التدين الكرنفالي في السياقين العربي والإسلامي؛ الأولياء والأضرحة (الجزء الرابع)
فئة : مقالات
ربطاً بما سبق وتناولناه في الأجزاء الثلاثة الماضية، سنحاول التعرض في هذا الجزء إلى جانب مهم من جوانب الكرنفالية التي تهم التدين في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي بقيت مدينة في ثقافتها وممارساتها اليومية لتقاليد وعادات سابقة على الإسلام نفسه، بل ويمكن وسمها أنثربولوجيا بالممارسات الوثينة ما قبل إسلامية، خاصة إذا تعلق الأمر بممارسات ترتبط بالحياة والموت والعالم الآخر، الذي تنشأ معه وساطات روحانية وأرواحية تختلف تجلياتها من ثقافة إلى أخرى، ومن تدين إلى آخر، حسب تعدد واختلاف المذاهب والتيارات الدينية نفسها.
من المعلوم أن التدين اليومي لم يختصر في الماضي كما اليوم، على العبادات المفروضة في الإسلام، ولا على أركانه الخمسة، بل تعداه إلى ممارسات وطقوس وشعائر تشكل رموزا وسيلية وتلخيصية للمسلمين على اختلاف ممارساتهم وتباينها، بيد أن المشترك الكبير بينهم، والمتمثل في كرنفالية التدين، يجد تجلياته الكبرى في عوالم الأولياء والأضرحة؛ فهي رموز تلخيصية بتعبير تيرنر، وعلى ضوئها تتعالق كل العبادات والطقوس التي تميز المسلمين. إنها مناسبة لتجميع العبادات في ممارسات طقوسية تتجاوز اللحظي والأني، إذ فيها تتم الصلاة، الصوم، الصدقة، الأضحية، الدعاء، النذر، بل وتعد مناسبة لحج المسكين والفقير، لطالما كانت الأضرحة في المتخيل الجمعي تعويضا عن الحج الكبير... إلخ. وهذه الطقوس في عمقها ومرجعياتها لم تنفصل عن عوالم السحر كما مارسته وآمنت به البشرية منذ القدم، وهي عوالم اتخذت أبعادا مؤسِّسة للتدين الشعبي في الإسلام؛ بموجبها أصبح الولي الصالح والفقيه، وحتى الساحر/ المشعوذ وسيطاً بين المؤمن وربه، بل وتحولت هذه الوساطة إلى اقتصاد لتدين الأضرحة.
1- السحر والشعوذة بين القرآن والممارسات الإسلامية
تشكل ممارسات السحر اجتماعياً وثقافياً في العمق، نظرة أنطولوجية للكون والدين والمقدَّس، وهي نظرة خرافية وأسطورية ترتبط في هذا السياق بتمثلات لا تقطع مع الدين، بل توظفه وتعيد تشكيله من جديد؛ إذ هناك أوساط تعتبر أن السحر والشعوذة، وباقي المعتقدات الما قبل إسلامية هي جزء من الإسلام، بل إن التصديق بها والتعاطي معها يعدّ من صميم المقدَّس، ومن ذلك التعاطي للسحر الأبيض أو الدفاعي تيمنًا في ذلك بالرسول محمد (ص) عندما سُحر له، وهو الأمر الذي تزخر به كتب التفاسير، وأسانيد السنة، اعتماداً على سورة الفلق. يقول تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)).
على العموم، فسوء فهم القرآن، وخاصة قصة النبي سليمان، وعدد من السور والآيات بخصوص الجن والسحر قد مهد السبل لما يسمى أنثربولوجيًّا بالإسلام الشعبي. لذلك، فالتعاطي لهذه الممارسات يعدّ من صميم الواقع العربي والإسلامي، خاصة وأن هذه الممارسات، ومن قبل، هذه التمثلات الأنثربولوجية، هي ما يؤسس للتفكير والحياة العربية الشعبية، وهو ما نجده في المغرب كما في مصر، والجزائر، وتونس، وسوريا ودول الخليج، وعمومًا كل المنطقة العربية -كما في عدد من مناطق العالم- ولكن ليس بالوتيرة والكثافة نفسيهما، فكلما ارتفع المستوى المعيشي وانخفضت الأمية، وارتفع معدل الدخل الفردي، كلما أصبحت هذه الممارسات في انخفاض، وهي في كرنفاليتها تنحو منحى طقسنة الجانب التعبدي وشعرنة اليومي. ولهذا، فالجسد في حضوره اللافت يتخذ أبعادا احتفالية شديدة الأهمية، ومثلما يحتفى به بالوليمة التي تعد وتجهز في المواسم التي تميز أجندة الأضرحة، نتيجة تقديم الهبات والنذور، عبر الأكل والشراب والرقص والحضرة والغناء بمختلف تلاوينه الشعبية والتراثية، فإن الجسد يتحول بنفسه إلى وليمة، في كرنفالية تربط الديني بالروحي بالاجتماعي والثقافي. ولهذا يصعب تصور المواسم والأضرحة في غياب حضور السحر والشعوذة، بل تتحول هذه الأمكنة والمناسبات إلى فرصة للاستثمار في الغيب وفي الفأل، وتتحول البركة و"السر الباتع" إلى جوهر اقتصاد تدين الأضرحة.
فبعدما كانت هذه الأماكن التي تحمل قدسية خاصة في تمثل المسلمين، قبلة للصلاة والعبادة، وطلب بركة الوالي الصالح، حيث يحاول الشيخ/ الولي في حياته المحافظة على هذه القدسية، التي لا تنفصل عن مفهومه ومفهوم الناس للبركة، سرعان ما تحولت بفعل عودة الوثني إلى فضاءات للسحر والشعوذة، دون أن يقع أي تنافر دلالي وسيميولوجي بين الحلال والحرام، حيث يذوب كل منهما في الآخر، ويستويان عبر فعلي التطبيع والاستدماج عادة اجتماعية.
سوء فهم القرآن، وخاصة قصة النبي سليمان، وعدد من السور والآيات بخصوص الجن والسحر قد مهد السبل لما يسمى أنثربولوجيًّا بالإسلام الشعبي
بالأشجار والعيون والباحات المحيطة بالأضرحة والأولياء، تنتشر عقد تمائم من خرق وأثواب من مختلف الألوان التي يتزين بها زوار هذه المقامات، بشكل يجعل المنظر كما الكرنفال الاستعراضي الذي تعرفه الكثير من الثقافات والحضارات، بيد أن هذا البعد الكرنفالي هو في العمق احتفاء بالسحر وعوالمه، وانتصار للجسد في احتفائه واختفائه، في احتفاله وصمته، إذ يُعتمد في إعداد التمائم والحروز والأوفاق، بالإضافة إلى الأطباق السحرية، على عدد من الوسائل والأدوات التي يتم استعمالها من طرف جمهور السحرة والمشعوذين، من قبيل الأطراف البشرية ذات الصلة بالسحر الأسود الذي يعتمد المرجعية الأنثربولوجية الاستعارية للجسد، بحكم أن الشبيه يدرك الشبيه ويؤثر فيه، ولذلك تجد أن الوجبات السحرية التي تعد من أجل التأثير سحرياً في الآخر موضوع السحر والمراد منه، تُهيأ باستعمال شيء من جسده، سواء كان شعره، أظافره، جزء من لباسه، صورته، سائله المنوي...إلخ.
وكلما كان استعمال الأعضاء البشرية أكبر، والمرتبط بالدم، كلما كان تأثير السحر أقوى، لارتباط هذه الأخيرة بالهوية الجسدية العميقة للشخص، حيث إن كل عضو مرتبط بهوية اللحم والدم (دم الشخص، سائله المنوي، عضو من جسمه)، يكون محدّداً لطبيعة السحر ودرجة قوته، ودرجة تصنيفه في مراتب السحر الأسود طبعاً. وبطبيعة الحال استعمال صورة الشخص، سواء كان رجلا أو امرأة، أو جزءا من لباسه، يكون أقل قوة وسوداوية، ولذلك تجد الأعضاء البشرية كما الحيوانية ذات أهمية قصوى في السحر الأسود.
إذا كان السحر الأسود مرتبطا بإلحاق الضرر، مقارنة بباقي أنواع السحر في تصنيف إدموند دوتي، ولو أنه لم يشر إلى أنه يعد جوهر خطاطة العلاقة الصراعية بين الجنسين، خاصة وأن الرجل في الغالب يكون موضوع هذا النوع من السحر، كرد فعل تجاه هيمنته وخيانته، فإنه يعد السلاح الذي تلجأ إليه النساء رغبة في الانتقام. وبتحليل السحر خطابا وممارسة، يتضح أن الأمر لا يقتصر على أعضاء الجسم المراد التأثير فيه فقط، بل يتم اللجوء إلى أعضاء حيوانية من قبيل، لسان حمار، ضبع، أذن بغل، كبد الكلبة... وحسب لون هذا الحيوان وسنه، على أن تكون هذه الحيوانات قد قتلت غدراً، مثلها في ذلك مثل دم شخص أهلك في حادثة سير، أو قتل غدراً، وبذلك يتساوى الدم ببدن المغدور وجسمه. وبطبيعة الحال، كلما كان العضو البشري المستعمل يدخل في دائرة الغدر، كلما كان فك وتفكيك وإبطال مفعول السحر أمراً صعباً، كما أن الأسماء الشيطانية الموظفة في كتابة الأوفاق والطلاسيم المصاحبة للوجبات السحرية هذه، هي أسماء شرانية وشيطانية، إذ إن الأرواح الغيبية التي يتم اللجوء إليها من طرف جمهور السحرة والمشعوذين، تنقسم حسب طبيعة السحر، ونوعه إلى أرواح ربانية وأرواح شيطانية حسب المعتقدات الشعبية، التي تجعل من هذه الممارسات جزءا من التدين، حيث لا يجوز وضع تميمة أو حرز أو تقديم أضحية لمقام الولي إلا بعد الطهارة والصلاة، حيث يصبح الديني والوثني متلاحمين في كرنفالية تعبدية تبتغي الازدهار والربح والخير مهما كانت الوسيلة. وبالرغم من أن هذه الأضرحة قد عرفت بداية كمزارات ومناسبات للتخلص من السحر الأسود، فإن تمثل الانتقام كحق، قد حولها إلى قبلة لكل راغب في انتقام أو رد اعتبار، أو بركة متوهمة، أو طرد شر ونحس، أو استجلاب حظ، سواء كان عريساً أو تجارة...إلخ.
في النهاية، تعتبر هذه الممارسات، خلاصة تطبيقية للمتخيل الشعبي والتمثلات الاجتماعية بخصوص العالم والأشياء والاجتماع والعمران البشريين بعبارة ابن خلدون. لهذا يجب على كل دراسة تبتغي العلمية والصرامة المنهجية أن تأخذ بعين الاعتبار الظاهرة في تعقدها، كما يجب التركيز ليس على الممارسات في بعدها العياني الملاحظ كزيارة الأضرحة ورصد طقوس وشعائر التقرب، بقدر ما يجب التركيز على البنيات الأنثربولوجية للمتخيل الشعبي بخصوص هذه الظاهرة، وأظن أن الدراسات الوصفية، ما هي إلا المدخل أو العتبة الأولى لهذا البعد؛ ذلك أن الزيارة في حد ذاتها أو الطقوس والشعائر، ما هي سوى الإفراز التطبيقي للمتخيل؛ أي لرؤية الناس للعالم والأشياء، وهنا بؤرة التفكير الخرافي والأسطوري، إذن يجب تحليل هذه البنيات تحليلاً معمقًا من خلال ربطها بآراء وتصورات الناس، ونظن في هذا السياق، أن المنهج الأنثربولوجي التأويلي الرمزي كفيل بتقعيد البحث والدراسة بخصوص الظاهرة.
وظيفيًّا، وعلى المستوى السياسي، فإن الأجهزة الحاكمة والأنظمة العربية، توظف المتخيل الشعبي في استدامة الأوضاع كما هي، بل وعلى فهم معين للدين الإسلامي الذي يتجلى في الإسلام الشعبي بالمعنى الأنثربولوجي للكلمة. إن السحر والشعوذة ومختلف التمثلات الشعبية التي تمتح مقوماتها الرمزية من الأساطير والخرافات، هي في العمق مجرد مغالطة وقع فيها الفكر الإنساني برمته، ما بين الارتباط الواقعي والارتباط الذهني، وذلك عن طريق الإسقاطات التي يسقطها العقل على العالم المعطى والوهم التي تمنحه اللغة للإنسان، فكوننا، حين نسمي الأشياء ونصيغ المقولات والاستعارات نمتلك العالم، نكون قد سقطنا في وهم كبير، إذ في الوقت الذي لا نمتلك فيه حتى أجسادنا، فكيف يمكننا أن نمتلك العالم، لأن العالم الذي نعيش فيه ونتصرف على ضوئه، هو عالم مبني وليس العالم المعطى، خاصة وأننا نرتهن في تفكيرنا لعالم مفارق ولمثل عليا مطلقة، ولكائنات غيبية وسرمدية، كما هي الحال بالنسبة إلى الجن والأرواح الشريرة التي بدونها لا تكتمل أركان الكرنفالية.
من هذا المنطلق، نشأت الأرواحية كرؤية ثقافية لا تخلو من الغموض والتعقيد، بيد أن الحقيقة، هي أنه ليس كل ترابط بيننا والعالم، حتى وإن بدا منطقيًّا ونسقيًّا على المستوى الذهني، كما هي الحال بالنسبة إلى معتقداتنا الخرافية، التي تشكل المرجعية الرمزية للممارسات السحرية والشعوذة، هو ترابط حقيقي بين مكونات العالم والطبيعة والأشياء، وهذا بالفعل ما سقط فيه العقل الخرافي الشعبي العربي.
على سبيل الختم:
عمليا، يستكين السياسي إلى الإبقاء على هذا التفكير، كما يريحه أن يشجع الأوساط الشعبية التي تزدهر فيها هذه الممارسات، وهذا المتخيل الذي يغذيه الإعلام، كما النسق الثقافي، يضمر مخاطر جمة تتهدد النسق المجتمعي ككل، فلا يجب النظر نظرة سطحية للمسألة، أو فلكلرتها (من الفلكلور) كشكل من أشكال الثقافة السياحية، لأن هذه الممارسات، وعلى رأسها زيارة الأضرحة والمواسم الشعبية، هي في الحقيقة علامات يجب التعامل معها من منظور السيميولوجيا الاجتماعية؛ إذ إن العلامة في هذا السياق تدل على أشياء غيرها، تظل محتجبة في ثنايا المعيش اليومي، الذي يبدو مألوفًا وعاديًا، لكنه يشكل في العمق قناعًا، بل أقنعة، هي عبارة عن علامات متعالقة ومتشابكة، يجب فك شفرتها وإحالتها تأويليًّا وتفكيكيًّا على مرجعياتها وتطبيقاتها، وقياس مدى خطورتها على النسيج الاجتماعي والسياسي، وهي مسألة تبقى من صميم دور الإعلام الحقيقي، خاصة وأن الكرنفالية تفرغ التدين من سموه، وتجعل من ثم الدين مجرد طقوس تعبدية مظهرية وعادات تنتصر للعادات والتقاليد أكثر مما تنتصر لروح الدين.