التعددية الدينية في الإسلام
فئة : مقالات
التعددية الدينية في الإسلام:
قراءة في صحيفة المدينة
د. محمود كيشانه
تُعدّ قضية التعددية الدينية من القضايا التي دار حولها نقاش طويل في دائرة الفكر الشرقي والفكر الغربي على حد سواء، وإن كنا نعدها من قبيل القضايا التي يمكن دراستها تحت ما يمكن تسميته بعلم كلام معاصر. وعليه، فإنّ الاعتراف بالتعددية الدينية وتطبيق ما يترتب عليها يعدّ الأداة ذات اليد الطولى بالخروج بالوطن - أيّاً كان - من دائرة الصراعات والخلافات والعنف الذي يجتاح العالم الآن بصور شتى وألوان مختلفة، قوامها الأساسي الاستناد إلى الصراع المذهبي والنزاع الديني. والمتأمل للواقع المعيش في عالمنا المترامي، يجد أننا لا نلمس موقفاً واحداً تجاه التعددية الدينية، فهناك من يرفضها رفضاً قاطعاً بدعوى أنها تمثل قضاءً على الدين، وهناك من نظر إليها على أنها سبب فعال في معالجة الاحتقانات بين متعددي الدين أو العرق أو الجنس أو غيرها، وفي إقرار حقوق الآخر أيّاً كان، وهناك طائفة أخيرة ـ وهم قلة ـ جعلوا التعددية أداة للتسلق على المبادئ الدينية والعمل عن الانحلال منها.
وفي عصر اتخذت فيه بعض التيارات المتعصبة من الفهم الخاطئ للدين تكأة لبناء أيديولوجيات مبنية على هذا الفهم الخاطئ، وكان من شأن هذه الأيديولوجيات أن عملت على تأجيج نيران الصراعات والحروب في أوقات زمانية عديدة، أدت في النهاية إلى إزهاق العديد من الأرواح التي لم يكن لها ذنب جنته غير أنها وجدت في بيئات وأزمان لا تعترف بحقوق الآخر التي دعا إليها الدين ذاته وحث عليها؛ بيد أنّ الناظر بعينيه في هذه الصور من الصراعات يجد دون أدنى تأمل كيف حولت التيارات المتشددة ذات المرجعيات الدينية في الشرق وفي أوروبا وأمريكا القيم الأخلاقية إلى سلعة رخيصة من أجل تبرير المواقف، وأهم هذه القيم قيمة العدل، فالعدل الأساس القوي الذي تقوم عليه الدول وتشيد من خلاله الممالك، كما أنه القيمة المحورية التي تنشر بذور الحب والإخاء والتعاون والتواد، إلا أنّ هذه القيمة أصبحت نادرة الوجود، في عالم استباح لنفسه كل شيء ولم يترك للضعفاء شيئاً، وهذا حتماً يؤدي بدوره إلى إحداث حالة من الكراهية والحنق، وهي الحالة التي قد تتطور إلى العنف والعنف المضاد، مما يمكّن أصحاب الأجندات الهدامة من استغلال هذه الحالة في إثارة القلاقل والفتن واللجوء إلى التفسيرات الخاطئة للنصوص المقدسة، ويجعل من هذه التفسيرات مرجعية لها، فيحدث الصدام والصراع لا التلاقي والوئام، وإن كنا لا نبرئ تلك القراءات المذهبية ذات الطابع التعصبي التي تتخذ من استقراءاتها المغلوطة للدين منطلقاً لتأسيس العديد من النزاعات والصراعات، بل إننا نظن أنّ بعض رجال الدين في عصور التدهور، سواء أكانوا في المسيحية أو اليهودية أو الإسلام كانوا سبباً ـ بفتاواهم الاجتهادية وأحكامهم الاستنباطية - في تكوين مرجعيات دينية أو مذهبية تهضم حق الآخر المختلف عقدياً أو سياسياً أو غيرهما، بل والحكم عليه بالقتل وسفك الدماء، وهو الأمر الذي نجد له خلفيات واضحة في أغلب مراحل التاريخ الإنساني.
التعددية لغة واصطلاحاً:
يمكن القول بدءاً، إنّ مصطلح التعددية الدينية من تلك المصطلحات التي تتسم بقدر كبير من الغموض، وربما يرجع ذلك إلى تعدد الأقلام التي تناولت الموضوع دون تحديد مفهوم واحد مشترك بينهم عنه[1].
والتعددية الدينية من المصطلحات التي لا نجد لها أصلاً لغوياً نظرياً، وإن كان هذا لا يمنع من كونها مطبقة داخل النص القرآني والعديد من الأحاديث النبوية، وما أكثر الظواهر المعيشية التي تدل على ذلك! إلا أنّ المصطلح مأخوذ من البيئة الغربية تحت مسمى Religious Pluralism، ومصطلح التعددية الدينية بهذا الشكل يتضمن خاصية رئيسة هي الحرص على تطبيق حي للمواطنة في صورتها الكبرى، لأنّ هذه الخاصية تنطوي على أمرين: الاعتراف بتعدد المعتقدات الدينية داخل وطن ما، والتعايش السلمي بين أصحاب هذه المعتقدات مع احتفاظ كل بخصائصه العقدية.
جذور فكرة التعددية الدينية:
يمكن القول، إنّ جذور فكرة التعددية الدينية تمتد بالأساس إلى تلك الدول التي تعددت فيها الأديان والمعتقدات الدينية، الأمر الذي حدا إلى ضرورة البحث عن سبل التلاقي والتواصل بين أهل هذه المعتقدات وأداً للصراعات والنزاعات والحروب، وتحقيقاً لمبادئ المواطنة الكاملة. ونرى أنّ أكثر النماذج دلالة على تأكيد منبع هذه الفكرة في البلاد ذات التعددية الدينية دولة الهند؛ فالهند أكثر دول العالم تعددية في المعتقدات الدينية، ومن ثمّ فإنّ ظهور فكرة التعددية مرتبط بالأساس بالحالة الهندية، ونذكر من أوائل المفكرين الهنود الذين ظهرت هذه الفكرة على أيديهم:
ـ رام موهن راي
ـ راما كريشينا
ـ سين
ـ سوامي
ـ الماهاتا غاندي
وعليه، فقد كانت تلك الجهود الهندية أرضاً خصبة انطلق منها الغرب الأوروبي لتأسيس نوع جديد من التعايش الذي يقوم على أنقاض الحكم الكنسي الذي ذاقوا بسببه الويلات، حيث كان الاضطهاد الديني على أشده، ممّا أدى في أغلب الأحيان إلى إزهاق روح الإنسان تحت دعوى الحق الإلهي الكنسي. خاصة أنّ كثيراً من الحروب الأوروبية القديمة كانت ذات خلفية دينية، بل إنّ الحروب الأوروبية العربية مثلاً كانت ذات خلفية دينية بفعل السلطة الدينية الحاكمة، التي لم يكن تدخلها يقف عند حدود الأمور الدينية، إذ إنه كان يمتد إلى الإجهاز على من يخالفها في الأمور الدنيوية، كما حدث منها في الوقوف أمام العلماء التجريبيين وغيرهم في العديد من المسائل العلمية التي انبنت على نواحي تجريبية، كانت سبيلاً من سبل التطور العلمي الذي يشهده العالم الآن.
وعليه كانت التعددية الدينية طوق النجاة لأوروبا من تلك الصراعات التي شهدتها على مرّ تاريخها، حيث وجد فيها المفكرون الغربيون منقذاً من الصراعات البينية والحروب الخارجية بدعوى الحق المقدس والأرض المقدسة في الشرق. وكان من أكثر المفكرين الغربيين احتفاءً واحتفالاً بها المفكر جون هيك، حيث امتلك مشروعاً فكرياً ـ قد نختلف أو نتفق معه في العديد من جزئياته - حاول من خلاله أن يقيم أساساً من التعايش السلمي، حيث ركز جهوده في سبيل إرساء ثلاثة أنواع من التعددية:
ـ التعددية الأخلاقية
ـ تعددية الخلاص والإنقاذ
ـ التعددية المعرفية الدينية
فالأولى تعني أن يتعامل الناس جميعاً وفق المبادئ الإنسانية والأصول الأخلاقية التي تتفق عليها جميع الأديان، دون النظر إلى الديانة أو المعتقد، من غير أن يمس هذا أصول عقيدة كل منهم في الخلاص والجنة والنار، والثانية تعني عند جون هيك أنّ غير المسيحي لديه فرص النجاة أو الخلاص نفسها التي يمتلكها المسيحي بالنظرة المسيحية، مستنداً في ذلك إلى أنّ تسليم المسيحي بوجود فرصة الخلاص والفوز بالجنة لغير المسيحي تقود للتسامح الأخلاقي أو ما يسميه التعددية الأخلاقية، والثالثة تعني النظر إلى الدين على أنه معرفة باطنية دينية، فالإيمان عنده صورة من صور المعرفة الناتجة عن الارتباط العقائدي بالمطلق.
أنواع التعددية:
إلا أنه يمكن القول، إنّ التعددية ليست دينية فقط، بل إنها تمتد لتشمل التعددية المذهبية والتعددية السياسية.
أولاً: التعددية الدينية: والمقصود بها تعدد الأديان والمعتقدات في بيئة ما، وإظهار القدر الكافي من الاحترام لهذا التعدد وما ينشأ عنه من اختلافات رئيسة أو غير رئيسة، وعليه كان لا بدّ من ضرورة الإيمان بتحقيق سبل التعايش السلمي بعيداً عمّا هو من شأنه تكدير السلم المجتمعي. وعليه، فإنّ مفهوم التعددية الدينية هنا يقوم على أساس الاعتراف بالآخر وعدم إقصائه تحت أية صورة من صور الإقصاء، والعمل على تطبيق مبدأ المساواة بين الجميع تحت مظلة القانون، وعليه فلا يكون القيد الفكري على الآخر بديلاً عن حرية التفكير، كما لا يكون العنف بديل الحوار، أو أن يكون الإكراه سبيلاً لضياع سبل الإقناع. والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أنّ الإسلام لا يقصي أهل المعتقدات الأخرى، كما لا يلغي وجودهم، بل يعترف لهم في الخطاب الموجه لهم بحرية الاختيار المبني على إرادة حرة قائلاً: "لكم دينكم ولي دين".[2]
وهذا هو دأب الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لما أسر المسلمون أصحاب بدر من قريش، وكانوا مشركين، لم يقتلهم بل أخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم، فلم يجبرهم على الإسلام، وكذلك عندما دخل مكة فإنه قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فلم يقتلهم ولم يجبرهم على الإسلام، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على من له أقل إلمام بتاريخ الرسول، وهذا هو المقطوع به من سيرة رسول الله، بل وسيرة المسلمين طوال التاريخ الإسلامي، فإنه لم يعهد من أي مقاتل من المسلمين أن يقتل جميع الكفار الذين لم يكونوا أهل كتاب ولم يسلموا، بل مختلف أنواع الكفار كانوا يعيشون في كنف الحكومات الإسلامية.[3]
وقد كان أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) مقتفياً أثر رسول الله، وكفل الحريات حتى لغير المسلمين الذين كانوا يعيشون تحت راية الإسلام، حيث إنه لم يكره أحداً من المواطنين على أن يترك عقيدته وأن يعتنق الإسلام، بل لقد كان الأمر خلاف ذلك، فقد ورد عنه: "الزموهم بما التزموا به"، وقوله: "كل الناس أحرار"، وقول الإمام الحسين: "إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم"، وعلى هذا المبدأ سار سيدنا علي كرم الله تعالى وجهه.[4] وغيرها من الروايات التي تدل على التمسك بمبدأ التعددية، وإن لم يكن المصطلح موجوداً بلفظه.
ثانياً: التعددية المذهبية:
ويقصد بها تعدد المذاهب في الدين الواحد، وهي تقوم بالأساس على الاعتراف بوجود أتباع المذهب الآخر وبحرية الأشخاص في اعتناقه من عدمه، بصرف النظر عن الإيمان بمنطلقات هذا المذهب وأركانه وأصوله من عدمه، خاصة في تلك الأوطان التي يوجد بها تعدد مذهبي كالدول الغربية مثلاً، حيث تسود فيها عدة مذاهب مسيحية كالبروتستانت والأرثوذوكس والكاثوليك وغيرها من المذاهب الفرعية. وقد شهد التاريخ الإسلامي العديد من المذاهب الفكرية كالمعتزلة والأشاعرة وغيرهما في علم الكلام، والمالكية والحنفية والشافعية والحنابلة في باب الفقه، كما شهد بعض المذاهب العقدية كالسُنّة والشيعة. وإذا كان هذا في باب التمذهب العقدي ـ السُنّة والشيعة ـ فإننا نؤكد أنّ المقصود بالتعددية المذهبية هنا تعددية تنطلق من عدم نفي الآخر مع كامل الاحترام لعدم الإيمان بمعتقداته أو التسليم لأفكاره تحت مبدأ لكم دينكم ولي دين، حيث نقضي على كل بوادر الشقاق التي تؤدي في النهاية إلى العنف والعنف المضاد.
ثالثاً: التعددية السياسية
التعددية السياسية عبارة عن ترتيبات مؤسسية خاصة لتوزيع السلطة الحكومية والمشاركة فيها، [5] وعليه فإنّ القرارات السياسية التي تتخذ في دولة تتمتع بالتعددية هي قرارات نخب عديدة ومجموعات قيادية متخصصة لا تتخذها نخبة أو فئة واحدة.[6] ومن ثم، فإنّ التعددية السياسية تعني تعدد القوى والأحزاب السياسية بما تتضمنه من حق المعارضة والتعايش الآمن والسلمي داخل المجتمع، والتعبير عن آرائها السياسية بكل حرية بعيداً عن الإكراه، حيث تكون عنصراً فاعلاً في قوام العملية السياسية، وعليه يمكن الحكم على بلد ما بفاعلية الحياة السياسية وثرائها فيه من عدمها.
وثيقة المدينة:
عندما دخل الرسول محمد ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ المدينة مهاجراً من مكة إليها وضع دستوراً واعياً يجمع المدينة كلها بمسلميها ويهودها، وهو في الحقيقة دستور يراعي حق المواطنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن ثم فهو يمثل خطة سياسية محكمة لكيفية التواصل ـ بكل حب وود وفاعلية ـ بين أبناء الوطن الواحد، لا يكون فيه المنهج المتبع هو منهج الإقصاء. وما أحوجنا نحن إلى لم الشمل! فقد أثبتت الأيام خطورة هذا المنهج الإقصائي بين المواطنين بحسب الديانة أو الجنسية أو العرق أو اللون أو المذهب الأيديولوجي، ولا نود أن يكون هذا المنهج هو المنهج المتبع؛ لأنّ مخاطره تتوالى على المدى القريب والمدى البعيد. ولنستحضر جميعاً نموذج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما دخل المدينة إذ قام بعمل أول عقد اجتماعي ربما في التاريخ من خلال صحيفة المدينة، وهي الصحيفة التي وضع فيها النبي الكريم أسس التعايش السلمي المشترك بين طوائف المدينة، سواء أكانت قبلية كما يمثلها الأوس والخزرج أم دينية كما يمثلها اليهود والمسلمون، حيث يذكر ابن إسحق في السيرة النبوية كيف حفظ الرسول الكريم في صحيفة المدينة الحقوق، وهي: حرمة الدماء، وحرمة الأموال، وحماية الحريات وأهمها حرية العقيدة، والتعددية والمواطنة والمساواة.
من خلال هذا الواقع الجديد، ظهرت (الوثيقة) في السنة الخامسة للهجرة التي نظمت العلاقات، وأقرت الحقوق والواجبات والحدود والقواعد بين الناس حتى لا تخترق، وهي مُلزمة كإلزامية النص القرآني في التطبيق. وإذا كانت الوظيفة الاتصالية تقوم بدور قناة الاتصال بين القاعدة والقيادة من جهة، وبين الحاكم والمحكومين من جهة أخرى، وتعمل على خلق شبكة من الاتصال بين الجماهير والقيادة بطريقة تمكنها من توليد القوة السياسية لتلك الجماهير من خلال توجيهها وتعبئتها[7] فإننا نعتقد أنّ الوثيقة تكشف عن هذا البعد بطريقة أو بأخرى. وبذلك أصبح التطبيق الرسولي يحتل مكانة المثل والأسوة في البيئة الإسلامية، رغم أنّ الظاهرة الجديدة ظلت محكومة بظروفها. من هنا كانت الوثيقة على حداثتها مشروعاً جديداً وجدياً على مستوى الرؤية التاريخية، حتى تحولت خلال خمس سنوات من عمر الدعوة إلى أن تكون مشروعاً قابلاً للفعل في ظرف العصر طبقت في بنود صلح الحديبية وفي معاهدة الصلح في فتح مكة. لكن المشروع فشل بعد موته مباشرة وإلى اليوم، لماذا؟ هل أنّ المرافقين للدعوة لم يؤمنوا بها، أم إنّ شروطها كانت صعبة في التطبيق؟ إشكالية بحاجة إلى دراسة موثقة لقول الحقيقة فيها".[8]
وتحمل هذه الصحيفة قدراً سامياً من التوافق الوطني الذي أحدثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين طوائف المدينة، وهو التوافق الذي كان مداره الصالح العام للوطن المدني الذي كان يضم قبليات مختلفة كالأوس والخزرج، وكالأنصار والمهاجرين، وعقائد مختلفة كاليهودية والإسلام. فالتسامح لم يكن هو وحده الذي دفع الرسول الكريم إلى هذا الوفاق الوطني، وإنما كان ذلك يعود أيضاً إلى الصالح العام؛ لأن الرسول كان يدرك جيداً أنّ استقرار الدولة الإسلامية في المدينة مرهون بالتوافق بين الجميع ولو من قوى المعارضة، وهذا يدل على ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم، باعتباره رجل دولة ـ فضلاً عن كونه رجل دين ـ يعلم أن سفينة الوطن لن تسير لا بمطرقة الإقصاء ولا بسندان البطش، وإنما كان يعلم أنّ الذي يسيرها إنما هو التوافق الوطني المبني على حب الوطن فعلاً لا قولاً.
ومن ثم وجب العمل على بناء جسور من التواصل بين التيارات المتناحرة، من خلال تواري الأيديولوجيات الخاصة والأجندات الحزبية، وأن تكون مصلحة الوطن هي العليا، فمادام الإسلام ينادي بالشورى والمواطنة والتسامح والتعددية واحترام الإنسان، وهي مبادئ ينادي بها ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أيضاً، فلماذا لا نبني على هذه النقاط المشتركة؟ وننبذ مواطن الخلاف والشقاق الجوهرية رغبة في الارتقاء بالوطن؟ لماذا لا تكون الأولوية للعمل الجاد من أجل الوطن؟
التعددية الدينية في وثيقة المدينة:
من يقرأ النظم التي أنشئت منذ بداية عصر الرسول الكريم يدرك تماماً أنّ بعداً سياسياً وفكرياً قد طرح على الساحة العربية الإسلامية لتنظيم أمور الدولة وبنائها على مبدأ الحق والعدل بين الناس، ولم يكن الدين - المستغل اليوم لصالح الباطل - إلا وسيلة لتحقيق هذا الهدف السامي الكبير، فالدولة كانت مدنية منذ البداية وليست دولة دينية بالمفهوم العام.[9]
التعددية والحقوق والواجبات:
يمكن القول، إنّ مفهوم "التعددية" في الرؤية الإسلامية يتحرك في ظل تنوع مؤسس على تميز وخصوصية[10]، حيث أكدت الصحيفة على مجموعة من الحقوق والواجبات المشتركة بين مواطني المدينة دون تمييز بينهم بحسب العقيدة إيماناً بمبدأ التعددية الدينية لتحقيق الأمن والسلم الاجتماعي داخلها، دون إحداث ما يعكر الصفو من نزاعات وقتال ومعارك من شأنها تهديد هذا السلم، ومنها على سبيل المثال:
* إن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين.
* لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
* وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بن عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
* وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
* وإن لبني الشُطَيبة مثل ما ليهود بني عوف.
* وإن البر دون الإثم وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم.
* وإن بطانة يهود كأنفسهم.
* وإن النصر للمظلوم.
* وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
* وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
* وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
* وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
* وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
* وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. قال ابن هشام: ويقال مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.
* وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
* وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
* الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله صلى الله.
أولاً: الوثيقة وحق الاختلاف
تؤكد الوثيقة على مبدأ المواطنة، وهو أحد الثمار المهمة لمفهوم التعددية الدينية، حيث حددت الوثيقة العلاقة الفاعلة بين المسلمين واليهود وغيرهم داخل أرجاء مجتمع المدينة، بما اشتملته من تأكيد حق اليهود وغير اليهود على دينهم، كما للمسلمين تماماً، لا تفضيل للمسلم على غير المسلم، حيث كفلت حرية المعتقد، كما كفلت الحفاظ على النفس والمال والعرض.
ويعدّ الإسلام أكثر الديانات السماوية إيماناً بحق الاختلاف العقدي أو الفكري الأيديولوجي، خاصة وقد اعتبر القرآن ذاته أنّ الدين عند الله واحد منذ أن خلق آدم عليه السلام، فالله تعالى يقول في محكم التنزيل: "ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إنّ ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم"[11]، وقد قال الله عن قرآنه في تأكيد واضح على أنه يملك الحقيقة المطلقة تلك الحقيقة التي لا يضاهيه فيها أحد من البشر: "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"[12]، وهذا تفسير واضح لسبب ذلك الاختلاف البشري الذي نجده الآن، إذ إنّ حقائق البشر نسبية. وهذا فيه دليل واضح على عظمة الإسلام وعظمة المصدر الذي نبع منه؛ إذ إنه وإن أكد على الحقيقة المطلقة التي يملكها، فقد أقر بمبدأ الاختلاف ولو كان عقدياً. "فالقرآن الكريم عطاء إلهي كل يأخذ منه حسب استطاعته وقدرته، وقد نجد الكثيرين من المستضعفين في الأرض الذين لم تسعفهم قدرتهم للوصول إلى القرآن أو آخرين أساءوا فهمه واتبعوا خطوات الشيطان، وكذلك الكثير من هم بين بين كما عبر القرآن في مواضع عدة".[13]
ثانياً: التعددية في الإسلام والحفاظ على الأمن الداخلي
وجهت الوثيقة إلى ضرورة العناية بالأمن الداخلي للوطن المتمثل في المدينة؛ وهذا الأمن لن يتحقق إلا بتكاتف الجميع اليهود مع المسلمين، ولذا تقول الصحيفة في تأكيد واضح:
* وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (4) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
* وإن النصر للمظلوم.
* وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
* وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
* وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين - إلا من حارب في الدين - على كل أناس حصتهم في جانبهم الذي قبلهم.
* وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم.
ثالثاً: الحرية الدينية من أسس الإسلام
تقر الصحيفة أو الوثيقة حرية الديانة المبنية على إرادة حرة مختارة، ويظهر ذلك في قول الرسول الكريم: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وعليه تحمل الآيات القرآنية العديد من المعاني الدالة على تأسيس مبدأ الحرية للأديان كافة، فقد أقر باختلاف البشر في المعتقد وأكد على الرسول الكريم أن يضع في ذهنه هذا الاختلاف، وليعلم أن هناك يوماً للفصل، يفصل الله تعالى فيه بين الناس على اختلاف عقائدهم، ويتضح ذلك في قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين"[14]، وقوله سبحانه: "وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين"، [15] بل إنّ القرآن يجعل الفصل بين الناس بحسب العقيدة إنما لله تعالى وحده يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى: "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون"[16]. وعليه فإنّ الآيات القرآنية تؤكد بما لا يدع مجالاً لشك أنّ الفصل بينهم بيد الله تعالى، بل هو وحده سبحانه الذي سيخبر الناس بمنشأ اختلافهم ويحكم بينهم بحكمه العادل الذي لا جور فيه، ويظهر ذلك جلياً في قوله تعالى: "إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة إنّ الله على كل شيء شهيد"[17]. وقوله تعالى: "ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إنّ ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون".[18]
أمّا فيما يتعلق بما قد يتبادر إلى الذهن من أسئلة قوامها سؤال محوري مؤداه: ألم يحارب الرسول والذين آمنوا معه أهل الملل والأديان الأخرى؟ نقول: بلى، حاربهم الرسول الكريم، ولكنه لم يحاربهم من أجل الحرب ونشر الدين بالسيف كما يزعم آخرون، وإنما الرسول كان مأموراً بالحرب في حالة رد الاعتداء، في ضوء قول الله تعالى في سورة البقرة: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"[19].
وعليه، فإنّ الرسول إذا كان قد صار في عهده تسع وعشرون غزوة وسرية، فإنه لم يشارك إلا في ثمان، ولم تخرج عن قاعدة رد الاعتداء الذي ورد في الآية السابقة التي تحمل الكثير من المعاني والشروط المحددة لقتال الآخر الذي يبادر بالعداوة والاعتداء.
رابعاً: التعددية ونبذ التعصب
عاملت الوثيقة جميع المواطنين بحيادية، حيث ساوت بين الجميع في الحقوق والواجبات دون محاباة لفئة على فئة أخرى، وعليه أسست لإقامة نوع واضح من العدالة، فقد أكدت على أنه لا يجوز لمؤمن آمن أن ينتصر لظالم، أو أن يؤويه خلافاً للقانون الذي ارتضته الجماعة، ولا يجوز له أن يخالف هذا القانون بداعي القرابة أو العقيدة أو المصلحة الشخصية؛ لأنّ في ذلك تهديداً لأمن المجتمع الوليد.
كما نبذت الوثيقة البعد القبلي والعشائري الذي انبنت عليه الطبيعة العربية ما قبل عصر الإسلام، على طريق إلغاء القوانين العشائرية وإحلال قوانين بديلة مبنية على أسس التوافق الاجتماعي المدني، حتى يكون المواطنون في المدينة آمنين على احتياجاتهم العقدية والاجتماعية والاقتصادية، من غير أن يكون هناك ما يمنعهم أو يخيفهم من تلبية هذه الاحتياجات وفق القوانين الجديدة التي أقرتها الوثيقة. ولذا كان القرآن واضحاً في تحريم قتل النفس الإنسانية عامة، يقول الله تعالى:
"من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ".[20] وعليه، فإنّ ما تفعله بعض الجماعات المتشددة أو بعض التنظيمات هنا أو هناك لا يتفق مع جوهر الآية وما تدعو إليه.
كما كفلت الوثيقة حق الدفاع المشترك عن الوطن الذي يضمهم دون النظر إلى العقيدة الدينية، حيث عدّ اليهود أحد القائمين على الدفاع عن المدينة عند العدوان الخارجي، تقول الصحيفة: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنّ مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد. وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، كما ورد فيها: إنهم ـ أي المسلمين واليهود - أمّة واحدة من دون الناس إيماناً بمبدأ التعددية وأنّ الوطن للجميع، كما ورد فيها: وإنه من تبعنا من يهود، فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإنّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وفيها: وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، بما يعني الدفاع عنها كوطن للجميع.
والغريب أننا لا نجد هنا ذكراً لقضية الجزية، حيث إنه ليس لها وجود في الوثيقة، لا لشيء في ظني إلا لأنها تسقط بمشاركة غير المسلم للمسلمين في الدفاع عن الوطن، حيث إنها فرضت في الأصل مقابل حماية المسلمين لهم، أما وأنهم يشاركون المسلمين في الدفاع عن الوطن وحماية أنفسهم فقد سقطت عنهم.
التعددية والتكافل الاجتماعي:
وفي ظل الإيمان بالتعددية تبرز قيمة التكافل الاجتماعي بين الجميع، مع الحفاظ على الممتلكات مصونة لأصحابها غير منقوصة، حيث ورد في الوثيقة: "المهاجرون من قريش على ربعتهم[21]، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النُبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً[22] بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.[23]
وعليه، فإنّ أخصّ خصيصة في التعددية الدينية في الإسلام أنها تعددية أخلاقية؛ بمعنى أنها جعلت الحكم الفصل بين مواطني المدينة هو البعد الأخلاقي، وعليه كانت الوثيقة دعوة إلى الأخلاق بين المسلمين وغيرهم تحقيقاً لمبادئ الإنسانية، ومن ثم ظهرت فيها مبادئ الأمانة والوفاء بالعهد والصدق وإبرار القسم كحقوق وطنية ذات أبعاد اجتماعية.
التعددية في الإسلام ونصرة المظلوم غير المسلم:
تنبني الوثيقة أو صحيفة المدينة على بعد تنظيمي بتحديدها الواضح للمسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية على حد سواء، فلا يجوز أن يقع العقاب على الإنسان بفعل ذنب ارتكبه لصلة ما بينها، تحقيقاً لمبدأ "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، [24] ومن ثم جاء في الوثيقة: وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه. كما أنّ هناك مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجماعة على سبيل المسؤولية الجماعية، تتحمل فيها الجماعة جرم الفرد، خاصة فيما يتعلق بالدية. وقد أكدت الوثيقة ذلك قائلةً: وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظُلم.
بل لقد حفظ الإسلام حق المواطنة لغير المسلم وانتصر له إذا ظلم، والشواهد التاريخية دليل على ذلك، حيث انتصر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لقبطي، من عمرو بن العاص وولده تحقيقاً لمبدأ العدالة في الإسلام، وتحقيقاً لأسمى معاني التعددية الدينية، حيث أقرّ حق المواطن غير المسلم في أخذ حقه في دولة يسودها قانون العدل لا قانون الغاب. وقصة قبطي مصر خير دليل على ذلك، عندما دخل على عمر بن الخطاب مستغيثاً به ليأخذ له حقه من محمد بن عمرو بن العاص والي مصر، حيث كان محمد قد أوجع القبطي ضرباً بالسوط عندما سبقه في سباق الخيل، وقال له عند ضربه خذها وأنا ابن الأكرمين، فما كان من عمر إلا أن أرسل في طلب عمرو وابنه فحضرا إليه من مصر، وعندما دخلا عليه نادى عمر أين قبطي مصر فحضر القبطي فأعطاه عمر الدرّة وقال له: اضرب ابن الأكرمين فأوجع القبطي محمداً ضربا وعمر يقول له اضرب ابن الأكرمين حتى توقف، ثم قال له عمر، والآن اجعلها على صلعه عمرو فوالله ما ضربك إلا بسلطان أبيه، فقال القبطي يا أمير المؤمنين قد استوفيت وأشفيت وضربت من ضربني، فقال عمر والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، ثم التفت إلى عمرو وقال له يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟، ثم التفت إلى القبطي وقال له انصرف راشداً، فإن رابك ريب فاكتب إليّ.
التعددية في الإسلام تنصف غير المسلم العاجز
لقد أنصف الإسلام غير المسلم في الدولة الإسلامية في حالة عجزه باعتباره مواطناً، ومن حق المواطن إنصافه، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه إيماناً بمبدأ التعددية، عندما أمسك بيهودي يشحذ بالسوق فسأله ولمَ تشحذ؟ فأجابه: بأنه يهودي وقد فرضت عليه الجزية التي كان يدفعها في شبابه واليوم أصبح عجوزاً لا يقدر على العمل لذلك يشحذ، فقال له عمر: والله ما أنصفناك، أنأكل شبابك ونتركك في شيخوختك؟ امض معي إلى بيت مال المسلمين، فما كان منه إلا أن أسقط عنه الجزية، وأمر له بعطاء من بيت المال.
التعددية في الإسلام وضمان حق غير المسلم:
حافظت الوثيقة على معتقدات وأماكن عبادة المواطنين من غير المسلمين، من خلال عدم إكراههم على شيء ممّا يُعدّ طقوساً في عباداتهم، مع جعل حرية التنقل إلى دور العبادة والحفاظ عليها، وأظن أنّ الخلفاء الراشدين ساروا على الدرب، حيث إنّ العهود العمرية خير مثال على ذلك، فقد عاهد عمر أهالي إيلياء على ضمان أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم لا تهدم ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم وأضاف لهم حسب طلبهم ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
بل إنه حين زار كنيسة القيامة وحان وقت الصلاة، فقال القس له: صل موضعك فأبى وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، وخشي إن صلى داخل الكنيسة أن يقتدي به المسلمون، ويصير لهم الأمر إلى أخذ الكنيسة مدعين بأنه هنا صلى عمر، وكتب لهم ألا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها.
التعددية في الإسلام وحق تملك غير المسلم:
حافظت الوثيقة كما بيّنا في فكرة سابقة عن الحقوق والواجبات على حق التملك لكل المواطنين بصرف النظر عن الديانة، ومن ثم فلا يجوز لأحد أن يسطو على مال أحد ولا على شيء من ممتلكاته، ولقد أتاح الإسلام حق التملك لغير المسلم داخل الدولة ولو في أشد الأمور حساسية وتعلقاً بحياة الناس، فقد تملك يهودي بئر رومة التي يشرب منها الناس. ولقد اشترى عثمان بن عفان نصف بئر رومة من اليهودي وطلب منه أن يتقاسما أيام بيع المياه بينهما، يوم لعثمان ويوم لليهودي، فوافق اليهودي ودفع له عثمان مقابل ذلك مبلغاً كبيراً من المال، وجعل يوم بيع مياهه يشرب منها جميع المواطنين بلا أجر، فكان الناس يتزودون في يوم عثمان ليومين من المياه حسب طلبه حتى إذا جاء يوم اليهودي لم يشتر منه أحد، فباع اليهودي نصف البئر الآخر لعثمان، فجعلها عثمان للناس بلا ثمن؛ وهذا يعني حق التملك لغير المسلم تحقيقاً لمعاني التعددية الدينية.
سادساً: التعددية السياسية كصورة للتعددية الدينية
تؤكد الوثيقة بما لا يدع مجالاً للشك التعددية السياسية كإحدى صور التعدد التي قبلها الإسلام، حيث تفاعل النبي مع كل القوى السياسية ذات التوجه العقدي المتمثلة في اليهود ومن والاهم، ومع القوى ذات التوجه القبلي ممثلة في الأوس والخزرج، ولم يعمل الرسول يوماً على تهميش هذه القوى أو محاولة إزاحتها عن خوض الغمار السياسي في المدينة إيماناً بأنّ في السماح لهم بذلك تطبيقاً لمبادئ الإسلام السمحة؛ وإيماناً بحق جميع المواطنين في المساهمة في بناء مجتمعهم. ومن الصحيح أنّ الكيان التنظيمي الجيد في التيارات السياسية الحديثة يستطيع توجيه وتنظيم الأفكار والأمزجة العديدة والمتفرقة - نتيجة اختلاف الأشخاص - في إطار شامل، بمعنى نقل الآراء المتعددة إلى مستوى الاختيارات الجماعية.[25]
وإذا كان مفهوم التعددية السياسية ينبني بالأساس على السماح بحق المعارضة في التفاعل بالطرق السلمية داخل المجتمع، فإنّ الوثيقة النبوية أكدت على هذا تطبيقياً ولم تنفه على الإطلاق، وتاريخ النبوة المحمدية شاهد على كم المعارضة التي واجهها الرسول بصدره الرحب، فكان عنواناً على السماحة واللين لا التشدد والعنف؛ فلم يذكر لنا التاريخ أنّ محمداً سجن مخالفاً في الرأس ولا مخالفاً في العقيدة، بل كان مثالاً على احترام الرأي والرأي الآخر، في تأكيد واضح على الحرية كإحدى ثمار التعددية الدينية والسياسية.
ويحدثنا التاريخ أنّ صحابة النبي من بعده ساروا على الدرب؛ فالإمام علي بن أبي طالب لم يكن يمنع حق التعبير عن الرأي، ولذلك كثرت في عهده المظاهرات والاضرابات، فقد أغلق أهل الكوفة الدكاكين عندما حكم بحكم لم يرضوا به، وعندما عزل قاضياً لم يرضَ بعض أهل الكوفة بعزله، وخرجوا في تظاهرة، في الوقت الذي لم يمنعهم، وإنما تركهم وشأنهم بعد أن نصحهم. وعندما قال له الحريث بن راشد الشامي، وكان يظهر العداوة له: والله لا أطعت أمرك، ولا صليت خلفك، فلم يغضب لذلك، وإنما دعاه إلى الحوار بالحسنى، فقال له الحريث: أعود إليك غداً، فقبل منه الإمام، فانصرف الرجل إلى قومه ولم يعد، وفضلاً عن ذلك فقد كفل للخوارج حق المعارضة مع إقامة العدل معهم، وبلغ قمة سماحته عند وفاته قائلاً: لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه".[26]
نخلص من ذلك كله، أنّ المصطلح الخاص بالتعددية الدينية نظرياً ليس وليد البيئة الإسلامية، وإنما ظهور المصطلح نظرياً كان مرتبطاً بالبيئات غير الإسلامية في الهند ودول أوروبا؛ لأنّ ظهوره في هذه البيئات كان مرتبطاً بالحاجة إليه، حيث كانت بيئات تموج بالاضطهاد قبل ما يُسمى بعصر الأنوار. ومع هذا، فإنّ المصطلح من الناحية التطبيقية لا نعدمه في البيئة الإسلامية التي أقرت حقوق الآخر المختلف عقدياً.
وإذا كان الإسلام - على ما تبين ـ يتيح بسماحته بالتعددية الدينية والتحاور مع غير المسلم وإقراره على حقوقه، فمن باب أولى يجب علينا نحن المسلمين أن نسير على الدرب ونتبع سبيل القرآن في الاعتراف بالآخر، بل إنه من باب أولى يجب علينا أن نفسح الباب للحوار الإسلامي الإسلامي تحت مظلة ما يسمى بالتعددية المذهبية، فما أكثر القواسم المشتركة التي تجمع السني والشيعي مثلاً! وما أكثر طرق الحوار التي دلنا عليها القرآن في إقامة الحوار باللين والسماحة!
وعليه، فإنّ من البديهي أن يكون هناك تعدد ديني أو مذهبي أو سياسي تحقيقاً لقوله تعالى: "ولا يزالون مختلفين"، ولكن يبقى السؤال كيف يمكن التعايش بين هذه التعددات المختلفة دون الإضرار بالسلم الاجتماعي؟ وعليه يجب التواصل بالقدر الذي يسمو بإنسانية الإنسان، فإنّ البديل الخطير وهو التشدد والعنف سوف يزيد من حدة الصراعات العالمية بين الشرق والغرب وحدة الصراعات بين الشرق والشرق. فنحن مطالبون بالالتزام بخيار التعددية الدينية ليس للتنازل عن الدين، ولكن لإظهار رونق الدين وجوهره في التعايش السلمي مع بقية الأديان.
ونؤكد أنّ التعدديّة والحريّة في الإسلام مكفولتان بدلالات[27]:
-النصوص الشرعية الواقفة على جعليّة التنوّع والاختلاف في حياة البشر. وإقرار الرسالة الإسلامية بهذا التنوّع والاختلاف، من قبيل قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[28]
-فطريّة التعدّد والجعل التكويني للتنوع في كل زاوية من زوايا الكون والحياة، فالفطرة تحكم بالتعدد والتنوع، والعقل يقرّ بأن التنوع أمر قائم.
-إنّ العقل السليم يدلّنا على أصالة الحرية، ولكن ليس الحرية المطلقة؛ لأنّ إطلاق الحرية مدعاة إلى عدد من المفاسد التي تأتي على حرية الآخرين، وهذه مفسدة أكبر.
وفيما يتعلق بالتعددية السياسية، فإنه لا بدّ ـ وهو ما ذهب إليه بعض الباحثين ـ من وجود نظام قانوني يؤمن للفئات الاجتماعية كافة الحق في التنظيم المستقل والتعبير عن آرائها، وعن ضرورة التسليم بالطموحات المشروعة لمختلف الفئات الاجتماعية في سعيها السلمي للوصول إلى السلطة السياسية تحت مظلة تنظيم تشريعي يسمح بذلك ويقننه.[29]
المصادر والمراجع:
ـ القرآن الكريم.
ـ ابن هشام، السيرة النبوية، مصر، ط دار المنار، 1994م، المجلد الأول.
ـ أحمد البياتي، العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني، الحوار المتمدن، العدد 4290، 29 / 11 / 2013م.
ـ حسن بن موسى الصفار، الحرية والتعددية في الإسلام، بيروت، ط مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة الدراسات الحضارية.
ـ رياض عزيز هادي، من الحزب الواحد إلى التعددية، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1995.
ـ السيد محمد الشيرازي، الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين، بيروت، مؤسسة الفكر الإسلامي، ط الأولى 1414هـ- 1993م.
ـ السيد محمد الشيرازي، السبيل إلى إنهاض المسلمين، ط الثالثة 1413هـ، 1993م، دار المنهل، بيروت.
ـ السيد محمد الشيرازي، الفقه - كتاب الجهاد -، ط الثانية 1409هـ - 1988م، بيروت، ط دار العلوم، ج48
ـ د. عبد الجبار العبيدي، وثيقة المدينة وشرعية الدولة، على الرابط التالي: http://almothaqaf.com/index.php/derasat/888193.html
ـ عبد السلام إبراهيم بغدادي، الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993م.
ـ كمال المنوفي، نظريات النظم السياسية، الكويت، وكالة المطبوعات الكويتية، 1985
ـ محمد عمارة، التعددية (الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية)، القاهرة، نهضة مصر للنشر والتوزيع، 1997
ـ محمد نور فرحات، التعددية السياسية في العالم العربي: الواقع والتحديات، الرباط، مجلة الوحدة، عدد 91، المجلس القومي للثقافة العربية، نيسان 1992
ـ هبة رءوف عزت، التعددية.. معضلة العقل السياسي العربي، على الرابط التالي:
http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2002/03/article1.shtml
[1]- مصطلح "التعددية" يستخدم للتعبير عن الممارسة الليبرالية الديمقراطية الحزبية في بعض أوروبا والولايات المتحدة وكندا. انظر هبة رءوف عزت، التعددية.. معضلة العقل السياسي العربي، على الرابط التالي:
http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2002/03/article1.shtml
[2]- الكافرون: 6
[3]- السيد محمد الشيرازي، الفقه - كتاب الجهاد -، ط الثانية 1409هـ - 1988م، بيروت، ط دار العلوم، ج48، ص 29
[4]- السيد محمد الشيرازي، الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين، بيروت، مؤسسة الفكر الإسلامي، ط الأولى 1414هـ- 1993م، ص 7
[5]- رياض عزيز هادي، من الحزب الواحد إلى التعددية، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1995، ص 64
[6]- كمال المنوفي، نظريات النظم السياسية، الكويت، وكالة المطبوعات الكويتية، 1985، ص 64
[7]- عبد السلام إبراهيم بغدادي، الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا، ص 262
[8]- د. عبد الجبار العبيدي، وثيقة المدينة وشرعية الدولة، على الرابط التالي: http://almothaqaf.com/index.php/derasat/888193.html
[9]- د. عبد الجبار العبيدي، مرجع سابق.
[10]- محمد عمارة، التعددية (الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية)، القاهرة، نهضة مصر للنشر والتوزيع، 1997، ص 3
[11]- فصلت: 43
[12]- فصلت: 42
[13]- أحمد البياتي، العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني، الحوار المتمدن، العدد 4290، 29 / 11 / 2013م.
[14]- هود: 118
[15]- الأنعام: 35، 36
[16]- البقرة: 113
[17]- الحج: 17
[18]- يونس: 93
[19]- البقرة: 190
[20]- المائدة: 32
[21]- حالهم وشأنهم الذي كانوا عليه
[22]- من عليه دين أثقل كاهله
[23]- انظر ابن هشام، السيرة النبوية، مصر، ط دار المنار، 1994م، المجلد الأول، ص ص 445-446
[24]- الزمر: 7
[25]- انظر عبد السلام إبراهيم بغدادي، الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص 262
[26]- انظر السيد محمد الشيرازي، السبيل إلى إنهاض المسلمين، ط الثالثة 1413هـ- 1993م، دار المنهل، بيروت، ص 466
[27]- حسن بن موسى الصفار، الحرية والتعددية في الإسلام، بيروت، ط مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة الدراسات الحضارية، ص 200
[29]- محمد نور فرحات، التعددية السياسية في العالم العربي: الواقع والتحديات، الرباط، مجلة الوحد، عدد 91، المجلس القومي للثقافة العربية، نيسان 1992، ص 8