التربية في مواجهة الدور الاستلابي للصورة؟
فئة : مقالات
"علينا أن نعدّ الناشئة للعيش في عالمٍ مغمورٍ بفيض الأصوات والكلمات والصور"
اليونيسكو 1982
مقدمة:
يقول ريجيس دوبري (Jules Régis Debray) في كتابه المعروف "حياة الصورة وموتها" (Vie et mort de l'image) "إن ميلاد الصورة الإعلامية المعاصرة يبدأ بموت الواقع". وهذا القول يتدفق بالمعاني ويفيض بالدلالة، تعبيراً عن تغوّل الصورة وسطوتها في زمن الحداثة وما بعدها. وموت الواقع ليس هو النهاية فحسب، إذ هناك تدفق في لحظات الموت ومعانيه، وكأن موت الواقع يرمز إلى استمرار في الموت الذي يجتاح منطق الإنسان وبصيرته النقدية. يدلّل دوبري بأسلوبه الرشيق على سلطان الصورة واستبدادها باستحضار قصة رمزية قديمة، يروي فيها: "أن أحد أباطرة الصين القدماء طلب من كبير الرسامين محو صورة الشلال الذي رسمه في لوحة جدارية في قصره، لأن خرير الماء كان يمنعه من النوم"([1]). وإذا كان القول بالقول يذكر، والدلالة بالمعنى والدلالة تنقدح وتفيض، فإن ومضة دوبري تأخذنا إلى خاطرة جميلة معبرة للمفكر الإيطالي المعروف ليون باتستا إلبرت (Leon Battista Alberti) عندما كان يردد قوله المشهور: "إذا ما أصاب الأرق أحدا يوما ما، فليتأمل ينابيع الماء، فسيصبح النوم يسيرا عليه".([2]) وإذا كانت تلك هي سطوة الصورة الفوتوغرافية وسلطتها في ماضي السنين، فكيف لنا أن نصف تغوّل الصورة الإعلامية وجبروتها الذي لا يقهر في عصر الثورة الرقمية المتقدمة؟ وإذا كان الأباطرة القدماء يزيلون الصورة محواً عن الجدران، ويقذفون باللوحات الموحيّة في عميق القيعان، فكيف نستطيع اليوم مواجهة هذا الجبروت الرقمي للصورة؟ وكيف يمكننا الذّود عن عقول أطفالنا وفلذات أكبادنا في مواجهة الصور الإعلامية الرقمية التي تنتجها المنصات الإعلامية العملاقة إعداداً لقهر الإنسان والسيطرة عليه واستلابه؟ وكيف يكون الحال مع هذا النمط الخيالي من الصور الذي يوظف أعظم مخترعات الإنسان وأحدثها قدرة على توليد التأثير في سلوك وعقول البشر؟ وكيف يمكن للتربية أن تبدأ فعلها في عملية المواجهة المصيرية إزاء تغول الصور واندفاعاتها الأسطورية؟ إنها أسئلة العصر في مواجهة أخطر تحدياته طراً.
تحولت الصورة بما تمتلكه من جمال وجاذبية إلى طاقة سحرية يوظفها النظام الثقافي الجديد في عملية إنتاج وعي الإنسان بالعالم وهندسة إدراكه
سطوة الصورة:
تهيمن ثقافة الصورة اليوم في العصر الرقمي الجديد، وتطغى على الحياة الثقافية في مختلف مظاهرها وتجلياتها، وهي تسعى إلى ترسيخ هيمنتها ضخّاً لملايين الأطنان من الصور والألوان والومضات الضوئية، لتوظفها في تشكيل وعي البشر وهندسة أذواقهم. وفي هذا المضمار، يصف المفكر الفرنسي مارك أوجيه (Marc Augé)([3]) في كتابه "حرب الأحلام" غزو الصور الذي يداهم الكون بقوله: "إنه غزو يشنه نمط جديد من الخيال، الذي يعصف بالحياة الاجتماعية ويصيبها بالعدوى ويخترقها إلى حد يجعلنا نشك فيها... وفي معناها وفي المقولات الخاصة بالذات والآخر التي تتولى تكوينها وتعريفها"([4]). لقد تحولت الصورة بما تمتلكه من جمال وجاذبية إلى طاقة سحرية يوظفها النظام الثقافي الجديد في عملية إنتاج وعي الإنسان بالعالم وهندسة إدراكه. هذا وتؤدي الصورة اليوم دورا مكثفاً مضاعفاً يتجاوز حدود التأثير الذي أحدثته الكلمة في التاريخ الثقافي للإنسانية. كما أن الصورة تتميز عن الكلمة بقدرتها اللامتناهية على اختراق الوعي وإعادة تشكيله وأحيانا تدميره بما تستحوذ عليه من فتنة وسحر وقدرة على التوغل في أعمق طبقات الوعي واللاشعور الإنساني، بوصفها خطابا خفيا يستطيع التسلل والتخفي والتوغل، كما بوصفها نصّا أو لغة تكتفي بذاتها وتستغني عن الحاجة إلى غيرها.([5])
ويأخذ الإنتاج الثقافي في عصرنا اليوم، طابع الإنتاج المعلب بالصور، حيث يتم تنميط الثقافة في عدد لا متناهٍ من الأشكال المعلبة بومضات الخيال التي تُنتج وتُعدّ للاستهلاك الثقافي. وعلى هذا النحو، تقوم وسائل الإعلام اليوم بتعليب هذه الثقافة وتنميطها بمنهجية الغواية والإغراء التي يمكنها اختراق وعي المستهلك وقدرته على المقاومة والانتقال به للعيش في أوهام عالم مسحور بالصورة مفتون بوميضها وقدرتها على استلاب الوعي، وتسطيح الإدراك وانتهاك العالم الداخلي للإنسان استباحةً لعقله وروحه.
دهاء الصورة:
وعلى هذا النحو، تنطلق الثقافة الرقمية اليوم من ثقافة الصورة وومضها، لتعمل على هندسة النوازع وتشكيل القيم عبر الإغراء والجاذبية والإدهاش، لتنتهك الوعي الإنساني وتعيد تشكيله على نحو يستجيب لتطلعات الشركات الإعلامية الجديدة في تشكيل الإنسان على مقياس الاستهلاك والانصياع لنسق رمزي جديد يريد أن يفتك بالقيم الإنسانية الخلاقة، وأن يدمر المنطق العقلاني، ويغرق الإنسان المعاصر في لجة المتعة والقيم اللذويّة. ومن هذا المنطلق، ينظر إلى الثقافة المعاصرة اليوم بأنها امتداد مخيف لثقافة الصورة والومض الضوئي، وذلك إلى الحد الذي دفع بكبار المفكرين إلى إطلاق عصر الصورة على العصر الذي نعيش فيه، وهو عصر يتصف بتراجع كبير في الثقافة النقدية المكتوبة التي تفسح مكانها لثقافة الضوء والصورة وومض الصورة وسحر الشاشات الضوئية. وهذا الامتداد المرعب لعالم الصورة يؤدي إلى ضمور في المعرفة العقلية النقدية، وإلى تراجعها وانحسار قيمها لصالح القيم الفردية والأنانية على حساب القيم النبيلة الخلاقة التي تتسم بالعقلانية والغيرية والتسامي والإنسانية.
حرب الصور:
وتتجاوز الصورة حدود الثقافة إلى جغرافية الصراع بين الدول والأمم والشعوب والثقافات، حيث تدور المعارك الكبرى بين الدول في تقاسيم الهيمنة والسيطرة بين الدول الضعيفة والقوية والمتناظرة في القوة، حيث تؤدي الصورة دورها في هذه الحروب كأداة كاسحة في عمليات الهجوم والدفاع والكرّ والفرّ. وهنا يتجلى دور الصورة الإعلامية عبر وسائط الإعلام الجبارة التي تتمثل في الفضاء الإعلامي عبر الشاشات والقنوات الفضائية وشبكات الإنترنت المعززة بوسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد بطريقة غير مسبوقة على فن الصورة كسلاح مدمر وفعال في الهيمنة والسيطرة. والصورة كسلاح غالبا، ما تكون مشفرة محمّلة بمضامين وغايات وأهداف خفيّة مضمرة تستهدف عقل الإنسان وقيمه؛ فالصورة التي تبث عبر الأقمار الصناعية وعبر شاشات الكمبيوتر والإنترنت لا يمكنها أن تكون حيادية وشفافة، بل هي غالبا ما تكون أداة أيديولوجية تستهدف الآخر في قيمه ومعانيه. فالمجتمعات الإنسانية - كما يؤكد كثير من الباحثين - تعيش حالة استلابية اغترابية تحت تأثير الصورة الإعلامية بوصفها طاقة استلابية كليّة القدرة.
الأنساق التربوية اليوم معنية بتكوين ما يسمى بثقافة الصورة المضادة، وهذا يعني أن على التربويين العمل على بناء استراتيجية لمواجهة تحديات الصورة الإعلامية
الإشكالية التربوية:
وإذا كانت وسائل الإعلام اليوم بقدرتها على بث الصور قادرة على استلاب الوعي، وتهميش الإدراك في المجتمع ككل، فإن هذا الخطر يتنامى ويتزايد في حالة الأطفال والناشئة الذين أصبحوا عرضة للخطر الرهيب الذي تمثله الصورة الإعلامية في مختلف مستوياتها وتجلياتها. فالأطفال اليوم هم أجيال الصورة والإنترنت كما يطلق عليهم، وهم يعيشون في أحضان الصورة ويعايشون تأثيرها الهدام في كل لحظة وثانية عبر تأثير الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي. وكلنا اليوم نشاهد شغف الأطفال بالصورة وتماهيهم بتأثيرها إلى الدرجة التي أصبحت فيها الصورة الإعلامية الغذاء الروحي لهم منذ اللحظات الأولى لولادتهم وبداية نشأتهم.
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هو: كيف يمكن أو يجب على الأنساق التربوية أن تتفاعل مع هذا المدّ الأسطوري لسلطة الصورة وقدرتها على اختراق الوعي الإنساني ووضع الإنسان في دائرة الاستلاب والاغتراب؟ كيف يمكن للنظام التربوي أن يستجيب لنداء الخطر؟ وما الذي يمكنه أن يؤديه في دائرة الصراع بين الإنسان كهوية إنسانية، وبين ما تريده له الصورة في أن يكون هوية رغبوية نزوية تريد تحويله إلى مجرد طاقة سلبية، أو مادة خام يسهل قيادها وإخضاعها واستغلالها؟ كيف يمكن للتربية أن تعمل على إعادة صقل الإنسان وفقا للثقافة النقدية حمايةً له من الذوبان في عالم نزوي استيهامي غرائزي تحكمه ومضات الضوء وترسم ملامحه إشعاعات الصور؟
بيداغوجيا المواجهة:
في معرض الإجابة عن هذا التساؤل الوجودي، لا بد لنا من القول إن الأنساق التربوية اليوم معنية أكثر من أي وقت مضى بتكوين ما يسمى بثقافة الصورة المضادة، وهذا يعني أن على التربويين العمل على بناء استراتيجية لمواجهة تحديات الصورة الإعلامية. ولا تكون هذه المواجهة بإحداث القطيعة بين المتعلمين والصورة الإعلامية، أو إقامة الحواجز والسدود بين المشاهدين الصغار ووسائل الإعلام، لأن هذا هو المحال، ولأن مواجهة الصورة تعني الانقطاع عن الحياة في أوج تقدمها. إن المواجهة بين الصورة الإعلامية والإنسان، يجب أن تكون مواجهة تفاعل حرّ نقدي يقوم على أساس الوعي المعمق بطبيعة الصورة وأهدافها وأنماطها.
فالمواجهة التربوية لغزو الصور، لا تكون إلا عبر تكوين ثقافة نقدية حول الصورة، تمكن المتعلمين ولاسيما الأطفال، من التفاعل الإيجابي في عالم يتدفق بالصور. وما نقصده هنا ثقافة الصورة المضادة؛ أي أن يكون المتعلم قادرا على فهم الصورة في غاياتها ومآلاتها، والكشف عن خفاياها ومضامينها، وفهم لغتها وتفكيك رموزها وتفنيد مقومات وجودها.
ومع الأسف، فإن الأنظمة التربوية العربية ما زالت بعيدة جدّا عن تحقيق هذا المنال، في حين أن الأنظمة التربوية في البلدان المتقدمة حققت أشواطا بعيدة المدى في مجال التربية الإعلامية النقدية على الصورة وتدفقاتها التي لا تنقطع. فاليوم، تفيض الأنظمة التربوية في العالم المتقدم ببرامج واستراتيجيات للتربية الإعلامية في مواجهة غزو الصور الإعلامية، وهي مكرسة للعمل على تمكين الأطفال والناشئة من التفاعل الإيجابي مع معطيات الصورة الإعلامية، والكشف عن أعمق ملابساتها.
لم يعد سرّاً أو أمراً خفياً على أحد من المتبصرين أن الصورة الإعلامية رسالة مكثفة بالمعاني والدلالات، وأنها تحمل في ذاتها غايات سياسية أيديولوجية اقتصادية ربحية، إذ لا يوجد هناك ما هو مجاني في هذا العالم، كما يقول المثل الفرنسي. والصورة من أجل أن تصل إلى غايتها تجمّل وتمتلك في ذاتها شروط الإثارة والتشويق، وهي قادرة بما فيها من طاقة جميلة سحرية على أن تتغلغل إلى وعي الأفراد، وأن تخترق جدران الشعور الأعمق الذي يتمثل في الطبقات العميقة من اللاوعي البشري. وكل صورة من هذه الصورة تستهدف الفرد، وتريد السيطرة عليه أيديولوجيا وسياسيا وعقائديا واقتصاديا، وترغب في أن تهندس عقله وطريقة سلوكه.
وهذه الوصفة لطبيعة الصورة، تضعنا على مسار الوعي بأهمية التربية على الصورة كشفا لكل ما يعتمل فيها من غايات وأهداف مهما تكن هويتها، وإدراكا لكل الأساليب السيكولوجية والتكنولوجية التي تعتمد في إنتاجها وفي تسويقها. فالصورة رسالة إعلامية معدة بأكثر الطرق التكنولوجية مكرا وخداعا وتزييفا ودهاء. وهنا، تكمن العملية التربوية في إعداد الأفراد نقديا للكشف عن ماهية الصور، وتمكينهم من القدرة على فك شيفراتها ومعرفة غاياتها وتحليل مضامينها والتوغل في سيميائياتها، للكشف عن المستور والغامض والخفي والمزيف الكامن في مضامينها.
خاتمة:
فالصّورة كما يقول أحد الكتاب: "جهاز من الرّموز تستـدعي التفكيك والتأويل. وعلــيه، فـــإنّ الاشتغال البيداغوجيّ عليها لا يقلّ شأنا عن إنتاجها. إنّ تـنزيل الصورة في الحقل البيداغوجي تنزيل وظيفيّ وليس اعتباطيّا، فحــضورها الكــاسح في مخـتلف المحاميل البيداغوجيّة يؤشّر على أنّها ليست تأثـيثــا جمــاليّا أو تسلـــية بصريّــــة بقدر مــاهي ضــرورة بيداغوجيّة"([6]).
وهنا تكمن الوظيفة التربوية المعاصرة في تمكين الأطفال والناشئة من القراءة النقدية للصورة، بوصفها رسالة إعلامية حمالة للقيم الأيديولوجية تهدف إلى استلاب الوعي وتدمير الطاقة النقدية لدى الأطفال والناشئة في المجتمع.
وهذا كله يستدعي منا اليوم دمج التربية الإعلامية على الصورة في المناهج المدرسية، ووضع استراتيجيات تربوية جديدة تمكن المتعلمين والمعلمين أيضا من مواجهة سطوة الصورة وتحدياتها في الفضاء الرقمي الجديد، وفي الزمن الافتراضي الهائم في القرن الحادي والعشرين. وباختصار شديد، يجب على الأنساق التربوية اليوم أن تضع استراتيجياتها الفعالة للتفاعل مع عصر الصورة بطريقة إيجابية وفعالة، تضمن للأجيال الحق في المحافظة على وجودهم الإنساني ومقومات الإحساس بالحرية والكرامة والاستقلال، كما تضمن لهم نوعا من الحصانة الأخلاقية والعقلية والمحافظة على نقاء سريرتهم وصفاء إنسانيتهم.
[1] - ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2002. ص 10
[2] - المرجع نفسه، 2002. ص 10
[3] - Marc Augé , La Guerre des rêves. Exercices d'ethno-fiction, Paris, Le Seuil, 1997
[4] - عن: كريم أبو حلاوة، الآثار الثقافية للعولمة حظوظ الخصوصيات الثقافية في بناء عولمة بديلة، عالم الفكر، العدد الثالث، المجلد 29، يناير/ مارس 2001، (ص ص 171-202)، ص 184
[5] - انظر: عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية، عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ندوة: العرب والعولمة، بيروت 18-30 كانون الأول/ ديسمبر، 1997.
[6] - عبد الله عطيّة، تمثّلات الصّورة في المجال التربويّ، أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، 20 تشرين2/نوفمبر 2010. متوفر على موقع أنفاس: http://anfasse.org.