التقويم في الفلسفة ومشكلة التأويل
فئة : مقالات
التقويم في الفلسفة ومشكلة التأويل
محمد رتيبي
على سبيل التوطئة:
يطرح التقويم في الفلسفة عدة إشكالات، تتعلق أساسا بطبيعة المادة، فضلا عن كونها جزءا من العلوم الإنسانية، وهي العلوم التي عجزت إلى حدود اللحظة عن الفصل بين الذات الدارسة والموضوع المدروس، فإذا كان هذا الفصل صعبا من الأساس، إذا لم نقل غير ممكن، فهل تنجح الفلسفة في إيجاد مقاربة تقويمية خاصة بها؟ بعبارة أخرى: هل يمكن وضع معيار لحسم الجدل الدائر حول بعض الأوراق الخاصة بالمتعلمين؟ وما السبب الذي يجعل مدرسين لنفس المادة يصححان نفس الورقة ويمنحان نقطتين مختلفتين؟
أريد أن أشير بداية إلى أن هذا العمل، لا يهدف إلى تبخيس عمل المدرسين، الذين نكن لهم كل الاحترام والتقدير، بل إنه مجرد دعوة للتفكير والتأمل الهادئ في قضية أصبحت مؤخرا تطرح نفسها بشكل ملح. أكثر من أي وقت مضى.
حتى لا ندخل في نقاشات نظرية سنكتفي هاهنا بالقول، إن الداعي لكتابة هذه الأسطر هو محاولة لتقريب وجهات نظر المدرسين المكلفين بمهام التصحيح بعد لجوء مجموعة من المتعلمين في كل ربوع الوطن إلى طلبات إعادة تصحيح أوراق الفلسفة الخاصة بالامتحان الوطني فهل هذا ممكن؟ وهل تنجح الفلسفة في تشكيل تصور للتقويم يضمن الموضوعية، مثلما هو الحال في مواد أخرى كالرياضيات والفيزياء مثلا، أم إن مثل هذا العمل يعتبر مستحيلا بالنظر إلى طبيعة المادة باعتبارها نمطا من التفكير الإنساني الذي لا يقبل الترميز أو الاختزال؟
يحتدم النقاش بين من يرى بأن ورقة المتعلم يجب التعامل معها بالصرامة الديداكتيكية، وبين من يرى بأن اعتماد الصرامة يكبح إبداع المتعلم ويحول إجابته في ورقة الامتحان إلى مجرد إجابة تقنية بعيدة كل البعد عن التفكير الفلسفي كما نظر إليه الفلاسفة (إيمانويل كانط 1724-1804 مثلا). لذلك ولحسم هذا النقاش، فإنه لابد من وضع تصور متكامل كمرجع للتصحيح يحد من اعتباطية التفكير والكتابة لدى المتعلم، وفي نفس الوقت تخضع عملية التصحيح لتوجيه صارم عبر إبعاد التأويلات من جانب بعض المصححين. إن ضمان تكافؤ الفرص، يقتضي أيضا توسيع صلاحيات منسق لجان التصحيح، وإعطائه الصلاحية الكاملة لمراجعة الأوراق المصححة، والبث في ما إذا كانت تحترم المعايير، وإعداد تقارير خاصة لتدارسها في كل اللقاءات التربوية قصد تدبير الخلاف، وإعداد توصيات. وهذا كله يقتضي أن تكون الوضعية التقويمية مصاغة بشكل واضح، وأن تكون الأسئلة المرفقة بها موجهة وليست فضفاضة.
1: التخلص من التأويل من جانب المصححين:
تكمن المشكلة هنا في أن كثيرا من المصححين يكونون محملين بأفكار مسبقة حول "النموذج" الذي يجب أن تصاغ الإجابة وفقه، وهذه الأفكار المسبقة تؤدي، إما إلى تضخيم النقط بشكل مبالغ فيه، وإما تدني النقطة بشكل يدفع المتعلم إلى وضع طلب إعادة التصحيح لدى الجهات المختصة. لعل حضور التأويل لدى عدد كبير من المصححين هو ما يفسر وجود نقطتين لنفس الورقة من قبل مصححين مختلفين. فلا وجود لتأويل مع مصلحة التلميذ، أو تأويل ضدها ففي كل الأحوال، فإن الأفكار المسبقة، والتأويلات تضيع على المتعلم الحصول على نقطة تعكس مستواه الحقيقي خلال ذاك الامتحان. لذلك نعتقد بأن المصحح مطالب بإنزال مضمون التوجيهات الخاصة بالتصحيح حرفيا دون عاطفة أو مسبقات.
2: يجب أن تكون الوضعية التقويمية واضحة:
من الشروط التي تجعل أية وضعية تقويمية في المتناول أن تكون سليمة من الناحية اللغوية، وأن لا تتضمن مفاهيم أَو مفردات غامضة، تؤدي إلى ارتباك المتعلم أثناء تحرير الإجابة وعلاوة على ذلك، فإن الوضعية التقويمية يجب أن ترفق بتعليمات واضحة، حتى لا ندخل في مشكلة التأويل وتأويل التأويل، التأويل من جانب المتعلم وتأويل التأويل من جانب المدرس. فعندما يتم تقديم نص للمتعلم وإرفاقه بسؤال حلل وناقش، فإن الأمر يقضي أولا أن يكون النص واضحا بشكل لا لبس فيه. وإلا فإن التعليمة يجب أن تغير لنوضح الأمر عبر المثال التالي، وهو خاص بالقولة:
" إن أية دولة لا يمكن أن تحافظ على وجودها إلا باستعمال العنف "
تعليمة: حلل وناقش مضمون هذا القول؟
يمكن أيضا تعويض التعليمة السابقة بما يلي:
بين كيف يكون العنف الوسيلة الوحيدة لضمان استمرار الدولة؟
في كلتا الحالتين، فإن التعليمتين واضحتين، إذ يقتضيان من المتعلم الوقوف عند العنف، باعتباره الشرط الضروري لبقاء الدول، لدرجة أن غيابه يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة وتهاوي قوانينها، وفي الأخير زوالها.
لكن ماذا لو كان المتعلم إزاء وضعية كهذه:
" إذا كانت العدالة هي التطبيق الحرفي للقانون، فإن الإنصاف هو روح القانون"
سنلاحظ بداية أن هذه القولة غامضة لسببين؛ أولهما أن صاحب القولة يعقد مقارنة دون الإفصاح عن موقف واضح، ثانيهما أن القولة تتضمن كلمة روح، وهي كلمة تتفق أغلب القواميس وحتى الفلاسفة على أنها كلمة غامضة، حيث كثيرا ما يتم التخلص بينها وبين كلمة النفس الذهن!
لذلك أعتقد أن مثل هذه القولة يجب أن ترفق بتعليمة تحدد مسار تفكير المتعلم مثل: من خلال القولة بين كيف ينجح الإنصاف في تصحيح أخطاء العدالة؟
3: توسيع صلاحيات منسق لجان التصحيح:
إن تجنب التأويلات، والأحكام المسبقة، يقتضي إعطاء التصحيح التجريبي مكانة مهمة، لكونه المدخل الضروري لتقريب وجهات النظر. كما أن المنسق مطالب بإنجاز تقارير حول أوراق يتم اختيارها بشكل عشوائي من أظرفة باقي المصححين، وإعداد توصيات يتم تجميعها على المستوى الوطني والخروج بخلاصات ملزمة لجميع المصححين. فالمنسق يتحمل مسؤولية كبيرة، ويجب أن تكون المحاضر التي يقوم بتوقيعها شاهدة على كل صيرورات التقويم.
4: تجنب نقطة الصفر ليس حلا:
قد يرغب الكثير من المصححين في تجنب إعطاء نقطة الصفر، لتفادي تحرير تقرير حول الورقة، وهذا في حال اللجوء إليه، يعتبر خرقا صريحا للأطر المرجعية الخاصة بالتقويم. فنقطة الصفر يجب أن تعطى وتبرر في حالة ما إذا كانت الورقة لا تتضمن الإجابة المطلوبة النصوص عليها في التوجيهات.
ختاما، أتمنى أن نكون قد ساهمنا عبر هذه الملاحظات في إغناء النقاش حول مشكلة التقويم في الامتحانات الإشهادية الخاصة بالفلسفة. نحن نعلم علم اليقين بأن هذه المشكلة ترتبط بكون الفلسفة من العلوم الإنسانية، لكن ذلك لا يمنع من التفكير في الحلول الممكنة التي تقرب المصححين من بعضهم البعض، وتحمي مصلحة المتعلم وتضمن الاستحقاق وتكافؤ الفرص ابتغاء تحقيق الدقة.