الحبّ في حدود الكمّوميّة: مقاربة علميّة – وجوديّة
فئة : مقالات
الحبّ في حدود الكمّوميّة: مقاربة علميّة – وجوديّة
مقدمة
عندما ترتسم المشاعر الإنسانيّة في هالةً علويّةً تقتفي أثر نورٍ، أثر موجةٍ، تتمدّد في فضاءات العلائق الإنسانيّة وتدغدغ وجدان الإنس، وتُخلدُ النّفس إلى طمأنينتها، فتسبح النّفس في تفكّك عقدها وفي انتماء اللّانتماء، لتنشد السّبب الّذي به ومن أجله تتمدّد فيه بالحرّيّة وتذوب وتتناغم في أثير اللّايقين. إنّه الحبّ، على قدر بساطته تتعقّد مكتنزاته، تتعدّد تعبيراته، وتتبدّل مسارته. فإذا به يشكّل الوقود الذي يسيّر النّشاط الإنساني، ويكون في الوقت عينه غايته. وهنا تتبدّى لنا النّزعة الغائيّة-الأنطولوجيّة للإنسان الّذي يتسامى في مشاعره ويرهف في الإحساس ليشعر بالامتلاء، فيكونُ اكتمالٌ. اكتمالٌ في ما هو قابل للاكتمال بالوحدة، بالمطلقيّة النّزوعيّة للذّوبان عن طريق الانصهار بالآخر. وبهذا يشكّل الآخر تمركزًا لموضوع الرّغبة وانبثاقًا لها أو بالأحرى تجلّيًا لها خارج الذّات الإنسانيّة المفكّرة والحاسّة. وعلى كلّ حال، يبقى الحبّ لغز الكينونة الإنسانيّة وصلب دهشتها ومحرّك أسئلتها. والسّؤال الأكبر المتشّعب يطرح نفسه مليكًا على الأسئلة الوجوديّة برمّتها: ما هو الحبّ؟ كيف يمكن تفسيره؟ كيف يتجلّى في حياتنا الإنسانيّة وهل بالإمكان التّحكّم به وبمساراته؟ هل له قوانين؟ كيف يمكن لشعورٍ بسيطٍ ونقيّ أن يترجم في السّلوك الإنساني بجملةٍ من النّواقص؟ هل من إمكان لدراسة الحبّ كموضوع خارج عن الذّات الإنسانيّة، عن الوعي الإنساني، كعمليّة مفكّر في موضوعها؟ حاولت العلوم الإنسانيّة والطّبيعيّة والعلوم الحديثة تفسير الحبّ، لكنّها أخفقت في كثيرٍ من الأحيان في تمثّل هذا الإحساس ووصفه على وجه كبيرٍ من الدّقة والأمانة. هل يمكن لأحد أوجه العلوم الإنسانيّة، الفلسفة، مصاحبة أحد العلوم الحديثة، ميكانيكا الكمّ، والتعاون والتكافل لإعطاء تفسيروجودي-علمي للحبّ؟ وإلى أي مدى يمكن ذلك؟ سنحاول في بحثنا التّطرّق إلى نظرية الكمّ عند هايزبرغ عبر تشبيه الحبّ للضّوء كما سنلج إلى نظريّة التّشابك الكمّي كوجه من أوجه التّلاقي بين المحبّين، ونخلص نهايةً إلى تطبيق تجربة شقيّ يونغ على الحبّ.
كوانطيّة الحبّ
إذا كان الحبّ أسمى المشاعر الإنسانيّة على الإطلاق وأغربها تفسيرًا من منطلق علمي، فإنّه بإمكاننا تطبيق مبدأ ميكانيكا الكمّ لاستجلاء الحبّ كطاقة ضوئيّة، انطلاقًا من تفسير فلسفة الكمّ للعالم الفيزيائي والمفكّر الألماني هايزبيرغ، حيث أسهب في كتابه الطّبيعة في الفيزياء المعاصرة في مقاربة الضّوء وتمدّده من منطلق كمّي. وها نحن نقيم هنا الشّبه بين نظريّة هايزنبرغ والحب لتكميمه. على غرار الضّوء المكوّن من النّار واللّهب، يمكننا أن نقيم شبهًا بين الحبّ كطاقة، كنار تلهب الصّدر وتحرق الأخضر واليابس، فتحترق الكينونات بالحبّ وتنصهر وتذوب في بعضها البعض، فيقترب الواحد من الآخر ويسعى لإخراج وإفراغ إحساسه من الدّاخل ليتمثّله في موضوع الرّغبة، والّذي هو الحبيب. يقول هايزبرغ في هذا الصّدد: "لا يعقل أن نشكّ في أنّ الضّوء مؤلّف من حركة مادّة ما. لأنّنا لو نظرنا في توليده لوجدنا، عندنا على الأرض، أنّه يصدر رئيسيًّا عن النّار واللّهب وهما يحويان بلا ريبٍ أجسامنا في حركة سريعة لأنّها تذيب وتصهر عدّة أجسام ذات صلابة كبيرة، فإذا أمعنّا النّظر في آثاره نرى أنّ الضّوء عندما يجتمع، كما في المرآة المقعرة، يكتسب خاصّة الحرق كما تفعل النّار؛ أي إنّه يفكّك أجزاء الأجسام، لما يدلّ على الحركة بالتّأكيد" [1] (ص.166). والحبّ كالمرآة يعكس من خلاله الحبيب نفسه ويحرّك وجدانه ووجدان محبوبه في حيّز الزّمكان. فيكون الحبيبان في الوقت عينه موضوعًا وذاتًا في كعالمين متوازيين parallel universes، يلتقيان في لحظات وعيٍ ولاوعيٍ عاطفي ويؤثّر الواحد منهما بالآخر دون أن يهتزّ هو كعالمٍ قائمٍ بذاته. يرسل الحبيب إحساسه بتعبيراتٍ شتّى لمحبوبه فيتلقّى هو الأخير هذا الإحساس ويفعّل في نفسه شعورًا ينعكس بالتّالي على حبيبه. يبقى أنّ الحبيبَ محبوبٌ والمحبوب ُحبيبٌ، وما بينهما حبٌّ يصهر ما لا يصهر بغير الحبّ. حركة دائريّة لانهائيّة وهذه الحركة غير ممكنة إلّا بالطّاقة. ولإيضاح كيفيّة تفعيل الحبّ كطاقة في حياة الإنسان الوجدانيّة متمثّلة في السّلوك الإنساني نجد أنّه يشكّل الدّافع الّذي من أجله تتركّز الرغبة بالحبيب وبالاتّحاد به والتّعبير له عن مشاعره إن عبر الكلام أو لغة الجسد. هذا ويكون البعد الأقصى سلوكيًّا لترجمة الحبّ عبر العلاقة الجنسيّة، والتي لا تؤخذ بالمعنى الشّهواني الغرائزي؛ إذ إنّ العلاقة ما هي إلّا رمزٌ للالتحام بالآخر وما النّشوة إلّا لحظة مترنّحة بين الوعي واللاوعي يقف فيها الحبيبان كعالمين انسجما ليعودا وينفصلا ويبقيا متوازيين. فيكون الحبّ كموجةٍ ضوئيّة لها ارتدادها، ولا تنتهي بعد أوّل إفراغ للرّغبة، ويضحى الحبّ كطاقةٍ متجدّدة لا تنفذ، وإذا فعلت فلا تكون حبًّا بالمعنى اللّصيق للحبّ، على قدر ما هي اعوجاجٌ للحبّ مستورٌ بغشاء من المخاوف متجلّيّة بالأنانيّة.
كوانطيّة الحبّ من منطلق هايزنبرغ
على مقلبٍ آخر يبرز الضّوء عند هايزنبرغ على أنّه كالموجة التي نلاحظها في الماء، عندما نرمي حجرًا فيها، فيكون لهذه الموجة ارتدادات [1] (ص.168)، والحبّ كذلك، فعندما يرمى سهم الحبّ ويخترق معقل الوجدان الإنساني، تمتدّ طاقة الحبّ كهالةٍ محيطة بالحبيب، لتتمدّد باتّجاه المحبوب فتلتفي به وتلامس هالته التّي هي بدورها تتمدّد. عندها، يكون لقاء موجتيهما الإرتداديّتين وحدةً وصلابةً وحرّيّةً؛ إذ إنّ الطّاقة لا يمكن كبحها، فهي تدخل في الأجسام وتفعل فعلها وتحرّك هذه الأجسام باتّجاه بعضها بعضًا لتتآلف وتذوب وتتّحد في هالة. وعلى غرار ما يقوله هايزنبرغ عن فكر غاسيندي من أنّ الذّرات لما هي بسيطة وصلبة، ولا تقبل الانقسام مفطورة على النّزوع إلى الحركة ضمن حركيّةٍ تتأرجح بين الوحدة والانفصال [1] (ص.170) ولكن لا التّداخل. ويردف هايزنبرغ كلامه قائلًا: "... لا يمكن لجسمين مهما تقاربا أن يحتلّا حيًّا أصغر من الحيّز الّذي يحتلّانه منفصلين... فنحن إذن مدعوون، بشكلٍ يكاد يكون طبيعيًّا، إلى أن نميّز، بالفكر على الأقلّ، نوعين من الامتداد المكاني: أحدهما لا يقبل التّداخل والآخر موضع الأجسام. وهكذا، فبالرّغم من أنّ عدم قابليّة التّداخل موجودة بالضّرورة في الفكرة التي نشكّلها عن أجزاء المادّة، إلّا أنّها خاصّيّة نسبيّة؛ أي إننا لا ندركها إلّا عندما نعتبرها شيئًا متميّزًا عن الامتداد وأن نعتبر الامتداد شيئًا منفصلًا عنها، رغم أنّ عدم قابليّة التّداخل افتراض ضروري لتشكيل فكرة عن المادّة." [1] (ص.175). تمامًا في الحبّ لا يمكن للحبيبين يتّحدا بكليّتهما؛ لأنّهما ليسا فقط طاقة لا بل إنّهما جسدٌ وطاقة، فيكونان بجسديهما على مستوى الزّمان والمكان منفصلين-متّصلين، وعلى مستوى الطّاقة لكلٍّ منهما على حدة هما منفصلان ومتّصلان، فضلًاعن المستوى الوحدوي للهالات. نجد هنا إذن الأحبّاء عوالم متوازية ومتراصّة فوق بعضها في آنٍ واحد.
بالنّسبة إلى هايزنبرغ إنّ الضّوء بتمظهره الثّنائي كموجة وكحبيبات (فوتونات) تمتصّ وتنتشر عبر بوّابة المادّة ويخلص إلى أنّ الأمواج والحبيبات متّحدة معًا في الطّبيعة، وتاليًا فإنّ حركة الطّبيعتين للمادة مرتبطتان ومتداخلتان، ولا يمكن إذ ذاك افتراض أنّ الواحدة منهما يمكنها العمل من دون الأخرى أو أنّهما لا يؤثّران ببعضهما البعض [1] (ص.210). بالمقارنة نجد أنّ الحبّ لا يمكنه أن يكون مصيّرًا بالفعل من دون الحيّز المكاني والزّماني المتجلّي بالمادّة. وقد نذهب إلى فكرةٍ مفادها أنّ الزّمكان لما هو بعدٌ هو شرطٌ ضروري لتبلور البعد الرّوحي المتمثّل بالحبّ. من هنا لا يمكننا أن نتبصّر الحبّ في بعدٍ واحدٍ ظنًّا منّا أننا ننزّهه عن البعد المادي، ولعلّ السّبينوزيّة الأجدر على تقريب هذه الكوانطيّة للحبّ وإن لم تكن مرتكزةً إلى علمٍ محض قائمٍ على قوانين ومعادلات حسابيّة دقيقة. ففلسفة سبينوزا تتمحور بشكل رئيسي حول الجمع بين الطّبيعتين الرّوحيّة والمادّيّة، وهما على حدّ قوله ينتميان إلى بعدٍ واحد أشمل وهو بعدٌ كوسمولوجي. ونشير أيضًا غلى أنّ نيلز بور العالم الفيزيائي الكمّي الشّهير يصبّ في المذهب الفكري نفسه؛ إذ يقول بنظريّة التّكامل بين الطّبيعة المادّيّة والأخرى الموجيّة، وهو أيضًا ما يدعم طرحنا في تنظيرنا للحبّ الكوانطي [2]. وعلى خطٍّ موازٍ يذهب هايزنبرغ إلى مبدأ اللّيقين في عدم القدرة على تحديد مسار الجسيمات بطبيعتيها المادّيّة والموجيّة. وهذا يحيلنا إلى عدم قدرتنا على التّنبّؤ بمسار هذه الجسيمات ما يسقط مبدأ الحتميّة في الوقت الرّاهن. ولكي لا نسترسل في منزلقات فيزياء الكمّ بعيدًا من موضوعنا الرّئيس، نستشفّ بأنّ الحبّ لا يمكن التّحكم بمساراه، فلا يمكننا أن نقرّر أن نحبّ بشكلٍ واعٍ؛ إذ الحبّ كناية عن صيرورة وطاقة حرّة تتبدّد وتنسلك على سجيّتها إذا صحّ التّعبير. وفي حال أردنا مقاربة الحبّ من منطلق بور فنجد بأنّه تطوّر سائر باتّجاه نقطة معيّنة محدّدة في الزّمان والمكان. وهذا ما يوجزه بور بمبدأ التكامليّة، حيث يرى أنّ الجسيم بطبيعته الموجيّة والمادّيّة يكملان بعضهما بعضًا ويلتقيان في الزّمان والمكان [3] (ص.31). على أنّ مبدأ التّكامل الذي قال به بور ما هو إلّا نوع من التّعميم المُجرى تعقيبًا على مبدأ عدم اليقين[1] عند هايزنبرغ [4] (ص.35). وفي كلتا الحالتين لا يمكن معرفة بدقّة مكان وسرعة الإلكترون كونه يغيّر في سرعته وبمكانه ويبثّ كمّيّة ضئيلة من الطّاقة. أمّا في الحبّ، فإنّه أيضًا لا يمكن للمرء أن يرصد مشاعره كاملةً في لحظةٍ الوعي بخاصّةٍ في حالات انتشاء؛ إذ إنّ الوعي يكون في حالةٍ ملاصةٍ للالوعي وحتى متشابك معه، وهذا ما يمكن أن نصفه بالتّشابك الكمّي في الحبّ.
الحبّ كوجه من التّشابك الكمّي
إن أردنا إيجاز ما تتّسم به نظريّة التّشابك الكمومي فيمكننا القول إذًن إنّها نظريّة تبيّن أنّ جسيمين وإن كانا بعيدين عن بعضهما، فإنّ لهما تأثيرًا على بعضهما البعض. فنعتبر مثلًا أنّ هنالك جسيمًا في الصّين وآخر في إفريقيا وكلّ منهما له حركة دائريّة معيّنة. فيدور الأوّل على غرارعقارب السّاعة فيما الآخر يدور باتّجاه معاكس. وحين نتطلّع ونتفحّص مسار الواحد منهما نجد أنّه وفي نفس اللّحظة يدوران باتّجاه معاكس وهذ ا الأمر غريبٌ للغاية [5] (ص.1). إنّما إذا كانت نظريّة التّشابك الكمي تعتبر بأنّ الجسيمات وتأثيرها على بعضها بعضًا مقرون بكونها مربوطةً ببعضها البعض من خلال الرّسائل التي يرسلها جسيمٌ منها إلى الآخر على حدّ اعتبار أينشتاين وغيره من الفيزيائيين، فإنّه يمكننا اعتبار أنّ الكمّيّة توضح بأنّ التّشابك هذا هو الأكثر انطباقًا على مشاعر الحبّ. والدّليل الحالات الكثيرة من التّخاطر الذّهني الحاصل بين المحبّين، بغضّ النّظر عن التّفسيرالنّفسي، فقد يكون هنالك بعدٌ لم نلمّ به، أو بالأحرى فضاء نجهله وماهيّته وآليّة عمله وكيفيّة إرسال الإشارات. يمكننا أن نقول إنّ المحبّين يشعرون ببعضهم البعض، وهم في ذلك لا يمكنهم إعطاء أي تفسير علمي تجريبي لما يحسّونه لكونه مجرّد شعور والشّعور لا يمكن تمثّله بشكل حرفيّ. فالشّعور هو تأثير رسالة وصلت إلى النّفس الإنسانيّة، وأفرزت فيها انطباعًا يمكن القول فيه إنّه كوانطي. وها إنّ العلم قد عجز عن تفسير حالات التّخاطر الذّهني فترك آنئذٍ إلى مصافي الفيزياء الكمّيّة أو إلى علم النّفس. على مقلبٍ آخر فلسفي، يظهر التّخاطر كحالةٍ وجوديّة كبيرة محصورة بلحظة وعي فلسفي كبير ودهشة بالمحبوب ليشعرا بقيمة الإتّصال بينهما فيكون التّخاطر بمثابة دليلٍ زمني ومكاني على علاقة التّرابط بينهما ليمسي هو نقطة الإلتقاء ووقود الغوص أكثر فأكثر بالعلاقة. فالتّخاطر ليس مجرّد حالةٍ من الوعي بالآخر، إنّما هو وعيٌ للذّات أيضًا بما هي مرسل ومتلقّي في آن؛ إذ يجمع الحبيب أيضًا صفة المحبوب، فهو عندما يتلقّى الرّسالة يكون محبوبًا وهو في الوقت عينه حبيب؛ لانّه فاعلٌ في عمليّة الحبّ هذه.
مقاربة فلسفيّة لتجربة شقّي يونغ في الحبّ
بإمكاننا أيضًا على صعيدٍ آخر الولوج إلى تجربة شقّي يونغ كنظريّة مختلفة أو بالأحرى كمنظار كوانطي جديد لفيزياء الكمّ نسعى من خلاله إلى بلورة نظريّتنا في الحبّ. وباختصار، فإنّ تجربة شقيّ يونغ كناية عن إرسال موجات ضوئيّة وخروجه من شقّين، وانعكاسه على شاشة معيّنة. منطقيًّا إذا وددنا النّظر إلى انعكاس الضّوء من الشّقّين فيترتّب عن ذلك أن نلحظ هدبين اثنين للضّوء، لكن الواقع أتى معاكسًا لذلك. فالضّوء المنعكس من الشّقيّن تبدّى لنا على شاكلة أهداب متوازية عديدة تترنّح بين أهداب ضوئية ومعتمة متعاقبة. فيبدو الضّوء هنا كحضورٍ وغياب [6]. أمّا السّبب الّذي من أجله انعكس الضّوء على هذه الشّاكلة فقد يكون نظريّة لم تبرهن بعد، ولكنها قيد الدّراسة والاختبار والتّحليل والبحث، وهي نظريّة العوالم المتعدّدة. وهذه النّظريّة تقول إنّه إذا ما وجد شيءٌ ما في عالمٍ ما، فهو كذلك موجودٌ في عالمٍ آخر موازٍ له، ولكنه ضمن شكلٍ مختلف. هذا على نطاق فيزياء الكمّ أمّا في ما يخصّ الحبّ، فإنه بمقدورنا أن نبني منطلقًا فلسفيًّا لتفسير الحبّ كحضور وغياب في ضوء نظريّة يونغ الكمّيّة. لنعتبر أنّ الحبّ كالموجة الضّوئيّة الّتي اخترقت وعيين إنسانيّين، تلقّفا هذا الحبّ فانعكس تاليًا في تعبيراتهما بين حضورٍ وغياب. فعلى غرار المقولة الشّهيرة “Suis-le il te fuit, fuis le il te suit” هكذا، فإنّ شعور الحبّ الّذي نحسّه يصل إلى أوجّه في حضورٍ كامل ريثما يعود ويختفي ليعود ويظهر من جديد. والسّبيل لبرهنة مقولتنا يكمن في العلاقة الشّغوفة بين حبيبين، فريثما يعبّران عن حبّهما بعلاقةٍ جسديّة على سبيل المثال، فإنّهما يميتان الرّغبة داخلهما عن طريق إخراجها وتمثّلها في الواقع المحسوس، في الشّريك. فتكون الحالة القصوى من الحضور والمتمثّلة بالنّشوة بداية موت الرّغبة وبالتّالي حالة موتها هو ولادة جديدة لها. هذا ما يضمن استمراريّة الحبّ، ليتّبع مسارًا يمكن القول فيه Trajectoire sinusoidale continue. فيكون الحبّ في الحضور حيًّا- ميتًا وفي الغياب ميتًا - حيًّا.
خاتمة
عصارة القول تكمن في أنّ الحبّ كنايةٌ عن دورةٍ دائمة، من التّجدّد والتّمدد في الوجود الإنساني، وهو العطش الأكبر للرّوح الإنسانيّة. الحبّ هو نقطة البداية والرّكيزة الأساسيّة الّتي تبنى عليها الحياة الإنسانيّة. فالحبّ حرّيّة، انطلاقة في الوجود، ارتياحٌ وتسليم للايقين، إنّه اللّحاق بالموجة الرّاكبة. وما شكله وتعبيراته المنحرفة في النّفس الإنسانيّة إلّا وليدة مخاوف جمّة ومختلفة تنبري من طمأنينة النّفس وتضعها في قوالب وتحدّها فيما الحبّ في جوهره غير مشروط. الحبّ عندما يكون منحرفًا لا يمكننا القول إنّه ليس حبًّا، على الأقلّ هو مخبّأ بغشاء من المخاوف أبرزها الخوف على الذّات من الإلغاء والذّوبان في الآخر، فتشعر النّفس أنّها تمّحى لأجل الآخر، ولا تتواءم وتتناغم معه. النّفس الخائفة تستميل الحبيب بأكثر الأساليب التواءً؛ أي عبر شدّه بالرّغبة والإثارة أو محاولة لعب دور الضّحيّة للاحتماء أو ربّما دور المخلّص ليكون الآخر ملاذًا لها وشفاءً. لكن في الواقع الحبّ الحقيقي يتمثّل بشخصين كانت لهما رغبة صادقة وأصيلة في تقبّل الذّات بالدّرجة الأولى، والاقتناع بعدم الضّرورة لتغيير الذّات والعيش بمنطق يخالف طبيعتها إرضاءً للآخر لإبقائه متعلّقًا. الحبّ حالةٌ من الدّهشة بظللمات الحبيب قبل نوره، واحتواءٌ لمخاوفه وعيوبه الّتي ليست في الواقع إلّا نتيجة الخوف. والخوف لا يُحارب على قدر ما يحتضن. على كلّ حال، فإنّ المخاوف لن تزول، إنّما بالمحبّين أن يحملوها بتأنٍّ وتؤدة، أن يلاطفوها، فتكون نقطة قوّةٍ وحافزًا لمزيدٍ من الاحتواء. ليغدو الآخر مرآة الذّات الّتي ترى فيه أجمل صورةٍ لها فيلتقيان بشرارة قويّة ترتدّ عليهما وتضمن استمراريّتهما مع بعضهما البعض. ويبقى الحبّ أخيرًا ارتواءً في العطش وتناغمًا في النّشاز. وختام الكلام يصبو إلى أنّ الحبَّ انعتاقٌ أبديّ من سجن العبوديّة للخوف.
المراجع:
[1] ف. هايزنبرغ، الطّبيعة في الفيزياء المعاصرة، ترجمة الدّكتور أدهم السّمّان، دمشق: طلاس للدراسات والتّرجمة والنّشر.
[2] د. بشارة, الكون الحيّ بين الفيزياء والميتافيزياء.
[3] ع. ح. موسى, قرن الفيزياء.
[4] M. Bunge, "La philosophie de Niels Bohr," Horizonz philosophiques, vol. 2, no. 2, pp. 27-50.
[5] ن. ا. ب. رمضان، "التّشابك الكموميّ"، الباحثون السّوريّون.
[6] F. Legrand, "Interferences de young," Licence Creative Commons, pp. 1-15.
[1] مبدأ عدم اليقين هو نظريّة في فيزياء الكمّ قال بها العالم فيرنير هايزنبرغ ويشير فيها إلى أنه لا يمكن التّحكّم بمسار الإلكترونات أو معرفة مسارها. فهي تقفز من مستوى طاقة معيّن إلى مستوىً آخر بشكل غير متوقّع من الباحث.