الجذور الأوروبية لتطور الإرهاب المعاصر
فئة : مقالات
"لقد حان وقت ترهيب المتآمرين أيها المشرعون، ضعوا الإرهاب على جدول الأعمال... وليحوّم سيف القانون فوق جميع المجرمين".
(من خطب فترة الرهبة في فرنسا).
الإرهاب: الثمرة المتعفّنة للعولمـة
يرى عالم الاجتماع (الأمريكي) (أندرياس فيمر Andreas Wimmer) أن سيرورة تطور الدولة القومية الأوربية الحديثة كانت وراء ظهور وتطور مفهوم الإرهاب والصراعات السياسية والإثنية خلال الـــــــ (200) سنة الماضية([1]).
ثم جاءت العولمة ضمن سيرورة التطور نفسه، لتساهم بشكل حاسم في تعميق وتوسيع وتسهيل حركة الأفكار والقيم والأموال والإرهابيين في العالم.
كان تعبير الإرهاب يستخدم لوصف المعارضين السياسيين لحكومة معينة، وكانت كلمة إرهابي ذات معانٍ إيجابية من المعارضين، وأقدم ذكر لهذه الكلمة بمعناها الإيجابي مدون في سيرة كاتبة ماركسية وعضو في مجموعة فوضوية معارضة لحكومة (روسيا) القيصرية تدعى (فيرا زاسوليج (Vera Zasulich قامت باغتيال الحاكم العسكري لمدينة (سانت بطرسبرغ) عام (1878م) لأسباب سياسية، وقامت بعد الاغتيال بإلقاء مسدسها وتسليم نفسها للشرطة قائلة: «أنا إرهابية ولست بقاتلة»؟!([2])
وتُجمع معظم أدبيات الإرهاب على أن المفهوم بصيغته المعاصرة بوصفه عنفاً سياسياً قد ولد وتشكل مع الثورة (الفرنسية) وتطور وأخذ شكله مع بدايات هذه الثورة، وأن عبارة الإرهاب اكتسبت مضمونا سياسيا واضح المعالم في ثلاث فترات حاسمة ورئيسة من تاريخ تطور استعمالها، حيث يمكننا استخراج المراحل الثلاث الأساسية في تكامل مدلولها.
المرحلة الأولى: حيث لم تكن العبارة تدل بعد على أي معنى سياس.
والمرحلة الثانية: حيث تظهر بعض الملامح السياسية في استعمالها
والمرحلة الثالثة: حيث اتضح فيها المعنى السياسي بوصفه عنفاً سياسياً منظماً
ويتفرع عن هذه المرحلة الأخيرة اتجاه (أيديولوجي) مهم، استطاع أن يجمع عناصر المرحلتين الأخيرتين مع بعض التعديلات الحاسمة التي جاءت نتيجة للتطور التاريخي في الفكر والاجتماع والسياسة.
ولأهمية تتبع الأصل (الفرنسي) للمفهوم؛ وجدت أن من المفيد الإسهاب بعض الشيء في تتبع (جينولوجي) لهذا المفهوم في اللغة (الفرنسية) وكيفية تطوره، ودور الثورة (الفرنسية) والأطراف الفاعلين مثل نادي (اليعاقبة) بقيادة (روبسبير) في ذلك.(*)
واستخدم مصطلح (Terrorism) لأول مرة عام 1795م في (فرنسا) وكانت الكلمة (فرنسية) مشتقة من كلمة لاتينية (Terrere) أي "التخويف"، واستعملت الكلمة لوصف الأساليب التي استخدمتها جماعة (اليعاقبة) أو (نادي اليعاقبة) (Jacobin Club) خلال الفترة التي عرفت باسم(Reign of Terror) في الفترة ما بين (1792م) إلى (1794م) وكانت هذه الأساليب تشمل قتل واغتيال وتصفية وإسكات واعتقال المعارضين لهذه المجموعة السياسية التي كان لها دور بارز في الثورة (الفرنسية)، التي كانت توجهاتها معتدلة في البداية ولكنها بدأت تنحو منحى يساريًا متطرفاً بعد الثورة([3]).
وإذا كان لتاريخ (فرنسا) الحديث دور رئيس في تبلور المضمون السياسي لهذا المصطلح؛ فإنه قد خلق التباسا شديدا ومشكلة قلما تم الانتباه إليها من الباحثين والدارسين العرب، خاصة إذا تم نقل المفهوم حرفيا ًإلى اللغة العربية وهذه المشكلة هي "أننا نجد في الفرنسية كلمة (Terreur) وكلمة (Terrorism)، وهما تشتركان إلى حدٍ كبير في الدلالة على المعنى نفسه، إلا أن لكل واحدة منهما مميزات مستقلة بلغت في فترة معينة من تاريخ فرنسا حد التناقض بينهما.
فلو حاولنا نقل هاتين المفردتين إلى العربية بالصورة المتعارف عليها معجميا، لوجدنا أن كلمة (Terreur) ترادفها "رعب" أو "ذعر" أو "رهبة"، كما ترادفها اصطلاحيا كلمة "إرهاب"، وذلك للدلالة على "حكم الإرهاب" أو فترة الرهبة الذي شهدته فرنسا.
ثم هناك كلمة (Terrorism) وترادفها في العربية كلمة "إرهاب"، ونلاحظ أن كلمة "إرهاب" العربية تدل على كلتا الحالتين (Terreur) و(Terrorism) دون أن يكون ثمة ما يميز في المفردات العربية بين خصوصيات كل حالة على حدة كما هو حاصل في اللغة (الفرنسية)، أو في اللغات الأجنبية الأخرى، حيث إن كلا منهما يدل على نموذج معين من نماذج الإرهاب السياسي، أضف إلى ذلك أنه من الصعب إيجاد لفظة عربية مرادفة لكل من تلك الحالتين، وهذا ما يدعو إلى الالتباس والغموض، ويعيدنا إلى فضاء بهمة الألفاظ والعبارات والمفاهيم.
لقد مر تطور معنى الإرهاب بمراحل ثلاث: الأولى: المعنى الأصلي اللغوي المتعارف عليه، والذي كرّسته المعاجم الكبرى في اللغة (الفرنسية) التي انبثق عنها المفهوم، ومقارنة مدلولها في اللغة العربية، ذلك لأن أهمية هذه المرحلة تقوم بالأساس على دراسة تطور معنى الإرهاب في اللغة (الفرنسية) التي نشأ فيها واكتسب من خلال تاريخها السياسي، المضمون الذي تبنته كل اللغات بما فيها اللغة العربية.
الثانية: دور الثورة (الفرنسية) وأيديولوجيتها وما أضافته من مضامين سياسية واضحة المعالم والدلالات للمفهوم.
الثالثة: ما استجد في معنى المفهوم بفضل ما قدمته أهم حركتين ثوريتين في تاريخ (أوروبا) الحديث، وهما الحركة الفوضوية والحركة (العدمية) أو النيهيلية Nihilisme)) (الروسية).
فقد منحت الحركة الفوضوية والعدمية، مفهوم "إرهاب"، معنى سياسيا أكثر وضوحا وتركيزا مما كان عليه قبلهما، وكذلك، قامتا بإرساء الإرهاب على أسس نظرية وقواعد تطبيقية بشكل أصبح فيه الإرهاب قادراً على تمثيل وجه مهم من حقيقته السياسية.([4])
إذا عدنا لتتبع تطور مفهوم الإرهاب قبل الثورة الفرنسية؛ نجد ما يلي:
تشتق كلمة (Terreur) الفرنسية من الأصل اللاتيني (Tersere) و(Terrere). وهما فعلان يفيدان معنى: جعله يرتعد ويرتجف. ومن الأسماء المتعلقة بهذين الفعلين (Terror) و(Terroris) نشأت الكلمة الفرنسية (Terreur).
ففي قاموس الأكاديمية (الفرنسية) المنشور عام 1694 نجد لهذه المفردة التفسير التالي: "رعب، خوف شديد، اضطراب عنيف تحدثه في النفس صورة شر حاضر أو خطر قريب، ويتضح هنا أن ما يقابل هذا المعنى في اللغة العربية هي لفظة "رهبة" أو "راهبة" أو "رهبى" وكلها تدل على معنى الخوف والفزع أو "الحالة التي ترهب أي تفزع وتخوف".
ولإيضاح مكان استعمال هذه المفردات وكيفية هذا الاستعمال، فإن قاموس الأكاديمية (الفرنسية) يقدم الأمثلة التالية: يقال مثلا، "ألقى الرهبة بين الأعداء، نشر الرهبة في جميع الأمكنة التي يمر فيها، زرع الرهبة في كل مكان، كما يقال عند الكلام عن أمير كبير أو فاتح، أنه يملأ كل شيء برهبة اسمه، وذلك للإشارة إلى أن اسمه يزرع الرعب في كل مكان".
وبالنظر إلى كيفية استعمال مفردة الرهبة، يمكننا تصنيف عناصرها الدلالية وفق اتجاهين أساسيين: اتجاه نفسي (سيكولوجي) وآخر اجتماعي (سوسيولوجي)، من الأول نفهم الرهبة (Terreur) باعتبارها حالة تعيشها النفس، أو حالة شعورية عنيفة ومزعجة يعبر عنها أفراد معرضون لشر معين أو لخطر محتمل.
وقد عبرت القواميس اللاحقة لقاموس (الأكاديمية الفرنسية) لعام (1694) عن هذا الأثر بعبارة "اضطراب عنيف" و"رعب كبير" وغيرها، وتندرج كل هذه الانفعالات في المجال (السيكولوجي).
أما في المجال الاجتماعي (السوسيولوجي)، فبإمكاننا توسيع معنى الرهبة بصورة يتعدى فيها النطاق الفردي ليشمل النطاق الجماعي؛ فالرهبة لا تقتصر على الأفراد من حيث كونهم أفراداً، بل بإمكانها أن تسود أيضا مجموعة من الأفراد تربطهم علاقة اجتماعية ناتجة عن تشاركهم في وجود جماعي تحدده مقاييس ذات مضمون (سوسيولوجي) من حيث ارتباطها بمنظومة اجتماعية معينة، ولكل مفهوم مكانته ودوره الاجتماعيين في البناء الاجتماعي التراتبي الذي يسود كيانا جماعيا معينا؛ ومن جهة المفعول فيه يدل مفهوم "الأعداء" على وجود جماعي تربط بين عناصره علاقة واحدة تجمعهم روابط مشتركة تحددها مقاييس اجتماعية وسياسية معينة، فمن ضمن هذا المنظور تصبح الرهبة حالة نفسية تعيشها جماعة موحدة وتعبّر عنها جمعيا وبطريقة واحدة.
والهدف من هذا التحليل هو أن المعاني التي تقدمها القواميس (الفرنسية) لعبارة الرهبة (Terreur)، لا توضح، وحتى هذه الفترة من التاريخ اللغوي للعبارة، أنَّ الفاعل يستغل مفعول الرهبة بقصد معين، أو أنه يرمي بشكل واعٍ إلى تحقيق إفادة معينة من مفعول الرهبة التي يوحيها أو يفرضها على الأشخاص المعنيين، وهذا يعني، أن عبارة الرهبة (Terreur)، لم تكن تحمل حتى هذا التاريخ، معنى الوسيلة التي يستعملها الفاعل بصورة هادفة للوصول إلى هدف سياسي محدد.
هذا يعني؛ أن عبارة الإرهاب (Terrorisme)، لم ترد مطلقاً في اللغة (الفرنسية) حتى أواخر القرن الثامن عشر، ومع بداية الثورة (الفرنسية) طرأ تحول عميق على مفهوم الرهبة ليس من جهته النظرية، بل من جهة ممارسته في الواقع، إذ أصبحت وسيلة يستعملها الفاعل المدرك لمزاياها وللفوائد العملية التي يمكنه تحقيقها من جرائها. وهذا ما أدى بالنتيجة إلى ولادة مفهوم جديد ينتمي إليها بحكم الاشتقاق ولكنه مستقل بحكم الواقع الذي يدل عليه.
لكن السؤال الآخر هو: ما دور الإرهاب في الثورة الفرنسية؟
خلال الثورة (الفرنسية) لم يطرأ أي تغيير جذري على عبارة الرهبة (Terreur) من حيث عناصرها الأساسية التي تحدد مدلولها باعتباره حالة نفسية معاشة أو انفعالا يثيره في النفس شر أو خطر معين. ولقد استمر هذا المعنى النفسي (السيكولوجي) منذ ظهور عبارة الرهبة حتى اليوم دون أي تغيير.
و إذا كانت الثورة (الفرنسية) لم تؤد إلى تغيير في المضمون السيكولوجي للعبارة، فإنها نجحت في إدخاله في الحياة السياسية بصورة واضحة، فما قدمته الثورة في هذا المجال لا يقوم على وصف الرهبة وتعريفها، بل على تطبيق مضمونها وممارسته، وهذا يعني أن ثوار عام 1789م، قد أفادوا من خصائص الرهبة، من حيث مفعولها في الناس، ورفعوا شأنها إلى مستوى الوسيلة في الحكم، وبالتالي، فإنهم أبرزوا البعد الاجتماعي الذي تستطيع أن تحمله هذه العبارة وأسندوا إليه دورا سياسيا أدى بالنتيجة إلى إيجاد عبارة إرهاب (Terrorisme)، وبذلك قدمت الثورة (الفرنسية) خصائص الإرهاب في مجال تطبيقه السياسي، وهذا يعني أن هناك عملية توالد لفظي من العبارة الأولى: رهبة (Terreur) إلى العبارة الثانية: إرهاب (Terrorisme).([5])
وعلى الرغم من أن الفترة المعروفة باسم "فترة الرهبة أو حكم الإرهاب (Terreur)"، تتحدد بتاريخ (10 / آب 1792)، وهو تاريخ الدعوة إلى مؤتمر وطني، وسقوط (ماكسيمليان روبسبير) في السنة الثانية للجمهورية (27 تموز 1794)، فإن ممارسة الإرهاب (Terreur) بصورة قانونية ومؤسسية، لم تحصل بشكل علني وواضح إلا ابتداء من 10 آذار 1793م، لكن ومهما يكن من أمر فقد أصبح لعبارة (Terreur) وقع سياسي عند للحكام والمحكومين على السواء، قبل هذا التاريخ بعدة اشهر، ويعود سبب هذا الأمر إلى حدثين مهمين هما:
الأول: المرسوم الذي سمح فيه بمداهمة المنازل لنزع السلاح من المشبوهين، والذي أدى إلى توقيف ثلاثة آلاف مشبوه بمعاداة الثورة وزجهم في السجون، وقد صدر هذا المرسوم، الذي كان وراءه (دانتون /Danton)، في (28 آب 1792).
الثاني: الحدث المعروف بمجازر أيلول، فحتى عشية 2 أيلول من السنة نفسها، كانت القيادة الثورية تعاني وضعاً حرجاً وصعبا نشأ عن ضيق السجون والأمكنة التي كانت تغص بالموقوفين والسجناء من كل أنحاء (فرنسا)، إنه بإمكان هذا الواقع أن يشكل بحد ذاته مؤشرا مهما لظهور الإرهاب، ولكن دون أن يسميه باسمه ولكن بعد ظهر الثاني من أيلول أطلقت هذه العبارة بمعناها السياسي كما تجلت بأعمال معينة تدل على مضمونها الواقعي، أي الفعل الإرهابي.
ويبدو واضحاً أن كلمة إرهاب (Terreur) قد استعملت بمعنى يدل على إرادة تأديبية عادلة تنبثق من الشعب في وضع اجتماعي/ سياسي معين، إنها ردة فعل فورية أيدتها، بهدف سياسي، لجنة المراقبة التي تشكل سلطة قانونية رسمية تأسست بمرسوم يمثل النظام السياسي والتشريعي القائم في تلك الفترة.
هذا الحدث هو الذي فتح صفحة الإرهاب السياسي في تاريخ (فرنسا)، ثم تتالت الإجراءات المشابهة، وأخذت الوقائع تضفي على معنى الإرهاب الطابع الرسمي والمؤسسي، فبعد سنة تقريبا من مجازر أيلول، أي في منتصف عام (1793)، جاء وفد مؤلف من بعض رؤساء المقاطعات ومن بعض الأعضاء في الجمعية (الجاكوبية)، ليحضر جلسة للمؤتمر الوطني المنعقد في (باريس) وليبلغ المؤتمرين إرادة الشعب (الفرنسي)، وقد جاء في إحدى خطب الوفد ما يلي: "لقد حان الوقت للمساواة كي تعمل منجلها فوق الرؤوس، لقد حان وقت ترهيب المتآمرين، أيها المشرعون، ضعوا الإرهاب (Terreur) على جدول الأعمال... وليحوّم سيف القانون فوق جميع المجرمين".
ورداً على ذلك، وقف السياسي (بارير: Barrere) خطيبا ليؤكد للوفد أن الحكومة، تحقيقا لمطالبهم ومطالب الشعب، ستعمد إلى تشكيل "جيش ثوري ليحقق تلك الكلمة الكبيرة التي يعود فضلها لكومونة (باريس)، ألا وهي: "ضعوا الإرهاب على جدول الأعمال"، وحتى يبدد (بارير) كل شبهة أو سوء فهم أضاف: "إنها ليست مجرد انتقامات غير قانونية، بل ستكون المحاكم الاستثنائية هي الموكلة بالتنفيذ، أما الذي توجّ رسميا هذا الوعد، فهو ما جاء في المحضر الذي حرر على إثر تلك الجلسة إذ جاء فيها: "إن المؤتمر الوطني، بعد أن استمع إلى تقرير لجنة السلامة العامة، يقرر ما يلي: سيكون في (باريس) قوة مسلحة، تمولها الخزينة العامة، وتتألف من (ستة آلاف) رجل ومن (ألف ومائتي) مدفعي، غايتها قمع أعداء الثورة وتنفيذ الإجراءات الكفيلة بحفظ السلامة العامة التي تقررها (الكونفنسيون).([6])
يتضح مما سبق، أن المدلول الواقعي لعبارة رهبة (Terreur) أثناء الجمهورية (الجاكوبية) قد مرّ بمرحلتين، فبالإضافة إلى المدلول السيكولوجي الذي كانت تتضمنه منذ نشأتها، كانت في المرحلة الأولى ردة فعل فورية قام بها الشعب واستخدمها كأداة دفاع وطني وثوري ضد العصاة والخونة وأعداء الثورة. وكانت الرهبة (Terreur) في هذه المرحلة وسيلة سريعة المفعول لنشر المبادئ الاجتماعية والسياسية (الجاكوبية) وتثبيت أسسها.
أما في المرحلة الثانية، فقد أصبحت الرهبة (Terreur) نظام حكم تدعمه المؤسسات الرسمية وأجهزتها السياسية والعسكرية، حتى أصبح من المستحيل أن نذكر الأيديولوجية (الجاكوبية) دون أن نذكر الإرهاب ودوره في تسيير عجلة الحكم في السنتين الأوليين من عهد الجمهورية الأولى([7]).
وتشير أدبيات الثورة (الفرنسية) أنه في (العاشر من آذار عام 1793) أي بعد أن تبنت حكومة المؤتمر الوطني وسيلة الإرهاب تم إنشاء المحكمة الجنائية الاستثنائية التي دعيت على سبيل الاختصار لمحكمة الثورة، وكان من أهدافها قمع الجرائم التي ترتكب ضد الثورة وأجهزتها الحاكمة، كما أرادت الحكومة الثورية من وراء إنشاء هذه المحكمة أن تحول دون وقوع مجازر شعبية جديدة كالتي وقعت في أيلول، إلا أنها احتكرت بهذا العمل قانونية اللجوء إلى الإرهاب، واحتفظت بحق ممارسته عند الضرورة، ذلك الحق الذي كرسته لها أجهزة التشريع الدستورية، ففي الفترة الأخيرة من تسلمها المهمات الموكلة إليها، كانت تتألف المحكمة الثورية من خمسة أعضاء قضاة يكتمل نصابهم (بثلاثة)، ومن مدعّ عام له رديفان ومن (اثني عشر) محلفا لهم (أربعة) ردفاء، وكانت (الكونفنسيون) هي التي تعين القضاة والمحلفين، ولكن في السنة الثانية للجمهورية (10 حزيران 1794) صدر قانون قدمه (روبسبير)، تغيرت بمقتضاه أصول المحاكمات لدى المحكمة الثورية: فقد تم إلغاء هيئة المحلفين والاستماع إلى الشهود، وألغيت هيئة الدفاع وإجراءات التحقيق الأولية، ومنذ ذلك الحين أصبحت الأحكام مبرمة غير قابلة للاستئناف، كما أنه لم يترك لهيئة القضاة سوى الاختيار بين التبرئة أو الحكم بالموت.
يمكننا أن نستنتج مما سبق، أن هذه الإجراءات من الحكومة الثورية لم تغير شيئا في المضمون السياسي والعملي للإرهاب، إلا أنها جعلت منه ركنا أساسيا من أركان النظام السياسي، لقد كانت الحكومة الثورية تحكم بالإرهاب، تلك الوسيلة التي اعتبرت الأصلح والأوفق لتأسيس الجمهورية، وبهذا المعنى يمكن فهم ما صرحّ به (سان جوست: Saint Just) في تقرير رفعه إلى (الكونفينسيون) باسم لجنة السلامة العامة، ويتحدَّث فيه عن ضرورة إعلان الحكم حكما ثوريا إلى أن يستتب الأمن والسلام في (فرنسا)، يقول: "لن تتأسس الجمهورية إلا عندما تقمع إرادة الحاكم الأقلية الملكية وتفرض عليها سلطتها بحق الغلبة"، ثم يتابع قائلا: "ولكن بين الشعب وأعدائه لا يوجد أي قاسم مشترك إلا السيف، يجب أن تحكموا بالحديد هؤلاء الذين لا يمكن حكمهم بالعدالة: يجب أن تقمعوا الطغاة"([8]).
وقد كان لسقوط (روبسبير) في السنة الثانية للجمهورية (27 تموز 1794) وإعدامه في اليوم التالي نتائج مباشرة على استعمال كلمة (Terreur) فلقد أدى هذا الحدث، المهم في تاريخ الثورة (الفرنسية) إلى نشوء كلمة إرهاب (Terrorisme). وتوضيح ذلك أن ممارسة الرهبة من قبل الأجهزة الحكومية الثورية بإشراف الثلاثي (روبسبير وسان جوست وكوتون) قد تمت بصورة غير محتملة اجتماعيا وسياسيا وإنسانيا، ولذلك فقد استفاد خصوم (روبسبير) من هذا الواقع ووجهوا إليه اتهام اللجوء إلى هذه الوسيلة الشنيعة، حيث اتهموه بجريمة ممارسة الإرهاب (Terrorisme) وأعدم في ساحة الثورة باعتباره إرهابيا (Terroriste). وضمن هذه الظروف استعملت عبارة (Terroriste, Terrorisme) في اللغة الفرنسية لأول مرة([9]).
إن هذا الانتقال المرير من عبارة (Terreur) إلى (Terrorisme) يحتوي لدى تحليله على عنصر رئيس في مضمون العبارة الجديدة، فلقد كانت الرهبة نسقا في الحكم سائدا بصورة قانونية، إذ إن جميع الإجراءات القمعية العنيفة والشرسة كانت تحصل تحت غطاء القانون الصالح والشرعي الوحيد، وجميع المطالب والعرائض التي كانت ترفع للحكومة الثورية تطالبها بتطبيق الرهبة، إنما كانت تحققها الأجهزة الرسمية والسلطات السياسية والإدارية باسم القانون والدستور السائدين، أما بعد الإطاحة بـ(روبسبير) فقد أصبح خصومه أسياد الساحة، وبهدف تبرير الانقلاب الذي قاموا به، فقد اتخذوا إجراءات "عقائدية" إذا جاز التعبير، حيث عمدوا إلى إلغاء عبارة رهبة (Terreur) من محاضر (الكونفينسيون)، كما قاموا أيضا بإجراءات دعائية تقوم على استهجان نظام الحكم الذي كان يمارس في السابق، وتحقره مع أصحابه أمام الرأي العام.
يتبين من خلال هذا العرض، أن معنى النسق في الحكم الذي كان يسند سابقا إلى عبارة (Terreur) قد تحول إلى عبارة، (Terrorisme) مع ما أضيف إليه من دلالة أخلاقية تتضمن معنى الإدانة، وهذا ما يفسر كون الأكاديمية (الفرنسية) قد أحجمت عن إسناده إلى كلمة (Terreur) بل حصرته في (Terrorisme) ففي قاموسها الصادر في العام السادس من الجمهورية عادت الأكاديمية (الفرنسية) وكرست للرهبة (Terreur) معنى "الانفعال" السيكولوجي؛ وذلك دون أية إشارة إلى العبارة الجديدة، ولم تدرج هذه الأخيرة في قاموس الأكاديمية إلا في الملحق الصادر عام 1829 حيث نجد كلمة (Terrorisme) بمعنى "نظام، نسق الإرهاب الذي ساد فرنسا خلال الثورة، أما كلمة (Terreur) فقد بقيت على معناها نفسه، ولأجل إبراز التمييز بين هاتين الكلمتين، عمدت الأكاديمية الفرنسية إلى وضع فعلين مختلفين يتعلق كل منهما بواحد من الاسمين، فهناك فعل (Terroriser) الذي يعني "فرض نسق الرهبة أو نظامها" وفعل (Terrorifier) الذي يعني: "جعله يضطرب من الرهبة".
وعلى سبيل المقارنة مع اللغة العربية، فإن كلمة (Terrorisme) تقابلها عادة كلمة إرهاب، وقد وردت هذه المفردة عند الزمخشري إذ يقول: "يقشعرّ الإهاب إذا وقع منه الإرهاب"، ولكن يبدو واضحا أنها قد استعملت هنا بصيغة المصدر من فعل أرهب، وبالتالي فهي تقابل كلمة (Terreur) بمعناها المجرد من كل بعد اجتماعي وسياسي، ولم تستعمل كلمة إرهاب في العربية للدلالة على الواقع السياسي إلا مؤخراً، فقد ورد في "المنجد" مثلا، "الإرهابي: من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطته. الحكم الإرهابي: نوع من الحكم يقوم على الإرهاب والعنف، تعمد إليه حكومات أو جماعات ثورية"، كما جاء في دائرة المعارف أن "الإرهاب مصدر أرهب: أخاف، راع، خوفّ، روّع، فهو الإخافة والترويع، يستعمله بعض المعاصرين بمعنى التخويف والتفزيع، ويستعمله البعض الآخر بمعنى التهديد في سبيل الابتزاز والأخذ، وكلمة تهويل أولى بهذا المعنى، وقد يستعمل بمعنى إلقاء الخوف الجماعي وخلق جوّ من الذعر: (Terrorisme, Terreur) وكلمة "رعب" أولى بهذا المعنى"([10]).
إن ما يمكن أن أخلص إليه هنا، هو أن الإرهاب؛ كغيره من المفاهيم مثل الحضارة، والعولمة، والديمقراطية، والثقافة، والعنصرية، والقومية والجنس والعرق كلها مفاهيم من نتاج الحداثة (الأوروبية) بعد عصر التنوير والثورة الفرنسية، والثورة الصناعية وما تبعها من تطورات وتداعيات متسارعة شكلت المنظومة المعرفية (لأوروبا) والغرب المعاصر، والتي تكللت بالتسارع الهائل في سيرورة العولمة الحالية.
[1] Wimmer, Andreas,(2013), States of War How the Nation-State Made Modern Conflict, Foreign Affairs November 7, p1
[2] الشَرَفات، سَعود، (2016)، الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتضارب المسلمات في ظل العولمة، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، ص 124
* أنا مدين في العرض التاريخي لتطور المفهوم في هذا المقال لمجلة الدفاع الوطني اللبنانية التي نشرت دراسة موسعة عن الإرهاب والثورة الفرنسية. مجلة الدفاع الوطني اللبنانية، العدد (1)، (كانون أول/ 2002).
[3] مجلة الدفاع الوطني اللبنانية، العدد (1)، (كانون أول/ 2002).
[4] المرجع السابق.
[5] الشرفات، سعود، ص 114
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع السابق.
[8] المرجع السابق.
[9] المرجع السابق.
[10] المرجع السابق.