التنسيق والتاريخانية في الخطاب النقدي الديني: في دراسة عواضل المفهومية
فئة : مقالات
التنسيق والتاريخانية في الخطاب النقدي الديني*:
في دراسة عواضل المفهومية
هل يمكننا أن نطرح ذلك التساؤل القاعدي عند الفصل بين ما هو ديني وما هو بشري؟ وكيف يمكننا أن نحقق بشرية النص الذي اتسم بالتعالي، أي يصبح النص خاضعاً للتجربة البشرية، دون أن يفقد خصوصية البنيوية الملازمة له؟
إلى أي مدى يمكننا ضمن هذا التراكب أن نقطَع تلك المسافة، لننظر إلى النص باعتباره البشري من خلال تنسيقه دُنيويا؟ وكيف يمكننا أن نخلص النص ونَفُكَّ الارتباط الملحمي / الأسطوري للصياغة اللاهوتية للأرض، هذه الأخيرة التي أفقدت الأرض دلالتها البشرية، لتتعاظم ضمن مقولات الاستخلاف والحاكمية التي تَشكلت في تصوري موانع إبستيمية ونفسية ضد علمنة فهم الواقع؟
وما هي جملة الالتباسات المعرفية والمفهومية التي تعاظمت في المشاريع الفكرية، وأدَّت إلى ذلك التناحر الناتج عن الجذب الحاصل دوماً بين أفقين، أفقاً خلفناه وراءنا وأفقنا المعيش؟
لقد ناقشت النظريات المعاصرة مسألة غاية في الدقة، كيف نفهم نصا ما انتمى إلى التاريخ؟[1] كيف يمكننا تحقيق الفهم الموضوعي للنص، لنرسو عند دلالته االنووية، كما يقول السيميائي الفرنسي غريماس؟[2]
إن المسألة تحتاج أن نضبط جهد الباحثين على صعيد واحد، صعيد التجربة التأسيسية لزمنية الوحي.
القضية المطروحة تعالج على مستويين؛ مستوى هيرمينوطيقي، ومستوى بنيوي. فالظاهرة النصية ضمن مشروطيتها النصانية طرحت في الصوغ على أساسين؛ هما التنضيد أي التراكيب، وهذه العملية تتم على مستوى الشكل؛ أي العلاقات بين الكلمات، والأنساق، وهو الخيط المعنوي الذي يربط بين الكلمات، وهو ما يتعلق بمستوى الدلالة؛ أي أنه النص يعتبر حدثاً كلامياً، والحدث في المفهوم الأرسطي غير قابل للتكرار أو إعادة الإنتاج[3] من الناحية البنيوية. أما من ناحية الفهم، فإن الإنتاجية لازمة ضرورية له، فكيف يمكننا فهم هذا النص الذي أصبح تاريخياً حدثاً حصل هناك في الماضي؟
يظل الأمر في تصوري يتجاوز المعضلة التي طرحها شلاير ماخر لأطرحها ضمن أبعد تجاوزية أخرى، لنحاول صك المسألة في شكل مساءلة منفتحة وفق تخريج واحد.
1) مسألة النص ومشكلة الشكل. النص/الوحي/الكتاب.
2) مسألة النص وإشكالية الفهم في تمثل التجربة النبوية.
3)مسألة تلقي النص/ إعادة تعديل الوضعية التاريخية للنص من خلال جمهور القراء.
وعليه، إذا أردنا أن نفهم وضعية النص/ الوحي علينا أن نفهمه ضمن العلاقات التفاعلية، النص/ المحيط الثقافي، النص/النبي، النص/القارئ المعاصر.
وهنا تتلازم ضرورة التخريج، الفهم لا يبدأ هناك، بل يحدث هنا، ضمن سياق الفهم الأنطولوجي بالإشكال الآني لمسألة تداولية صرفة، كيف يمكننا أن نحقق تفاعلاً مع النص هنا لنحيّن التجربة الروحية في أقصاها الوجداني واللغوي؟
ولعل هذا خلاصة ما آل إليه نصر حامد أبو زيد في كتابه "مفهوم النص"، حيث درس النص في حقل الثقافة /التشكل والتشكيل/ حيث لم يدرس النص بدراسة تطور النص في سياق الثقافة؛ أي أن النص في اكتماله عبارة عن متتالية تاريخية، وهذا الذي أفقد الشرعية العلمية في مدونة الباحث(نصر حامد أبو زيد) الذي لم تؤدِّ به إلى استنبات تخريج علمي للموضوع، إلا في الحدود التي جعل فيها النص كائناً زمنياً يمتد في التاريخ من خلال أشكال تطوره في الدلالة، يقول: "يعدّ مفهوم الوحي هو المفهوم المركزي للنص عند ذاته، حيث يشير إلى نفسه بهذا الاسم في الكثير من المواضع، وإذا كان ثمة أسماء أخرى للنص وردت بها الإشارة، مثل القرآن والذكر والكتاب، فإن اسم الوحي يمكن أن يستوعبها جميعاً بوضعه دالاً في الثقافة، سواء قبل تشكل النص أم بعد تشكله".[4]
فالباحث نصر حامد أبو زيد لم يحسم من جهة البناء في التشكل المفهوم للنص القرآني الذي استنبته استنباتاً تاريخياً، عطل الوظيفة التاريخية للمفهوم من كونه لا تاريخي أساسا، حيث درس بروكسيمية المفهوم من خلال دوائر القرب المختلفة، فجعل دلالة الوحي مجرد نمو حالة استخدام لغوي مخصوص في بيئة جاهلية، إلى حالة استخدام لغوي بيئة الإسلام ضمن النسق اللغوي الذي يحاول أن ينتهي به إلى فهم حصيف للنص. وبالتالي فهم "الوحي" لا يكون إلا في ظل دائرة تأويلية، تنطلق من فهم مجالي لمفهوم الوحي إلى دائرة أوسع لفهم التجربة كما كانت في تمثلها الأول. "الفهم إذن عملية دائرية والمعنى في الحقيقة لا ينهض إلا داخل هذه الدائرة"[5] واقتصر الفهم عند شلاير ماخر على نموذج لغوي والآخر سيكولوجي يجنبنا الوقوع في التناقض، أو سوء الفهم الذي يفخخ عملية الفهم في أية لحظة.
فالإنجاز المهم لشلاير ماخر، يكمن في نظر "غادامير" في جعله للتأويل النفسي إلى جانب التأويل القواعدي؛ ففهم أي نص يحتاج إلى أورغانون لغوي، وإلى القدرة على النفاد إلى الطبيعة البشرية، وهي القدرة التي تسمح للمؤول بأن يضع نفسه في الإطار الكلي للمؤلف، وكل محله بمعايشته لكل عملياته الذهنية، من أجل إدراك الأصل الباطن لعملية إنتاج عمل ما؛ أي إعادة تكوينه للفعل الإبداعي،[6] وهذه الخلاصة الإشكالية هي من عممت الجرح الإبستيمي في منظور نصر حامد أبو زيد الذي حاول من داخل هذه المنظومة التأويلية أن يفهم الوحي الذي لم يكتف بأن علقه لغوياً، كما ورد في معجم العرب على أنه قائلاً: "وإذا كان صاحب اللسان يعدد في معاني الوحي، الإلهام والإشارة والإيماء والكتابة والكلام، فإن هذه المعاني كلها يستوعبها معنى الإعلام، ويشير كل منها على حدة إلى طريقة من طرق الإعلام"،[7] بل جعل الدلالة المفهومية في تشكل فهمٍ للوحي ضمن تراتبية تاريخية لتطور الدلالة، وما الوحي/ القرآن إلا تطور تدارجي لمفهوم الوحي من جهة اللغة، حيث حاول أن ينفذ إلى البنيان التلازمي للتجربة من خلال سياق ثقافي متكامل.
1- الوحي هو المفهوم المركزي للنص عن ذاته.
2- الوحي لغة هو علاقة اتصال بين طرفين تتضمن إعلاما؛ رسالة، خفيا سريا.[8]
3- الثقافة العربية تعرفت على المفهوم في نسق تراتبي في:
أ_الشعر.
ب_الكهانة.
ج_مع الإسلام.
وهذا يجعل مفهوم الوحي معلوم من جهة لغوية وأخرى ثقافية، حيث كانت ثقافة رائجة وما التوالد اللغوي إلا استكمال وتطور وظيفي للمخزون الثقافي والعملي للمادة المسماة الوحي، يقول: "لقد كان ارتباط ظاهرتي "الشعر والكهانة" بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بها من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها".[9]
وبالتالي، فإن العرب نفسياً واجتماعياً جاهزون ليصدقوا دعوى النبوة بحكم التوالد الثقافي وشيوعه، وما النبي في خصوصيته متكلم داخل النسق الثقافي، يقول: "لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضاً على ظاهرة الوحي ذاتها، وإنها انصب الاعتراض على مضمون كلام الوحي أو على شخص الموحى إليه"[10] ويقول في سياق آخر: "إن العلاقة بين النبوة والكهانة - في التصور العربي- أن كليهما وحي. اتصال بين إنسان وبين كائن آخر، ينتمي إلى مرتبة وجودية أخرى. مَلَك في حالة النبي وشيطان في حالة الكاهن"[11] هناك فائدة سنحصلها أن استنبات الدلالة في الحقل الجاهلي للتداول، جعل مفهوم الوحي مفرغاً من جهة الإعظام، لكونه تطور في نسق الثقافة، لكون الباحث أهمل دقيقة علمية أنه لا يملك أن ندخل بنيه مفهومية خارج الشكل البنيوي للمفهوم ذاته، تعمل القاعدة اللغوية على إخصاب المفهوم، لكن القراءة التأويلية التي أوقعت "نصر حامد" في سوء الفهم أنه جرد المفهوم عن بيئته التراكبية النصوصية التي تجعله من جهة اللغة مكينا في العبارة العربية للتلاقح الدلالي، من كونه يحيل على الإخفاء والكتمان والإعلام، لكن المقبولية للنص لم تكن تابعا ثقافياً بقدر ما كانت بمثابة حركة كوبرنيكية في مجتمع الوحي، القلب المفهومي للدلالة حصل في بنية المفهوم ذاته، لأن تحصيل المفهوم الموضوعي يكون إيراداً آلياً لمعاني الدلالة اللغوية، بقدر ما يجب أن نفهم الدلالة اللغوية في شكل القطيعة التي خلفتها مع الأشكال المفهومية السابقة لمعنى لغوي آخر. وبالتالي:
- مفهوم الوحي في دلالة الكهانة والشعر يرتبط بالشكل البنيوي للعبارة اللغوية للكهانة والشكل البنيوي للشعر. وعليه، فإن تحصيل المعنى اللغوي لا يكون في مستوى الدلالة الحافة للمعنى، وهي لغويا دائما في الشكل الذي يحلل عليه المفهوم، وهنا نكون أمام قضية لم ينتبه إليها نصر حامد أبو زيد، أن العلاقة لم تعد قائمة بين مفهوم وآخر في تطوره داخل الثقافة، وإنما العلاقة في المفهوم الشكل للشعر، وكلام الكهان والوحي. وهنا نقرر دقيقة منهجية، هل الشكل الذي ترتب عليه الوحي هو امتداد للشكل الذي نجد عليه عبارة الكهان ونجد عليه القصيدة، هذا ما يجعلنا نقرر أن دلالة الوحي مع التجربة النبوية كانت مخالفة مفهومياً وبنيوياً لكلا المواضعتين الكهانية والشعرية.
هذا المنعرج الهيرمينوطيقي الذي جعلني أهدم أطروحة نصر حامد أبو زيد هو الإهدار المفهومي/ اللغوي/ الذي جعل الوحي يفقد خصوصيته الفينومينولوجية، لكونه ظاهرة على غير مثال غير قابلة للتكرار ولا الامتداد، بمعنى أنها ليست فعلاً تاريخياً ولا ثقافياً، إن الوحي ليس حدثاً يتعاقب في التاريخ، ولو كان كذلك لأصابه التطور من جهة التغيير الشكلي لعاملي الإضافة والحذف.
ولكن هذا ما يقطع به التاريخ نفسه، والذي حصل من جهة الخلل التّأويلي عند نصر حامد أبي زيد، وبعض المشتغلين بالدراسة النصوص للدين أنهم أهملوا مسألة أنه لا يمكن أن ندرس الوحي/النص لحظة تلقي جبروت الوحي في تلقيه ومدى اختراقه للأشكال الشعرية والسردية التي سبقته، لأن النص الذي ليس له تلقي ليس له تاريخ فيما يقول روبرت ياوس، وانقلب المفهوم اللغوي حصل في مدى تمكن الوحي من تشكيل وعي جديد، وليس في امتداد الوعي القديم مع البنى الدلالية للمفهوم في الثقافة، وهذا يجعلنا نفيد أن جنس الكهانة والشعر لم تعد لهما تلك الإغرابية بحكم تأسسهما على نسقي ثقافتين، تؤسسان سلطة ثقافية في المجتمع العربي. وبالتالي، فاللغز الذي يجب أن يرتكز عليه فهم الوحي ليس تحيين الدلالة اللغوية التي تجر التباساتها كل مرة، وإنما يجب إدراك العلاقة بين النص والجمهور في إطار سؤال جواب.
إذا أردنا أن نخلص نصر حامد أبو زيد من الالتباس الذي جرّه سؤال كيف نفهم نصاً انتمى إلى التاريخ؟ حيث يستطيع المؤول أن يضع نفسه على قدم المساواة مع المؤلف، وبالتالي يستطيع أن يفهم العمل الأدبي بكيفية أفضل من فهم المؤلف له،[12] رغم تنبه نصر حامد أبو زيد أن تحقيق الفهم الموضوعي لا يتم البحث عنه خارج ما كان يسميه شلاير ماخر بالشكل الخارجي والداخلي للنتاج الإبداعي، أو ما كان يسميه "الترابط" أو التسلسل الداخلي" الذي يجعل منه كلا منتظما"[13] وعلى أنه يطالب المؤول بأن ينحل في تجربة المؤلف، إلا أن هذه الفرضية غبر متاحة معرفياً، وهو المحذور المعرفي الذي تهاوت في أحضانه أطروحة نصر حامد أبو زيد حين أراد دراسة الوحي في تجربة النبي ومحاولة تمثلها، إذ درس حركة النبوة في خطيتها واتصالها بالحنفية، حيث تمت صياغة الدين الجديد وفق "حاجات المجتمع التي عبر عنها الأحناف وكان محمد واحدا مهم".[14]
ما طرحه الباحث مجرد مصكوكات لغوية، تحاول أن تعطي دليلاً على أن الثقافة هي من شكلت النص في سياق تاريخي، بدليل أن الباحث أن "النصوص الرديئة هي التي تكتفي بالواقع، أما النصوص الممتازة، وإن شكلت من خلال الواقع فالثقافة تستطيع بآلياتها أن تعيد بناء الواقع ولا تكتفي بمجرد تسجيله أو عكسه آليا مرآويا بسيطاً"[15] إن هذا الحكم المجاني في الثقافة يعبر عن خلل معرفي في فهم الرجل للنص، فمن هو الذي يحدد جودة النصوص في الثقافة، ليس التتابع التاريخي، بل تلقي الجمهور للنص هو الذي يصنع لها تاريخاً وليس العكس، لا يمكن للنص أن يكون له تاريخ إلا بتلقيه. وعليه لكي نستكمل البحث علينا أن نطرح مجموعة من التصويرات المنهجية التي تجنبنا سوء الفهم.
- النص/ الوحي: جنس أدبي مع ما يتوافر فيه من ضوابط الحدود، لكنه أرفع من أن يكون شعراً أو نثراً، ولكنه من جهة البيان النصوصي قرآن شمل على جهة التحديد لمخالفته، وتميزه عن مختلف الأجناس الأدبية المختلفة، وهذا ما يجعلنا نتلقاه كجنس له خصوصيته التي تميزه عن الأجناس السابقة، وهو يشكل استقلاليته الخاصة وانعزاله عن سياق التاريخ العام، لأنه ليس له ما يعضده في الواجهة الخلفية للشكل الأدبي السابق، أو ضمن الرصيد الثقافي للأجناس الثقافية التي عرفت في منطقة العرب. فلو كان تخصيص الأجناس يقع ضمن ما عرف في الثقافة كما تصور، أو كان حدثاً مرهوناً بتتاليات سابقة، لفقد النص هنا سمة التفرد، وبالتالي مقولة أن النص القرآني ظاهرة تاريخية وفق تخريج نصر حامد أبو زيد في قوله: "إذا كان الكلام الإلهي فعلا كما سبقت الإشارة، فإنه ظاهرة تاريخية لأن كل الأفعال الإلهية أفعال "في العالم" المخلوق المحدث؛ أي التاريخي والقرآن كذلك ظاهرة تاريخية من حيث إنه واحد من تجليات الكلام الإلهي..."[16] إن هذا القول يجعل الحدوث الكلامي ضمن خطة التاريخ العام الذي يفقد النص استقلاليته الخاصة، ويجعله كجنس تام على أنقاض التناص الأجناسي الذي حاكى فيه النماذج القلبية، وهنا يفقد النص وعي المشكِّل لأفق تلقيه كنص متفرد، ويطعن في تميزه، وبالتالي يصبح حاملاً لوعي زائف نظير المحاكاة المحمولة فيه من جهة القول بالتاريخية.
إن نصر حامد أبا زيد لم يميز في سياق تناهيه إلى مفهوم النص في أفقه الخاص إلى فرق جوهري بين مفهوم أفق التوقع وأفق الانتظار، حيث كرر أن النص/ الوحي/ القرآن كان استجابة متوقعة لشروط ظرفية لمتطلبات الثقافة العربية، ولم يكسر أو يخيب توقعها، ومسايرة نظرية التلقي يشكل مفهوم أفق الانتظار L’horizon d’attente الدائرة التي يشتغل عليها ياوس في النظرية الجديدة، والمفهوم استخدمه ياوس في إدارة بناء تاريخ الأدب.[17]وقد أخذ المفهوم من رصيد فلسفي إبستيمي عن كلٍّ من هوسرل وكارل بوبر، استخدمه الأول ليشير به إلى أفق الزمنية الفينومينولوجية، يقول: "إن المعيش الذي أصبح موضوعاً في نظر الأنا، والذي سيطر، باعتباره منظوراً إليه من زاوية معينة يمتلك أفقاً يتحدر من الإمكانيات غير المحققة، إن ما يدرك وفق انتباه معين يمتلك أفقا يتكون من واجهة خلفية من اللاانتباه واللااهتمام تفرض نسباً مختلفة من الوضوح والغموض ومن البروز وعدم البروز".[18] أما كارل بوبر، فقد تحدث عن أفق الانتظار في إطار النظرية العلمية وتجربة الحياة المعيشة، وشرح بوبر كيف أن خيبة الانتظار تتجسد في خطأ الفرضيات والملاحظات، ولعلنا سنكشف مسألة أخرى:
- حين ننظر إلى الوحي/ النص على أنه ظاهرة منجزة تتم نصيتها في تلقيها، وليس في لحظة الخلق الأولى؛ فهذه الأخيرة لا يقاس بها أثر الوحي ولا يتوصل بها إلى تمثل التجربة النبوية، وإنما يتم ذلك من خلال تحيين التجربة المعاشة، ومن خلال الكسور المضاعفة التي يحملها نص الوحي في ذاته عن مجتمع الوحي المتناقل في سلسلة التلقيات، تلك التحيينات الممكنة هي التي تجعل النص دائماً في حالة الاندهاش والإثارة، والإثارة هي من تصنع فارق الهزّ والشدة والتوتر في نفسية المتلقي، لتعيد إليه الشحنة العاطفية الأولى كما عاشها مجتمع التجربة، وهنا الوحي/ النص لم يخيب انتظاراً، لأن الانتظار هو كل معلوم من جهة المعنى، وإنما يكسر توقعاً، والتوقع ما كان على جهة الإخفاء والمفاجأة، وبالتالي فإن النص/الوحي يشكل تجربة جمالية على غير مثال التجربة السابقة التي شكلت معياراً أو قاعدة في المجتمع الجاهلي، وعليه فأفق التوقع يجعلنا أمام:
- شكل أدبي جديد نتيجة انزياحه عن أفق الانتظار المعهود، وهذا يعني أن النص/الوحي عطل التجربة السابقة، وتجاوزها من جهة الشكل والتجربة.
هذه الفائدة لم يحدثنا عنها المنشغلون بالخطاب الديني، وضاعوا في المصكوكات اللغوية التي شكلت حاكمية للعقل العربي، وعليه يدعونا ياوس إلى أن نتخلى عن وهم التاريخانية التي تعتقد أنها قادرة، حتى على إعادة بناء ووصف الأفق الماضي كما كان بالفعل.[19]
إذًن، فهم الوحي يكون تقريراً:
- فهم الأشكال الأدبية السابقة (الشعر/ الكهانة)
- فهم الشكل الأدبي الجديد/ الوحي.
- الفرق بين الوحي اللغة المعيارية كالشعر والكهانة.
وهنا وأمام هذا الرصيد الثقافي لدال الوحي نكون كقراء مستلبين من تتالياته ومتواضعين في سياقنا – في سياق تجربتنا القرائية.
وعليه تتغير الحركة لتصبح قارئ/نص، وبناء معنى الوحي لا يكون خارج تجربتنا المعيشة، بمعنى أن قراءة الوحي وإعادة تمثل تجربته يكون متمثلا في وعي القارئ، وهنا فقط يمكن بناء المعنى من خلال مشاركة القارئ، وتبقى هذه "العملية مشروطة بالاستعدادات الفردية لدى القارئ والشفرة السوسيوثقافية التي يخضع لها. وهذه العوامل هي التي توجه في كل مرة عملية الانتقاء التي يقوم بها القارئ والتي تمنح المعنى شكله المتجانس".[20]
وعليه، فالقدرة التواصلية المحمولة في النص تجعل القارئ دائما يتحرك في عملية بناء المعنى؛ فالقارئ يعمل على تأثيث من خلال تعبئة الفراغات، ويكون هذا بالحوارية بين النص ومحيط القارئ الخارجي والقارئ ذاته.
إن نفيي لفكرة الرصيد أو السجل النصي ضرورة إبستيمولوجية وموضوع مفارقي لكل من كابد جرح النص/الوحي الذي حاول أن يعاصَر عبره، فتطلب منه أولا أن يعاصر ذاته. إن غالب ما اشتغل به الباحثون ليس حديث النص عن ذاته، بل حديث المرويات، وبالتالي أغرقوا قراءاتهم في المتخيل عن النص.
فالخلل الذي ترتب في مدونة نصر حامد أبو زيد أن وضع أفق الوحي في أفق الثقافة البشرية، والتجاوز المطلوب أن نضع أفق الوحي في إطار أفق الوحي السابق، وإطار أفق تجربتنا المعيشة.
والتجربة المعيشة على وجهين:
- تجربة داخل النص.
- تجربة في سياق المحيط الخاص بالقارئ.
متى حصل التلازم بين التجربتين كانت القراءة منتجة، ومتى تخالفت التجربتين كانت، إما تغليبية أو استعلائية؛ إما تغليبية لتجربة النص، وهنا تتجلى الحاكمية في أبشع صورة، ومتى كانت استعلائية خرج النص عن طوره، وأصبح مجرد أرشيف يقوم بتسلية القارئ. وعليه فالمطلوب، أن نؤسس كليّاً لمفهوم التجربة من خلال استعادة تجربة النص، وذلك بإنضاح تجربتنا المعيشة، لتجاوز أطروحاتها ومهلكاتها.
*- هذا نص المداخلة الذي ألقي في ندوة "الوحيوالمقاربات الحداثية: بين تطوير الفهم واستعاب المعنى" التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بتاريخ: 29ـ 30 أكتوبر2013، في مدينة الرباط، المغرب.
-[1] هذا التساؤل الذي طرحه شلا ير ماخر.
[2]- هذا ما يمكننا تسميته بالتحليل السيميائي، حيث يدرس جملة التكرارات المعنوية التي تقف كلها عند معني أولى.
[3]- حسين خمري، نظرية النص؛ من بنية المعني إلى سيميائية الدال، منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، بيروت / الجزائر، ط1، ص 49
[4]- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص؛دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، ط 2، 1994، ص 31
[5]- عادل مصطفى، مدخل إلى الهيرمينوطيقا ؛نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير، دار النهضة العربية، ط1، 2003، ص 68
[6]- هشام معافة، التأويلية والنص عند هانس جيورج غادامير، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر، ط1، 2010، ص 45
[7]- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، ص 31
[8]- المرجع نفسه، ص 31
[9]- المرجع نفسه، ص 34
[10]- نصر حامد، مفهوم النص، ص 34
[11]- المرجع نفسه، ص38
[12]- عبد الكريم شرفي، مقدمة حول إشكالات القراءة والتأويل في النظريات الأدبية الغربية، رسالة ماجيستير، الجزائر،2001، 2002، ص 21
[13]- المرجع نفسه، ص 20
[14]- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، ص 65
[15]- المرجع نفسه، ص 69
[16]- نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة، الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط2، 1997، ص 75
[17]- أحمد بوحسن، نظرية التلقي والنقد الأدبي العربي الحديث، ص 30
[18]- عبد الكريم شرفي، المرجع السابق، ص 120
[19]- عبد الكريم شرفي، المرجع السابق، ص 134
[20]- عبد الكريم شرفي، نفسه، ص 146