التفكير الجينيالوجي في الأخلاق
فئة : مقالات
تُعَدُّ الجينيالوجيا التي وضع أركانها فريدريك نتشه[1] من أهم المداخل التي طرحت في الفكر المعاصر من أجل مجاوزة الميتافيزيقا. والجينيالوجيا، من حيث الدلالة اللغوية، تهتم بالبحث في نشأة الأشياء وأصلها، وهو ما يؤكده فريدريك نتشه في مؤلفه جينالوجيا الأخلاق، حيث يقول: "إن الأمر يتعلق هنا بتأملات حول أصل أحكامنا الأخلاقية المسبقة"[2]، غير أن الجينيالوجيا تكتسي لدى فريدريك نتشه دلالة خاصة؛ إذ إنها، من منظوره، لا تهدف فحسب إلى الوقوف عند الأصول ومرتكزات النشأة، بل تتعدى ذلك لخلخلة هذه الأصول والمرتكزات؛ ومن ثمة فأسئلة الجينيالوجيا ليست أسئلة ماهوية، أي أسئلة تتساءل عن ماهية الخير والعدالة والفضيلة وغيرها، بل هي أسئلة تنظر في سؤال التشكل؛ أي كيف تشكلت القيم وليس ماهيتها. يقول فريدريك نتشه: "إن ما يهمنا هو معرفة الكيفية التي تسمى بها الأشياء، لا معرفة ماهيتها، فما يشتهر به شيء ما، إن اسمه ومظهره وقياسه ووزنه، كل هذه الأمور التي تنضاف إلى شيء بمحض الصدفة والخطأ، تصبح من شدة إيماننا بها، يشجعنا على ذلك تناقلها من جيل إلى آخر، تصبح بالتدريج لحمة الشيء، ويتحول ما كان مظهرا في البداية إلى جوهر ثم يأخذ في العمل كماهية"[3].
تَوَسَّلَ فريدريك نتشه باستعارة موت الإله، ليهدم مجموعة من المسلمات الميتافيزيقية التي تقررت في ظروف تاريخية معينة
يندرج هذا النهج الفلسفي إذن لفريدريك نتشه ضمن محاولته لهدم ما جرت عليه العادة، حتى صار في حكم الحق الذي يندّ عن الشك، والحال أنه لا يعدو مظاهر مشروطة بسياقات مخصوصة، لكن من كثرة تداولها صارت في عهدة القائلين بها حقائق؛ لذلك سعى فريدريك نتشه إلى هدم ما صار يعتقد أنه حقيقي، حتى إنه لم يتوان في كتابة مؤلف حول كيف تتفلسف بمطرقة؟ أي كيف تهدم ما تقرر في حكم البداهة والحقيقة واليقين. يقول عبد السلام بنعبد العالي: "إن النقد الجينيالوجي خلخلة وتقويض، ووسيلته في التفلسف هي المطرقة، بناء على ذلك، فالنقد الجينيالوجي إذ يستجيب ويقول نعم، فإنه لا يقولها للهوية والتطابق والكائن، وإنما للصيرورة والفوارق والاختلافات".[4]
تَوَسَّلَ فريدريك نتشه باستعارة موت الإله، ليهدم مجموعة من المسلمات الميتافيزيقية التي تقررت في ظروف تاريخية معينة، وهذه الاستعارة كناية عن مجاوزة الميتافيزيقا، التي بدأت من منظور فريدريك نتشه مع سقراط واكتملت مع فريدريك هيكل، وقد كان تاريخ الفلسفة طيلة هذا التاريخ مهموما بالبحث في العلل الأولى والغايات القصوى، باعتبار هذه الغايات وتلك من محددات الوجود، والحال أن سؤال الأصل والغاية ليست أسئلة محايدة، بل هي مشروطة بإرادة القوة.
يعتبر فريدريك نتشه أن إرادة القوة هي التي تتحكم في وجود القيم وفي تراتبيتها؛ وهنا يميز فريدريك نتشه بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة. يقول فريدريك نتشه: "أثناء تجوالي بين أنماط الأخلاق العديدة، الرهيفة منها والغليظة، التي سادت حتى الآن على الأرض أو ما تزال، عثرت على سمات معينة اقترنت بعضا ببعض وترددت بصورة منتظمة، حتى انكشف لي في النهاية، نمطان أصليان انبرى بينهما فارق أساسي. هناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد"[5].
تتمثل أخلاق العبيد في الرحمة والشفقة والتسامح والديمقراطية والإيثار، في حين تكمن أخلاق السادة في القهر والبطش والتجبر والقوة؛ وما يحدد كلا النوعين هو إرادة القوة ولا شيء آخر غيرها؛ ذلك أن الضعفاء والعبيد لو أتيح لهم التمكين، لكانوا كذلك مستبدين متجبرين لا يخشون لومة لائم، ولكنهم نظرا لضعفهم يتخذون من أخلاق العبيد الآنفة الذكر تعلة للاحتماء من قهر الأقوياء.
يسعى فريدريك نتشه إذن إلى الكشف الجينيالوجي عن الفرق بين نمطين من الأخلاق: أخلاق السادة الذين يصدرون عن فعل خالص؛ في مقابل أخلاق العبيد الذين يصدرون عن رد فعل؛ وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن الفرق الجوهري بين هذين النمطين الأخلاقيين، وعن النتائج الأخلاقية المترتبة عنهما؛ فإذا كانت سيادة السيد من منظور فريدريك نتشه سيادة خالصة، من حيث إنها تنطلق من الذات، فإن سيادة العبد سيادة على حساب الآخر؛ وعليه ففي الوقت الذي يمجد السيد الحياة، يمجد العبد الموت؛ ويفسر فريدريك نتشه هذا الاختلاف الجذري بين هذين النمطين الأخلاقيين بالانقلاب الذي أحدثه اليهود في تاريخ الأخلاق؛ فقد كان الرومان شعبا يمجدون القوة والحرب، فإذا باليهود يمجدون الضعف، ويجنحون نحو السِّلم[6].
ما يحدد كلا النمطين الأخلاقيين من منظور فريديك نتشه هو إرادة القوة؛ إذ للسادة أخلاقهم الخالصة والفاعلة، وللعبيد أخلاقهم التابعة والمنفعلة، والتي يتخذون منها سلاحا لمقاومة قيم الحياة، في مقابل الانتصار لقيم الموت؛ ذلك أنه إن كانت أخلاق السادة محايثة للأرض ومرتبطة بها، فإن أخلاق العبيد أخلاق ارتكاسية ومتعالية وزاهدة في الحياة ونعيمها؛ وكأني بلسان حال فريدريك نتشه يقول: عش ما طابت لك الحياة، فما الموت إلا عزاء العبيد وضعاف النفوس.
يترتب إذن على هذين الأنموذجين الأخلاقيين اختلاف في مقياس القيم؛ فإذا كان مقياس القيم عند السادة تحدده ثنائيات القوي في مقابل الضعيف، والنبيل في مقابل الوضيع؛ ومن ثمة فهو مقياس يتيح إمكانية الارتقاء من حال إلى حال آخر، فإنه على خلاف ذلك نجد أن مقياس القيم بالنسبة إلى العبيد يتأسس على ثنائية الخيِّر في مقابل الشرير، والصالح في مقابل الظالم، وهي ثنائيات لا مجال فيها للتغيير.
يرجع اختلاف المقياس الأخلاقي بين السادة والعبيد إلى أن السادة ينزحون نحو الحياة، وما تحبل به من صراع وتغير، في حين ينزع العبيد نحو الموت وما يحيل عليه من ثبات وجمود، وفي هذا الصدد يمجِّد فريدريك نتشه هراقليطس، وهو القائل: "ولولا التغير لم يكن هناك شيء؛ فالاستقرار موت وعدم والتغير صراع بين الأضداد ليحل بعضها محل بعض"[7].
حاصل القول، إن فعل السيد فعل إجلال وإكبار وإقدام، بينما فعل العبد فعل احتقار واستسلام وارتكاس؛ الأمر الذي يؤسس لنمطين أخلاقيين: الأول فاعل؛ والثاني منفعل؛ الأول يقبل على الحياة؛ والثاني ينزع نحو الموت؛ الأول مبدع وسيال وبدال؛ والثاني مقلد وثابت وجامد.
نستنتج من ذلك، إمكان الحديث عن أخلاق نتشوية، أي أخلاق تنهل من الكشف الجينيالوجي الذي نهض به فريدريك نتشه حول تاريخ الأخلاق، بما هو كشف لا يهدف إلى تقويض الأخلاق على الإطلاق، وإنما بالكشف عن العناصر اللاأخلاقية في ادعاءات الأخلاق؛ وهو ما يعني أن مهمة فريدريك نتشه مهمة أخلاقية، لكن ليس الأخلاق في هذا المقام بالمعنى المتداول، أي باعتبارها مبحثا يتأسس على ثنائية الخير والشر، وإنما الأخلاق تؤخذ هنا بمعنى الإيطيقا؛ أي أخلاق للتفرد والإبداع، بعيدا عن منطق الأمر والنهي، التي يعبر عنها في صيغة: "يجب عليك أن تفعل شيئا ما حتما، وأن تمتنع عن شيء ما حتما"، وباختصار "يجب عليك"[8].
تتميز أخلاقية فريدريك نتشه بكونها أخلاقية محايثة، وليست متعالية؛ ذلك أنها انتصار للإنسان ضدا على الله، وللأرض ضدا على السماء، وللحياة ضدا على الموت؛ إنها إذاً تؤسس لأنموذج أخلاقي يمتح من مقومات الطبيعة، في مقابل إعلان تبرمه مما بعدها.
يتجلى الميسم الطبيعي للأخلاق النتشوية في تقويض فريدريك نتشه لثنائية الخير والشر، باعتبارها ثنائية ماهوية وثابتة ومتعالية، من حيث إنها تكرس للوصاية والحجر والجمود والتراتبية؛ ذلك أنه ليس هناك خير في ذاته، ولا شر في ذاته؛ إذ إن قيمتي الخير والشر يتحددان بالقياس إلى شيء ما، وهو الأمر الذي ينبِّه إليه باروخ سبينوزا في كتاب "الأخلاق" وفي مراسلاته مع بلينبرغ؛ ففي نظره ليس هناك خير وشر في ذاتهما، بل هناك نافع وضار يتزايدان ويتناقصان حسب قدرة الإنسان على الفعل.
يتضح إذن أن أخلاقية فريديك نتشه هي استئناف للفلسفة الحيوية التي دشنها باروخ سبينوزا من ذي قبل؛ أي إنها أخلاقية محايثة للطبيعة وليست متعالية عليها، أو قل بلغة باروخ سبينوزا، إنها أخلاقية مطبوعة بالطبيعة لا منفصلة عنها؛ فشتان إذاً بين الأخلاق الطبيعية وأخلاق ما بعد الطبيعة، أو بتعبير آخر بين الفيزيقا والميتافيزيقا، أو قل بين الإيطيقا وبين الأخلاق؛ ذلك أن الأولى هي أخلاق محايثة للطبيعة، من حيث إنها تأخذ بأسبابها، في حين أن الثانية متعالية عليها وتشذ عن قوانينها؛ الأولى تجربة طبيعية يعبر من خلالها الفرد عن فردانيته، في حين أن الثانية تسعى للنمذجة والتنميط.
تأتي أخلاقية فريدريك نتشه في سياق مجاوزة الميتافيزيقا التي تؤسس لأخلاقية ارتكاسية وزاهدة وحاقدة، وهي ميتافيزيقا عمل فريدريك نتشه على انتقاد أصولها، متوسلا بمنهجه الجينيالوجي، والذي لا يطرح سؤال الماهية، كأن يتساءل عن ماهية الخير والشر والفضيلة، وإنما يتساءل عن ظروف تشكلها؛ أي يتوسل أدوات الاستفهام كيف؟ ومن؟ ومتى؟ أي كيف تشكلت القيم؟ ومتى تشكلت؟ ومن كان وراء تشكلها؟ وهو ما يؤكده مارتن هايدجر في مؤلفة عن فريدريك نتشه، حيث يقول: "لا يعني الأصل هنا السؤال من أين صدرت الأشياء؟ بل أيضا كيف تكونت؟ إنه يعني الكيفية التي تكونت عليها، فلا يدل الأصل أبدا على النشأة التاريخية التجريبية"[9].
يترتب عن هذا النهج الفلسفي رفع صفات القداسة والطهرانية والكمال عن الأصل، باعتباره مصدرا للمعارف، وشرطا لإمكانها، وإنما يصير الأصل أصولا، والبداية بدايات، والواحد متعددا، والمتطابق مختلفا، وهو ما يؤكده ميشيل فوكو بالقول: "إذا أولى الجينيالوجي عنايته إلى الإصغاء إلى التاريخ بدلا من الثقة في الميتافيزيقا، فماذا يتعلم؟ إنه سيدرك أن وراء الأشياء هناك "شيء آخر"، لكنه ليس السر الجوهري الخالد للأشياء، بل سر كونها بدون سر جوهري وكونها بدون ماهية، أو كون ماهيتها أنشئت شيئا فشيئا، انطلاقا من أشكال غريبة عنها (...) فما نلفيه عند البداية التاريخية للأشياء ليس هوية أصلها المحفوظ، وإنما تبعثر أشياء أخرى. إننا نجد التعدد والتشتت"[10]؛ وهو ما يعني أن الجينيالوجيا تنهض بمهمة تفكيك الوحدات، وبعث الفراغات، وتوليد الفوارق على حد قول جاك دريدا[11].
يتمثل، بناء على ما تَقَدَّمَ، عمل الجينيالوجي في ثلاثة مستويات، وهي كالآتي:
يكمن المستوى الأول في تشخيص الأعراض من خلال تأويل العلامات والدلالات بحسب القوى التي أسهمت في إنتاجها، وهو ما يجعل الجينيالوجيا نوعا من السيميولوجيا[12]، من جهة أنها تنظر إلى القيم باعتبارها علامات ورموز، ساعية بذلك على حد قول عبد السلام ينعبد العالي إلى "فضح العملية التي يتم بها خلق المثل العليا"[13]، وهو ما يشهد عليه قول فريدريك نتشه: "إن الحكم الأخلاقي لا ينبغي أن يؤخذ في حرفيته، لأنه لن يكون حينئذ ذا معنى، وعلى العكس من ذلك، إذا أخذ كسمولوجيا فإنه يكون غنيا بالدلالات. إن الأخلاق ليست إلا لغة ورموزا"[14].
يتمثل المستوى الثاني الذي ينهض به الجينيالوجي في النمذجة، وذلك من خلال تأويل القوى، إما باعتبارها كيفيات فاعلة أو كيفيات منفعلة[15]؛
يتجلى المستوى الثالث من عمل الجينيالوجي في رد الأعراض التي شخَّصها، والنماذج التي استخلصها إلى الأصول التفاضلية التي "تؤسِّس تاريخ التراتبات القيمية وتحدد كيفية ظهورها، وتتساءل كيف تظهر التفاضلات القيمية وكيف تختفي؟ كيف تتناوب القوى على المعاني، وكيف يتأسس تاريخ الحقيقة والمعنى؟"[16].
يتضح إذن أن الجينيالوجي ينهض بدور الطبيب من خلال تشخيص الأعراض، ودور المشرع من خلال الفصل في القوى بين الكيفيات الفاعلة، والكيفيات المنفعلة، فضلا عن عمل الفنان الذي يتعدى تشخيص الأعراض، ونمذجة الكيفيات، إلى مستوى تتبع كيفية تشكلها وتكونها[17]؛ يعني ذلك، من جملة ما يعنيه، أن الجينيالوجيا ليست موقفا وضعيا من الميتافيزيقا، من حيث إنها لا تعمل على مجاوزة الميتافيزيقا من خلال نبذها وإلغائها، ولاسيما أن الجينيالوجيا لا تقدم نفسها باعتبارها حقيقة في مقابل الميتافيزيقا باعتبارها خطأ؛ فالجينالوجيا تسعى بحقّ إلى مجاوزة الميتافيزيقا والتفكير ضدها، لكن هذا المسعى لا يتم إلا معها، وفي كنفها، ومن داخلها[18].
تتميز أخلاقية نتشه بكونها أخلاقية محايثة، وليست متعالية؛ ذلك أنها انتصار للإنسان ضدا على الله، وللأرض ضدا على السماء، وللحياة ضدا على الموت
ليست إذاً الميتافيزيقا بالنسبة إلى الجينيالوجيا معرفة تفترض الحقيقة والصواب؛ ذلك أن الجينيالوجيا لا تهتم بتاريخ الحقيقة، وإنما بتاريخ إرادات الحقيقة، وهي إرادات تتمثل في التأويلات اللانهائية للوجود، وما تضفي عليه من معاني تسوِّغ لتراتبية القيم، وهو ما يبينه كارل ياسبرز في القول: "إن إضفاء المعاني على الوجود يعني عند نتشه إثباتا لسلم قيم، فقيمة العالم متوقفة على المعنى الذي نعطيه إياه...لذا فلا يمكن للتأويل أن يكون نهائيا، بل على العكس من ذلك إنه صيرورة"[19].
يتحصل إذن أن الجينيالوجيا تأريخ لتشكل القيم، وللقوى التي أنتجتها، وما يترتب عن ذلك من مفاضلة وتراتبية بينها، يمليهما صراع التأويلات، وفي ذلك يقول فريدريك نتشه: "ليس هناك حادث في ذاته. فكل ما يحصل ويتم ليس إلا مجموعة من الظواهر التي انتقاها واختارها كائن مؤوِّل"[20].
يتبين إذن أن الجينيالوجيا تنزل على طرف نقيض من الميتافيزيقا التي تفترض تأويلا واحدا لا شريك له، وتعتبره في حكم الحق واليقين وما عداه ضلال وخطأ ووهم؛ فالجينيالوجي، يقول عبد السلام بنعبد العالي: "ما إن يسمع الحديث عن المعنى وعن الفضيلة والخير، حتى يأخذ في البحث عن استراتيجيات الهيمنة. إنه لا يرى في ذلك إلا لعبة إرادات، لا يرى إلا إخضاعا وقهرا وصراعا. لا يرى إلا قوة وسلطة. والتاريخ عنده ليس تقدما لعقل كوني وإنما لعبة الانتقال من سيطرة إلى أخرى".[21]
يلخِّص عبد السلام بنعبد العالي جينالوجيا الميتافيزيقا عند فريدريك نتشه في فقرة دقيقة لعله من المفيد إيرادها في هذا المقام من أجل رفع الالتباس حول علاقة الجينالوجيا بالميتافيزيقا، حيث يقول: "إن نتشه لا يريد أن يتجاوز الميتافيزيقا بتفنيدها، وهو لا يفندها باسم حقيقة مضادة. وبالرغم من ذلك، فهو لا يرفض الحقيقة. وإنما يرفض أن نفصل فصلا وضعيا الحقيقة عن الخطأ، فليس النقد الجينيالوجي فلسفة سلبية تنتقد الفلسفات الإيجابية. إنه لا يقابل الميتافيزيقا بميتافيزيقا مضادة، وهو لا يعارض بل يفارق ويخالف، لا يقول لا، بل يجيب نعم، ولا يعني ذلك أنه يمجد الايجاب ضد السلب. إنه يريد أن يحرر السلب من كل لحظة تركيب، يريد أن يذهب به إلى أبعد مدى"[22].
يتبين إذن أن فريدريك نتشه يشكل علامة فاصلة في تاريخ الفلسفة، لأنه تجرأ على التفكير ومساءلة ما كان تقليدا راسخا في تاريخ الأفكار والأخلاق؛ لذلك يعد هذا الفيلسوف بحق مدخل الفلسفة المعاصرة، التي اجترحت لها مناهج خاصة للتفكير، ومجالات أخرى للنظر. ولعل ما يشهد على القيمة الفلسفية لإسهامات فريدريك نتشه أنها خلفت تأثيرا بينا في مختلف التيارات الفلسفية المعاصرة التي تلته، حتى تباينت بإزائه التأويلات واختلفت، ولا أدل على ذلك أن فريديريك نتشه كان حضوره بارزا إن بالسلب أو بالإيجاب لدى جيل دولوز وجاك دريدا وميشيل فوكو ومارتن هايدجر وغيرهم من أعلام الفلسفة المعاصرة.
قائمة المصادر والمراجع
أوَّلاً، المصادر
نتشه فريدريك، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء - المغرب، 2006
نتشه فريدريك، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1983
نتشه فريدريك، ما وراء الخير والشر، تباشير فلسفة للمستقبل، دار الفرابي، لبنان، ط 1، 2003
ثانيا، المراجع
عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، الأعمال، الجزء الثالث، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، الطبعة الأولى، 2014
[1] خص فريدريك موضوع الجينيالوجيا بكتاب أساس وهو جينيالوجيا الأخلاق، وقد ترجمه محمد الناجي إلى اللغة العربية عن دار أفريقيا للنشر سنة 2006
[2] عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، الأعمال، الجزء الثالث، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، الطبعة الأولى، 2014، ص 26
[3] المصدر نفسه، ص 31
[4] عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، مصدر سابق، ص 32
[5] فريدريك نتشه، ما وراء الخير والشر، تباشير فلسفة للمستقبل، دار الفارابي، لبنان، ط 1، 2003، ص 247
عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، مصدر سابق، ص ص 31-32
[6] فريدريك نتشه، ما وراء الخير والشر، تباشير فلسفة للمستقبل، مرجع سابق، ص 140
[7] تجدر الإشارة إلى أن فريدريك نتشه يمجد الفلاسفة الطبيعيين، وهراقليطس واحد منهم في كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي التراجيدي".
[8] فريدريك نتشه، ما وراء الخير والشر، تباشير فلسفة المستقبل، مرجع سابق، ص 143
[9] عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، مصدر سابق، ص 26
[10] عبد السلام ينعبد العالي، في الفكر المعاصر، مصدر سابق، ص 26
[11] المصدر نفسه، ص 35
[12] المصدر نفسه، ص 29
[13] المصدر نفس، ص 31
[14] المصدر نفسه والصفحة.
[15] المصدر نفسه، ص 29
[16] عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، المصدر نفسه، ص 29
[17] المصدر نفسه، ص 29
[18] المصدر نفسه، ص 28
[19] المصدر نفسه، ص 30
[20] عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، المصدر نفسه، ص 30
[21] المصدر سابق، ص 30
[22] المصدر نفسه، ص 31