البغاء في الحضارات القديمة
فئة : مقالات
البغاء في الحضارات القديمة
أسماء أحمد معيكل
أشار إنجلز في كتابه "أصل العائلة" إلى تفشي البغاء في أثينا ز من ازدهارها، وكانت الدولة تشجعه أو على الأقل تتغاضى عنه، وكان البغاء سبب علوّ المرأة الإغريقية، وكان على المرأة أن تصبح بغيًا أولا، لكي تصبح زوجة. وكانت النساء الإغريقيات يجدن الفرص الكافية لخيانة أزواجهن، كما كان يخجل الرجل من أن يظهر أيّ حب لزوجته، وكان يجد مع عشيقاته كل أنواع المتعة.[1] ويرى إنجلز أن ظهور نظام الزواج الحديث، لم يكن ثمرة للحب كما كان الحال سابقًا، بل هو الشكل الأول للعائلة المبني على أسس اقتصادية وليست طبيعية، وهذه الأسس هي انتصار الملكية الخاصة على الملكية الجماعية الأصلية التي نمت نموًّا طبيعيًا، وقد دفع حكم الرجل للعائلة ورغبته في إنجاب أطفال موثوق من أبوتهم؛ ليرثوه وراء الزواج الذي يعترف به الإغريق، ونظر إليه بوصفه واجبًا تجاه الآلهة والدولة والأسلاف يجب أداؤه. وإلى ذلك، فإن الزواج لم يظهر في التاريخ بوصفه توافقًا بين الرجل والمرأة، بل بوصفه خضوعًا من جنس لجنس آخر، وعبر تأسيس أسرة قائمة على الزواج الأحادي، سيطر الرجال على جنسانية المرأة عبر متطلب الطهارة قبل الزواج.[2]
لم تختف الحرية الجنسية القديمة بانتصار العائلة وفق نظام الزواج الحديث، وكان ذلك في شكل العلاقات غير الشرعية؛ فقد ازدهرت هذه العلاقات بأشكالها المختلفة في ظل المدنيّة، ثم تطورت إلى بغاء علني. و"تعود هذه العلاقات في أصلها إلى الزواج الجماعي والاستسلام الفدائي للنساء (للمرأة) التي باعت حقها في العفة. وقد كان الاستسلام للمال أول الأمر عملًا دينيًا يجري في معبد آلهة الحب، وكان المال يوضع في صندوق المعبد. كانت إماء معبد أناتيس في أرمينيا وإماء معبد أفرودت في كورنث وفتيات الرقص الديني الملحقات بالمعابد في الهند، أول البغايا. وقد كان هذا الاستسلام في الأصل إجباريًا لكل النساء في ظل الزواج الجماعي، ثم أصبحت تمارسه في تضحية تلك الراهبات نيابة عن كل النساء"[3]. وتعد العلاقات غير المشروعة نظامًا اجتماعيًا شأنها شأن أي نظام آخر، وهي "استمرار للحرية الجنسية القديمة لصالح الرجال الذين يمارسونها بأجسادهم ويلعنونها بأفواههم، والحقيقة أن هذه اللعنة لا تمس الرجال وتقتصر على النساء، لكي يؤكد الرجل مرة أخرى سيطرته على المرأة كقانون أساسي للمجتمع"[4].
انتهى إنجلز إثر تتبع دقيق للمراحل التي مرّ بها التطور الإنساني إلى "حقيقة غريبة مؤداها أنها بينما تحرم النساء أكثر فأكثر من الحرية الجنسية، لا يعاني الرجال من هذا الحرمان، فما زال الزواج الجماعي إلى اليوم موجودًا بالنسبة إلى الرجال من الناحية العملية، وما يعد اليوم جريمة بالنسبة إلى المرأة تترتب عليها آثار قانونية واجتماعية خطيرة يعد بالنسبة إلى الرجل شيئًا مشرّفًا أو على الأكثر سقطة خلقية بسيطة يتحمل آثارها في سرور"[5]. وإلى ذلك، فقد تنبّه إنجلز إلى ناحية على غاية من الأهمية، وهي اختلال الموازين مع ظهور الملكية الخاصة التي ابتدعها الذكر، وتهميش دور المرأة، وتقييد حريتها، في مقابل صعود دور الذكر، وازدياد جبروته، وفرض سلطته وهيمنته على كل شيء، ليتمتع بحرية مطلقة، ويحلل لنفسه ما يحرّمه على المرأة التي طواها تحت جناحه، وليبدأ هو بسن القوانين والمبادئ والقيم التي يرتئيها وفق منظوره، ويفرضها على من حوله.
وانتقدت غيردا لينر ما توصل إليه عالم الفيزياء الألماني "إفان بلوخ" في دراسته لتاريخ الدعارة، وأنها تطورت بوصفها فرعًا لتنظيم الجنسانية، فهي تظهر بين البدائيين أينما تقلص الجماع الجنسي الحر أو صار محدودًا. وما هي إلا بديل لشكل جديد من الاتصال الجنسي غير الشرعي والبدائي؛ ذلك أنه على الرغم من صحة ما ذهب إليه، غير أنه لم يشرح الأوضاع التي تنشأ فيها الدعارة وتصبح ممأسسة في مجتمع ما، كما يتجاهل المظهر التجاري للدعارة، ومعاملتها كما لو كانت شكلًا مختلفًا للترتيب الجنسي بين طرفين موافقين.[6] وذهبت لينر إلى القول بأنه لكي نفهم التطور التاريخي للدعارة، نحتاج إلى أن نفحص علاقتها بالقوننة الجنسية للنساء كلهن في الدول القديمة، وعلاقتها باستعباد الإناث. وللوصول إلى هذا الهدف، لا بد من دراسة التفسير الأكثر انتشارًا لأصل الدعارة، وأنها مستمدة من "دعارة الهيكل". وهذا المصطلح يغطي سلسلة واسعة من السلوك والأنشطة، ويشمل شكلين من الدعارة المنظمة، الدينية والتجارية، فقد قادت الدعارة المقدسة، التي وسمت أديان الخصب وعبادة الآلهة، في مجتمع بلاد ما بين النهرين، إلى دعارة تجارية.[7]
اعتقد البابليون القدماء أن الآلهة تسكن فعليًا في الهيكل، وليس كما هي ممثلة رمزيًا هناك، وكان موظفو الهيكل والكهنة والكاهنات من رتب مختلفة، وغيرهم من العمال والعبيد يعملون جميعًا للعناية بالآلهة، فيحضرون لها الطعام ويعزفون الموسيقى، ونظرًا إلى أنهم عدّوا الخصب مقدسًا وجوهريًا لبقائهم؛ فقد تضمنت عنايتهم بالآلهة تقديم خدمات جنسية لها، وهكذا تطورت طبقة منفصلة من عاهرات الهيكل، وعلى ما يبدو أن الخدمة الجنسية للآلهة ولصالحهم عدت مفيدة للناس ومقدسة. وتنوعت الممارسات مع الآلهة في الأمكنة المختلفة، والحقب المختلفة، ثم تلاها في الفترة اللاحقة دعارة تجارية ازدهرت قرب الهيكل أو داخله. ولم يميّز الباحثون في تقصّيهم لهذه المسألة مشيرين إلى نشاط الدعارة هذا باستخدام مصطلح "عبدة الهيكل" من دون تمييز بين الأنماط المختلفة للنساء المنخرطات في النشاط الجنسي الديني أو التجاري[8]. ففي حين كانت الكاهنات اللواتي يشاركن سنويًا في طقس الزواج المقدس مشخِّصات أو ممثلات للإلهة، وكنّ من بنات الملوك والحكام، وهن نظيرات لكبار الكهنة الذكور عند الآشوريين، اعتقادًا منهم بأن خصوبة الأرض تعتمد على الاحتفاء بالقوة الجنسية. وقد تغلغلت الصور الجنسية الغنية بعبادتها للجنسانية والخصب في الشعر، والأسطورة، وتجسدت في التماثيل والمنحوتات، وازدهرت شعائر مشابهة للزواج المقدس أيضًا في اليونان القديمة وروما ما قبل المسيحية[9].
وكانت كاهنات معبد مردوخ في بابل يحتجزن في معتزل خاص بهنّ، وبوسعهن الزواج غير أنه يمنع عليهن الإنجاب، وإذا أرادت الكاهنة أن تقدم الأطفال لزوجها؛ فذلك يكون عبر منحه عبدة أو خادمة هيكل متدنية المرتبة، بوصفها محظية أو زوجة ثانية وفق شريعة حمورابي، وتشير المادة 110 من تلك الشريعة إلى فرض عقوبة الموت على أية كاهنة غير معتزلة، تدخل حانة للشراب، أو تديرها، وكانت الحانة أشبه بمنزل يحتوي على ماخور تتردد عليه العاهرات، ما يشير إلى وجود انحلال في الأخلاق بين الخدم الدينيين، الأمر الذي تطلب تدوين قانون يحول دون ذلك. وإلى جانب كاهنات المعبد، وهو الهيكل المقدس عند الأقوام القديمة، نجد خادماته، ويدعين عبدات الهيكل، والعاهرات المقدسات، وهن من مرتبة متدنية، ومن المرجح أنهن عشن خارج المعتزل، وتزوجن بعد أن أمضين فترة في خدمة المعبد، أو ربما كنّ عاهرات، بينما كنّ في خدمة المعابد الدينية، ويشير توظيفهن من قبل الأغنياء بوصفهن متخصصات بالعناية إلى أن دورهن الاجتماعي لم يكن محتقرًا، ويؤكد ذلك أن الإلهة عشتار نفسها تُدعى في بعض النصوص خادمة هيكل منذورة.[10]
وترجّح ليرنر أنه جرى تطور على أنشطة النساء في خدمة المعابد، وما كان وظيفة دينية تعبدية صرفة في فترة سابقة، صار فاسدًا في وقت ازدهرت فيه الدعارة التجارية في مناطق الهيكل. و"ربما كوفئت ممارسة الجنس مع الغرباء في الهيكل لتشريف خصب الإلهة وقوتها الجنسية كما جرت العادة، بتبرع إلى الهيكل...وإنه لممكن الفهم أن هذه الممارسة أفسدت بعض خدم الهيكل، وأغرتهم لكي يحافظوا على بعض أو كل هذه الهدايا لفائدتهم الخاصة. وربما شُجّع الكهنة أو سمح لهم باستخدام النساء العبدات وخادمات الهيكل من الطبقة الأدنى كعاهرات تجاريات من أجل إغناء الهيكل"[11]. وإلى ذلك، فقد كانت هناك طبقتان من النساء في الهيكل: الأولى كاهنات الهيكل المعتزلات، وكنّ من مرتبة عالية، وبحسب درايفر ومايلز، ربما لم يكن كاهنات، بل مسؤولات يدرن النساء في حريم الهيكل، والطبقة الثانية طبقة من الحريم، كنّ عاهرات مرتبطات بالهيكل، وربما كن بنات النساء المستعبدات. وهذا أدى إلى وجود نوعين من الأنشطة الجنسية في الهياكل أو قربها: شعائر جنسية كانت جزءًا من الطقس الديني، ودعارة تجارية؛ وذلك في منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد. وكان ممارسو الدعارة من الذكور والإناث يُرون حول الهياكل؛ لأن هذا هو المكان الذي يوجد فيه الزبائن، وبذلك تطورت الدعارة التجارية من دعارة الهيكل.[12]
ظهرت في أقدم الوثائق عن المهن في الحقبة البابلية 2400 ق. م كلمة كار. كيد (Kar. Kid) السومرية، وتعني العاهرة، وعلى ما يبدو أن الدعارة كانت من أقدم المهن، وحوت نصوص الألواح الطينية إشارات إلى ربط العاهرة بالحانات؛ فهناك جملة على لسان عشتار تقول فيها: "حين أجلس في مدخل الحانة، أنا عشتار، أنا مومس عاشقة"، وأدّت هذه الإشارات وغيرها إلى ربط عشتار بالحانات والدعارة الطقسية والتجارية. وإلى ذلك، فقد كانت عاهرة الهيكل جزءًا مقبولًا من المجتمع، وكان دورها مشرّفًا. كما اختيرت البغي لكي تحضّر الرجل المتوحش أنكيدو في "ملحمة جلجامش" وتقوده إلى مدينة الحضارة[13]. وإلى ذلك، فقد كان دور البغي ذا شأن عال، فقد تمكّنت من تغيير رتبة أنكيدو من مرتبة الوحش الذي يعيش مع الحيوانات، إلى مرتبة الإنسان الذي يصاحب ملكًا مكتمل الحول والقوة، ولم يُنظر إلى فعلها على أنه فعل إباحي وهتك للجسد وممارسة للعهر، بل كان دورًا حضاريًا بنّاءً أسهم في تهذيب الإنسان وارتقائه في سلم الحضارة.
وقادت الفتوحات العسكرية في الألفية الثالثة قبل الميلاد إلى استرقاق النساء الأسيرات، واستغلالهن جنسيًا، بعد أن صارت العبودية مؤسسة قائمة بذاتها، فصار مالكو العبيد يؤجّرون الإناث المستعبدات بوصفهن عاهرات، وبنى بعضهم مواخير شغّلتها المُستعبدات، ولعل استرقاق النساء يكمن وراء نشأة الدعارة التجارية، إضافة إلى أن إفقار المزارعين واعتمادهم على القروض، لينجوا من فترات المجاعة، قاد إلى عبودية الدَّين، وكانوا يضطرون إلى منح أطفالهم بوصفهم رهون دين، أو يبيعونهم من أجل التبني، الأمر الذي أدى إلى نشوء دعارة أعضاء الأسرة الإناث لفائدة ربّ الأسرة، فغالبًا ما ينتهي مصير الإناث اللواتي باعهن آباؤهن بوصفهن عبدات إلى عاهرات، وبذلك تأسست الدعارة في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، بوصفها مهنة محتملة لبنات الفقراء[14]. وأدى رسوخ تنظيم نساء الطبقات المالكة إلى النظر إلى عذرية البنات المحترمات، باعتباره رصيدًا ماليًا للعائلة، ومن هنا صارت الدعارة التجارية ضرورة اجتماعية لتلبية الحاجات الجنسية للرجال. وأما التمييز بين النساء المحترمات وغير المحترمات ففسره القانون الآشوري رقم 40 الذي نص على قواعد ارتداء الحجاب، للتمييز بين النساء وفقا لأنشطتهن الجنسية؛ إذ حرّم ارتداء الحجاب على النساء اللواتي لسن تحت حماية رجل واحد، وسيطرته الجنسية، وصنّفن على أنهن "نساء عامات". وأما النساء المقيمات في المنزل، ويخدمن رجلًا جنسيًا واحدًا، وهن تحت حمايته، فحددن على أنهن "محترمات" وعليهن ارتداء الحجاب، بغض النظر عن كونهن حرات أو غير حرات.
أسس القانون الآشوري رقم 40 نظام مراتب للنساء، فجاءت في منزلة "المحترمات" السيدة المتزوجة وابنتها غير المتزوجة في القمة، وتلتها المحظية المتزوجة، سواء أكانت حرة بالولادة، أو عبدة، أو عاهرة هيكل، وفي الأسفل في منزلة "غير المحترمات" وضعت عاهرة الهيكل غير المتزوجة، والمومس، والمرأة المستعبدة. ومن الواضح هنا، خفض منزلة عاهرة الهيكل غير المتزوجة والمعزولة والمنذورة ومساواتها بالعاهرة التي تتاجر بجسدها؛ إذ لم تعد الطبيعة المقدسة لخدمة الهيكل الجنسية العامل الحاسم، وصار ينظر إليها بالطريقة نفسها، مثل العاهرة التجارية. وصار الفيصل في ذلك هو الامتياز الطبقي؛ فـ "النساء المحترمات" يحميهن الرجال، و"النساء سيئات السمعة" في الشارع غير محميات من قبل الرجال، وحرّات في بيع خدماتهن.
وكانت شريعة حمورابي بداية مأسسة الأسرة الأبوية، بوصفها مظهرًا من مظاهر سلطة الدولة، وعكست مجتمعًا طبقيًا اعتمدت فيه مكانة المرأة على المرتبة الاجتماعية، وملكية رب الأسرة الذكر. وبناء عليه، فقد تتغير منزلة المرأة من محترمة إلى عاهرة أو العكس، كما أن السلوك الجنسي لامرأة متزوجة مثل ممارسة الزنا، أو فقدان العذرية يمكن أن يخفضا مرتبتها طبقيًا، بينما يقبع الرجل بنشاطه الجنسي بعيدًا عن هذا التصنيف، وهذا مستمر إلى الزمن الحالي[15]. وألمح أفلاطون في الكتاب الخامس من "الجمهورية" على لسان سقراط إلى أنه "في المدينة المكرّمة تكون الدعارة شيئًا غير مقدس، سيمنعها الحكام"، والبديل الذي يقترحه أفلاطون هو ترتيب زواج "يكون طاهرًا في أعلى درجة، وسيعتبر طاهرًا ما هو الأكثر نفعًا"[16]. والأنفع هو التوافق في طبائع الزوجين.
[1]- إنجلز، فريدريك: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، تر: أحمد عز العرب، دار الطباعة الحديثة، ص59
[2]- المرجع نفسه: ص57، 59-60
[3]- المرجع نفسه: ص61
[4]- المرجع نفسه: ص62
[5]- المرجع نفسه: ص70
[6]- لينر، غيردا: نشأة النظام الأبوي، ترجمة أسامة إسبر، مراجعة: الأب بولس وهبة، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2013، ص ص243-244
[7]- المرجع نفسه: 245-246
[8]- المرجع نفسه، ص247-248
[9]- المرجع نفسه، ص248، 250
[10]- المرجع نفسه، ص252-253-254
[11]- المرجع نفسه، ص256
[12]- المرجع نفسه: ص ص256-257
[13]- المرجع نفسه: ص258-259-260
[14]- المرجع نفسه: ص262
[15]- المرجع نفسه: ص267-268، 272.
[16]- أفلاطون: المحاورات الكاملة: الجمهورية، تر: شوقي داود تمراز، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994، ص237