التحول المفصلي الأول للمدرسة: العصر الوجيز لـ"تكنولوجيا التعليم"
فئة : ترجمات
التحول المفصلي الأول للمدرسة:
العصر الوجيز لـ"تكنولوجيا التعليم"[1]
مُلخَص:
في عالمنا المعاصر لا يتم ذكر المدرسة إلا وكانت الأزمة قرينتها، وكل ما استجد جديد إلا وتم تقليب "أزمة المدرسة" على كل الوجوه في علاقة به، حدث ذلك لمّا ظهرت وسائل الإعلام، لاسيما البصرية منها وبالأخص التلفزيون، وتكرّر حين تم تعميم استعمال الشبكة العنكبوتية، ثم حينما صار الحاسوب الشخصي من باب ما لا غنى عنه، وما لا يُطلب شيء إلا به، ... إلى أن ارتسمت" أزمة المدرسة" من جديد، لكن هذه المرة على خلفية مشهد كان الفاعل الرئيس فيه هو "الذكاء الاصطناعي"، وما يجعل سؤال الأزمة أعمق هذه المرة، كونُهُ ينبثق من تلاقح مفهومين يُغديان ماهية المدرسة، إن لم يكونا شرطين لوجودها؛ أعني: "الذكاء" و"الإرث"، وكلاهما لا تستقيم دلالته إلا بالعلاقة مع مفهوم "التطور" الذي يستحيل تعقله في انفصال عن مفهوم "الزمن"، فليس "الذكاء" إلا ثمرةَ التَّطور الدارويني التي انفرد بها الإنسان للمحافظة على بقائه وسط بيئة قاسية، وبفضلها حقَّق هيمنَتَهُ على العالم وعلى المادة؛ فالذكاء هو "إرث" الأجداد الأكثر فعالية وقيمة؛ ونقله وتبليغه موكول إلى المدرسة؛ إذ ما عسى هذه الأخيرة أن تكون إن هي لم تتوجه أولا وأخيرا إلى ذكاء مرتاديها، تَتَعَهّدُه بالرعاية عبر نقل ما راكمته العقول على امتداد قرون، وفاتحة إياه على ممكنات جديدة، وآفاق بعيدة، ومساحات مديدة. ولأن منزلة الذكاء في تحديد المدرسة تحظى بهذا الثقل، كان تطوّر الذكاء الاصطناعي، وبلوغه ما يسمى بالذكاء الاصطناعي التوليدي، صدمة مهولة لها؛ لأن أرضاً كان يحتكرها الكائن البشري، وبها يُعرّف نفسَه، ما عادت ثابتة مُطَمْئنة كما ألفها، لينضاف بذلك جرح رابع إلى جروحه النرجسية الثلاثة التي عدّدها سيغموند فرويد. كل هذه الاعتبارات هي التي جعلت ألكسندرلورون في نصه هذا الذي يشكل الفصل السابع من كتابه: "حرب الذكاءات: الذكاء الاصطناعي في مواجهة الذكاء البشري"، يقدّم وصفا للمدرسة في وضع مفصلي حاسم: إما أن تواصل التماسك بهويتها التي ظلت ثابتة لقرون ولم يمسسها تغيير بنظره، حتّى على مستوى البنية الصغرى لفعلها؛ أي الفصل الدراسي، أو يتعمّق وعيُها بأن ما تمُرّ به ما هو إلا بشائر أو بالأحرى نُذر عصرٍ قصير يتحقّقُ فيه تحوُّلُها، عليها أن تحسِن التقطها إن هي أرادت أن تتجنب مصيرا شبّهه بـ" مصير كوخ في مهب انفجار نووي"، وهو مصير محتوم؛ لأن كل محاولة لتفاديه ستكون كمن يحاول جاهدا الحؤول دون موجة مدّ بحري ببناء سَدّ من رمل"، ولأن ألكسندر طبيب فرنسي متخصص في جراحة الأعصاب، وفي التكنولوجيا الحيوية وله باع طويل في التنظير لآثار التقدم التكنولوجي على الإنسان خصوصا على مستوى توسيع قدراته، لدرجة جعلت منه أبرز المتحمسين للنزعة الما بعد إنسانية، فقد طبع هذا التّلاقح بين التخصصات، مقاربَتَه للتَّحول الذي تعرفه المدرسة تحت تأثير الذكاء الاصطناعي، بحيث عمَدً إلى توسُّل النهج المقارن بين حال "التربية والتعليم" راهنا وما شهده الطب من تحولات بدءا من الهيكل المادي وصولا إلى طرق العلاج، داعيا المدرسين بوصفهم الفاعلين الأساسيين في المدرسة إلى التغلب على جرحهم النرجسي والقبول بعيش حالة الحداد على المدرسة في الحال حتّى لا يضيع من قبضتهم المآل؛ لأن كل مقاومة تروم الحفاظ على هذا الحال قائما ليست إلا جهدا ضائعا وعبثا لا طائل وراءه. لذلك على الجميع تجاوز الحسابات السياسية الضيقة، والانحياز لما يمليه منطق التقدم والعلم، وهو من لن يكون إلا اقتناصا لكل الفرص اعتماد على مفتاح يعرف اختصار بـ (NBIC) والمقصود التفاعل الخلاق للإمكانات بين تكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات والعلوم المعرفية؛ فبعد الصّوْغ الشخصي للتعليم، الذي سيسمح به الذكاء الاصطناعي؛ لُيصيِّر التعليم في توافق تام مع كل فرد تبعا لخصائصه وإيقاعاته الفريدة، فاتحا الأبواب مشرعة للتفريد والتعلم المُشَخصن حتّى يحُلّ محلَّ مبدأ المجانسة والتوحيد الذي طالما اُعتبر مبدأ مؤسّسا للتعليم. بعد كل ذلك يأتي التفاعل المشار إليه بين الأقطاب التكنولوجية الأربعة، لكي يقول "لا" لخصائصنا البيولوجية بما فيها العصبية، لأجل الزيادة في قدرات الإنسان، وفتح أفق ما بعد الإنسانية، الذي يجعل منه ألكسندر لورون شرط وجود أو عدم بالنسبة إلى مدرسة المستقبل؛ لأنها لن تكتفي بتربية الذكاء، بل سيتوافر لها من الروافد ما يُمكِّنُها من الزيادة فيه بتدخل مباشر إما قبل الولادة أو عبر الفعل في الدماغ.
انتهج لورون في نصه هذا، سبيلا حجاجيا لتأكيد وجاهة أطروحته، مبتدئا من أول ملمح مُدلّل على تحول المدرسة، أقصد التشكيك في مدى الحاجة إلى قاعة الدرس؛ لأن مشروعية وجودها ووجود الفصل الدراسي هو التجانس بين أعضائه، والحال أن المنحى الراهن سائر في اتجاه إضفاء الطابع الشخصي على التعليم وتفريده، وهو مسار سيتعمّق بما يتم تحصيله من بيانات تُضيء كل الخصائص والصِّفات ببيولوجية عصبية كانت أو سيكومعرفية على أساس علمي لا على مجرد الحدس الذي أضرَّ سابقا بالمرضى في الطب، ولا زال يلحق حاليا أضرارا بالمتعلمين في مجال التربية والتعليم، وللخروج من هذه الدائرة على المدرسين التّحرر أولا من الوثوق الأعمى في حدسهم، والانتصار في المقابل للمعطيات العلمية. ولأن مدار اشتغال التعليم هو الدماغ، فإن تحقيق معرفة جيدة به أول ما يتعيَّنُ تكوين المدرسين فيه استعجالا، بالنهل من العلوم المعرفية، فهوية التلميذ في المستقبل لن تتحدّد بالطبقة التي ينتمي إليها أو غيرها من المحدّدات الاجتماعية، بل بخصائصه بدءا بتلك التي يقدمها تسلسل حمضه النووي، وهذا الركون إلى قاعدة بيانات علمية وأخرى يوفّرها التفاعل السبراني، هو ما سيدق آخر مسمار في نعش الترميق الذي لم يجد مجال التربية والتعليم بعدُ مهربا للتخلص من لعنته. بيد أن الإقرار بأهمية تكنولوجيا المعلومات في هذا التطور لا يعني الإلغاء الكلي لما يمكن أن تلعبهُ الخصائص الشخصية للمدرسين من دور حاسم، فالطرائق التّعليمية التي تتأكد ملاءمتُها وجدواها، بناء على البيانات التي يتم جمعها، لا تصير طرائق حية وفعالة، إلا متى توهَّجت بكاريزما الأستاذ المناسب، داخل فضاء ذكاء جماعي قائم على التفاعل، وهو ما يمكن تقريبه عن طريق تكوين المدرسين في التواصل والخطابة ومنصة (TEDx) تقدم نموذجا يحسن الاستعانة بالمشرفين عليه في هذا الباب لتكوينِ مدرّسين ينقلون شَغف المعرفة وحبها لتلامذتهم، كل ما سبق هو معالم رهان لابد من المسارعة إلى ركوبه والعمل بكامل التنافسية للفوز به؛ لأن الفاعلين في قطاع التربية والتعليم لن يكونوا بعد الآن لاعبين في الميدان الوطني، بل هم لاعبون من القوة بحيث لن يسع فعلهم إلا العالم بأسره.
للاطلاع على نص الترجمة كاملا المرجو الضغط هنا
[1] Alexander Laurent, LA PREMIÈRE MÉTAMORPHOSE DE L’ÉCOLE: LA BRÈVE ÈRE DES « EDTECHS »
والنص يُشَكّلُ الفصل السابع من كتاب الدكتور ألكسندر لورون: "حرب الذكاءات: الذكاء الطبيعي في مواجهة الذكاء الاصطناعي"
(Dr Laurent Alexandre, La Guerre des Intelligences – Intelligence Artificielle versus Intelligence Humaine, éditions Jean-Claude Lattès. Première édition septembre 2017.)
- المقصود تكنولوجيا التعليم (Education Technologies) التي يشار إليها بالعبارة المختصرة: (edtechs)، جميع التكولوجيات التي يتم تطبيقها في التعليم.