التاريخ والوعي بالتاريخ في "شروط النهضة" لمالك بن نبيّ
فئة : مقالات
التاريخ في مشاريع النهضة العربيّة بين وحدة المرجع وتعدّد الرؤى:
للتاريخ حضور واضح في مشاريع المفكّرين العرب المحدثين والمعاصرين على اختلاف مشاربهم، يُحيل عليه كلّ واحد منهم، ويختار منه ما يوافق رؤيته ويخدم مشروعه. فما من داعية أو مصلح أو صاحب تيّار إلاّ وله من التاريخ موقف، ولأبرز أحداثه ووقائعه تأويل، ولبعض شخصيّاته ميل. نعم، لقد كان التاريخ من رهانات الفكر العربيّ، في ضوئه تُضبط البرامج وتُصاغ المشاريع، وانطلاقًا منه تُثار أمّهات القضايا التي يدور عليها هذا الفكر، من نحو أسئلة النهضة والتقدّم والتراث والمعاصرة والهويّة والديموقراطيّة وأشكال الدولة والحكم. فما من متحدّث في هذه القضايا وغيرها، إلاّ وله تمثّل للتاريخ معيّن، ورؤية يصدر عنها في أفكاره وما يقترحه من حلول للمشاكل التي يتخبّط فيها الواقع العربيّ.
وإذا كانت العودة إلى التاريخ والاستشهاد بأحداثه والتذكير بقيمته، وما يمكن أن يستخلص منه من عبر ودروس تفيدنا في بناء الحاضر وتحقيق التقدّم، إذا كان ذلك ممّا يشترك فيه المفكّرون العرب، فإنّ في الوعي بالتاريخ وفي كيفيّة رؤيته وتأويله اختلافاً يمكن أن نفسّر به إلى حدّ بعيد الصراعات الفكريّة التي تعتمل في الساحة العربيّة منذ نهاية القرن التاسع عشر، تُفصح عنها تيّارات الفكر العربيّ المتنوّعة تنوّعًا بات من المتعذّر معه الإحاطة بها والقدرة على تصنيفها على النحو الذي يُظهر ما بينها من تقاطع واختلاف. نعم، إنّ جزءًا كبيرًا من ذلك الصراع وتلك الاختلافات الفكريّة يرجع إلى ما بين المفكّرين العرب من اختلاف في الوعي بالتاريخ، وفي الكيفيّة التي يتمثّل بها كلّ واحد منهم التاريخ في حركته وسيرورته وطبيعة العلاقة التي تربط بين أزمنته الثلاثة، والعوامل المحرّكة له، والأطراف الفاعلة فيه.
من هذا المنظور حاولنا أن ننظر في كتاب مالك بن نبيّ الموسوم بـ "مشكلات الحضارة: شروط النهضة" (ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين،دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق، 1986) الذي قدّم فيه كسائر المفكّرين العرب الذين شغلهم سؤال النهضة جملة من المقترحات والحلول، كانت ثمرة نظر وتدبّر في تاريخ المسلمين وتاريخ الشعوب وحصيلة قراءات لأعمال من المفكّرين والفلاسفة والمؤرّخين حاولوا بدورهم الكشف عن العوامل تسهم في قيام الحضارة وتقدّم الشعوب. وهذا ما يفسّر كثافة حضور التاريخ في كتاب ابن نبيّ حضورًا لا يعنينا كثيرًا تعقّب حضوره، بقدر ما يهمّنا في هذا المقال النفاذ إلى الرؤية التاريخيّة التي صدر عنها ابن نبيّ، وهو ينظر في أحداث تاريخ الشعوب قديمها وحديثها.
شروط النهضة عند مالك ابن نبيّ:
نظر في التاريخ ورؤية له في آن معًا
لقد مثّلت قضيّة الحضارة نشأة وتكوّنًا وتطوّرًا وأفولاً المسألة الأمّ التي يدور عليها كتاب "شروط النهضة" لمالك بن نبيّ؛ فقد كان هاجس هذا المفكّر الجزائريّ البحث عن الكيفيّة التي تتشكّل بها الحضارات والتقاط العوامل المسهمة في انبعاثها وانبنائها، وهو سؤال يعترف ابن نبيّ بأن الكثير من المفكّرين العرب المنشغلين بقضيّة النهضة قد سبقوه إلى إثارته، وقدّموا بشأنه حلولاً لم تكن على كثرتها ناجعة، ولم تفض في تقدير ابن نبيّ إلى بناء نهضة عربيّة حقيقيّة. وعلّة ذلك، ترجع إلى أنّ هؤلاء لم يتّجهوا رأسًا إلى معالجة المرض الذي تعاني منه البلاد العربيّة، واكتفوا في المقابل بعلاج أعراض ذلك المرض. فضلاً عن ضيق الزاوية التي نظر منها كلّ واحد من هؤلاء المصلحين إلى ذلك المريض المتمثّل في البلاد العربيّة. فبقيت المشكلة قائمة والنهضة مشروعًا لم يتحقّق، يقول ابن نبيّ: "فكلّ قد وصف الوضع الراهن تبعًا لرأيه أو مزاجه أو مهمّته. فرأي رجل سياسيّ كجمال الدين الأفغانيّ: أنّ المشكلة تُحلّ بوسائل سياسيّة، بينما رأى رجل دين كالشيخ محمّد عبده أنّ المشكلة لا تُحلّ إلاّ بإصلاح العقيدة والوعظ، على حين أنّ كلّ هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض، بل يتحدّث عن أعراضه" (شروط النهضة، 41).
فلا الإصلاح السياسيّ بقادر على تحقيق النهضة، ولا الإصلاح الدينيّ بقادر على وضع حدّ لحالة المرض التي تعيشها البلاد العربيّة. وهذا ما دفع ابن نبيّ إلى أن يعيد البحث من جديد عن المسالك الصحيحة التي تُبنى عبرها صروح الحضارات، منطلقًا في ذلك من رؤية للحضارة تجمع بين المجالين المادّي والروحيّ، رافضًا الاتّجاه الذي يكتفي أصحابه بالدعوة إلى تكديس مُنتجات الحضارة الغربيّة حلاًّ لتحقيق النهضة العربيّة، منبّهًا إلى أنّ مثل هذا التصوّر لا يمكن أن يكون سبيل العالم الإسلاميّ الحديث إلى بناء حضارة فاعلة في التاريخ، مخطّئًا من يقول بأنّ "من الواجب لكي ننشئ حضارة أن نشتري كلّ منتجات الأخرى" (نفسه، ص، 43)؛ فنقل الحضارة واشتراؤها من الأمم الأخرى أمر مستحيل كيفًا وكمًّا. والمقصود بالاستحالة الكيفيّة "أنّ أيّ حضارة (...) لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها وثرواتها الذاتيّة وأذواقها. هذا الحشد من الأفكار والمعاني التي لا تلمسها الأنامل، والتي توجد في الكتب أو في المؤسّسات. ولكن بدونها تصبح كلّ الأشياء التي تبيعنا إيّاها فارغة دون روح وبغير هدف" (نفسه، ص، 43). أمّا الاستحالة من جهة الكمّ، فالمراد بها استحالة بناء حضارة استنادًا إلى تكديس منتجات حضارة أخرى، لأنّ الثمرة التي سيجنيها المكدّسون "حضارة" عديمة الروح فاقدة الإحساس، وهذا هو الخطأ الفادح الذي ارتكبه العالم الإسلاميّ في محاولاته الفاشلة على امتداد نصف قرن في نقل منتجات الحضارة الغربيّة. يقول ابن نبيّ موضّحًا هذا الوجه من الاستحالة وما ترتّب عليه من نتائج: "فليس من الممكن أن نتخيّل العديد الهائل من الأشياء التي نشتريها، ولا أن نجد رأس المال الذي ندفعه فيها. ولئن سلّمنا بإمكان هذا، فإنّه سيؤدّي قطعًا إلى الإحالة المزدوجة. فينتهي بنا الأمر إلى ما أسمّيه بالحضارة الشيئيّة إلى جانب أنّه سيؤدّي إلى تكديس هذه الأشياء الحضاريّة. ومن البيّن أنّ العالم الإسلاميّ يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة" (نفسه، ص ص، 43-44).
وقد استبدل ابن نبيّ فكرة البناء والتركيب بفكرة التكديس، واعتبر أنّ التحاق العالم الإسلامي بركب الحضارة الحديثة دونه مهمّة لا بدّ أن يقوم بها المسلمون تتمثّل في تركيب الحضارة وبنائها، وهي مهمّة لا يمكن تحقيقها، إلاّ إذا عرف المسلمون - على غرار ما يقوم به الكيمياويّ في مخبره - مكوّنات التركيبة الحضاريّة، وحلّلوها مكوّنًا مكوّنًا. من هذا المنظور رأى ابن نبيّ الحضارة نتاج تركيبة ثلاثيّة المكوّنات: إنسان + تراب + وقت. ومن هذا المنظور دعا ابن نبيّ إلى أن نحلّ المشاكل التي يثيرها كلّ مكوّن من هذه المكوّنات، واعتبر حلّ مشكل الحضارة عندنا رهين حلّ مشاكل تلك المكوّنات. "فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدّس المنتجات، وإنّما بأن نحلّ هذه المشكلات الثلاثة من أساسها" (نفسه، ص، 45).
وإذا كان ابن نبيّ يعتبر تلك المكوّنات الثلاثة الموادّ الأساسيّة التي تُبنى منها الحضارة، فإنّه ينفي عن هذه المكوّنات القدرة على التفاعل فيما بينها تفاعلاً تلقائيًّا لإنتاج الحضارة، ويقول بضرورة وجود عامل "يؤثّر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض" (نفسه، ص، 46) على النحو الذي يجري في التفاعلات الكيميائيّة الحيويّة. وهذا العامل "هو الفكرة الدينيّة التي رافقت دائمًا تركيب الحضارة خلال التاريخ" (نفسه، ص، 46). وهذا ما حاول ابن نبيّ أن يقيم البرهان على صحّته في الفصل الموسوم بـ"أثر الفكرة الدينيّة في تكوين الحضارة" (ص ص، 61-72)، وهو فصل استعرض فيه آراء عدد من الفلاسفة والمؤرّخين من مثل: ابن خلدون، وتوسيديد، وجيزو، وماركس، وهيجل، وسبنجلر، وتوينبي...الخ، حول كيفيّة نشوء الحضارات وأفولها والعوامل المساعدة على بنائها، مناقشًا التفسيرات التي قدّمها كلّ واحد منهم، ومبيّنًا عجزها عن تفسير الظاهرة الحضاريّة، مُنتهيًا في آخر الفصل إلى بيان "نظريّته" في الحضارة القائمة على الفكرة الدينيّة عاملاً أساسيًّا وفاعلاً فسّر به ابن نبيّ قصّة الإنسان مع الحضارة وجودًا قبلها ودخولاً إليها وخروجًا منها، وهذا ما يفصح عنه قوله: "فدورة الحضارة إذن تتمّ على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينيّة معيّنة (...). كما أنّها تنتهي حينما تفقد الروح نهائيًّا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح (...). وقبل بدء دورة من الدورات أو عند بدايتها، يكون الإنسان في حالة سابقة للحضارة. أمّا في نهاية الدورة، فإنّ الإنسان يكون قد تفسّخ حضاريًّا وسلبت منه الحضارة. فيدخل في عهد ما بعد الحضارة" (نفسه، ص، 46).
فالدين وفق هذه التصوّر شرط انبعاث الحضارة، إذا ظهر كانت، وإذا غاب انعدمت. فابن نبيّ يعتقد أنّ لكلّ حضارة أصلاً دينيًّا هو الذي يفسّر قيامها وازدهارها؛ "فالحضارة لا تظهر في أمّة من الأمم إلاّ في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجًا (...). فكأنّما قدر الإنسان ألاّ تشرق عليه شمس الحضارة إلاّ حيث يمتدّ نظره إلى ما وراء حياته الأرضيّة أو بعيدًا عن حقبته" (نفسه، ص، 51). وواضح أنّ ابن نبيّ يقيم تلازمًا بين التديّن والتقدّم من جهة، وبين "الكفر" والتدهور من جهة ثانية، وهو ما سيقوده إلى فكرة خطيرة تتمثّل في إخراج مجتمعات كثيرة من دائرة التاريخ وتجريدها من صفة التحضّر، لا لشيء إلاّ لأنّها لم تعرف وحيًا من السماء؛ فالعرب قبل الإسلام لم يعرفوا حضارة. و"جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلاّ شعب بدويّ يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع بها" (نفسه، ص، 51). ومكونّات الحضارة الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت كانت قبل الإسلام راكدة، لا يمكن أن تفعل فعلها وتتفاعل فيما بينها كي تنتج حضارة. وعجلة التاريخ واقفة لم تتحرك إلاّ حين تدخّلت السماء و"تجلّت الروح بغار حراء"، وهبط الوحي على الرسول محمّد؛ " فمن تلك اللّحظة وثبت القبائل العربيّة على مسرح التاريخ، حيث ظلّت قرونًا طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة وتقوده إلى التمدّن والرقيّ" (نفسه، ص، 51).
فالتاريخ عند ابن نبيّ مراوحة بين مدنيّة تحدث بفضل وحي يهبط فجأة من السماء، وتدهور تسقط فيه المجتمعات حين يغيب الدين. أمّا حركة التاريخ وتقدّمه، فيقومان عند ابن نبيّ على الطفرة لا على التراكم، وتلك الحركة في تصوّره تحدث فجأة، ولا تحصل بالتدريج، ولا تحتاج إلى ما يهيّئ لوقوعها. وقد عبّر ابن نبيّ عن هذه الحركة المفاجئة في التاريخ "بالوثبة"، وعبّر عنها "بشرارة الروح" التي تمسّ أولئك الناس البسطاء؛ أي الأنبياء، باعتبارهم الفاعلين في التاريخ، تختارهم السماء وتمسّهم شرارة الروح "وتتمثل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة" (نفسه، ص، 52). أمّا بقيّة الناس، فلا يد لهم في صناعة التاريخ ودفع عجلته نحو الأمام، ولا دور لهم يذكر في بناء الحضارة.
على هذا النحو حمل كتاب "شروط النهضة" في طيّاته تصوّرًا لبناء الحضارة صدر فيه ابن نبيّ عن رؤية للتاريخ لا ترى فيه تقدّمًا وحراكًا، إلا إذا توفّر الدين وحرّك تلك المكوّنات الثلاثة التي تنتج الحضارة. وفي ذلك تهميش واضح لعوامل أخرى يمكن أن تفعل فعلها في التاريخ وتكون سببًا من أسباب تقدّم الحضارات من نحو العوامل السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة. وهذه الرؤية التاريخيّة التي انطوى عليها هذا الكتاب، إذ تحصر العوامل الباعثة على نشوء الحضارة في الدين، فإنّها أيضًا تحمل نظرة ضيّقة للدين وللتديّن عمومًا. ذلك أنّ ابن نبيّ يحصر الظاهرة الدينيّة في الأديان السماويّة، بل هو يجعل من المسيحيّة والإسلام أنموذجًا على المدنيّة، في ضوئه تقاس المدنيّات الإنسانيّة، منتهيًا إلى القول في اطمئنان واضح وتقرير ثابت: "ومن هنا نستطيع أن نقرّر أنّ المدنيّات الإنسانيّة حلقات متّصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدنيّة الإسلاميّة والمسيحية، إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينيّة. ثمّ يبدأ أفولها بتغلّب جاذبيّة الأرض عليها، بعد أن تفقد الروح، ثمّ العقل" (نفسه، ص، 53).