التحديث والثورة: "تحديث العقل العربي" لحسن صعب
فئة : قراءات في كتب
يعتبر كتاب "تحديث العقل العربي" من الكتب التي تدخل في عملية النقد الذاتي التي يمارسها هذا العقل "العربي" على نفسه، إيمانًا منه بأنّ عملية بناء العقل، المنطق، الثقافة، الفكر، تبدأ من النقد الذاتي الذي يمارسه العقل على تجلياته في مختلف المستويات من خطاب "اللغة" إلى سلوك "الأخلاق" إلى الممارسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية...إلخ، ولأنّنا لا نشكّ لحظة في قيمة العقل - الفعالية - ولأنّنا نعتقد بأنّ النهضة تبدأ من تفعيل هذا العقل من خلال نقده وتحريره ومنطقته من خلال تجلياته المختلفة والمتنوعة من تصورات وتمثلات وتمفصلات إزاء الوجود الحقيقي عبر مظاهره اللانهائية، وعندئذ نحاول من خلال هذه القراءة التعريف بالكتاب وبأفكاره وأهدافه وبمشروعه وبالآفاق التي تولّدت من خلال مناطحة منهجية لأفكار متنوعة كلّها تصبّ في إطار تحديث العقل العربي، والكتاب من تأليف حسن صعب، بعنوان "تحديث العقل العربي ...دراسات حول الثورة الثقافية اللازمة للتقدم العربي في العصر الحديث"، صادر عن دار العلم للملايين للنشر - بيروت.لبنان - في طبعته الثالثة - أكتوبر 1980 - وهو يحتوي على ستة فصول يسبقها استهلال، وعدد أوراقه 232 صفحة من الحجم المتوسط.
والدكتور حسن صعب باحث لبناني يلقب بالمفكر الإنمائي من خلال تبنّيه لشعار "إنماء الإنسان، كلّ إنسان وكلّ الإنسان"، يعرف عليه انتقاله من مجال فكري إلى آخر بداية من الدراسات الدينية إلى الآداب ثم السياسة والإعلام وبعدها الإنماء فالثقافة، له العديد من المقالات والمصنّفات والأبحاث أهمها كتاب "تحديث العقل العربي".
أمّا الكتاب الذي هو موضوع هذا المقال فإنّه يهدف إلى تبيين مكانة العقل العربي ودوره في صناعة الحضارة الإنسانية وبحث السبل والمخارج التي تؤول به إلى مكانته الحقيقية - الريادة - كما كان سلفًا، ثم إثارة النقاش كذلك، في حالة العقل العربي وواقعه وما يعانيه من تراجع رهيب طوال سنوات عديدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سعي منه إلى لفت الانتباه بخصوص إمكانيات العقل العربي للتقدم ومسايرة العصر، وقدرته على تخطّي واقعه من خلال الإيمان بالإنسان والعلم والعودة من جديد إلى الطاقة الإبداعية التي هي خاصية كامنة في العقل العربي والتاريخ والحضارة، والثقافة العالمية تشهد على إيضاءاته الخالصة وعلى تنويراته الهامة.
إنّ النسق العام الذي ينتمي إليه هذا الكتاب "تحديث العقل العربي" هو نقد العقل العربي بالمعنى الواسع لهذه الكلمات، ذلك أنّ فصول الكتاب ومحتوياتها لا تعدو أن تكون سوى قراءة مغايرة لواقع هذا العقل العربي سواء بمقارنته بالعقل الغربي من جهة أو بمقاربته بالعقل العربي الإسلامي الكلاسيكي من جهة ثانية.
لقد شمل كتاب "تحديث العقل العربي" مجموعة من الرؤى بخصوص جملة من الحواجز التي تعيق عملية إعادة البناء "تحديث" العقل العربي في ميادين عديدة أهمها اللغة "جدلية الفكر والكلام"، والجانب الأخلاقي، وكذلك الاجتماعي الأنثروبولوجي البنيوي، وكذلك العمل السياسي "القيادي" وصولاً إلى الدور الذي يلعبه الإعلام في دفع حركة التحضر والتقدم والرقي.
يطرح صاحب الكتاب - حسن صعب - مجموعة من الأسئلة التي كان يرى فيها الدافع المحرّك للكتابة في هذا الموضوع، ومن بين ما طرحه من أسئلة رئيسية تمثل صلب الموضوع وجوهره، ذلك التساؤل الذي كان على شاكلة "كيف نستطيع أن نحقّق هذا التحديث؟" وهو سؤال منهجي بنكهة إستراتيجية، ذلك أنّ صاحب الكتاب يعلم كفاية بأنّ العقل العربي له القدرة الكاملة على التحديث، لكن في الوقت ذاته يعي بأنّ مشكلته تكمن في الكيفية التي بها يستطيع تحقيق هذا التحديث، ولهذا يركّز كثيرًا "حسن صعب" على سؤال المنهج باعتباره من الأسئلة الصميمية لتجاوز حالة التخلف والتراجع والتقهقر التي أصابت هذا العقل العربي لسنوات ليست بالقصيرة.
يعتبر كتاب "تحديث العقل العربي" من الكتب القيمة والبارزة في الفكر الفلسفي النقدي العربي الإسلامي، إذ يحاول الكاتب من خلاله الوقوف على مجموعة من القراءات التي تساعد على تحريك دائرة التحديث لهذا العقل العربي، ومما لا شك فيه أنّ كتابًا بهذا الوزن لا يمكن تلخيصه إلى عدد محدود من الأوراق، وإنّما محاولة منا للفت الانتباه إلى أهم ما جاء في هذا المؤلف بغية العمل في مناسبات لاحقة على نقد هذه الأفكار وتقويضها ومحاولة توسعتها أكثر عمليًّا ونظريًّا واستكمال الجهود التي جاء بها حسن صعب من خلال كتاب تحديث العقل العربي لمَ لا؟.
يحاول "حسن صعب" في هذا الكتاب البحث عن السبل العملية التطبيقية الفعلية - تجاوز الطرح النظري المجرد - التي تخرج بهذا العقل من دائرة التأزم والرجعية التي يعانيها هذا العقل "العربي" ومجتمعات هذا العقل منذ أن فتح عينيه على تقدم الآخر، ذلك الآخر الذي أصبح يفرض نوعًا من الصراع الحضاري الذي يحفّز العقل العربي لبلوغ ما يسمى بالحداثة أو تجاوز السلبيات التي أنتجها العقل الغربي نحو التأسيس لمجتمع ما بعد حداثي فيه من قيم الحرية والأنسنة والديمقراطية والعدل ما يجعله قادرًا على مواجهة كلّ أنواع التبعية والاستعمارية الفكرية "وقد ولدت في التاريخ نهضات وحركات جديدة لدى الشعوب والأمم التي هزها اليأس من واقعها الذي كشفه تفوّق الآخرين أو تغلبهم عليها. فلحظات اليأس هذه هي لحظات الولادات الجديدة في تاريخ الأمم والشعوب، والنهضة الأوروبية الحديثة، التي أفضت بالإنسان إلى القمر، هي ابنة لحظة من لحظات اليأس في التاريخ الأوروبي"([1]) وهذا ما يعيشه العقل العربي بالتحديد، بحيث لا يمكننا بأيّ حال من الأحوال البقاء على هامش الواقع والحياة، والآخر يصنع وينتج ويعمل ويحدّد المصير، ولهذا لا غرابة ولا هوادة أيضًا في المناداة بصوت مرتفع بتحديث العقل العربي ونقده نقدًا يخدمه لإنقاذ نفسه من سبات أصبح يهدّد الأنا من العمق والجوهر، ويتضح لنا جليًّا ما يحدث من أزمات ومشاكل اجتماعية ونفسية واقتصادية كلّها راجعة إلى الوضع الذي هو عليه الآن العقل العربي. وفي هذا أيضًا دافع حقيقي لتحديث هذا العقل العربي بغية الخروج من كل هذه الأزمات والمشاكل التي علقت بالإنسان العربي، أي كلّ إنسان عربي "ونحن على يقين أنّه مادام لنا أصل الشجرة، فلابدّ لنا أن نبلغ فروعها المتسامية في الفضاء. وكما صنعنا الحضارة بالأمس فسنعود لصنعها في الغد. وكما قدمنا العلم بالأمس فسنعود لتقديمه في الغد"([2]).
إنّ تحديث العقل العربي يفرض من بين ما يفرضه وجود منهجية حديثة وأدوات نظرية فكرية وعملية ووسائل حديثة وسلوك حديث ونظرة حديثة، إذ من غير الممكن الحديث عن تجديد "العقل العربي" أو تحديثه مع الحفاظ على الأسباب والمقدمات نفسها، فتحديث العقل العربي هو نتيجة وليس مقدمة في ذاته، وبهذا الشكل لابدّ - ضرورة - من وضع منهجية سليمة نراعي فيها كلّ سبل التحديث من فحص شامل للتراث إلى الإيمان بالصرامة العلمية - التجريبية العلمية - "إنّ العرب الذين يتباهون بأنّهم أدخلوا الروح العلمية واستبقوا المنهجية التجريبية في أوروبا منذ القرن الثالث عشر، عليهم أن يدخلوا هذه الروح وأن يعتمدوا هذه المنهجية في النصف الثاني من القرن العشرين في ديارهم"([3]) وصولاً إلى تمحيص الثقافة العربية بأكملها في تجلياتها الفنية والجمالية واللغوية والدينية والتاريخية، إذ إنّ الاستشكال الجوهري والرئيسي الذي يحاول - حسن صعب - من خلال كتابه تحديث العقل العربي الإجابة عليه أو لنقل إثارته وبعثه - الفلسفة سؤال ينتهي بسؤال - يتمثل بالأساس في" كيف نستطيع أن نحقق ذلك التحديث؟". وليس كما يطرحه عديد المفكرين على صيغة "هل يمكن تحديث العقل العربي أم لا؟".
ذلك أنّ العقل العربي عبر مساره التاريخي الطويل أثبت قدرته على تحديث نفسه بنفسه، فالعقل العربي ينبغي عليه الانتقال من صناعة الكلمات إلى صناعة الأشياء، وهذا نفسه ثورة على قيم الثقافة التي أنتجها العقل العربي - الما قبل حديث - فالانتقال من صناعة الكلمة إلى صناعة الشيء هو ذاته تحويل الثقافة العربية من ثقافة الشعر إلى صناعة الفكر والعلم والتكنولوجيا، فالعالم الآن يتكلم لغة العلم، ويتنفس العلم ذاته، ويحيا بالعلم ويستمر ويتقدم ويرقى بالعلم، "والتحوّل الثوري المنشود لدينا هو التحوّل من صناعة الكلمات إلى صناعة الأشياء ونحن قادرون على هذا التحول لأنّ العقل لدى كلّ إنسان تبهره قبل أن تجذبه الكلمات"([4])، والانتقال من لغة - ثقافة - الشعر إلى لغة العلم - التكنولوجيا - ليس كافيًا فقط لصناعة هذا التحديث "العقل العربي"، إذ ثمّة عديد من التحديثات الأولية التي تسبق تحديث العقل العربي أبرزها التركيز على الإنسان "الأنسنة" باعتباره الثروة التي تنتج كلّ الثروات، وباعتباره أيضًا الثروة الأسمى، كيف لا والإنسان يمثل جزءًا من اللوغوس الكلّي للمجتمع وللثقافة وللفكر. إنّه العقل الذي يبدع "ينتج ويفكر" دومًا بغية خدمة المجال الفكري والاجتماعي - المخيال - الذي ينتمي إليه مجبولاً مفطورًا على الإخلاص لأصله، ثم ضرورة الإشارة إلى خطورة التبعية الفكرية والابتعاد عن الاجترار والتقليد والتعلّم من تجارب الآخرين تعلمًا إبداعيًّا، ويعتبر حسن صعب تبني المنهج العلمي - التجريبية العلمية - أمرًا وخطوة غاية في الأهمية ذلك أنّ المنهج التجريبي العلمي بيّن منذ أن تمّ توظيفه في العلم نجاحاته و"صرمديته.موضوعيته.عقلانيته"، وكذلك التركيز على الجانب التنظيمي المنطقي العقلاني الذي أضحى يمثّل واحدة من أمتن الحلقات في الحفاظ على تماسك سلسلة الفكر والثقافة والعقل. ثمّ وجوب الاعتراف بأنّ كلّ هذا ضروري لكن ليس كافيًا لتحقيق ما يسمّى بتحديث العقل العربي.
إنّ التقدم العربي مرهون باكتساب الروح العلمية الحديثة، وهذه الروح هي روح التقدم الحقيقية، فالأدوات العلمية والرياضية التجريبية الحديثة مكنت الحضارة الأوروبية من أن تصبح حضارة الغرب ثم أن تصبح بعد ذلك الحضارة الإنسانية، ذلك أنّ الأدوات العلمية لا تخصّ عقلاً واحدًا من العقول، بل هي أدوات مشتركة بين العقل الإنساني عامة في أبعاده المتناثرة.
إنّ المعيار المحوري في تحديث العقل العربي هو معيار "المنهج العلمي" تأتي بعده باقي المعايير الأخرى، ذلك أنّ الإنسان المتخلّف هو ذلك الإنسان الما قبل علمي والما قبل تجريبي، لأنّ "المعيار المحوري في اعتقادنا معيار المنهج العلمي، فالإنسان المتقدم هو الإنسان العلمي والإنسان المتخلف هو الإنسان الماقبل علمي والماقبل تجريبي"([5])، والعقل العربي الآن على الحالة التي هو عليها عقل ما قبل علمي وما قبل تجريبي لذلك فإنّ تحديث العقل العربي هو في الواقع محاولة لدمج المنهج العلمي مع الثقافة العربية التي يقدمها هذا العقل العربي، إذ لا يوجد شيء أولى بطالب الحق من الحق". والعقل في بحثه عن الحقيقة يحقّ له العمل بأحدث المناهج العلمية وإن كانت نتاج عقل آخر، ويستشهد هنا حسن صعب بأحد نصوص ابن رشد والكندي، التي تجيز في معناها الاستفادة من مناهج العلم عامة وإن كانت نتاج حضارات وأمم أخرى تخالفنا في الدين وفي الجغرافيا وفي التاريخ، فالعلم لا جنسية ولا وطن له.
إنّنا مطالبون بتحقيق معجزة علمية جديدة تبرّر معجزتنا العلمية الوسطوية ولا نستطيع ذلك إلا إذا توفرت الثقة وتحركت الطاقة الإبداعية فينا وعملنا بمقتضيات المنهج التجريبي وأضحى الإنسان العربي، أي كل إنسان عربي، يتنفس الروح العلمية بدل الهواء الذي نتنفسه. إنّ الوعي بتخلف الأنا وتقدم الآخر هو في ذاته حركة نحو تحقيق التقدم ذاته، فوقوفنا عند الأخطاء التي وقع فيها العقل العربي لا تنقص من قيمة هذا العقل في شيء، وإنّما هو إدراك ووعي وإحساس بالظاهرة الإنسانية في تحولاتها وتمظهراتها المتباينة والمتعددة، فالتقدم والتخلف هما حالة عابرة تنشأ عن ظرف تاريخي معين، وليست طبيعة أو سجية حتمية، "وهذه النظرة الجديدة للتقدم والتخلف كحالة لا كطبيعة والمقترنة بنظرة حكرية جديدة للإنسان تعني أنّ المعجزة الحضارية المنشودة هي معجزة تطوير الإنسان حيثما كان وأيًّا كان من حال التخلف إلى حال التقدم"([6]).
إنّه لمن الضرورة الربط بين الجانب التربوي والجانب الإنمائي النهضوي، "هذا مع ضرورة تحرير أو تحرّر العامل النفسي من كلّ عقد النقص التي ألصقها التخلف والتأخر به - العقل العربي -، وكذلك التنويه إلى ضرورة التحديث القيمي، فليس قيم الحداثة في الأصل تتعارض وقيم العربي المسلم.. لذا فإنّ التحديث القيمي يفتح أمام العربي وأمام المسلم وأمام الإسلام نفسه سبل التعارف والتكامل والتلاقح مع جميع معارف العالم الحديث، ولا نغفل أيضًا الجانب القيادي - السياسي - من خلال الدعوة إلى إشراك مختلف فئات الطبقة الوسطى مع التوصية بالانفتاح النقابي وكذلك التحرك القيادي الحر والإبداعي والتوصية على الابتعاد عن كلّ أنواع القيادة التقليدية أو الطائفية أو الإيديولوجية، والدعوة إلى التحديث التربوي من خلال صناعة تخطيط تربوي ينتج لنا مجتمعًا حديثًا بكلّ ما تحمله لفظة حديث من دلالات، مع متابعة العمل الإعلامي وتحديثه، باعتباره سلطة في ذاته باتت تؤثر في كبرى قضايا تحديد المصير. ثمّ ضرورة الانتهاء في الأخير إلى أنّ "تحديث العقل هو الشرط الأوّل لتحديث الجيش ولتحديث الاقتصاد. ولتعبئة الموارد الإنسانية تعبئة إنمائية ودفاعية شاملة لحالتي السلم والحرب"([7])، وهكذا يمكن أن نتحدث عن مسار تحديثي قادم في الأفق العربي.
[1]- حسن صعب. تحديث العقل العربي "دراسات حول الثورة الثقافية اللازمة للتقدم العربي في العصر الحديث". دار العلم للملايين. بيروت. لبنان. ط3. أكتوبر 1980. ص 10
[2]- المصدر نفسه، ص 8
[3]- المصدر نفسه، ص 13
[4]- المصدر نفسه، ص 36
[5]- المصدر نفسه، ص 14
[6]- المصدر نفسه، ص 45
[7]- المصدر نفسه، ص 23