الحاجة إلى فلسفة الدين وعي الموقِف الوجودي الراهن

فئة :  أبحاث محكمة

الحاجة إلى فلسفة الدين  وعي الموقِف الوجودي الراهن

الحاجة إلى فلسفة الدين[1]

وعي الموقِف الوجودي الراهن

ملخص:

تعنى هذه الورقة بالوقوف على مقتضيات وعي الحاجة إلى فلسفة الدين؛ إذ إن الانهمام الفكري بالكون لا يتقوَّم إلا من خلال بناء وجهة نظرٍ شمولية في الفكر الكلِّي الفاعل فيه تاريخيًّا، وما الدين إلا مظهر هذا الفكر الكلي المؤثِّر في صوغ أي فلسفةٍ من شأنها تأويل الدلالات المعرفية والإنجازية في هذا العالم. لذا، إن دراسة "الموقف الحضوري للإنسان" تتيح لنا القدرة على توجيه الوعي لابتكار وضعيَّة فَهميَّة تفكُّرية في الدين بحسب الحاجة إلى وجوده الآن. أما التفاعل مع إشكاليات الظاهرة الدينية، فهو البحث عن مستعصيات السؤال الدائم في الدين؛ إذ إن "كيفية استدعاء المدخرات المعرفية بحسب مقتضيات الحَدَث" هي بَعثٌ لمحاججة مصادر الذات المعرفية وأصالتها، أي استظهار قصديٌّ لثنائيات العقل والنقل أو الفلسفة والملة أو النظر والاعتقاد. أخيرًا، إن النظر إلى أهمية "تحمُّل مسؤولية الوجود الإبداعي في العالم"، يؤكِّدُ وعي الحاجة إلى الفرد لتحقيق الإيمان الحر القادر على بثِّ القيم الضرورية لمواكبة المعيش الراهن أخلاقيًّا وعلميًّا في تسيير الحياة وتجويدها.

******

في كثيرٍ من المواقف الفكرية نَشهَدُ التفاعل مع المعطى المعرفي الديني كأنَّه وَرْطةٌ فكريَّةٌ حلَّت على الوجود من خارِجِه، وكأن التفكير العلمي للإنسان مناقِضٌ بالضرورة لهذا المعطى المعرفي الموجود واقعًا في متناول الناس. إن التقدُّم العلمي تاريخيًّا يتَّسِمُ بالإنجازيَّة الظاهرية؛ أي أن ينجُم عن أي فكرةٍ تطويرية منتجات وتقنيات وآلات وأشياء تصبح موجودةً في "الحقيقة" وتتكيف البشرية بالانوجاد بها؛ فالحياة البشرية تتكيَّف حضوريًّا مع الواقع. وبالنتيجة، إن "لغةَ الحقيقة" ستبدأ من هذا المعيش الراهن الحر، وستكون المفاهيم المعيشة كلها مرتبطة بمشهديَّة التجارب المغيِّرة في الكون وفي سياسات العالم الكبرى، وتحركات الإنسان الفاعلة في هذا الكل.

ولما كانت نقطة البداية في هذا الكون غائرةً في البعد عن الآن الحاضر، كذلك نقطة الغاية لا يمكِنُ إكمالُها الآن؛ أي لا تُدرَكُ بالكلِّيَّةِ ولا تُنجَزُ أيضًا، فهي بعيدة التحقُّقِ والتَّعَرُّفِ كما نقطة البداية. لذا، إن الإنسانَ يعاينُ وثائق الزمن القادم والزمن البائد، حتى يتكشَّف له حضوره الراهن؛ أي حتى يعرف الكون القائم. إنَّ توثيقَ الزمن هو إحضارٌ له في الحدث بمقدار الحاجة إليه في تسوير حدود المعرفة بإحكامٍ؛ أي التوسُّع الإدراكي في أَبعاد الفكر لإقرارِ شموليَّته الضِّمنية للظاهرة، وهي الشمولية التي يفترضها المفكِّر نفسُه في كل مرة يمارِسُ فيها الفهمَ المحيقَ بالكون وتفاصيل العيش فيه، ومن ثم يبني الإنسانُ بفكرِه في الكون عقائِدَ يسكنُها، حتى يطمئنَّ إلى نُظُمٍ يتوقَّع فِعلَها، ويعيشُ أثرَ معانيها في ذهنه.

من هذه الإشكالية، نجد أن هناك تفاعلًا لابدَّ منه مع المعطى الديني، وخاصةً "النص"، يقتضي اعتبار الإنسان قدرةً حيَّةً في اقتبال هذا النص؛ أي إن الإنسان يحيط بالنصِّ والكون معًا في كل محاولةِ فَهم؛ ذلك أن صناعة الرؤية الحيَّة للعالم تتطلَّب مستوى من الادِّخار التجريبي المعرفي لـ "الفاهِم" نفسِه، حيث إنه يجب أن يعي نفسَه في مقام الحقيقة؛ أي في لحظةٍ لا يمكنه الخروج منها، إلا بتأويل مفاهيمه بحسب حركيَّة وجوده، حتى يكون مبدِعًا للرأي في هذا العالم. فالإنسانُ مقابِلَ النصِّ نِدٌّ معرفيُّ، ولا يمكنه أن يتلقَّف معانيه من دون بثِّ الشكِّ في اقتبال المعنى نفسه. إن الإنسان يرى نفسَه هو الذي يصنع الحقيقة. لذلك تحدّ سلطة النص عليه من سلطته، من هنا نراه يقرأ بهدف احتواء النص وإبقاء سيطرته هو على المشهد الكوني العام. وقد نجِدُ بروز حالة الانفعال الفكري السلبي بالمعنى الموجود؛ أي الشعور الخاطئ بالتورُّط في الحقيقة الكامنة في النص. وقلنا الشعور الخاطئ؛ لأننا لا يمكن أن نعدَّ الباحِث عن الحقيقة فاهِمًا، إذا تخلى عن مسؤولياتِه في ضبط اتجاه المعرفة عنده، بما يتلاءم مع عيشه، وإذا كانَ الحَدَثُ الراهن يقتضي الكَشْفَ المعرفي، فإنَّ آليَّات الكشف تقتضي من الكاشِف وعيَ مقوِّماته في ذاته، وقدراتِه الدوَّامة على إمكان الكشف؛ أي وعي حُدوثاته التاريخية المتكررة لتفسير إمكان إحداثِهِ الفهْمَ مجدَّدًا في لحظةٍ تاريخانيَّة مكينة. الإنسانُ هو الذي يحكُم الحدَثَ الراهن بالمعنى القائم، وما النصُّ سوى زمانٍ مكتمِلٍ لا بد من إعادتِه إلى اللحظة غير المكتملة التي هي الآن، وفتحِه على قابلية إنجاز المعنى في الحاضر الراهن، هنا يكون الإنسانُ صانعًا لمعرفته في الكون حاويًا نصوصَه وأحداثَه وإمكاناته المفتوحة، بحسب تمكُّنِه من تأويل عيشِه، ووضعِه موضِعَ الظاهرةِ في العيان القابلة لإفصاحِ الرأي وإبداء الذهن في البيان.

إن هذا الشرط الذي وضعناه لقواميَّة التفسير والتأسيس الجديد للفهم، يستدعي إبداع فلسفةٍ للدين، أي تفاعلًا مع اللغة الموجودة باللغة الممكنة؛ وذلك للإجابة عن إجراءات الفهم الضرورية لإنجاز معرفةٍ كونيةٍ يحتاجها العالم اليوم. إن فلسفة الدين اليوم تستدعي دراسة "الموقف الحضوري للإنسان"، ثم "كيفية استدعاء المدخرات المعرفية بحسب مقتضيات الحَدَث"، ثم "تحمُّل مسؤولية الوجود الإبداعي في العالم". وهذا ما سنحاول شرحَه، في منهجيةٍ لابدَّ أنها ستَفيد كثيرًا من الإمكان الفينومينولوجي والإمكان الهرمينوطيقي للفهم، ولكن انشغالها الحقيقي هو في ما أسميه "القدرة على الآنيَّة" في اللغة العربية، وهو ما يتَوَقْعَنُ في الحَدَثِ بالحَدْسِ الشَّيْميِّ[2] للذات بما هي ظاهرة معرفيَّة معيشة. وهذا الزَّخْمُ الحضوريُّ في تبديل وظيفة الشيء في السيرورة المعرفية الدوَّامة هو الإجراء المُؤَسِّس للحظة الانفتاح الدائمة على اقتبال الواقع وإبداع الرأي، فنخلص في نهاية البحث إلى ضرورة فلسفة الدين في كل وضعيَّةٍ ينوجد فيها الإنسان، لتأكيد إمكان الحرية بما هو شرطٌ للتعبير الظاهراتي عن الحدث، وكذلك نفي التصور العشوائي للدين بما هو "ورطة فكرية" تهبط مِن خارج بؤرة الحدث المعيش الجديد في كلِّ مرة.

إن الدين هو تجربة فكرية مستمِرَّة، تتطلَّب الجرأة العلمية الواعية والقدرة اللغوية المكينة على فهم وضعيَّته في كل حين؛ فالإنسان لم يوجَد ولن يوجَد بلا دين واعتقاد. ولكلِّ فَهمٍ إنسانُ فَهمٍ يوجَد في الواقع بجدارةٍ تبقيه مسيطرًا على أخلاقيات التجديد التأويلي لأي تفاعل ممكن في بنية الكون المعرفية، بما هي قرارٌ بالحراك؛ أي إدراك لعدم إمكان الثبات على رأيٍ أوَّلَ يحكم ما يليه، بل التحرُّك الدائم نحو القرار في تأويل المشهديَّات التي تُفْسِحُ الظهور المستجِد للإنسان في كل مرة. إن الشيءَ الوحيد الذي يستدعي النفي عن كينونة الحَدَث الحرة هو إمكان الإبطان والإخفاء أو إمكانُ الاحتيال على الظاهرة بتفسيرات تهبط عليها من خارِجها. إن اللغةَ الباطنيَّة هي عكسُ البيان؛ أي مخالفةٌ مارقةٌ على الوجود الحي الظاهر دومًا للعيان، أما التأويل الحقيقي، فهو إجراءُ الجُرأةِ في الواقع؛ أي وعي إمكان رهنِ معرفةٍ بحدث، وإمكان تفسير وضعيةِ الكائن في الكون، وما الدينُ إلا معطى حضوري يلجُ محاولةَ التعرُّف الدائم للإنسان، بثقة ظاهرية لا يشوبُها الخفاء والغرابة والعمى إلا نتيجة القصور في إدراك إمكانات اللغة في فَسْر الواقع من داخِلِه.

أولًا: الموقفُ الحضوري للإنسان

عندما نتحدَّثُ عن موقفِ الإنسان، فإن ما نقصِدُه هو وعيُ الوعيِ؛ أي القدرة على الإحاطة المعرفية الكاملة بالذات في حضورها المرئي، حيث تكون إنجازية العيش استجابةَ اقتدارٍ وقوةَ إرادةٍ في الفهم والتأثير. من هنا، إننا نحن البشر لا نعترِفُ بسلطة الدين إلا في لحظةٍ بسيطة فالتةٍ من سلطة التفكُّر الدائم، حيث إننا عندما نَدينُ ونَخضعُ نعاوِدُ استذكار الإرادة الذاتية مجددًا، فنبعثُ الفكرة الدينيةَ في الفكرِ، ليعلوَ الإنسانُ على معارفه بإخضاعها كلها للحجاج والنقد. لا يمكنُ للإنسان التلذُّذَ بالرضى المعرفي أو الاستكانة إلى إجابات حاضرة مهما اشتدَّ توهُّجُها، بل هو لا يعترف إلا بحضوره الشخصي، الفردي، الذي يؤمِّن له الحرية في اقتبال الكونِ في الذهن مواكَبةً لسيرورة الزمان. إن لحظة التلقي لأي معطى معرفي هي نفسُها لحظة إحالة هذا المعطى سؤالًا. وبالتالي، لا يمكن فهمُ الدين إلا بسؤالِ التديُّن عينه؛ أي بفلسفةٍ تجعلُ استقرارَ الماهية مشهدًا متحرِّكًا أمام العيان، فيستحيل الاعترافُ إلى جدلٍ أنطولوجي لا يُجاوِزُ حضوريَّة الذات في الحدث، ولا يفارِق راهنية الزمان في المشهد المعيش؛ إذ يصبِحُ كل شيء خاضعًا لمجرَّد العقلِ والبيان الناجم عنه في هذا العيان؛ ذلك أن كل تفكيرٍ يحيلُ الأفكار المتناهية في وجودها إلى أفكار لامتناهية في حضورها؛ أي يغلِّب الشكَّ المنسجم مع حركيَّة الراهن على اليقين المطابق لجمود الأنساق الكاملة في محاكاة الواقع.

يحضرنا في هذا المضمار الجدل الهيغلي حول وظيفة الفلسفة أو موقِعها الحقيقي في التفكير، وما يستتبع ذلك من تحديد للإيمان نفسه، لإنجاز فهمٍ للدين. ما يستدعي الفهم دائمًا هو التفكير في المطلق، أو اعتبار العقل قادرًا على الإحاطة بكل شيء، إضافةً إلى الشعور بامتلاك البداية التكوينية لكل ظواهر الوجود واستيعاب الخَلْق. هنا يجب أن نراقِبَ اندفاعنا المواكِب لعقلنا، فالسيرورة المعرفية هي المجال الحقيقي للمعيش، أو بالأحرى هي الممكن الوحيد القابل للتحقُّق. إن ابتداع الانتماء إلى الحقيقة في جهةٍ بعينِها أثناء جريان السيرورة هو ما يؤدي إلى بَتْر الرحلة الواعية للحقيقة؛ أي يعيق حرية التفكير في موضوع الفكر نفسه. فمن الضروري الحفاظ على الوعي في دائرة المطلق كي نتمكن من إبقاء المطلق في دائرة الوعي، قابلًا للتفكير والتظهير والتعبير؛ أي قابلًا لإنتاج معناه بحرية. "فما تندب إليه الفلسفة هو أن يقوم المطلق بالنسبة إلى الوعي... أي المطلق القائم في الوعي، بما هو في نفس الوقت واعٍ ولا واعٍ... فالتفكُّر لا ينتفي هو نفسه، ولا ينفي كلَّ كينونة ومُقيَّدٍ إلا من حيث يتصل بالمطلق"[3].

إذن الوعي لا يكون لجزء من الكينونة، بل يكون للمطلق في المطلق؛ أي لفكرة الكينونة ولموضوعِها بحسب ما هو ماثِلٌ ولمُمكِنها بحسب ما هو متفكَّرٌ فيه. فالمطلق ينفي إمكان الإقصاء لفكرةٍ ممكن ورودها في لحظة التفكير بالكينونة. إن التأمُّل يماهي الشعور بالفكرة القائمة الحرة عن العلاقة الراهنة بين الذات والموضوع، وبين الفكرة والشيء، وبين المتناهي واللامتناهي، فلا يكفي العيش في اللحظة التاريخية لإدراك المضمون الثقافي للكينونة. "فالتفكر بما هو ملكةُ المتناهي واللامتناهي الذي يقابله، إنما يأتلفان في العقل الذي يضم لا تناهيه المتناهي"[4]. فما يقصده هيغل من مقابلة اللامتناهي للمتناهي هو فعلًا أن استمرار حضور المتناهي في الظهور دون الدثور وإمكان إحضاره تفكُّرًا في اللامتناهي؛ أي أن يتوسَّط العقل بين الذات والموضوع. وهنا تحضرنا القاعدة الفقهية الإسلامية التي تغلِّبُ الحدَثيَّة على الموضوعية، فالحدث أقدَر على إبداع التفكير من الموضوع السابق للحدث، والنصُّ لا يحدِّدُ فكريَّة الحدث، بل إن الفكريَّة التي تملأ الحدث هي التي تقابل بين النص والحدث في ذهن المتفكِّر لحظةَ تفكُّرِه، يقول السيوطي: "نعلم قطعًا ويقينًا أَن الْحَوَادِث والوقائع فِي الْعِبَادَات والتصرفات مِمَّا لَا يقبل الحصْرَ وَالعدّ، ونعلم أَيضًا أنه لم يرد في كل حادِثَة نص وَلا يتَصَوَّر ذَلِك أيضًا والنصوص إذًا كانت متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى [التشديد من عندي]، عُلم قطعًا أن الاجتهاد والقِياس وَاجِب الاعتِبار حتى يكون بصدد كل حادِثَة اجتِهَاد"[5].

إن المهم إذاً هو الصلة التفكُّرية بالمطلق اللامتناهي، وهذا ما لا تقدر عليه الآراء المتحيِّزةُ إلى جهةٍ من جهات الفهم للحقيقة المطلقة في هذا الكون. إن الكينونة بذاتِها لا يمكن أن تملك الحقيقة ولا الذهن بذاته أيضًا؛ ذلك أن منطق المطابقة بين الرأي المفترض والواقع هو فعل ضديدٌ للحقيقة. أما التقابل بين الذهن والواقع، فهو الذي يسمح بتوسيط العقل؛ أي براهنية الإقامة في الصلة، حيث الانشغال الوحيد الممكن في سبيل الحقيقة. في هذه الوضعية، يمكن للتأمُّل أن يستفيض ما يجاوِز به الأفكار والعقائد والتقييدات الموجودة، "لذلك يفقه النظرُ التأمُّليُّ الرَّأيَ السليم. أما الرأيُ السليمُ، فلا يفقه شيئًا من فعل النظر التأملي"[6].

ومن ثمة، فإن إحرازَ "الهُوَ هُوَ" أمرٌ غير ممكن في وضعية الإنسان بما هو كائنٌ تأمُّليٌّ بالمطلق. إن المطلق الوحيد هو التفكُّر في المطلق، وهذا لا يتيح التهوِّي بهويَّة قَبْليَّةٍ، ولا يتيح كذلك اقتراحَ حدود للماهية بحسب تصورات ذهنية، ولا إخضاعَ الماهيةِ للشروط التجريبية الإمبريقية المتناهية، واعتبارها وحدها الجهة التي تنبت الرأي. إن المهمَّ في سيرورة الفهم هو السيرورة نفسها؛ أي هذه التأمُّلية المفتوحة القابلةُ لتظهير الفهم في كل مرة تتقابل فيها الذات مع موضوعها. والتفكير هو رهنُ التفكير في الظاهرة بما هي حدث يستوعب المتناهي واللامتناهي في تقابلية حرة. "أما الهويات النسبية للرأي السليم التي تحمل صورتها المقيدة وتزعم من حيث تظهر تمام الإطلاقية، فإنما تصير أعراضًا بالنسبة إلى التفكر الفلسفي"[7].

من هنا نفهمُ الإيمان عند هيغل بما هو فلسفة للدين، فهو غير ممكن إلا بما هو وعي للصلة الدائمة بالمطلق التي تقابل الذات بالموضوع في حراك تفكُّري تأملي دائم، يفصِلُ العقلَ عن إمكان التهوي برأيٍ بعينه، ويبقيه حرًّا في تخيُّر المعنى الموافق لسيرورة التفكر في الحقيقة. هذا العقل هو الوساطة الفعلية الممكنة في إنجاز الإيمان؛ بمعنى أن فعل الإيمان في هذه الحال لا يكون شيئًا مطابقًا للعقل أو مفارقًا له، بل يكون شيئًا يقابِل به العقلُ الكينونة؛ أي يكون هو العقل عينه في التجربة التفكُّرية القائمة؛ فلا غلبة لرأي يفارق تناهي الظاهرة بلامتناهٍ من خارج هذه الظاهرة المعيشة الراهنة نفسها. "إن هذه العلاقة أو صلة التقييدية بالمطلق، حيث لا يمثلُ في الوعي إلا التقابلُ، في حين يرتفع عنهما تمامًا الوعي بالمطابقة، إنما تسمى إيمانًا؛ فالإيمان لا ينمُّ عن تأليفيِّ الشعور أو الحدس، وإنما هو علاقة التفكُّر بالمطلق، علاقة يكون فيها التفكر بلا ريب عقلًا، فينتفي حقًّا بما هو فاصلٌ ومفصول، كما تنتفي نتاجاته من حيث تتعلق بوعي فردي، لكنه لا يزال يحفظ صورة الفصل، فليس إيقانُ الإيمان الذي في الحال، وهو الذي كثُر القولُ فيه بما هو الآخر والأرفعُ الذي للوعي، سوى التهوي نفسه، أو العقل، لكنه العقل الذي لم يعرف نفسه، بل العقل الذي يواكبه الوعي بالتقابل"[8].

لذا، فإن النقد الذي وجهه هيغل إلى العقل التنويري هو أن هذا العقلَ وضعَ العقلَ نفسه مقابلًا للإيمان، كأنه ضد الإيمان، وهو في هذه الوضعية كأنه سلطة معرفية تحارِبُ الإيمان لتنتصر عليه بإيمان آخر يقابله. لقد تعاملَ العقل التنويري مع الدين الموجود بطريقة دينية، وكأن هذا العقل دينٌ جديد، وبالنتيجة، فإن المعطى الديني في هذه الحالة صار مفارقًا للمعطى العقلي، وهذا ما ينتج الكلام في هوية العقل بالنسبة إلى الدين. إن العقل في هذه الوضعية سيكون خادمًا للنقل، أو مبرّرًا لأمر فوق عقلي، أو سيخضِع الدين، كما هو خاضعٌ للتفلسف، ولمجرد كونه العقل، أو سيتنازل عن بحثه؛ لأنه خارج التجربة، وفي كل هذه الحالات نكون قد أبقينا العقلَ في وضعية أضعف من أن يعرف الدين؛ لأنه يعرف الكينونة بما هو عقل يملك الحقيقة. وهذا ما عارضَه هيغل؛ لأنه يرى في العقل نفسه القدرة على الإيمان والمعرفة. فالمعرفة هي الإيمان، وهي التفلسف؛ لأنها نتاج التأمُّل الذي لا يخدم أحدًا سوى فهم المطلق. "إن الانتصار العظيم الذي أتاه العقل التنويري على ما كان يعتبره وفق المعيار الفقير لفهم الديني مقابلًا له بوصفه إيمانًا، لا يتعدى إذا ما تمعنا فيه تحت النور ما يلي: لا الوضعيُّ الذي كان يصارعه ذلك العقل ظلَّ دينًا، ولا العقل التنويري الذي انتصر ظل عقلًا... وبما أن العقلَ الذي انتُقِصَ بذلك في ذاته ولذاته، لم يُدرِك الدينَ إلا بوصفه شيئًا وضعيًّا، ولم يُلِمَّ به على نحو فكريٍّ (idealistisch)، فإنه لم يكن مذّاك بإمكانه... أحسنَ ما يكون عليه كمتعالٍ يقع في إيمان ما يظلُّ خارجه وفوقَه، مثلما حصل في فلسفات كنتْ وياكوبي وفيشته، وبذلك يجعلُ العقلُ من نفسه مرة أخرى خادمًا لإيمان ما"[9].

مثلًا، يقول كانط: "إن الأخلاق، من جهة ما هي مؤسَّسة على مفهوم الإنسان، بما هو كائن حر، ولكن هو بذلك تحديدًا ملزم لنفسه بنفسه من خلال العقل بقوانين لا مشروطة، هي لا تحتاج لا إلى فكرة كائن آخر فوق الإنسان حتى يعرف واجبه، ولا إلى دافعٍ غير القانون نفسه حتى يلاحظه... وهكذا، فإن الأخلاق لا تحتاج أبدًا فيما يتعلق بذاتها (سواء موضوعيًّا، فيما يخص الإرادة أو ذاتيًّا فيما يخص الاستطاعة) إلى الدين، بل، بفضل العقل المحض العملي، هي مكتفية بذاتها"[10]. هذه القدرة التي يتحدث عنها كانط للعقل هي الصلة التأمليَّة الفعلية للعقل بما هو إرادةٌ واستطاعة؛ أي بما هو مكنة الاتصال بين الذات وموضوعها في التفكير، لكن ما ينتقده هيغل في هذه التنويرية هو افتراض المواجهة بين العقل والدين. إن كانط بنى تصوُّره للعقل المحض استنادًا إلى أوليَّة العقل في تأسيس الأخلاق مقابِل أن يقوم الدين السائد بهذا الدور، لذلك صار العقل مقابلًا ضدِّيًّا للإيمان. أما هيغل، فلم يدافع عن كمال العقل وشروطه مقابل ادعاء كمال الإيمان، بل اعتبر أن المعرفة نفسها هي الإيمان؛ أي عدَّ العقل قادرًا على نفيِ الانحياز، إما إلى الدين الوضعي، وإما إلى الفلسفة، بل هو القدرة على التفكير والتوسط والتفلسف، وهذه هي الإقامة الحقَّة معرفيًّا. إذن هيغل لم يضع شروطًا قبْليَّة كما فعل كانط، بل افترض العقل بصلته بالمطلق نافيًا إمكانَ الرأي المطلق في جانبٍ معرفي دون آخر على مستوى الكينونة المعرفية للإنسان.

في غمرة كل ذلك، نجدُ التفاعل التنويري مع الدين؛ أي وضعَ الدين موضِعَ العقل والفَسْرِ والتأويل، هو المشروع المؤسِّسُ لسيادة العقل على الطبيعة؛ بمعنى لسلطة الإنسان في تحمُّل مسؤولية تفكيره في الكون. وهذا ما ولَّد النهضة الغربية الحديثة. إن التفكُّر في الدين هو الفعل الحضاري الذي يعيدُ الكونَ لحظةً عيانيَّةً أمام العقل، فيستحضره من تاريخيته المعرفية إلى حدثيَّته التأويلية. فالعلاقة بين العقل والنقل أو بين الدين والفلسفة أو بين النص والحدث هي المطرَحُ الدائم لإمكان الاشتغال الفلسفي في الواقع؛ إذ إن التغيير والتعديل على وضعية الإنسان المعرفية يكون بتحريك سيرورة التقييدات الجاثمة في هذه المطارح التي تبقى نائيةً عن الحقيقة طالما لم يتناولها التفكير التأمليُّ الراهن.

نلاحظ ونحن نبحث الموقف الحضوري للإنسان بأننا نعاين فعليًّا قدرته على التفلسف؛ أي إمكان توظيف قدراته الفهميَّةَ في تعيين إرادته المعيشة. إن الوجود الحرَّ في الحياة هو الشغل الشاغل للإنسان، لذلك يحرصُ على التقدُّم والتحضُّر، ويعزِّزُ رأيه في الكون بتجديد المعاني والدلالات؛ أي بالتعريف الدائم للأشياء. إن التفاعل الاستكشافي مع أشياء العالم لا يمكن أن يقتصر على حركة الجسم الإنساني الآلية بين الأجسام الباقية، بل هو استشكالٌ ثقافيٌّ يبدأ في الذهن، حيث العقائد والمسلَّمات والآراء الشاملة؛ فالذي يجري هو فحصُ ما في الذهن بما في الواقِع من "ما صَدَق". هذا الإجراء التاريخي الحضاري الدائم الذي يمارسه البشر، فتراهم في كل مرة يفارقون تصوراتهم إلى تصورات أخرى؛ أي إنهم يخضعون ما تناهى إلى أذهانهم إلى ما لا يتناهى في تفكيرهم على الدوام، حيث يكونون في حال إنتاج قصدي ماهرٍ لأفكارهم عن حضورهم في هذا العالم. إذن الحياة هي منبع الفكر والاعتقاد، ولا يمكن التفكير زُهدًا في الحياة أو استخفافًا بها؛ إذ إن عدم محايثة الفهم للمعيش هو تنازلٌ عن زمانه، من هنا تتوهَّج في كل مرة فرادةُ الذوات الحاضرة على الذوات الغابرة، وتظهَرُ أيضًا الحاجة إلى التظهير الدائم للرؤى، حتى ينشط التفكير في الراهن.

إن التفكير هو تأكيد إمكان العقلِ في الزمان؛ أي منعُ إمرارِ الزمان بلا عِلْمٍ يؤسِّسُ معارفه، فلا تكفي الأفكار المدَّخرة في الذهن لعيش الواقع، بل نحتاج في كل مرة إلى تفكير يصلُ الذهن بمصادرِه الآنيَّة كي يتمكَّن العقلُ من إنتاج فهمِه لمفاهيمه؛ أي من تظهير شكل الإنسان الحاضر الذي يستخدم عقلَه اليوم. هذه اللحظة البيانية الحرة هي لحظة الحدْس الشيميِّ الذي يمكِّنُ الإنسانَ مِن تأثيث الحاضر بممكنات المستقبل؛ أي مِن استحداث القاعدة التأويلية المفتوحة على ممكنات التفسير، ابتداءً مِن راهنية الموقف وانفتاحًا على ممكنات التقدير بحسب زَخَم الفهم. من هنا، نرى أن الدين حاجةٌ لا بدَّ موجودةٌ في كلِّ تفكيرٍ يمارسه الإنسان؛ إذ إن مواكبةَ الحضور لا تتم بلا تصوُّر شموليٍّ لعلاقة الكائن بالكون. لذلك، فعقلَ الدين هو التصرُّف الدائم للإنسان في إبداع أحكامه على هيئة العالم كما تبدو له.

نشتغل الآن بتحليل صرخة شلايرماخر الحجاجيَّة الدفاعية عن الدين ودوره في تحريك العالم، لنفهم المرجعية الوجدانية الإيمانية التي أسهمت في تحريك الجدل الفلسفي الغربي برمَّته. لا أقصد بذلك حصر التأسيس النظري على شلايرماخر، ولكن ما قاله بوضوحٍ في مقتَبَلِ عصر التنوير، هو الإضاءة على الدين بما هو "تأويليَّةٌ" لا يمكن أن تفارق أي تفسير للكون، بل هي تعلو على كل تفسير آخر فكري أو عملي، ميتافيزيقي أو أخلاقي، للعالم. إن الفكرَ عند شلايرماخر هو انشغال بالدين. إن جدارة الفرد هي في فهم الدين وحدسه. لذلك، يخاطب شلايرماخر مَن يزدري الدين من مثقفي عصره، ليقول لهم إنهم لا يمكنهم أن يكونوا بلا دين. يقول: "وإن طلب العون عند أكثرهم تشكِّيًا مِن انحطاط الدين لا يجعلني أشعر أني منهم؛ لأني فيما أعلم لا أرى عصرًا تقبَّل الدين أكثر من عصرنا هذا، ولذا فليس لي أن أشاركهم هذه البكائيات الهمجية الآتية من معتقدات خالية، كما لو كانت أصواتهم تسعى أن ترفع من جديد الجدران المتهاوية والأعمدة المتهاوية لصهيونهم اليهودي"[11]. هو إذن لا يفهم الدين أنه في مقام البُعْدِ أو الـ "هناك" الذي يجب أن نقصده، حيث هو، بل إن اعتراضَه على مشهدية الحزن والتذكر والماضوية واضحٌ في أنه يريد راهنية الموقف من الحياة؛ بمعنى حضورية الإيمان التي تضاهي حضورية العقل في التأثير والتصور والبناء، فالحياة ظاهرةٌ مفتوحة على التأمل والتفسير والحدس، هي التجريبية الحية للدين وليس تطبيقاته ومراكماته التاريخية.

إن شلايرماخر يرى أن الدينَ ليس وليد الفلسفة والأخلاق، ولا يمكن أن يعبر عن توجهات دون أخرى، بل هو شعور وحدسٌ فرديين، وهو القدرة على إبداع التفسير الذاتي الفردي للعالم؛ أي إمكان تأويل معنى العلاقة بالكون، وهنا يبرز الدين بوصفه ابتكارًا للفهم، وليس اتِّباعًا للآراء الأخلاقية أو الفلسفية؛ "إن العمل من جنس الفن، والنظر من جنس العلم. أما الدين، فهو حسٌّ وتذوُّقٌ للامتناهي...كل ما هو متناهٍ لا يقوم إلا على تقدير حدوده التي يجب أن تُرسَم اقتطاعًا من اللامتناهي... فإنه من الحدس يتعيَّن على كل شيء أن يصدُر، وأما من لا يعرف الشوق إلى الحدس باللامتناهي، فهذا ليس له مرتفق، ولا هو محتاج إليه أصلًا..."[12]. إذن الدين لا يمكن أن يخضع لتبعية عقَديَّة تحصر التأويل الإيماني الحر للكون بالتزام قرارات عقلانية أو سياسية تحجب المتعة الفردية في تجريب الإيمان؛ أي إنه في هذا السياق التفسيري لا يمكن أن يكون مفهومًا جامدًا تتناقله سلطات ومؤسسات توظِّفه لخدمة رأيها في العلاقة بين الإنسان والعالم. الدين لا يتأطَّرُ بحسب فهومات المتدينين الفاعلين اجتماعيًّا؛ "فالحدس دون الشعور ليس شيئًا يذكر وليس له أن يتمتع لا بالأصل ولا بالقوة اللذَين ينبغيان له. أما الشعور دون الحدس، فهو لا شيء أيضًا: فالاثنان ليس لهما وجود إلا حين يكونان متحدين ومنصهرين، من أجل أنهما كذلك في الأصل"[13].

نلاحظ هنا فهمًا للدين يشدِّدُ كثيرًا على البعد الفردي الذاتي، وبالأحرى الشخصي، في إجلاء التصور الديني للكون، حيث وصلَ شلايرماخر إلى تفضيلِ فهم "المسيح" ليس بأثره المكتوب "الكتاب المقدَّس"، بل بجسده. هذا الاستيعاب لكينونته الحضورية الفريدة، التي جسَّدت حياةً ومعاناةً لإثبات الشعور بالدين وضرورته للعالم، أو في وصل اللامتناهي بالمتناهي بتجريبٍ مطلق؛ "إن كل كتاب مقدَّس ليس إلا ضريحًا للدين، نصبًا عظيمًا يشهد أن روحًا عظيمةً قد كانت هاهنا، وأنه لم يعد قائمًا؛ ذلك أنه إذا كان ما يزال حيًّا وفاعلًا، فكيف سيكون لنا أن نولي هذه الأهمية الكبرى إلى رسم ميت، ليس له أن يكون غير نسخة باهتة منه؟ إن من يؤمن بكتاب مقدَّس ليس صاحب دين، وإنما ذلك الذي هو في غنى عنه، بل لعلّه يقدر أن يصطنع لنفسه واحدًا"[14]. في هذه المشهدية الاعتقادية يمكننا أن نفهمَ ما يحتاجه شلايرماخر من الحدس الفردي في لحظةٍ فينومينولوجيةٍ مُثلى لإحداث الكينونة الدينية الخالصة. إنه الانشغال المستمرُّ بالكشف عن المعنى الممكنِ عقلُه لهذا التجلي البشري للإله في التاريخ؛ فالمسألة ليست عقلَ شروطِ العقلِ، كانطيًّا، بل هي عقلُ وضعية الإيمان القائمة على الأحاسيس والحدوس. وإمكانُ هذا العقل يستندُ إلى افتراض تأثير قَبْليَّة مضامينه الانفعالية "الإيمانية" في تفعيل سيرورته الإدراكية، إذن هو يضعُ في لجة العقل المحضِ ما يمكن أن نسميه الإيمان المحض؛ أي الشعور الخالص بمشهدية الإله في التاريخ. هذا المشهد الذي لا ينتهي لعظمة حدوثِه نفسها، لذا يقرِنُ شلايرماخر هذا الحدوثَ بدواميَّة التفكير به، أي بالدين والخضوع له. ولا يختصر المشهدَ كتابٌ مقدَّس، ولا فلسفةٌ أو تنظيرٌ عقلي، ولا كذلك المؤسسات الدينية ونشاطها، بل أن يكون للفرد دينٌ يرى به العالم. يقول غريش: "والطريق الوحيد الذي يبقى مفتوحًا (باعتماد خيار ميتافيزيقي محدد جدًّا) هو المراهنة على أن الجوهر نفسه يمكن أن يعبِّر عن نفسه في التجليات التاريخية. والمسلَّمة المضمرة هنا هي ميتافيزيقا عقلانية للعقل"[15].

إذن نحن نتحدث عن حاجة نفسية إلى التأويل والفهم، كأن التأويل الديني للوجود هنا ناجم عن انهمامٍ فرديٍّ بالفهم لا يفكُّه سوى التجربة التواصلية الحية بالكون وبالآخر الإنساني كذلك، وهي تقتضي أن يحاكي المنتَج التأويلي الشعور الإيماني بالضرورة، فليست وظيفة التأويل في هذا السياق التحليل المنطقي للظاهرة الدينية استنادًا إلى وثيقة أو نص، بل تسليمًا لعفوية الإجراء الفردي للإحساس الموصل إلى حدس الفكرة، التي لا بد أن تكون كلية وحقيقية في هذا الصدد، ولا تخلو من القدرة على توصيلها الجماعي بلغةٍ تحقق مضمون الخطاب وقصديَّته، وليس من طريق مجتمع رجال الدين والكنائس القائمة يومها؛ "ذلك أن مِلاك الأمر في الدينِ، أي الكل اللامتناهي، لا يقدر المجتمع نفسه على تبليغه أيضًا... لا يتوفر للمجتمع من أجل الشروع في هذا المشروع أي مقياس وأي قاعدة، ثم كيف له في كل الأحوال أن يخرج عن حدوده والحال أن الحاجة التي جاءت به، مبدأ الاجتماع الديني... لذلك، فإن ما يحصل في الدين من هذا الضرب ليس غير شأن خاص بالفرد في حد ذاته"[16]. إذن لا قدرةَ للنَّفَس الطائفي أو الاجتماع التبادلي، في بُؤرَة العقيدة الواحدة التي يلقنها رجال الدين، في أن ينجز مفهوم الدين بذاته، بل إن حرية الفرد ومسؤوليته عن تجربته هي ما ينفذ إلى هذه التأويلية المفتوحة. ويتفوق الجانب السيكولوجي الشعوري على الجانب العقلي القائم، فيصبح التأويل استحضارًا لسرٍّ أول، أو لأمر خفيٍّ لم يتِح الواقع ظهوره السليم. "ولا شك أن معنى الولوج إلى أعماق الفكر تستتلي نفاذ المفسِّر إلى النفس الباطنية التي استلَّ منها الكاتب فكره ونصَّه. ولذلك لم يتورَّع شلايرماخر عن نعت التفسير التقني بالتفسير النفسي"[17].

وتأكيدًا لهذا المصدر الإلهامي -الصوفي- الباطني للتفسير الذي يتيح تعدُّدية الفهم بحسب الاختبار الفردي للتجربة الدينية، يرى شلايرماخر أن "الغريزة التي لا يفهمون منها شيئًا، إنما تقودهم أحسنَ مما يقودهم العقل... إن مَن يرى أن سمة دينٍ بعينه تكمن في مقدارٍ مضبوطٍ مِن الحدوس ومن المشاعر، يجب عليهم بالضرورة أن يسلموا بوجود رابطة داخليَّة وموضوعية تصلُ بعضَها ببعضٍ وتستبعد الباقي كله"[18]. وهذا نهج الإمام الغزالي؛ إذ يقول دفاعًا عن الدين منتقدًا فلاسفة عصره ومتكلميه ومتصوفيه وباطنييه: "ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة"[19]. من هنا يبدو لنا كيف يكون "الدين" إلهامًا يؤمِّن الشعور الحر بالولوج إلى قدسية الإيمان وسرِّيته. فإن كان "النور"[20] هو تعبير الغزالي، فإنه أصدق تعبير عن حالة الحدس والتخيل والإحساس المجاوِزة للعقلِ المُؤطِّرِ للمعرفة بشروطٍ قبْليَّة، والذي حاجَجَه شلايرماخر بصفته قاصرًا عن إدراك الحاجة إلى اللامتناهي. فالعقلُ اشتغالٌ ميتافيزيقي أخلاقي في طبيعة المتناهي، بينما الدين هو الحدسُ الغريزي المبثوث في الإنسانِ اقتدارًا على فهم اللامتناهي ووضعيته.

إن الفينومينولوجيا إذًا تتمظهر هنا من حضورية اللغة وتوسُّطها في السيرورة الدلالية للكشف الدائم عن المعطى الديني. فالتجربة الذاتية الروحية هي التي تؤمن فرادة الإدراك للدين بما هو معنى ضروري للحياة. لذا، فإن الفرادة هنا هي في أن تقتبل الذات كل هذا المعطى وتبدأ تأويلاتها الخاصة لكشف هذا الكلِّي؛ "وعلى غرار الانقلاب الكانطي (من الموضوع إلى الذات)، يعود شلايرماخر من الموضوع، أي النصوص، وهي مادة الفيلولوجيا والتفسير (أو الشرح exegesis)، إلى ’نشاط الروح الذي يؤسس وحدة التأويلات المختلفة‘"[21].

يتحدث في هذا السياق غوسدورف عن "التأويلية (الهرمينوطيقا) الرومنطيقية"، التي "تدخلُ بالمؤوِّل إلى الحقل الإبستمولوجي، بحثًا عن التطابق مع التكوين الخلاق للفكر الذي يدرسه. أما ذاتيته، ورؤيته للعالم، فيتدخلان بوصفهما من وسائل المعرفة ضمن المقاربة التأويلية"[22]. إن استعادة الفرد إلى مجال العقل هي التي تبرِّزُ عناصر الفهم على سلطة حيثيات الواقع العقلاني الراسخ. ومن ثم، فإن الرومانسية الفلسفية هي اللحظة الإبداعية في فهم العقل السائد. من هنا ميز كانط بين العقل والفهم، وبالتالي بين العملي والنظري انطلاقًا من فهم الشروط التي يمليها الذهن كمبادئ أولى للتطبيق في الواقع. وإن لحظة ابتداء الفهم في الذهنية الرومانسية هي الشعور والتخيُّل الذي يتيح للحدس تحديد مكونات عملية الفهم؛ "يفضِّل الرومانسي العيني على المجرَّد، والتنوع على الانتظام، واللامتناهي على المتناهي، والطبيعة على الثقافة... والحرية على القيود والقواعد والعوائق... يفضِّل الفرد المتفرد على الإنسان الشائع، والعبقري المبدع الحر على حكيم الحس السليم... الشعور على الفكر... والحدسي على الفكري... [على الرومانسي الفلسفي] طرْحَ تصوُّرٍ للعالم كنوع من الوحدة الروحية ذات أوراق اعتماد عقلية"[23].

إذن يتيح الاتجاه الشعوري الحدسي في الفهم إيلاجَ التصور البشري للَّامتناهي في المتناهي؛ أي يمكِّنُ الباحث من أن يمتَح من إحساساته وخوالجه في دفْعِ إمكانات عقْله إلى لحظة المغامرة الحرة في التعبير. هنا نرى أن اللغةَ تصبح وسيلة عبورٍ إلى الذات نفسها، وهذا ما يستدعي إقامةَ الاعتبار للتجربة الفردية التي ترهن الفهم بالسلوكِ الشخصي الفاهم للعالم. إن العقلَ هنا يخضع لممكنات الفهم، ولذهنيةٍ أقوَمَ منه تجمع بين الروح والمادة في قصديَّةٍ تعبيرية واحدة. وبالتالي، نفهم تأويليةَ شلايرماخر على أنها فينومينولوجيا قصدية لابتكار فلسفة الدين الحرة، أو الموقف الديني الإبداعي في الكون؛ "القصد الأول للتأويل هو إخراج الحدس الديني من قبر الحرف... فالنص المستعاد لا يتكلم بنفسه، وإنما يجب تخليصه من الغمامات الفيلولوجية والتاريخية، التي احتجبت تحتها، من العهود الغابرة، حضورية المعنى"[24].

وبما أننا نعاين الموقِفَ الحضوري في إحراز الحاجة إلى فلسفة الدين، فإن الالتفات إلى ما يكِنُّ في الذات من هواجس لفهم العالم ضروري لبعثِ تصوُّر راهنٍ، لا يتوانى عن طرح هذا البعد المتخيَّل للامتناهي في كل هيمنةٍ للمتناهي وقواعده الثابتة؛ أي بِبَثِّ الدين في مجال العقل. وإن شلايرماخر "سمى هذا الإلهام الحيوي ’صورة باطنية‘... تنتقل من الداخل إلى الخارج، ومنها يأتي التجلي. أما المؤول، وقد صار مواجهًا للأثر الذي تجلى، فيسير من الخارج إلى الداخل، من التجلي إلى القصد"[25]. وفي هذا تظهيرٌ للتصوُّر الأنطولوجي للدين، بما هو تجلٍّ قصدي، أي بديلٍ وجوديٍّ ابتكاري للفهم على أساس المعرفة المتحصَّلة من الخبرة الذاتية الفردية، فـ "الفكر الرومنطيقي يسعى في طلب الوجود، ويفترض أنطولوجيا للحضور... الرومنطيقية هي تصور عرفاني للعالم"[26].

هنا نستحضرُ نصًّا لفيلهلم دلتاي هو "مشكلة الدين [1911]"، ودلتاي هو التلميذ النجيب الشارح لتأويلية شلايرماخر. نعاين في هذا النص التظهير القصدي لقوة الإنسانِ في فهم الدين. فالإنسانَ يختبر دينَه حتى يرتاح ويأمَن، وكلما وجدنا التفكير يدور مجدِّدًا الرأي، نفهم أن نقصًا في الإيمان قد حدث، هذا النقص يستدعي تطوير المعارف والعلوم والتجارب. إن الإيمان فعلُ الإنسان، ومن شأن الإنسان الحر أن يبدِّلَ فهمه دائمًا بواسطة التفكير، يقول دلتاي: "والقوة المنضبطة بالعلم والفلسفة تنطوي أيضًا على عوامل تبطل المعالجة الدينية للنفس... إن هذا الإبطال سلاحه الذهن، الذي يفكِّك لامعقولية الإيمان وتعاليه، وهو يقف دفاعًا عن زينة الحياة، ويضفي شرعية على غايات الحياة في العمل الدنيوي"[27]. فدلتاي جعل الفهم النفسي القائم على الاختبار الباطني أصلًا لعلوم الروح؛ أي مجالًا لإجراء الفهم والشرح والتفسير والتأويل لإبطال القصور أو الخلل الذي يمكن أن يتسلَّل إلى التجربة الحية للذهن. فالاختبار النفسي هو القادر على إبقاء الدين خارج حدود التقليد الذي يؤدي إلى إدخال تفسيرات من خارج الدين إلى التجربة الدينية الذاتية في تجليها الدائم. يقول دلتاي: "وإن دينًا عقليًّا مجرَّدًا، سيكون نقيضًا للدين الوضعي لا محالة؛ فهو جزء من رصيد هذا النسق الطبيعي الذي يضعه الذهن العلمي مقابل التقليد. ولقد كان الحال كذلك في بلاد الإغريق، ثم في روما، وفي الحضارة العربية بعد ذلك. إن العمق اللاعقلي الذي تستمد منه الديانة آثارها القوية، هو ما تم استبعاده بوصفه وهمًا، وخرافة، وبقايا خلفتها عصور مظلمة... وإن دراسة الديانة هذه، ودراسة المسيحية، ارتبطتا بادئ الأمر ارتباطًا حميمًا بتطور الروح الديني نحو الحرية"[28].

إن هذا النقد للعقل التاريخي الذي يقول به دلتاي يتبدى هنا من خلال التأكيد لدور الخبرة في اجتراح التأويل الدائم للعقل في التاريخ؛ أي في الاستمرار بالفهم وعدم الجمود بفهمٍ يغادر بالدين من سلطة الوعي التاريخي إلى غياهب تاريخ الوعي. فالفهم هو الحياة نفسها، "إن الخبرة Erlebnis بالنسبة إلى دلتاي هي الافتراض المسبق الأساسي لمعرفة العالم التاريخي. فالتماثل في هذه الخبرة بين الوعي والموضوع – وهو مبدأ أساسي للمثالية التأملية – حقيقة ما يزال يمكن البرهنة عليها... فهذه الخبرة هي بالأحرى وعي غير قابل للانقسام... ويتقصى دلتاي الآن كيف تُخلَق الاستمرارية من عنصر عالم العقل..."[29]. إن الوعي إذًا هو الذي يحكم زمان الفكرة، وبالنتيجة إن أي تفسير يمارسه العقل في زمنٍ ما، يجب تجاوزه انسجامًا مع الطاقة التأمُّلية للذات الفردية. هذه القدرة الشعورية بالوعي هي التي تحيل المعرفة التاريخية إلى معطى إدراكي في لحظة الوعي الأنطولوجي للوجود الحي الفاعل في التاريخ. فدلتاي "يضفي، متَّبعًا صياغة ديكارت للكوجيتو، على مفهوم الخبرة سمة الارتداد والانعكاس إلى الداخل، وهو يحاول على أساس هذا النمط الخاص من المعطى أن يشيِّدَ تسويغًا إبستيمولوجيًّا لمعرفة العالم التاريخي"[30]. هذا التجلي في استبطان الوعي وما يقتضيه من القصدية هو فعل التأويل الفينومينولوجي الذي سيبرز لاحقًا مع هوسرل، ويتطور في تأويل الكوجيتو نفسه بحسب الكينونة الحَدَثيَّة مع هايدغر وصولًا إلى سؤال "كيف يكون الفهم ممكنًا" مع غادامير ثم المدارس التأويلية المعاصرة التي أعادت "الديني" موضوعًا للبحث والتقصي التأويلي الراهن للمعيش.

ثانيًا: استدعاء المدخرات المعرفية بحسب مقتضيات الحَدَث

في كلِّ مرَّة نراوِدُ السؤال عن الدين نعرفُ أننا نعايِنُ التفكير الفلسفي الدائم في الكون والحياة. إن العيشَ هو فعلُ تحقيق رغبات الكائن في الظهور الحرِّ في الوجود، فإذا أكل ورقص ولعب ودرس ...إلخ، فهذا جواب الجسد، وإذا نظر في أجوبة الجسدِ استعاد لحظة السؤال المبدئي عن الغاية والحاجة. إن التجريدَ الفَهميَّ للظاهرات ما هو إلا نُواسٌ دائمٌ بين الفكر والواقع؛ أي بعثُ الوعي بالإنسان في كل حدثٍ قائم، لا يُسكتُه أيُّ اختراعٍ أو ابتكار أو علم أو حقيقة. مِن هنا، إن الكلام عن فلسفةِ الدين لا تفي به المعلومات التاريخية عن الدين ولا القناعات الراسخة في إقرار مضامين جماعية للشرائع والمعتقدات. الدينُ ليس قضيَّةً معالجةً تم استنفادُها، بل هو نفسُه ابتداءٌ فلسفي في ذهن الإنسان ومخيِّلته وفكره ولغته وقدرته وإنجازيَّته الحضورية الحيَّة. لذا، فإن الكشفَ عن حقائقَ ممكنةٍ في مضمون فكرةٍ دينية لا يمكن إجراؤه إلا بإخضاع المُعطى الإيماني ووضعيته المعرفية وافتراضاته للحظة ابتداء مُثلى في شخصِ الفاعل السائل. إن السائلَ عن الدينِ هو في مقام البيان بماهيَّةٍ تأويليَّةٍ له، وبالتالي لا يمكنه النكوصُ إلى أي اعتبارات غير اعتبار ذاتِه بإزاء الموضوع، وذاتِه بإزاء الحدَث الذي استدعى اجتهادَه لتغيير الفهم القائم، وذاتِه بإزاء تراث المعلومات ووجدانيتِه الاعتقاية المتناغمة مع استمرارية الفكرة من الماضي إلى الحاضر. إن فلسفةَ الدين هي وعي بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى تغيير الفهم الموجود إلى فهمٍ يلائم التفكير الحاضِرَ في الوجود. ولا يرى الفيلسوفُ داعيًا إلى إصدار حكمٍ بالإباحة أو التحريم في أثناء جريان المعنى القصدي للتفسير والفهم. لذلك، لا بد من مخالفة الشرائع المعتمدة لاستحداث قراءةٍ محتملة، تجمع بين الكائن والنص في كينونة الحدث نفسه، حيث لا يمكن لهذا الكائن الذي أقدم على القراءة والتأويل أن يدَّعي بعد لحظة ابتداء التفكُّر الفلسفي بالمعطى الديني أنَّه، إنما يفعلُ هذا التأويل لإقرار الانسجام الموجود كما هو موجود، بل إن فعلَ التأويل الراهن هو الفعل التجاوزي الحتمي بإحداث سؤالٍ صنعَ الحدَثَ الراهن؛ لأن الكائنَ السائل هو في قلب الحدث. إن الإنسانَ اليوم يحاكي الكون انسجامًا مع اختراعِه للذكاء الاصطناعي، ومن ثم، لن نجِده يسألُ أسئلةً سبقت هذه اللحظة إلا لأنه موجودٌ يحُوْرُ في حدثيَّة الذكاء الاصطناعي، ففلسفة الدين ابتكارُ الفهم المطلوب للدين الآن. وكل انفعالٍ فلسفي بالدين على مر التاريخ يؤكِّدُ استحواذَ الدين مِن جهة العقل وليس العكس؛ أي اقتِبالُ الدينِ إنسانيًّا.

والإنسانُ يوظِّفُ عقله لتفسير اقتبالاته للأفكار الراهنة التي يكون مشاركًا فيها؛ ذلك أن فلسفة الدين ليست كلامًا عامًّا عن الدين، بل هي انهمامٌ في إخضاع المدَّخرات الذهنية إلى العقل في المعيش. من هنا، فإن فيلسوف الدين متجرِّدٌ من اعتقاداتِه هو بالدين، حتى يتمكن من فهم هذه الاعتقادات، وهو قادرٌ على الفلسفة؛ لأنَّه تنازَلَ عن أيديولوجيا المعتقَد، لكن ذلك لا يعني أن روحَ العبارة عنده ليست مفعمةً بهيمنةِ اعتقاده على تسويغاتِه وتأويلاته الفلسفية، بل إنه أنزلَ العقائدَ إلى دائرة التفكير مجددًا. يرى غروندان أنه "مِن الصَّعب ممارسةُ فلسفة الدين دون افتراض أن الأمر يتعلَّق بفلسفةٍ معيَّنة في الدين، والتي لن تتلاءم إلا مع شكلٍ من أشكال الديني الكثيرة"[31].

ولما كان الجهد الفلسفي المسيحي قد وظَّف الأسُس الفلسفية اليونانية لفهم الدين القائم، وهو قد أصبح دين الإمبراطورية الرومانية، فإن فهمنا لفكرة "استدعاء المدَّخرات المعرفية بحسب مقتضى الحَدث" هو الذي يوضِحُ لنا راهنيَّة الفلسفة للدين في كل حين. ولما كان نجم الحضارة العربية الإسلامية قد صعدَ في امتلاك اللحظة العلمية المثلى في تفسير الكون، فإن الابتداءَ الفلسفي العربي لن يكونَ مِن حدثٍ خارج الحدث الإسلامي؛ أي الدين الإسلامي؛ إذ سيكون التجاوزُ التنظيري للدين تعاليًا معرفيًّا نحو الشروط القبْليَّة لإبداعه. إن فلسفة العرب المسلمين إذًا هي استئنافٌ للفلسفة الموجودة في العالم الروماني، اليونانية والمسيحية؛ لأنها تجاوزٌ لها. فإيطانُ الفلسفة في ربوع الإسلام سيجادِلُ عقيدةَ الإسلام. من هنا نرى أن فلسفة الدين ليست على هامش المعيش، بل هي المعاينة الحيَّة للدين الموجود كي يصبِح مادةَ وعيٍ مرصودة بحسب مقتضيات الحدَث العِلمية والعَملية. يفسِّر غروندان ذلك بالخروج عن الباردايم المسيحي، "منذ فُرِضَت المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية هيمنت على التفكير الفلسفي في الدين، والذي أفلتوا من قبضة هذه السطوة هم الفلاسفة المسلمون: أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد بالإضافة إلى ابن ميمون اليهودي، وكذلك الفلاسفة الذين انفتحوا على الديانة الشرقية من عصر الأنوار، وإن كان دافعهم إلى ذلك، في الأغلب، هو الرغبة في التحرر من نفوذ الباردايم المسيحي"[32].

الفلسفة العربية إذن، ليست مصادفةً فكرية أو استيرادًا ساذجًا من خارج البيئة الفكرية العربية، بل هي وعيٌ بتفكُّرٍ تحتاجه الوضعية الدينية الاجتماعية الجديدة للكائن المسلم في الكون. لذلك، كان الابتكار العربي في فلسفة الدين هو إخضاع الشريعة للعقل حتى توافقَه؛ فالاعتبار للعقل الذي وَرَدَتْه الشريعةُ، وهنا فلسفة الدين الأخلاقية التي ستستخدم اللغة إفصاحًا عن المعنى الضروري للوجود الفاهم للشريعة الجديدة. يقول ابن رشد: "وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطُها"[33]. تُرى، ما الحاجة عند ابن رُشدٍ لإقامة الاعتبار للعقل، بل للعقلِ أولًا كما سنرى في اقتباسٍ لاحق؟ إنه الوعي بقوامية العقل في حيازة الفهم في بؤرة الكينونة المُسْلِمَة؛ إذ إن سيطرة الإنسان بعقله هي التي تحقق له الهيمنة السياسية الاجتماعية بفكره الذي سينجم عن هذا الوعي؛ ذلك أن العقلَ هو الإدراك التأويليُّ البرهانيُّ للنظر في طبيعة الكون، وهذا ما لا يقدر عليه عامة الناس. إن الفلسفة هي التي تؤسِّسُ لإمكان الكلام في الكون والخلق والوجود، وإنه "لا إجماع في المسائل النظرية"[34]، فالعقلُ تفاوتٌ أصلي في حضور الذوات الإنسانية. والفلسفةُ أولًا، لأنها وعي اللغة القابلة لفهم العالم، ولتأويل الوجود الفاعل في الكون. إن ما يريده ابن رُشد هو اعتبار العقلِ الفُسحةَ التي تحلُّ فيها كل تفسيرات الوجود، والدينُ منها، فالفلسفة هي التي تحدِّدُ إمكانات التصديق والتصور والتثبت والتحقق من ظاهرات الوجود، بحسَب هذا الإشغال الديني المفهومي الهامِز بالتفلسف. وتفعيل العقل في سبيل اليقين، واجتراح البراهين التي لا يمكن مخالفتها؛ لأنها تستند إلى اللغة، واللغة هي بيانُ الوجود، أي تفسيره المُمْكِن بشريًّا؛ يقول ابن رشد: "ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"[35]. إن تسييقَ الشريعة إذًا بوصفِها من اشتغالات العقل هو التفلسفُ الديني الممكن الذي يجيب عن حيثية الإسلام في العقل الذي تلقاه واحتاجَه لإحداث تجديد في فَهم الكون.

هنا نرى أن نُلفِتَ إلى تفريق مهمٍّ أقامه صاحب الفروق اللغوية بين الدين والملة والشريعة، يسوِّغُ لنا تبرير أن الدين مسألة فرديَّةٌ والشريعة والملة أمورٌ جماعية بل اجتماعية أيضًا. إننا عندما نتكلُّم في فلسفة الدين عربيًّا، فإننا نتحدَّث عن فردانية الموقف العقلي من الوجود، والإسلام موقف إنسانيٌّ من الكون في هذا المعنى. يقول أبو هلال: "إن الْملَّة اسْم لجملة الشَّرِيعَة وَالدّين اسْم لما عَلَيْهِ كل وَاحِد من أَهلهَا أَلا ترى أَنه يُقَال فلَان حسن الدّين وَلَا يُقَال حسن الْملَّة وَإِنَّمَا يُقَال هُوَ من أهل الْملَّة وَيُقَال لخلاف الذِّمِّي الملي نسب إِلَى جملَة الشَّرِيعَة فَلَا يُقَال لَهُ ديني، وَتقول ديني دين الْمَلَائِكَة وَلَا تَقول ملتي مِلَّة الْمَلَائِكَة لِأَن الْملَّة اسْم للشرائع مَعَ الْإِقْرَار بِاللَّه، وَالدّين مَا يذهب إليه الإنسان ويعتقد أَنه يقربهُ إِلَى الله وَإِن لم يكن فِيهِ شرائع، مثل دين أهل الشّرك، وكل مِلَّة دين وَلَيْسَ كل دين مِلَّة، واليهودية مِلَّة لِأَن فِيهَا شرائع وَلَيْسَ الشّرك مِلَّة، وَإِذا أطلق الدّين فَهُوَ الطَّاعَة الْعَامَّة الَّتِي يجازي عَلَيْهِ بالثواب... إن الشَّرِيعَة هِيَ الطَّرِيقَة الْمَأْخُوذ فِيهَا إِلَى الشَّيْء وَمن ثمَّ سمي الطَّرِيق إِلَى المَاء شَرِيعَة ومشرعة وَقيل الشَّارِع لِكَثْرَة الْأَخْذ فِيهِ وَالدّين مَا يطاع بِهِ المعبود، وَلكُل وَاحِد منا دين وَلَيْسَ لَكل وَاحِد منا شَرِيعَة، والشريعة فِي هَذَا الْمَعْنى نَظِير الْملَّة إِلَّا أَنَّهَا تفِيد مَا يفِيدهُ الطَّرِيق الْمَأْخُوذ مَا لَا تفيده الْملَّة، وَيُقَال شرع فِي الدّين شَرِيعَة كَمَا يُقَال طرق فِيهِ طَرِيقا، وَالْملَّة تفِيد اسْتِمْرَار أَهلهَا عَلَيْهَا"[36]. إذن، الدين موقف شخصي والشريعة انتقاءٌ منهجي لطريقة الدين التي يمكن للملة أن تتبعها وتأخذ بها، والملة انتماءٌ ناجمٌ عن الاتباع والطاعة، وهي المظهَر الاجتماعي للدين والشريعة؛ أي إنه إذا كان الدين هو الفكرة، فإن الشريعة هي المنهج والملة هي المجال التطبيقي. لذلك ليس كلُّ دينٍ ملَّة؛ أي لا يمكِن لأحدٍ أن يلزِمَ الآخر بالدين الذي هو عليه. أما الشرائع التي تسود المِلَل، فهي التي تبدو مُلزِمَةً لأصحاب المِلَل. والمخالفُ لك في الاعتقاد مخالفٌ لكَ في الملة أما الدين فليس موضِع خلاف بين الناس، بل هو مسؤولية فردية في فهم الطاعة وبالنتيجة هو فكرة اختلافية ليست جماعية. أما الشرائع والمِلل، فهي المناحي والطرائق التي يسلكها الناس للتعبير عن أديانهم في سياستهم اجتماعهم وحياتهم. إن الرابطَ بين المفاهيم الثلاثة إذًا هو الوعي الحر للمفاهيم في مواضعها، حيث لا يتماهى الدين مع الملة ولا مع الشريعة، فالفكرةُ ليست نفسُها طريق الفكرة ولا الاستمرار على الطريق إملالًا كل الوقت.

ويتحدث الفارابي صراحةً عن أسبقية الفلسفةِ على الملة: "وبيِّن أن صناعة الكلام والفقه متأخرتان عن الملّة، والملة متأخرةٌ عن الفلسفة، وأن القوة الجدلية والسوفسطائية تتقدمان الفلسفةَ، والفلسفة الجدلية والفلسفة السوفسطائية تتقدمان الفلسفة البرهانية، فالفلسفة بالجملة تتقدَّم الملة، على مثال ما يتقدم بالزمان المستعملُ الآلاتِ الآلات"[37]. إذن، الجدال والخطاب والبرهنة، وهي أدوات البحث، سابقةٌ على موضوعه، وبالنتيجة فإن الفارابي هنا افترض التماهي بين الإنسان والتفكُّر في الوجود على أي تماهٍ ممكنٍ بين هذا الإنسان، وأي فكرةٍ ممكن حدوثها في هذا الوجود.

ولو نظرنا في الحاجة إلى فلسفة الدين عند الفارابي لوجدنا أنها حاجةٌ في تخليص الفلسفة من الأيديولوجيا، أو بمفهومٍ أدقَّ اختصاصًا، مِن سلطةِ الإقناع والتخيُّل الخاصة بجمهور مِن الناس على باقي الناس. هنا نراه يفتح المجال الإبستيمولوجي للفلسفة بأنها للجميع، بعكس الملة التي هي للبعض. "والملّة إذ كانت إنما تعلِّم الأشياء النظرية بالتخييل والإقناع، ولم يكن يعرف التابعون لها من طرائق التعليم غير هذين، فظاهرٌ أن صناعة الكلام التابعة للملة لا تشعر بغير الأشياء المقنعة ولا تصحح شيئًا منها إلا بطرائق وأقاويل إقناعية، ... فالمتكلم إذن يقتصر في الأشياء النظرية التي يصحِّحها على ما هو في بادئ الرأي مشترك. فهو يشارك الجمهور في هذا. لكنه ربما يتعقَّب بادئ الرأي أيضًا، لكنه إنما يتعقَّب بادئ الرأي بشيء آخر هو أيضًا بادئُ الرأي. وأقصى ما يبلغ من التوثيق أن يجعلَ الرأيَ في نقضِه جدليًّا. فهو بهذا، يفارق الجمهور بعض المفارقة... فلذلك ظُنَّ به أنه من الخاصة، لكن بالإضافة إلى أهل تلك الملَّة فقط، والفيلسوف خاصيَّته بالإضافة إلى جميع الناس وإلى الأمم"[38]. فالمسألة الجذرية هي في ابتداء المعنى، وهنا الافتراق الأصيل بين الفلسفة والملة؛ ذلك أن الفلسفة تبدأ من هذا العقل الفريد في تجريبه، وفي وعيِ يومه وحضوره. أما إقناع الجمهور، فهذا ليس من وظيفة الفلسفة؛ إذ إن إحضار المدَّخرات المعرفيَّة إلى الحدث في هذا السياق لا يكون بتعزيز المخيال وتسويغ الجدالات المقنعة للعوام، بل بإفراط رميِها السديد إلى الحدث كما هو، كي يتم إدراك "بادئ الرأي" بحسب تعبير الفارابي، وهذا مكنة الخواص.

إن بادئ الرأي في الواقع لا بداية له إلا ابتداءَ حدوثه هو ووعي الذات بهذا الحدوث. أما الملة مثلًا، فإنها تبدأ من مقدمات ومصادرات ومسلمات تضعها كلها موضع "الابتداء"، لذا يفترق الفيلسوف عن الفقيه، والكوني عن الملِّي. يرى المسكيني أن "المعاني الفلسفية لا ملَّة لها، وهي لا تجد في ذلك فقدانًا لما مِن شأنه أن يكون لها، بل هو وجدان للإمكان الأخص بها: الحرية الجذرية أمام نفسها، ما وراء اللغات والأقوام والأديان..."[39].

ما نبتغيه من هذا الإمعان في ربط العلاقة بين الفلسفة والملة بتقدُّم الأولى على الثانية، وبالنتيجة بأن الأولى أقدر في كشف المعنى والدلالة؛ أي هي الطريقة التي تفسِّر الظاهرات الكلية الكونية الشاملة؛ لأن "المتعقِّلَ يستعمل المبادئ مقدمات مشهورة عند الجميع ومقدمات حصلت له بالتجربة"[40]، هو أن نبيِّنَ الحاجة الضرورية إلى فهم الحضور المعرفي في الحَدَث. ففهم الآن لا يمكن أن ينتج من معلومات سابقة، بل من تجربة حية هي تحدد وضعية كل المعلومات بالنسبة إلى الإنسان. لذلك، فالعداوة بين الملة والفلسفة ناجمة عن سوء الفهم لعدم إمكان ثبات الإنسان في نقطة ابتداء واحدة، ولا يؤمِّن الابتداء الدائم إلا الفلسفة، لكونها إحداثُ "الرأي" في الزمان، بما يقتضيه الزمان الخاضع للتجريب. إن التشريعات والقوانين لا يمكن أن نستوردها من زمان سابق لزماننا؛ لأن في ذلك فساد "وأشدُّ مِن تلك فسادًا أن يأتي واضِعُ نواميس فلا يأخُذ الآراءَ في ملَّته من الفلسفة التي يتّفق أن تكون في زمانه بل يأخذُ الآراء الموضوعةَ في الملة الأولى على أنها هي الحق..."[41]. والمقصود بالفساد هو إبقاء "التشريع" القديم الموجود لمحاكاة الجديد الحادث في الوجود. فـ "النواميس" غير الحَدَثيِّة غير قادرة على إحداث الحق؛ لأنها لا تحاكي الفلسفة الراهنة "التي يتفق أن تكون في زمانه"؛ أي لا تواكب هذه التأويليَّة الجارية في سبيل فهم الحق، فنرى النكوص إلى "الملة الأولى" بدلَ إحراز القول الحقِّ في مقامه الراهن. فالفلسفي قوَّامٌ على ما دونَه بالمطلق، حتى لا يحدث الفساد، وقد عبَّر محمد محجوب عن قواميَّة الفلسفي على اللافلسفي الكائن من طريق تجريب اليومي؛ أي إحداث الوعي القصدي للزمان وانتشال الحضور بوعي هذا الحضور قائمًا في المعنى "عبارةُ الزمان إذن عِبْرَتُه من كل يوم، وإن اليوميَّ لمُخرَج من الزمان لا مُدخلٌ إليه: فحدَثِيَّة اليومي مدخل إلى إحداثية الزمان بما هي الحاضر في كل زمان، الحاضِر المُغْني عن كل زمان... ولكن تناول الفلسفة لليومي، إنما هو في كل مرة تناولٌ للا فلسفي ورفع له لدى مستوى أعلى"[42].

ظاهرٌ من فكرة "بادئ الرأي" الفارابية أنها لحظة الفلسفة المُثلى عنده؛ أي لحظة الإقرار بالحيثية التجريبية القائمة، التي لا يمكن لغير العقلِ أن يتحمَّل مسؤوليتها، وبالتالي لا يمكن أن تخضع لمسلمات وافتراضات من خارج سلطة العقل. من هنا تحدث الخصومة الفكرية في المنطلقات النظرية لكلٍّ من الملة والفلسفة، وهو ما سماه الفارابي "المعاندة": "وظاهر في كل ملة معاندة للفلسفة فإن صناعة الكلام فيها تكون معاندة للفلسفة، وأهلها يكونون معاندين لأهلها، على مقدار معاندة تلك الملة للفلسفة"[43]. فالفلسفة إذًا هي ما يرفع إلى "مستوى أعلى" بالتعبير المحجوبي المُساوِق للتعبير الفارابي "بادئ الرأي" الموثِّق لشروط الفلسفة اليقينية.

ثالثًا: تحمُّل مسؤولية الوجود الإبداعي في العالم

هل الدين نقيض الحداثة؟ السؤال هنا تفرِضُه ظروفُ المتفكِّر بالحداثة وليس الصانِع لها في أغلب الأحوال، وإن كان مشاركًا في استهلاكها. فالربطُ بين الذات والحدث في هذا السياق يتمُّ بوعي الحضور أنه انجماعُ الأوَّلِيَّة بالأصالة، فيتساوى الأقدَرُ بالأقدَمِ في نظرِ الفاعلين لهذا النوع من التفكير؛ إذ كلما كانت المسألة قديمةً قِدمَ الزمان كانت أقدَرَ في تقرير مصير الوجود. ولما كانت الحداثةُ ابتداءً حاضرًا ينفتحُ في المُستَقبَلِ، فإن أنطولوجيا العيش حداثيًّا، لا يمكنُ إلا أن تبدأ في الحدث الراهن المهيَّأ للزمن القادم، بفكرٍ يضاهي إمكان توقع حدوث الفعل بحسب التهيئة التقنية لإبداع هذا الحدوث استجابةً لرغبة الفاعلين الحاضرين الواعين بضرورة الحضور تجديدًا. إن الدين في هذه اللحظة يبقى مفارِقًا أنطولوجيا الحدثية، إذا ما لم يعِ الفاعلُ موضِعَ تأصيل الدين نفسه في الحدث القائم، وإنه سيقصيه قصديًّا عن الظهور الفاعل في الوجود. أما إذا أظهرَ إمكانُ الحداثة وعيًا بإمكان الأصل وإمكان المصير، فإن سيرورة التحديث لن تخلو من تظهيرِ موقفٍ دينيٍّ من قلب الحَدَث، وليس من خارجه. إن الدين عندئذٍ سيكون مفعِّلًا لوجوده الإبداعي، بدل أن يكون معطلًا أو زائدًا أو مفارِقًا؛ أي سيكون محايِثًا مقبولًا بدل أن يكون محايثًا متطرِّفًا على هامش الانشغال القيمي الإبداعي للوجود المعرفي في العالم.

هناك مسألة أخرى تتعلق بالحاجة إلى الدين من منطلق ثنائية جدلية هي الابتكار/الاستعادة؛ إذ لا بُدَّ من الابتكار والتحديث للمعطى الديني، لذا يفتح باب التأويل والفهم على مصراعيه، في المقابِل هناك خشيَةٌ مِن أن يُخَلَّ في الدين الموجود، فيهنأ المؤمنون بهِ كما هو، ويحاولون استعادته كل حين، كأن المجتمع الذي أنجزَ الملةَ الأولى غير قادرٍ على إحداث تصورات ورؤى جديدة للاجتماع البشري الراهن. والخطورة في الطرح الثاني هو أن الدين يصبحُ إرثًا حضاريًّا من الماضي يستأنِسُ به الحاضرون بحسب سيكولوجيا الأهواء الميتافيزيقية، بدَل أن يكون فعلًا أصيلًا ينتجه الوعي الأنطولوجي الحَدَثي للمعارف والعلامات الممكنة في هذا العالم.

ولا يُمكِن لأحدٍ الاستهانة بالحضور الدائم للدين لأن كلامَه بلغة البشر؛ أي إن عَقْلَه ممكنٌ في كل آن، وإحداث الفهم له ليسَ أمرًا خارقًا، بل هو إبداع الميتافيزيقا الملائمة للواقع المعيش. أما اعتبار الطقوس الدينية وتطبيقات الشرائع ثابتةً على مر الزمان، فهذا لا ينفعُ في حال التفكُّر في الدين بما هو رؤية العالم. إن الاشتغال بأفكار البداية والمسير والمصير لا يمكن أن يخلو من مضامين الفكر الديني، حيث إن فلسفةَ الدين هي التأويل الممكن في كل آنٍ لإبداع نظامِ مسؤولية الإنسانِ عن الوجود في هذا العالم. فإذا حدَّدَ الإنسانُ أنطولوجيا وعيه بالوجود، يُدرِكُ حاجاته إلى تحديث وسائل عيشه القادرة على إحضارِه عالِمًا بالأشياء وخلوقًا جديرًا في ابتكار علاقته بها. وإن وعيَ العلاقة الحرة بالكون هو الذي يوجب العلاقة الحرة بين الإنسان والإنسان؛ أي يقرِّرُ السياسة العادلةَ الحكيمة، تلك التي تخلو من إمكان الإلغاء أو الإبادة أو المفارقة. إن الدينَ ليس غيبًا مُفارقًا، إذا ما كان العقلُ الراهن هو المسؤول عن إحضاره في تفاصيل الحياة.

في كتابه دينٌ لأجْلِ الملحدين: دليل غير المؤمنيين إلى فوائد الدين (Relegion for Atheists: a non-believer’s guide to the uses of relegion) يشرح دو بوتون حال المجتمع الحديث وما فيه من مظاهر التباعد الاجتماعي وفقدان الرحمة والشفقة والشعور بالانتماء الجماعي؛ أي هذه الروح الإنسانية الأليفة التي تستند إلى قيمٍ عليا، تساءَل "ما إذا كان بإمكان المجتمع العلماني استعادة الروح دون الاعتماد على البنية الفوقية اللاهوتية التي كان متشابكًا معها ذات يوم. هل يمكن استعادة الشعور بالانتماء إلى المجتمع دون الحاجة إلى بنائه على أسس دينية؟"[44].

وقد عالج في الكتاب موضوعات عدة تناولت إضافةً إلى أثر ترك البحث في الاستفادة من الدين على طبيعة الاجتماع الراهن، ومفهوم المجتمع القائم، المعيش اليومي والحياة الراهنة المتعلقة بمشاعر اللطافة والتفاؤل وتكوين وجهات النظر الحرة. كذلك عالج طبيعة العمارة اليوم والمؤسسات والمصانع والفنون، والتي كلها تفقد الكثير من وظائفها الإنسانية في حال تنحية البعد الديني القادر على الراهنية في التفاعل مع السلوكيات والفهومات الحاضرة للعيش والحياة. وقد عيان اللحظة الأولى للوعي بصناعة العقيدة إنسانيًا عند أوغست كونت، فـ "دين الإنسانية" الذي طرحه كونت هو ليس نتيجة رفض العقائد الكنسية التقليدية وطرحها بالمجمل ولا دعوة إلى استعادتها، بل هو العقيدة المصَمَّمة للإنسان الحديث، وليس ذاك الذي كان يعيش في يهودا منذ فجر المسيحية أو ذاك الذي يقطن شمال الهند الذي سبقه بأربعة قرون[45]. لقد جعل كونت الكنيسة علمانية بمعنى أنها "كنيسة الإنسانية"؛ وذلك إذا استطاعت أن تواكب أقوال الفلاسفة والعلماء والكتاب المعاصرين وتأخذ بآرائهم، بما يُحدِثُ قدرةً على مواجهة أثر الرأسمالية على الترابط الاجتماعي والتواصل القيمي النافع. لذلك، كان يرى أنه بدلًا من فضح عيوب الدين الموجود، أحيانًا يكون من الأفضل اختراع ديانة جديدة[46]. فدعوة كونت هي أن يكون الدين نتاجًا لفهم المجتمع العلماني الراهن، وليس أن يكون تصوره للمجتمع في أن يحاكي ما ورد في الكتب القديمة للصلاح والخير والحب والعمل وغيرها. إن كونت يريد الاستفادة من أخلاقيات الكاثوليكية، لكنه يريد الوعي بحاجات الإنسان الحاضر بأن تكون أخلاقياته المؤسساتية قادرة على الانتشار والسيادة بقوة كتلك التي استطاعت الكاثوليكية نشرها؛ "فإذا ما أُريد لهذه القيم الازدهار، عليها أن تُدَعَّم بمؤسسات كتلك التي لم يعرف إقامتَها إلى الآن سوى الأديان"[47].

يخلص دو بوتون إلى أن "لب المشكلة هو في أن أي محاولة لإعادة التفكير ببعض المسائل التي لم يتناولها الدين لانحساره تُعَدُّ بِدعةً... [لذلك] حتى يكون للأفكار حظٌّ في الانتشار عليها أن تقدَّم بما هي منتج للذوق العام وللحكمة الجماعية وليس بما هي ابتكار شخص بمفرده"[48]. وهنا نلمس الحاجة السيكولوجية للجماعة، وبالنتيجة للتواصل الحميمي بين الناس، والتي كان المجتمع الراهن كفيلًا بإبطال مفاعيلها. لذلك إن الحاجة إلى تفعيل الجانب الروحي في الإنسان هي وعيٌ بفلسفة الأخلاق التي يجب أن تحكم العلاقات الإنسانية، والتي تؤثر في نوعية الابتكار العلمي والفهم النظري لطبيعة هذا الكون.

ويدعو بوتون في الختام إلى أن كثيرًا من الإشكالات التي تطرحها روح العصر الحديث يمكن مواجهتها بمجرد إزاحة التفاعل مع الحلول بوصفها موجودةً من جهة البنية الخارقة للطبيعة، حيث جرى ذلك على مر العصور، لذلك "إن الأديان، غِبًّا، أكثرُ نفعًا وفاعليةً وبراعةً، مِن أن تُتْرَكَ للمتدينين وحدهم"[49]. وفي هذه الدعوة يكمن الإشكال الحقيقي في إخضاع الدين لوسائل الفهم المعاصرة؛ أي ما يمكن أن يصبح به الدينُ فكرةً في فلسفة الراهن، حيث إن التفاعل المعرفي مع الكون لن يلجأ إلى ما هو خارج الظاهرة الفينومينولوجية للكون لتفسير ما يجري بصراحة. لذا، فإن المجتمع العلماني الراهن ليس عاجزًا عن محاكاة الدين الإنساني، أو الدين بما هو حاجة إنسانية، وفهم الدين ليس حكرًا على المتدينين، كما أن المفكرين يجب ألا يتعالوا على البحثِ في فلسفة الدين كي يدركوا دوره المواكب لحركة الإنسان.

من هذه الحاجة الأخلاقية الاجتماعية إلى الدين ننتقل إلى وعيٍ آخر للحاجة إلى الدين، يتمثَّل بإيمان الفلاسفة أو ما سماه فتحي المسكيني "الإيمان الحر". وقد وجدنا أن انهمام الفلسفة العربية الإسلامية منذ الفارابي وابن رشد وغيرهم هو في فهم العلاقة بين الفلسفة والملَّة؛ أي بين العقل والشريعة، بهدف إخضاع الثانية للأولى. وهذا التنظير إن دلَّ على شيءٍ فهو يؤكِّدُ الحاجةَ إلى تظهير الإرادة البشرية الحرة في إبداع الفهم الممكن لهذا الوجود بدون قيود. إن التزامَ الملَّةِ أمرٌ غير ممكنٍ للفيلسوف المتفكِّر كل الوقت في الدين بما هو استشكالٌ معرفيٌّ لا يفارق راهنية العيش، وإن المعطى الديني هو لحظة استئنافٍ تفكُّري في الوجود وليس لحظة اكتمال الإجابة عما فيه.

يقول المسكيني: "والإيمان الحرُّ هو إيمان ’الفرادى‘ الذين تخلوا عن أي التزامٍ دعوي تقليدي باسم هذا الدين الرسمي أو ذاك. لكن المؤمن الحر ليس ملحدًا أو ’لا دينيًّا‘... هو لا يزال ينتمي إلى نفسه كما ورِثَها، أو كما وقعت في نمط الكينونة الذي يستند إليه في بلورة ملامح هويَّته، وهو لا يعوِّل على أي حرية لا تتحرَّر من داخل مصادِر نفسها، ضدَّها وبها في آن؛ إذ لا تحتاج المجتمعات ما بعد الدينية إلى الإلحاد، بل فقط إلى تحرير الإيمان من الأديان النظامية؛ وذلك يعني أنه يجب إعادة الإيمان إلى أصحابه الحقيقيين، وحمايته من منطق الملة، مهما كانت رواسبها فينا"[50].

موقِفان يجدرُ بنا التنبه لهما في لحظة الإيمان الحر، وهما أصالة الحرية وأصالة الفرد. أما أعراض الإلحاد أو اللاتدين، فهي لا تعني التحرر. الإيمان الحر إذًا هو أيضًا يتم داخل مصادر الذات، وهذا يعني إخضاع السرديات العَقَدِيَّة إلى الحَدَثِيَّة التأويلية المفتوحة. وكما ذكرنا سابقًا إن الأنطولوجيا الحدثية لا يمكن إلا أن تتَّجه إلى المستقبل؛ لأن مُخرجاتِها لا يمكن أن تساوِقَ مُخرَجات سَبَقَتها، بل هي مِن الأصالة، حيث لا يمكن إلا للذات الفاعلة أن تعيها بما هي إبداعٌ فردي للفهم. ونرى فتحي إنقزو وهو يعاين التجربة الدينية في أعمال شلايرماخر يستخلص الوضعَ الظاهراتي الناجع لتبرير "حدس المفرد" بما هو الباعِث الفلسفي للتفكُّر في التجربة الدينية ومفاعيلها وتأويليَّاتِها، فيقول هو "ضرب من الفينومينولوجيا العفوية التي تنطق عن التجربة الدينية كما بدأت تتشكل صيغتها الفلسفية في العالم الحديث، وتُكتب كما تكتب سائر التجارب الفلسفية بناءً على مرجعية الذات المفردة كحامل للخطاب وكموضوع له في الآن نفسه. فالذات والفرد والفردانية والشخص والشخصية، وسائر المعاني التي من هذه المصفوفة المفهومية... تتكافَلُ وتتألف لتشكِّل بلاغةً خاصةً بالخطاب الفلسفي في الدين... بالإحساس المفرِط... بالدين عينه كإفرادٍ وتشخُّص لتجربة الإيمان تفيض عن مجرد التدبير العقلي لديانة رسمية قائمة بعينها"[51]. إذن الإيمانُ لا يستقيم في ذات الفرد بتقليد إيمان الآخرين، ولا يمكن إلا أن يجرِّبَه بذاته، فالدعوة الجماعية تُربِكُ التفكير الحر وتُجبِرُ الفرد على التنازُل عن ممكناته الإبداعية وانتحاء مناحي التقليد والاتباع التي لا تخدُم الاعتراف الصريح بالكون كما يبدو للكائن الحاضر فيه الآن، ثم إن الاتباعية تؤدي إلى الماضوية وعدم التمكن من الحضور الفاعل؛ أي تؤدي إلى الوقوف موقف الدفاع عن الموجود كما هو، بدل من الانفتاح على الممكن بما هو قابلية للابتكار والإحداثِ الجريء.

إن الدين في وضعية الاتباع يصنع الفرد الجبان، بينما في وضعية الفرد الحر فهو أحد الممكنات القابلة للتحقُّق، أي للفهم والتأثير في الحياة. لذلك، يرى المسكيني أن "لا يحتاج الإيمان الحر إلى إجماع جاهز... إن المنشود هو بلورة أغلبية نشطة وليس جماعة هُوَوِيَّة جاهزة للاستخدام... الإيمان الحر هو امتيازٌ أخلاقي للمستقبليين... إن الملة لم تعد حجَّة مفيدة في النقاش ما بعد العلماني حول ’الحياة الكريمة‘"[52]. إذًا إن فهم الوضعية التي يتحايَثُ فيها الفكر مع مُدَّخَراتِه هو مجال الهُويَّة الوحيد الذي يقتضي المغامرةَ الحُرَّة في الاقتبالِ الإرادي الجريء للفكرِ الراهن في أن يتكوَّرَ على محور المصاقبَةِ الحضورية؛ وذلك ليتمكَّن الفردُ من استقبال ذاتِه في وضعيَّتها الآنيَّة. إن التقدير الشَّيْمِي لاتجاه الفكر الحاضِر هو الذي يمكِّنُ من ولوج المستقبل، أي من استمرار الحضور. ومن ثم، فإن الدين موضوعٌ للفكرِ لا يمكن أن ينتقلِ من وضعيةٍ ماضيةٍ إلى وضعيةٍ حاضرةٍ كجثةٍ هامدة، بل إن العيْشَ كفيلٌ بإبقائهِ في موضِع السؤال. إن الوجود الحر يستلزم التفكير الحر لتعيين مواضع الإسهام في صناعة الزمان بحسب وضعية الذات المفكرة فيه، فلا يمكن التغافل عن الابتكار والبقاء في الاحتضار، إذا ما كان الحضور يفرِضُ الحاجة إلى تعديل النظر في الموجودات، أي اتخاذ مقام الفَسْر الدائم لتأويلية الوجود. هذا المقام يتنزَّلُ فيه الوعي من الإقامة في المدَّخرات الفكرية إلى الإقامة في الفكر الحي عينِه، ظهورًا وبيانًا، وفي ذلك تحريرٌ للوعي بانكشافه الجريء في الواقع.

***

المصادر والمراجع

*- المصادر العربية

1-      ابن رشد، أبو الوليد محمد، (520-595 هـ)، تهافت التهافت: انتصارًا للروح العلمية وتأسيسًا لأخلاقيات الحوار، تحقيق وشرح محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998

2-      ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق وشرح محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1999

3-      إيمانويل كانط، الدين في حدود مجرَّد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول، بيروت، 2012

4-      تِد هُنْدرتْش، دليل أكسفورد في الفلسفة، ترجمة نجيب الحصادي، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، 2021

5-      جان غروندان، فلسفة الدين، ترجمة عبد الله المتوكل، مؤمنون بلا حدود، بيروت – الرباط، 2017

6-      جان غريش، العوسج الملتهب وأنوار العقل ابتكار فلسفة الدين، ترجمة محمد علي مقلد، مراجعة مشير باسيل عون، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2020

7-      جورج غسدورف، أصول التأويلية، ترجمة فتحي إنقزّو، مراجعة محمد محجوب، مؤمنون بلا حدود، بيروت - الرباط، 2018

8-      جيرار جهامي، موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، 1998

9-      خالد كموني، فلسفة الصرف العربي دراسة في المظهر الشَّيْمِيِّ للكينونة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الرباط، 2018

10-  السيوطي، جلال الدين، (ت 911هـ)، تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الدعوة، الإسكندرية، 1403 هـ.

11-  العسكري، أبو هلال، كتاب الفروق اللغوية، تحقيق محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة، د.ت.

12-  الغزالي، أبو حامد محمد، (ت 505هـ)، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، تحقيق جميل صليبا وكامل عياد، دار الأندلس، بيروت، ط7، 1967

13-  الفارابي، أبو نصر، (260-339 هـ)، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1990.

14-  فتحي المسكيني، الإيمان الحر أو ما بعد المِلَّة مباحث في فلسفة الدين، مؤمنون بلا حدود، بيروت – الرباط، 2018

15-  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، فلسفة النوابت، دار الطليعة، بيروت، 1997

16-  فتحي إنقزّو، (تحرير)، التأويليات وتاريخها نحو بدايات أخرى أعمال مهداة إلى محمد أبو هاشم محجوب، مؤمنون بلا حدود، بيروت - الشارقة، 2023

17-  فتحي إنقزّو، معرفة المعروف تحولات التأويلية من شلايرماخر إلى دلتاي، مؤمنون بلا حدود، بيروت - الرباط، 2017

18-  فريدريك شلايرماخر، في الدين أحاديث إلى المثقفين من بين منكريه، ترجمة وتقديم فتحي إنقزّو، صوفيا، الكويت، 2021

19-  محمد أبو هاشم محجوب، في استشكال اليوم الفلسفي تأملات في الفلسفة الثانية من أجل إعادة التأسيس، دار كلمة، تونس، 2021

20-  مشير باسيل عون، الفسارة الفلسفية، دار المشرق، بيروت، 2004

21-  هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط2، 2022

22-  هيغل، غ. ف. و.، الإيمان والمعرفة، ترجمة ناجي العونلي، دار سيناترا – المركز القومي للترجمة، تونس، 2008

23-  هيغل، غيورغ فلهلم فردريش، في الفرق بين نسق فيشته ونسق شلّنغ في الفلسفة (بالنظر إلى مساهمات راينهولد في رسمٍ لحال الفلسفة في بدايات القرن التاسع عشر، الكرّاس الأول)، ترجمة ناجي العونلّي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007

*- دوريات

1-      فيلهلم دلتاي، "مشكلة الدين (1911)"، ترجمة فتحي إنقزّو، في مجلة تأويليات، العدد 6/ 2023.

مصادر أجنبية

1-      De Botton, Alain, Relegion for Atheists: a non-believer’s guide to the uses of relegion, (USA, Vintage Books, 2013).

[1]- البحث ورقة شارك بها الباحث في ندوة "العلاقة بين الفلسفة والدين" التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلاحدود في بيروت- لبنان بتاريخ الأربعاء22-01- 2025

[2] راجع كتابنا فلسفة الصرف العربي دراسة في المظهر الشَّيْمِيِّ للكينونة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الرباط، 2018.

[3] هيغل، غيورغ فلهلم فردريش، في الفرق بين نسق فيشته ونسق شلّنغ في الفلسفة (بالنظر إلى مساهمات راينهولد في رسمٍ لحال الفلسفة في بدايات القرن التاسع عشر، الكرّاس الأول)، ترجمة ناجي العونلّي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007، ص ص 131-132

[4] المصدر نفسه، ص 133

[5] السيوطي، جلال الدين، (ت 911هـ)، تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الدعوة، الإسكندرية، 1403 هـ، ص 30

[6] هيغل، في الفرق، ص 137

[7] المصدر نفسه، ص 137

[8] المصدر نفسه، ص 138

[9] هيغل، غ. ف. و.، الإيمان والمعرفة، ترجمة ناجي العونلي، دار سيناترا – المركز القومي للترجمة، تونس، 2008، ص 22

[10] إيمانويل كانط، الدين في حدود مجرَّد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول، بيروت، 2012، ص 45

[11] فريدريك شلايرماخر، في الدين أحاديث إلى المثقفين من بين منكريه، ترجمة وتقديم فتحي إنقزّو، صوفيا، الكويت، 2021، ص 115

[12] المصدر نفسه، ص ص 149-150

[13] المصدر نفسه، ص 163

[14] المصدر نفسه، ص 195

[15] جان غريش، العوسج الملتهب وأنوار العقل ابتكار فلسفة الدين، ترجمة محمد علي مقلد، مراجعة مشير باسيل عون، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2020، المجلد الأول، ص 198

[16] عن الدين، ص ص 240-241

[17] مشير باسيل عون، الفسارة الفلسفية، دار المشرق، بيروت، 2004، ص 75

[18] عن الدين، ص 283

[19] الغزالي، أبو حامد محمد، (ت ٥٠٥هـ)، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، تحقيق جميل صليبا وكامل عياد، دار الأندلس، بيروت، ط7، 1967، ص ص 67-68

[20] يعرف ابن رشد النور بأنه "أشهر الموجودات عند الحس والتخيل" (انظر: جيرار جهامي، موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، 1998، ص 939). إذًا النور ليس وجودًا ناتجًا عن التفكر والتحليل العقلي، بل هو شعور نفسي انفعالي.

[21] فتحي إنقزّو، معرفة المعروف تحولات التأويلية من شلايرماخر إلى دلتاي، مؤمنون بلا حدود، بيروت - الرباط، 2017، ص 57

[22] جورج غسدورف، أصول التأويلية، ترجمة فتحي إنقزّو، مراجعة محمد محجوب، مؤمنون بلا حدود، بيروت - الرباط، 2018، ص 497

[23] تِد هُنْدرتْش، دليل أكسفورد في الفلسفة، ترجمة نجيب الحصادي، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، 2021، الجزء الأول، مادة "الرومانسية الفلسفية"، ص 754

[24] أصول التأويلية، ص 504

[25] المصدر نفسه، ص 519

[26] المصدر نفسه، ص 535

[27] فيلهلم دلتاي، "مشكلة الدين (1911)"، ترجمة فتحي إنقزّو، في مجلة تأويليات، العدد 6/ 2023، ص 208

[28] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[29] هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط2، 2022، ص ص 347-348

[30] المصدر نفسه، ص 147

[31] جان غروندان، فلسفة الدين، ترجمة عبد الله المتوكل، مؤمنون بلا حدود، بيروت – الرباط، 2017، ص 32

[32] المصدر نفسه، ص 34

[33] ابن رشد، أبو الوليد محمد، (520-595 هـ)، تهافت التهافت: انتصارًا للروح العلمية وتأسيسًا لأخلاقيات الحوار، تحقيق وشرح محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 556

[34] ابن رشد، فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق وشرح محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1999، ص 99

[35] المصدر نفسه، ص 98

[36] العسكري، أبو هلال، كتاب الفروق اللغوية، تحقيق محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة، د.ت.، ص 220-222

[37] الفارابي، أبو نصر، (260-339 هـ)، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1990، 132

[38] المصدر نفسه، ص ص 132-133

[39] فتحي المسكيني، فلسفة النوابت، دار الطليعة، بيروت، 1997، ص 127

[40] الحروف، ص 133

[41] المصدر نفسه، ص 154

[42] محمد أبو هاشم محجوب، في استشكال اليوم الفلسفي تأملات في الفلسفة الثانية من أجل إعادة التأسيس، دار كلمة، تونس، 2021، ص 123

[43] الحروف، ص 157

[44] De Botton, Alain, Relegion for Atheists: a non-believer’s guide to the uses of relegion , (USA, Vintage Books, 2013), P. 24

[45] Ibid, p. 301

[46] Ibid., p. 302-303

[47] Ibid., p. 307

[48] Ibid., p. 310

[49] Ibid., p. 312

[50] فتحي المسكيني، الإيمان الحر أو ما بعد المِلَّة مباحث في فلسفة الدين، مؤمنون بلا حدود، بيروت – الرباط، 2018، ص 10

[51] فتحي إنقزّو، (تحرير)، التأويليات وتاريخها نحو بدايات أخرى أعمال مهداة إلى محمد أبو هاشم محجوب، مؤمنون بلا حدود، بيروت - الشارقة، 2023، ص 195

[52] الإيمان الحر، ص 19