين.
إذن، بالفعل لدينا وجود لساني للشياطين، وبالتالي نستطيعُ أن نسأل أنفسنا لماذا توجد هذه الكلمة؟ في اعتقادي أننا جميعاً ندرك أن اللغة بناء إنساني صنعته الأجيال المتعاقبة، وليست شيئاً عثرنا عليه. فبمجرد القيام بفعل المحادثة ينكشف لنا الأمر؛ لأن اللغة ولدت كأداة شفهيّة، وتحويلها إلى شيء مكتوب لم يحصل إلا في وقت متأخر من تاريخ البشريّة. حسناً، نمتلك اللّغة التي هي أداة شفهيّة وإنسانيّة. وأعتقد، على العموم، أن لا أحد يستطيع أن ينكر أننا نستخدم اللّغة للتواصل مع البشر الآخرين من أجل أن ننقل إليهم محتوى ما، بيد أن هذا المحتوى الذي تحيل إليه الكلمات يجب أن يكون شيئاً إنسانياً، وإذا لم يكن كذلك فإننا لن نستطيع الحديث عنه. وفي الواقع، عندما نشير إلى كلب، فإننا نتحدث عن كلب رأيناه وتخيلناه وسمعناه ... فدائماً نكون نحن، كائنات إنسانيّة، خلف أفعال لغوية. لا يمكننا الحديث عما هو غير ممكن، عما يتجاوزنا، إلا على أنه تعبير ناقص.
والآن، وبما أن اللّغة هي أداة شفهيّة، وظيفتها هي أن تمكننا من التواصل مع غيرنا من البشر؛ وذلك من أجل العمل على إيصال المحتوى الأنثروبولوجي، فإننا نستطيع أن نحاول استنتاج كيف ولماذا خلق البشر كلمة "الشيطان".
دعونا نفكر في شخص يتعرض للتعذيب والعنف بشكل منهجي من شخص آخر، يمكن أن نتخيل صورة ذهنية للأمر، كيفما كانت مخيفة؛ وذلك إذا وصفوا لنا الطرائق المستخدمة، غير أننا لا نقدر على التفكير أن ذلك واقع. إننا هنا نكون أمام مفارقة يمكن توضيحها كالتالي: هذا الألم، وهذا الضرر، ببساطة، يتجاوز قدرتنا العقليّة، ليس لأننا لا نقدر على تصوره، وإنّما لأن وجوده واقع وحيّ سيدمر عقلنا. والدليل على ذلك أن المشرفون على مراقبة محتوى غوغل بالكاد يستمرون في عملهم ستة أشهر، لكونهم مضطرين لمشاهدة أشرطة تحتوي على قدر كبير من العنف، محتويات وحشية لا تعرف ضوابطاً. لذا، فإن عقلهم، بكل بساطة، يدمر بمجرد إدراك عنف هذه المحتويات إدراكاً مباشراً. هذا هو الشيطان، إنه الشرّ القادر على تدمرينا بمجرّد وجوده. إنه يدمرنا لأنه شرّ عبثي لا يتصور، أعني أنه يتجاوز فهمنا، وروحنا. هذا هو الشيطان إذا شئنا أن نستخدم هذا المصطلح الملعون.
أعتقد، مجدداً، أن لا أحد يستطيع أن ينكر وجود شرور، بمجرد أن يتخيلها شخص ما، يمكن أن يدمر نفسيّاً. هذه الشرور، قديماً، كانت تسمى "الشياطين". تجتمع في نوبة الصرع، الّتي تتناسب مع اسم المس الشيطاني؛ لأن هناك قوّة تسيطر على الضحيّة وتدمره وتخضعه لسلطتها.
قد يقول قائل معترضاً إني أشوه معنى كلمة الشيطان، وإني أقع في خلط سخيف للمفاهيم التّاريخيّة. ومن ثمة، فإن البشر قديماً لم يكونوا يعتقدون بأن الشياطين مثلما ذهبت إليه بالقول، وإنّما كانوا يعتقدون أن وجودهم كان وجوداً حقيقياً لكائنات تمتلك ذيلاً وقروناً، وتعترض على الإله، وتتسلل تحت الأرض. لكن لنأخذ هذه النّظرية كما لو أنها كانت حقيقية، بالرغم من ذلك، سيكون من الواضح لدينا أن مفهوم الشيطان نشأ من الواقع الملموس للبشر، تماماً مثلما نشأت اللّغة؛ ذلك الواقع المركب من الخيرات ومن الشرور المتنوعة. نظريتي هي أنه إذا نشأ هكذا مفهوم للشيطان بصفته وحشاً، فإن ذلك يرجع لملاحظة الشرور التي لا يمكن تفسيرها بمنطق إنساني. فعندما يقتل شعب، أو يموت طفلك، فأي سبب ثابت تستطيع أن تفسر به ما حدث أكثر من كونه فعل قوّة خبيثة تتحكم في البشر؟ سواء كانت بذيل أو لا، أو بقرون أو كانت حمراء، فلن يكون أكثر من تخيل الكلمة. تقنياً: نفس ما يقوم به العلماء عندما يتخيلون نظريّة السببيّة الكبرى للكون، يقترحون القصص، وتخيلات للحدس البدائي. لقد حاول الأشخاص الذين اخترعوا مفهوم الشيطان أن يعطوا اسماً للواقع الجلي الّذي قدم لهم.
لا يمكن دحض الرُّوح
ترتيباً على ما سبق، وبعد أن وضحنا أن الشياطين موجودة، ولعلّ الأمر ليس كما توقع القارئ في بداية المقال، فإنني ملزمٌ باستعادة المادّيّة الاقصائيّة، ما الّذي تقترحه في الحقيقة هذه النّظريّة الّتي تهدف إلى التخلص من الكلمات؟ أساساً، هدف الماديّة الإقصائيّة القضاء على كلّ حقيقة تحاول الهرب من التحليل التجريبي الموضوعي، بمعنى، تسعى الماديّة الاقصائيّة إلى حذف كلّ ما هو خاص بالعقل أو بالروح الإنسانيّة؛ وذلك يرجع لكونها اعتبرت العلم الوضعي للقرن العشرين كما لو أنه حقيقة مطلقة، وكلّ ما يخرج عن التّفسير يجب أن يكون مزيفاً، غير أنه ما لم يؤخذ بالاعتبار هو أن حقيقة العلم، كحقيقة اللّغة، إنّه بناءٌ إنساني. إنه أداة صنعها أشخاص معينون، وتم تعديلها مع مرور الزّمن. والأداة تفترض أن هناك خالقاً لها، وليس العكس. وعليه فالعلم لا يستطيع أن يسيطر على الإنسان، ولا أن يعرفه تماماً، فالحقيقة البسيطة أن العلم جزء من الواقع الإنساني. عندما يغادر العالم عمله الشديد الدقة، ويعود إلى المنزل، فإنه يغضب في السيارة، يحب زوجته، يتذوق الطعام، هذه الحقائق، البسيطة والسطحيّة، تكون واضحة وغير قابلة لأن تختزل في حقيقة "هدف". كما قال رجل عجوز: "هناك حقائق لا فائدة منها"، حقائق لا تكون مناسبة عما نبحث عنه، حقائق تكون متصدعة: فإذا سألني أحدهم لماذا صديقي بيدرو كان غاضباً البارحة، وأجبته لأن فصه القذالي[4] حصل على شحنة عاليّة من الكهرباء، فإن سائلي سيعتبرني أخرقاً.
في الواقع؛ وعلى سبيل المثال، فإن الشعور بالحبّ وإن كان يرتبط بنشاط دماغي أو عصبي، فإن هذا لا يجعلهما متطابقين؛ لأننا ببساطة لا نرى العالم كما هو، بل كما نحن، فنظرتنا للعالم، من منظورنا الخاص، تشكل الواقع. فمثلاً حين أقول أنا واقعٌ في الحبّ، وهذا أمرٌ حقيقي لأنني أشعر بالحبّ، أملك إحساساً بالحبّ؛ أي بالحالة النفسيّة التي تصاحب الشعور بالحبّ.
إذا رفضنا بشكل مطلق هذه التّصورات والأمثلة التي قدمناها في الفقرات السابقة، وذهبنا مع الموقف القائل إن الإنسان مجرد تفاعلات عصبيّة، مثلما يؤكد العلم، فإنه يجب علينا أن نعلن موت الإنسان ونهايته؛ ذلك أنه حتى الفلاسفة الّذين يقولون بالمادّيّة الإقصائيّة يعيشون حياتهم اليوميّة على عكس ما يؤكدونه في نظرياتهم؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يحيا في المختبر، حيث تكون المشاعر مجرد صور باردة وموضوعيّة، فالواقع على خلاف ذلك. ومثلما أن الفيلسوف الشكاك بيرو[5] لم يهرب من الخطر، فإن الفيلسوف الّذي يسعى إلى أن يكون متسقاً، ويتصرف وكأن العقل لا يوجد، أو أنه نفسه هو الدّماغ، ينتهي به المطاف في حالة من عدم التكيف مع الواقع.
ختاماً؛ نستطيع التأكيد أن الشياطين غير موجودة، وأنّها مجرّد أمراض نفسيّة، أو ما شابه ذلك، لكن الواقع أن هناك وقائع إذا استحضرناها دمرت عقلونا لفظاعتها. وبالمثل نستطيع أن نقول إن السعادة مجرد إفراز لهرمون الإندورفين، أو حالة عصبيّة، أو أي تشبيه علمي آخر، لكن ستبقى هناك حقائق تجعلنا نستمر في الحياة ونقاوم.
الخلاصة أن العقل موجود؛ لأننا موجودون، ومن الاستحالة المطلقة أن ننكر وجودنا نفسه.
[1] المقال منشور على الموقع التالي: https://albertowagner.com/demostracion-de-los-demonios
[2] كلمة Manco تشير أيضاً إلى الشخص الذي يفتقر إلى مهارة ما [المترجم]
[3] الكاتب استخدم مصطلح طوطولوجيا، وهو مصطلح إغريقي يقصد به قول الشيء نفسه، ومنطقياً حين تكون النتيجة صحيحة رغم المتغيرات [المترجم].
[4] الفص القذالي هو فص من قشرة الدماغ يقع في مؤخرة الرأس ومن خلاله تتم معالجة المعلومات البصريّة [المترجم].
[5] المقصود هنا الفيلسوف الشكاك بيرو أو بيرون، وهو فيلسوف يوناني توفي عام 270 قبل الميلاد، والذي اشتهر بلامبالاته بالأحداث التي يتعرض لها مهما كانت خطورتها. [المترجم]