التراثوية باثولوجية اجتماعية: اغتراب الفكر وشرخ الهوية في المجتمع العربي بين تمثلات الماضي وعجز المعايير العقلانية


فئة :  أبحاث محكمة

التراثوية باثولوجية اجتماعية:  اغتراب الفكر وشرخ الهوية في المجتمع العربي بين تمثلات الماضي وعجز المعايير العقلانية

التراثوية باثولوجية اجتماعية:

اغتراب الفكر وشرخ الهوية في المجتمع العربي

بين تمثلات الماضي وعجز المعايير العقلانية

ملخص

يقدم هذا البحث، مقاربة نقدية فلسفية اجتماعية وتحليلية، ترمي إلى تشخيص وتحليل التراثوية، بوصفها باثولوجية اجتماعية متغلغلة في بنية المجتمع العربي المعاصر. يُنظر إلى التراثوية هنا على أنها حالة باثولوجية متأصلة في الواقع العربي، تحتوي الوعي وتهدر العقل والفكر، مما يفضي إلى حدوث حالة اغتراب عامة على صعيد العقل والسلوك الاجتماعيين، وهي حالة تنمّ عن عجز واختلال في معايير عقلانية المجتمع، برهنت أن انعكاساتها ضارة ومؤذية للأفراد، ولوقعها أيضًا ضرر على الحياة الاجتماعية، وانتهاك للقيمة المعيارية للوجود الخاص والحياة الجيدة، ما نتج عنه تقهقر وتعطيل في سيرورة الحياة الاجتماعية بالكامل، ومن ثم، الحؤول دون بلوغ مجتمع عقلاني حقيقي أقل مرضًا واضطرابًا، ومعاناةً.

تمهيد

سطعت النزعة التراثوية على الجسم الاجتماعي للمجتمع العربي، فأسفرت عن تدهورٍ صحّي سرعان ما تجلى في الواقع المعاصر. من الجدير بالملاحظة، أن حياتنا مشدودة للماضي أكثر منها لحاضر يتغير باستمرار، وليس من المستغرب أن هذه القوة الجاذبة أصبحت تؤثر على حياتنا الاجتماعية وتتأثر بها، أكثر من أي وقت مضى، سواء أكان ذلك على مستوى علاقتنا بأنفسنا أو مع الآخرين. لا يمكن بحال إنكار نزوع المجتمع العربي إلى بنى تقليدية عميقة وهياكل عتيقة تؤصل للهوية الفردية والجماعية على قدم المساواة؛ إذ لا تتوانى هذه البنى عن توجيه سلوك الأفراد وتحديد منظومة قيمهم، لحرصها الدائم على توريث القوالب الاجتماعية النمطية، وكذا النماذج الثقافية نفسها وفقا لقواعد سلوكية متوارثة. لقد أضحت البنى التقليدية بهذا المفهوم، مخزونًا نفسيًا يوجه السلوك الاجتماعي وفق تصورات علاوة على نظم إيثيقية ومثل تنشئ الحركة من خلال الثبات، فيتراءى الحاضر في الماضي، ويعيش الماضي في الحاضر ليطال بعدئذ المستقبل. ينطوي هذا الحديث على ما نعنيه بروح الأسلاف الخالدة: نموت ولا تفنى بعدد أنفاس الأجيال تحيا. إنها دورة حياة لم تنته البتة؛ يتعلق الأمر بباثولوجية اجتماعية تحول دون تخطي الموروث ومجاوزته.

عندما تطغى نزعة التقليدانية على الحياة الاجتماعية، فذلك مدلوله أننا نولي ظهرنا للحاضر، ونعيد إنتاج الماضي باعتباراته وسائر عوائده؛ فلا يمكن للتغيير أن يجد محله، والحالة هذه، إلا باتخاذ الموروث المكانة التي يتوجب عليه اتخاذها تجاه الحاضر، إقرارًا منا بضرورة التفكير في الآنية عوضاً عن الرجوع إلى أصالة عمياء، لطالما شكلت سجنًا لاهوتيًا ذا عقيدة دوغمائية عوض السؤال الأنطولوجي الناقد؛ لما تؤمنه من حماية للمجتمع ضد كل أشكال الغزو: الفكري والحضاري ثم النفسي. بهذا، لا تعدو التراثوية أن تكون إلا حجرة عثرة تَحُول دون أي تغيير ناجع من شأنه أن ينعكس على سيرورة التطور الاجتماعي. والسبب، أن علاقتنا بالموروث قائمة بشكل يحد من إمكانية تقويض بنى التقليدانية القائمة وتغييرها. تنم العلاقة على هذا النحو، عن وجود علة اجتماعية لا تني عن الإخلال بصحة العقل الاجتماعي وإضعاف الذات الفردية والجماعية على حد سواء.

حري بنا إذن أن ننقد علاقتنا كمجتمع عربي، في وجوده الكلي والشمولي المتكامل، بالموروث نقدًا مزدوجا: نقد تلك النظرة التي تعده حقيقة مطلقة في صيغة إلهيات، ونقده كرأسمال رمزي ومقوم من مقومات الهوية، بل وواجهتها الدفاعية. هو نقد بمثابة دعوة إلى مجاوزة هذه النظرة التراثوية الملغومة التي ترسخه في المتخيل الجمعي كروح إلهية خالدة. لئن كان التجاوز لا يتأتى إلا إذا كان ثمة وعي مزدوج: وعي بالاضطرابات والمعاناة الاجتماعية والآلام الناتجة عنهما، والتي تقتضي الكشف والتشخيص لمعرفة المرض والعلة التي تستمد منها وجودها؛ أي معرفة الآلام والاختلالات التي تسببها التراثوية، ومن ثم الوعي بها، ووعي بأن الحلول لا يمكنها أن تتأتى ولا يتسنى لها أن تحدث فعاليةً وتأثيرًا إيجابيًا، ولا أن تحقق النجاعة المطلوبة بدون تشخيص ووعي مسبق بها. وإن كانت مهمتنا النقدية بهذا الصدد، تفرض علينا التقصي والتصدي أحيانا للمجتمع فيما اعتاد عليه وتشبع به وتشرب منه، فإننا من ناحية أخرى، واثقون بأن قليلا من الجرأة والثبات إلى جانب الحكمة في أنماط العرض، سيعرف مجتمعنا العربي بالمصلحة التي ينبغي له أن يمضي في سبيل إدراكها. ومن أجل هذه المصلحة تحديدا، انصب الاهتمام على هذا الموضوع كمحاولة منا لتشخيص علاقتنا بالتراث أو، لنقل، بالموروث من الناحية الاجتماعية، وانعكاساتها على حياة الأفراد ووعيهم الذاتي. فهذه العلاقة الشاذة تعبير صريح عن كون التراثوية "باثولوجية اجتماعية"[1]. وهنا يُثار التساؤل: ماذا نقصد بالتراثوية؟ وكيف يمكن أن تكون باثولوجية اجتماعية؟ وبأيّ معنى يمكن اعتبارها كذلك؟ وما العلاقة بينها وبين مفهوم الاغتراب؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، ارتأينا تقسيم موضوع البحث إلى ثلاثة محاور رئيسة؛ في المحور الأول الموسوم بـ "التراث: من التقليدانية إلى التراثوية"، سنتناول مفهوم التراثوية في سياق هذا البحث، مرورا بمفاهيم التراث والتقليدانية وصولًا إلى التعريف الدقيق للتراثوية. أما في المحور الثاني، الذي يحمل عنوان "التراثوية والاغتراب"، فسنناقش علاقة التراثوية بالاغتراب، ونسلط الضوء على تأثيراتها على فكر الأفراد ووعيهم بذواتهم وواقعهم. وفي المحور الثالث، الذي اخترنا له عنوان "تجليات الاغتراب في ظل المجتمع التراثوي"، سنستعرض انعكاسات التراثوية على حياة الأفراد وتجليات اغترابهم في علاقتهم بذواتهم، بالإضافة إلى إبراز كيفية إسهام هذه الديناميكيات في تشكيل واقعهم الاجتماعي.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] لمعرفة حدود وفواصل المفهوم ودواعي استعمالاته، يمكن العودة إلى: لبنى بن البوعزاوي، "مفهوم الباثولوجيا الاجتماعية مدخل إلى الفلسفة الاجتماعية"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، (2024).

https://n9.cl/axmcr