التفكير وخطر التكفير
فئة : مقالات
التدين يشبه الملح من جانب؛ فبدون الملح في الطعام يفقد كل نكهة، وبدون التدين يتبخر كل تفسير، وتنقلب الحياة إلى آلة لا معنى لها، تثير القرف والملل وتقود إلى الانتحار وتتفشى فيها روح العبثية.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا.
وبقدر حاجة البدن الضرورية لقوامه بالملح، بقدر تسممه إذا زادت الجرعة. وإذا أخطأت الأم في مطبخها، فوضعت كمية كبيرة من الملح في الطعام عافته نفوس أطفالها مع كل حبهم لطعامها المميز؛ فهذه هي جدلية التدين والتعصب.
إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة، أنعش الكيان، وخلق التقوى، ونشر الرحمة، وتفشى الحب، واستقامت الحياة، واعتدل المزاج، ومشت الحياة بنظام لا يخطيء، وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب، والفهم إلى تشدد، والحياة إلى جحيم لا يطاق، وتبرمجت الحرب الأهلية كأسا دهاقا.
كلُ من (الفيزياء) و(الكيمياء) و (الطب) و(علم النفس) و(قوانين المجتمع) و(تاريخ الحضارة) ترفدنا بشواهد على هذه السنة النفسية الاجتماعية.
في الفيزياء، زيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم إلى حد الحرج، يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض، ونقص الكالسيوم يفضي إلى تكزز العضلات، وارتفاع توتر الكهرباء يقود إلى الصواعق واحتراق الغابات ودمار الآلات. في الوسط الكيماوي، تقود زيادة كثافة الوسط الكيماوي إلى تغير نوعيته؛ فزيادة النحاس في الجسم يقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون.
في عالم النفس، تؤدي جرعة من الخوف عادية وضرورية إلى الحفاظ على الحياة، ولكن زيادتها تدفع صاحبها إلى الجنون.
في التدين، تصدق نفس القاعدة؛ فالتشدد في الدين تطرف وجنون بدون مصحات عقلية.
هذه القيمة الحدية للأشياء ضمن وسطها المناسب الذهبي تعطي الحياة نكهة، ومعنى واستقرارا. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.
في سهول الزبداني القريبة من دمشق، يكون الصيف بارداً منعشاً، وتتفتح الطبيعة عن ثمرات من أكمامها، ويشرب الزائر ماءً بارداً بدون براّد. وهناك التقيت بأستاذ فاضل تقي المعدن كريم اليد فتح بيته للجميع. كان رجلاً قدّ من الطبيعة الجبلية التي يعيش فيها. عنيد في النقاش إذا استولت عليه فكرة تسلح بها بسرعة وقام بتطبيقها ميدانياً، وهي سمة لا يحبها العلماء. كانوا يومها شبابا صغارا طموحين إلى المثالية، ويفهمون الحياة على نحو حدي أسود وأبيض، دنس ومقدس، ملاك وشيطان نور وظلام بدون أن يدينوا بالزرادشتيه، وكانوا يملكون من الحماس للإسلام أكثر من الوعي. ومن الاندفاع أكثر من الصبر على المنهج العلمي. وهكذا وبكل بساطة أخذوا يتبادلون متلازمة (المجتمع الجاهلي)، وكانت موضة سائدة تلك الأيام تم تداولها في الأوساط (الحركية) الإسلامية.
كانت الكلمة تعني بكل بساطة المجتمع الكافر، وكان كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب رفيقهم في المناقشات. ومن خلال الأرضية الثقافية المحدودة، صار عندهم شعور فوقي متعالي بالحكم على البشر والمجتمع؛ فيدخلوا في جنتهم من شاؤوا، ويرسلوا إلى الكفر وجهنم من رأوا.
كان صديقي الزبداني متحمساً يلتقط هذه الفكرة غير مصدق، وقد اصبح في يده سيفاً مصلتا على رقاب العباد وقاضيا يصدر الفتاوى.
وبينما كنا نتمتع نحن الطلاب بوجبة لذيذة في ضيافته لا نحظى بها دوماً كان يكرر: أي مجتمع انطبقت عليه صفة من هذه الصفات كان جاهلياً مشركاً كافراً، ولم نكن نظن أننا سوف نضاف إلى قائمته في ختام المطاف.
وبناء على هذا، قام بالتطبيق الميداني السريع للمجتمع من حوله. طالما كان اللباس ليس بالطريقة الشرعية التي يراها، وطالما كان تفكير الناس جاهلياً؛ فليس أمام الجميع إلا جحيم الجاهلية الكافرة.
لم يخطر في بالنا يومها أن نقف بالتشريح لكلمة الجاهلية، ومعنى الشريعة وآلية عملها في حياة الناس، وهل هناك جدلية بين (العلة) و(الحكم) كما شرحها ابن رشد في رسالته القيمة (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)؟.
هل يمكن تصور العدل الداخلي الذي حققه الغرب باطلاً وقبض الريح؟.
لماذا يفر المسلمون من ديار الإسلام إلى ديار الكفر، لولا شعورهم أنهم ينجون بجلودهم من غدر المسلمين؟.
في مناقشة ساخنة مع السلفيين (وهذا له حديثه الخاص ما أسميه مفاصل السلفية الأربعة: الحرفية ـ الطقوس ـ تعطيل روح القرآن ـ قلب محور التاريخ والانفكاك عن حركة التاريخ) كنا نديرها، وضعنا سؤالا محوريا: لماذا تقدم الغرب وليس عنده الكتاب والسنة؟ ولماذا تخلف المسلمون وعندهم الكتاب والسنة؟
كان الجو الذي يعيش فيه الشباب في قبضة شبكة عجيبة، وقعوا في أحابيل طرائق تفكيرها يجعلهم يقفزون بسرعة إلى النصوص؛ فيلتقطون ما يخيل إليهم أنه الكفر؛ فيقومون بإلصاقه بما يخيل إلينا أنه يحمل هذه الصفة.
وكانت أفكار كتب من أمثال (معالم في الطريق) وسواها ومصادر المعرفة عند التيار الكبير فقير بالمصادر منقطع عن الإنتاج المعرفي، كانت هذه الكتب تلعب دور (المدحم) في دفعهم إلى مواجهات ساخنة وخطيرة، وكان الشباب يحرضهم مربوهم الروحيون أن يصطدموا بأهلهم في صور شتى، طالما كانوا يعيشون في عائلات جاهلية.
أتذكر يومها كيف أننا وقفنا ونحن نشعر أننا على حافة شفا جرف هار، نراجع هذا التطور الخطير في طرائق التفكير، وكان في عقولنا بقية من تفكير؛ فلم يفترسها التعصب والتقليد كلية.
وهل وضع المجتمع الجاهلي يعني الكفر والخروج عن الإسلام؟ أم ربما يجب أن يفهم الوضع على نحو مختلف؟
هكذا دخلنا عالم الألسنيات من حيث لم نسمع بهذا العلم بعد. ونحن نعاني من سلسلة اصطدامات مع الجو لا تنتهي، ونحن لسنا بصدد التفكيك الفقهي للمسألة بقدر الاستعراض التاريخي لفهم كيف تولد الكوارث. ومن أعجبها أن الشباب كان يلقن على الحرب مع سائق السيارة فيما لو فتح الراديو على الأغاني، إلى درجة الاستعداد بمغادرة السيارة في الصحراء. وأما الصور ولو كانت شخصية تذكارية، فكانت حجرا محجورا.
وبذلك كان الشاب يحرم من أية صورة شخصية تذكارية من كل الحياة الجامعية الجميلة كما حصل معي!.
كان الدماغ يحقن بمواد مصلبة بفكر انتحاري صدامي، حيث تنشف العقول تدريجيا مع الوقت، وتنسحب من الحياة، وكانت نظرتهم إلى البشر أنهم لا يستحقون سوى الموعظة.
أروي هذه الواقعة التي ترجع إلى أكثر من 35 سنة، لأن المجموعة التي التقيت بها في الزبداني تطور بها الوضع إلى نفس النتيجة التي انتهت إليها جماعات التكفير في مصر والجزائر وسواها بسبب بسيط أنها مشت في نفس القناة المظلمة.
وأتعجب من نفسي، كيف أنني شخصيا تطورت وانتقدت وتحررت ومشيت في طريق نمو خاص بي مع أن الوسط الذي عشنا فيه كان يلقي علينا بشبكة كثيفة من حبال قوية. ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. في الوقت الذي كانت تلك المجموعات تمارس عملية التشظي الداخلي وحياة القوقعة والانكفاء على الذات وممارسة ما سمي يومها (العزلة الشعورية) عن المجتمع الكافر، ليصلوا في النهاية إلى أن مجموعتهم هي المؤمنة حقاً وأن كل ما حولهم مجتمع جاهلي يستحق التكفير والمخالفة والمنابذة والاستعداد لمواجهته عسكريا، وهنا دخلت على الخط مفاهيم الجهاد؛ بمعنى القتال المسلح وكانوا يرددون ماذا نفعل بقوله تعالى:"فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين؟ لأن المنافقين يجادلون باللسان، ولكن المجتمع الكافر الذي يعبِّد الناس لغير الله يواجه بالفكر عقائدياً ومادياً بالسلاح، وهذا معناه البرمجة للصدام المسلح مع الأنظمة المحلية. ومن هنا قام الشباب بالالتحاق بمجموعات التنظيم المسلح، حيثما استطاعوا إليه سبيلا كي يهيئوا أنفسهم ليوم الفصل مع الأنظمة. فلم يعد القول كلاما، بل حركة باتجاه الكارثة. والواقع وأنا أراجع هذه الواقعة التي تعود إلى الستينيات من القرن الفائت، لا أعلم أين رسا مصير صديقي من الزبداني الذي كان يفيض بالإخلاص والشدة والحماس، وهل أصبح من المشردين مثل عشرات الآلاف من أشباهه؟ أو لبث في السجن عشرين سنة بدون محاكمة؟ أو قتل في أحداث سوريا المريرة؟ لا أعلم.
* خالص جلبي مفكر و كاتب سوري