الترجمة والعولمة وإضفاء الطابع المحلي: منظور صيني وانج نينج وسون يفنج ترجمة محمد عناني


فئة :  قراءات في كتب

الترجمة والعولمة وإضفاء الطابع المحلي: منظور صيني وانج نينج وسون يفنج ترجمة محمد عناني

الترجمة والعولمة وإضفاء الطابع المحلي: منظور صيني

وانج نينج وسون يفنج

ترجمة محمد عناني

فكرة الكتاب

الترجمة والثقافة

التَّرْجَمَة بمعنى نقل وتحويل مختلف النصوص من لغتها الأصلية إلى لغة أخرى، وعندما نتحدث عن اللغة (أيّ لغة)، فإننا نلامس مجالا معينا للتفكير ولرؤية الأشياء ولطبيعة التواصل ولتصور العالم؛ فالأشياء والظواهر غير متعددة فيزيائيا عبر العالم، لكن تصورات مختلف الثقافات وانطباعاتها النفسية والوجدانية عن مختلف تلك الظواهر والأشياء وغيرها، هي التي تختلف وتتباين وتتعدد، بالرغم من وحدة مختلف الظواهر والأشياء في الوجود؛ فمثلا ليس هناك اختلاف حول طبيعة ماهية الماء في ذاته في كل مكان، لكن تصورات الناس وانطباعاتهم، هي التي تختلف، صحيح يتفق الناس عالميا عن طبيعة الماء ومكوناته علميا، لكن تلك الحقيقة العلمية تحضر بأشكال علمية مختلفة ثقافيا.

تقوم اللغة بوظيفة التواصل بين مختلف أفراد المجتمع من خلال الارتكاز على الثقافة؛ فمختلف مفرداتها ذات حمولات ثقافية ومعرفية وتصورية... ومن المستبعد الحديث عن لغة معزولة عن نظام ثقافي معين، كما أنه من المستبعد الحديث عن ثقافة بمعزل عن اللغة، أينما حلت الثقافة حلت اللغة والعكس صحيح.

فزوال ثقافة معينة، يترتب عنه زوال أو انحصار اللغة الحاملة لها، وعندما نكتشف لغة غارقة في القدم، فذلك يعني اكتشاف ثقافة مجتمع. اللغة حاملة للثقافة، ومن خلالها يتحقق الارتباط والتواصل بين أعضاء المجتمع، وهي مؤسسة لكثير من أنماط التواصل في ما بين أفراد المجتمع، فلها دور كبير في صياغة مختلف التصورات التي تميز مجتمعا عن آخر، وهي تخزن من خلال نظامها الثقافي خبرة الأفراد والجماعات التاريخية، وصلتهم بالطبيعة وبالعالم.

فكل هذه المعطيات التي تتصل بعلاقة اللغة والثقافة والمجتمع، تجعل من الترجمة مسألة ثقافية معرفية أكثر مما هي عملية نقل إجرائي محايد. فعملية نقل المعاني من لغة إلى أخرى، عملية يحضر فيها تقريب أنساق من المعنى والدلالة الحاضرة في اللغة الأصل، إلى أنساق أخرى من المعنى والدلالة في اللغة الهدف التي نقل إليها النص المترجم؛ فالمترجم في هذه الحالة في موضع يشبه وضع المؤلف وكاتب النص، فالترجمة إذن متعددة ومتنوعة، وهي بهذا تقريب للمعنى ولا يمكن أن يكون هو المعنى نفسه بشكل مطابق.

الترجمة والعولمة والمحلي

الترجمة إذن، وسيلة نقل للثقافة والفكر والحضارة منذ القدم، ومن أجل هذه الغاية والهدف، يمكن الحديث اليوم عن الترجمة بوصفها علما، له قواعد ومنهج وتصورات نظرية ومقاربات متعددة...لأنها من بين الآليات التي عولت عليها مختلف الحضارات قديما وحديثا في التواصل، إلا أن واقع ومطلب الترجمة في الزمن الراهن، يختلف اختلافا كليا عن الماضي، في الزمن الحاضر المتصف بخاصية العالمية والعولمة، وهي خاصية جعلت مختلف الثقافات عبر العالم في وضعية تواصلية مختلفة عن سابقتها، نتيجة الثورة المعلوماتية وعالم الإنترنيت، الذي تحول معه العالم إلى قرية صغيرة، وهو كذلك بالفعل، فبإمكان شخص في أقصى نقطة من القارة الإفريقية بمدينة فاس، أن يتواصل حول كل شيء مع شخص آخر في أقصى نقطة من القارة الآسيوية شرق الكرة الأرضية في بكين. هذه وضعية غير متاحة من قبل، إلا من خلال المراسلة والكتابة، أو من خلال اجتماع الأشخاص في نفس المكان. لغة التواصل عبر الأنترنيت غالبا ما تكون اللغة الإنجليزية.

في هذا السياق التواصلي المفتوح، الذي ألغى عنصر الحضور في نفس المكان واحتفظ على نفس الزمن، بالرغم من تفاوت الوقت بين قارة وأخرى. العولمة إذن في حاجة إلى علم الترجمة لصياغة وتسهيل عملية التواصل في عالم يتجه بشكل أكبر نحو عالم أكثر انفتاحا عما كان عليه من قبل؛ وذلك بتشكل عالم ينظر فيه الناس بدرجة أولى إلى ما يجمعهم وما هو مشتركون ومتماثلون فيه، بمعزل عن مختلف الخصوصيات والمحليات المرتبطة بمحلياتهم وثقافاتهم وحضاراتهم؛ فالشخص الذي يتواصل مع الشخص الآخر في بكين بشكل شبه يومي، وقد ينضاف إلى الحوار والتواصل شخص آخر من واشنطن وشخص آخر من لندن؛ فهذه المجموعة قد تتواصل لزمن ممتد حول مختلف القضايا، وقد ينتج عن تواصلها، نسق من العلاقات والمفاهيم والتصورات الثقافية، التي تأخذ بما هو مشترك وكوني وإنساني بينهما، بمعزل عن الثقافة المحلية لكل واحد من أفراد المجموعة، فكل يبقى يتحرك من خلال محليته، ولكن من داخل نسق كلي ثقافي عالمي. في هذا السياق، تتشكل لغة إنجليزية ترتبط بعالم الأنترنيت، ولغة عربية ترتبط بعالم الأنترنيت وصينية... وهي لغات حاملة للثقافة التواصلية عبر العالم، بمعزل عن اللغة الإنجليزية الغارقة في المحلية الثقافية للشعب البريطاني أو الأمريكي، وبمعزل عن اللغة العربية الغارقة في محلية الإنسان العربي وبمعزل عن اللغة الصينية الغارقة فغي المحلية...العولمة وعالم الأنترنيت إذن، قد لامس موضوع اللغة نتيجة التحول الثقافي بفعل العولمة.

في زمن العولمة اختارت الصين أن تخرج إلى العالم بالاعتماد على لغة سارية الحضور عبر العالم، وهي اللغة الإنجليزية، ولم تختر التواصل والحضور في العالم من خلال لغتها الصينية، ولو كان ذلك لأخذت وقتا طويلا، وهي تدعو العالم ليقترب منها، لقد اختارت الطريق القريب، وهو توظيف اللغة الإنجليزية للحضور في العالم اقتصاديا بدرجة أولى، وليس ثقافيا. فالصين اليوم هي السوق الذي يقصده العالم، فهي تصنع كل ما يحتاجه الإنسان عبر العالم، في مختلف البيئات والثقافات؛ بمعنى أن الصين اعتمدت على الترجمة بهدف حضورها في العالم وقد نجحت في ذلك، نجاحا كبيرا. وقد ربحت اللغة الإنجليزية مساحة واسعة من الجمهور مقابل مختلف اللغات؛ إذ تحولت اللغة الإنجليزية إلى لغة العولمة ولغة العالم، ولهذا الأمر أسباب كثيرة من بينها ما أقبلت عليه الصين، فلو اعتمدت الصين لغتها من أجل الحضور في العالم، لكان وضع اللغة الإنجليزية مختلفا.

فالصين لا يعني أنها تخلت عن محليتها في نظرتها إلى العالم وإلى مختلف الملفات القضايا العالمية من قبيل الديمقراطية حقوق الإنسان... فالصين لها نظرتها لهذه الملفات الكبرى وغيرها، فهي تضفي على الكوني طابع المحلي، في رؤيتها إلى الداخل وإلى الذات، وهي لا تلغي المحلي في سياق التواصل العالمي "الصينيين دائمًا ما عبَّروا عن تصوُّر «للعالمية» من داخل ثقافتهم الخاصة، وليس معنى هذا أن الصينيين قد استولَوا وحسب على العالمية الغربية؛ فلقد كان الصينيون يعتبرون أنفسهم على مرّ التاريخ مركزَ العالم، ومركزًا للمجال الثقافي الصيني للعالمية الكونفوشية، وإن كانت هذه العالميةُ الشاملة أقربَ إلى التمركُز في الذات سيكولوجيًّا والتوجُّه إلى الداخل منها إلى النزعة «التوسُّعية» مثل الغرب".[1]

وهذه مسألة المتعلقة بالداخل والخارج وفعل الترجمة والتواصل مع العالم لدى الصين، في حاجة لفهم وبحث ونظر. في هذا السياق، يأتي الكتاب الجماعي الذي يضم مجموعة من الدراسات لكثير من المختصين، تحت عنوان "الترجمة والعولمة وإضفاء الطابع المحلي: منظور صيني" لـ: وانج نينج وسون يفنج. ترجمة محمد عناني.

موضوعات الكتاب

عنوان هذا الكتاب «الترجمة والعولمة، وإضفاء الطابع المحلي»، "مما يعني أن جميع المقالات المنشورة فيه تتصل بصورةٍ ما، على الأقل، بالقضايا الثلاث المذكورة، وهي الترجمة، التي تُعتبَر الموضوعَ الرئيس الذي تُناقِشه المقالاتُ المذكورة من منظوراتها الخاصة؛ والعولمة، وهي السياقُ الواسعُ الذي تُناقِش الترجمةُ في إطاره، والذي يعيش جنبًا إلى جنب مع الطابع المحلي، وإن كان هذا الأخير غالبًا ما يطعن في العولمة. وقد تغيَّر التمييز بين الطابع العالمي والطابع المحلي تغيُّرًا كبيرًا في السنوات الماضية، وأصبح من الموضوعات التي تحظى بمناقشاتٍ ساخنةٍ في البحوث الأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة، وإن كان التاريخُ الفريدُ للصين قد أدَّى إلى أن سادت ضروب التوتُّر بين العالمية والمحلية دراساتِ الترجمة في الصين، على المستويَين الثقافي والسياسي. وإذا كنا نستطيعُ افتراضَ وجود جدلية بين العالمية والمحلية، فإن التمييز بينهما من المُحال أن يختفي؛ ففي مجال الترجمة الأدبية، وهي التي دائمًا ما تتضمَّن على الأقل لغتَين وثقافتَين، وهما في أغلب الأحيان اللغة والثقافة الصينية واللغة والثقافة الإنجليزية، نجد أن الترجمة إلى اللغة الصينية تعني إضفاءَ الطابعِ المحلي على المادة العالمية، والترجمة من اللغة الصينية تعني عولمة الطابع المحلي"[2] فالصين إذن على وعي بفخ العولمة؛ إذ عوَّل الغرب على العولمة أن تلعب دور الأمركة، أو تلعب دور قولبة العالم وفق القالب الذي يريده الغرب. ولهذا، فالصين تراعي المحلي في حالة الترجمة إلى اللغة الصينية، كما تراعي الكوني في حالة الترجمة إلى اللغة الإنجليزية. وبهذا الشكل حافظت الصين على بعدها المحلي والكوني في نفس الوقت، وهي مسألة حظيت بنقاش واسع وكبير؛ فالكتاب يضم قسمين تتخللها مجموعة عناوين وهي كالتالي:

القسم الأول: نظراتٌ تاريخيةٌ شاملة: ويشمل: إعادة تقييم العالمية: الترجمة والحداثة وخطاب الهيمنة/ الترجمة في إطار التوتُّر بين العالمي والمحلي/ دراسات الترجمة في الصين: ممارسة نظرية "عولمحلية"/عن الترجمة الثقافية: منظور من زاوية ما بعد الاستعمار/ نحو مداخل تعدُّدية وبَيْنية.

القسم الثاني: التطورات الجارية: ويشمل: نظرة عالمية على دراسات الترجمة/ التعدي والاستيلاء في الترجمة الثقافية المتعددة الجنسيات: ملاحظة تفكيكية/ عندما يحدث التحول: دليلٌ مضاد لفرضية النُّظم المتعددة/ ترجمة الثقافة الشعبية: فيلم «جنازة الرجل العظيم» للمخرج فينج خياوجانج بوصفه نصًّا متعدِّد النَّوى/ اللغة الإنجليزية باعتبارها أداة «ما بعد استعمارية» أشكال الهدم المناهض للهيمنة في لغةٍ مُهيمِنة.

الفائدة من قراءة الكتاب

أهمية هذا الكتاب أنه يقربنا من نموذج ثقافة عالمية تتعلق بالنموذج الصيني؛ فالصين اليوم حاضرة بشكل كبير كقوة عالمية عظمى، ولكن حضورها لا يعني أنه حضور مختزل في السياقات السياسية والثقافية الغربية؛ إذ يتضح للجميع أن الصين لها خصوصياتها ونظرتها المختلفة عن الغرب من جهة حضورها في العالم، وهو حضور ركز بشكل كبير على ما هو اقتصادي، ولا يهدف إلى نشر وتوزيع نماذج تصورية للعالم والإنسان ترتبط بالفلسفة الصينية، فضلا على أن الصين كقوة عالمية، ليس لها تدخلات عسكرية تتعلق بالشأن المحلي لمختلف الدول...ماذا يعني هذا؟ يعني أن العقل الصيني قد حافظ بشكل متزن على الخصوصية والمحلية، وقد استفاد بشكل كبير من العالمية، دون أن يتورط في فخ صدامات عسكرية او ثقافية، ولا شك أن فعل الترجمة كسياسة تواصلية لها دورها من زاوية العقل الصيني.

[1] الترجمة والعولمة وإضفاء الطابع المحلي: منظور صيني، وانج نينج وسون يفنج، ترجمة محمد عناني، صدرت هذه النسخة عن مؤسسة هنداوي عام ٢٠٢٤. ص.17

[2] نفسه، ص.11