الحداثة السياسيّة ومسار العَلْمَنة
فئة : مقالات
الحداثة السياسيّة ومسار العَلْمَنة
يمكن تعريف الحداثة السياسيّة بأنّها مجموعة من التصوّرات والأفكار والمفاهيم والتجارب السياسيّة الفارقة التي أفضت إلى إقامة الجمهوريّات الديمقراطيّة الحديثة، وبناء دولة الحقوق والحريّات والمساواة أمام القانون. الحداثة السياسيّة تجربة لها تاريخ محدّد يمكن أن نربطه، من منظور تاريخ الأفكار، بانبجاس فكرة الاستقلاليّة الفرديّة، ومفهوم السيادة الشعبيّة. وقد يصحّ القول إنّ المعنى الحقيقي للحداثة السياسيّة، تصوّراً وواقعاً تاريخياً، لا يمكن أن يتوضّح إلّا عندما تؤخذ كلّ العناصر مجتمعة في الاعتبار؛ أي الأفكار والمفاهيم والذهنيات والأحداث والثورات والمؤسسات. نفترض، في هذا السياق، أنّ العَلمانيّة هي المفهوم المناسب لتعريف الحداثة ومقاربتها. الحداثة السياسيّة هي دخول الإنسانيّة في العصر العلماني، على أن تُؤخذ كلمة «علماني» هنا بمعنى ما ينتمي إلى المجال التاريخي وإلى المجال الرمزي؛ أي إلى عالَم البشر في أبعاده الزمانية والروحية.
نتج عن وجود أكثر من كلمة في اللغات الهندوأوروبيّة دالة على معنى العلمانيّة مثل (laïcité) الفرنسيّة، و(secularism) الإنجليزيّة، و(laïkos) اليونانيّة، غموض المفهوم وعدم استقراره، سواء من جهة المعنى أم من جهة الاستعمال. إذا أعرنا أهمية للمصدر الاشتقاقي للمفهوم المتمثل في الكلمة اليونانية «ليكوس» (laïkovB)، التي تعني الشعب الموحّد أو وحدة السكّان، فعلينا أن نأخذ المدلول السياسي في الاعتبار. وتبعاً لذلك يمكن أن نفترض أنّ العَلمانيّة أو اللّائيكيّة تتعلّق بكيفيّة تنظيم العلاقات بين الجماعة السياسيّة كياناً موحّداً والشروط التي تضمن استمرارها ووحدتها. وإذا اخترنا استعمال كلمة «سيكولارِزْم» (secularism) المشتقة من «سيكولُمْ» (seculum)؛ أي العصر أو المدّة الزمنيّة التي تعادل القرن، فلن نبتعد كثيراً عن المعنى الذي ذكرناه سابقاً. يحيل المصدران اللغويّان على الوجود التاريخي للبشر؛ أي الوجود في العالم الأرضي، الدنيوي والانتماء اليه. من هنا نرى أنّ مصطلح العَلمانيّة، الذي أصبح متداولاً في الخطاب العربي منذ بضع عشراتٍ من السنين، يدلّ بصورة دقيقة على المعنى الذي تدلّ عليه كلمة (laïcité) الفرنسيّة أو (secularism) الإنجليزيّة.
بأيّ معنى تمثل العلمانيّة عنواناً للحداثة السياسيّة؟ يمكن القول إنّ الحداثة السياسيّة تتمثّل في ظهور شكل جديد للتنظيم السياسي قطع تدريجيّاً مع التنظيم اللّاهوتي السياسي الذي تجسّد في الملَكيّات القائمة على فكرة الحقّ الإلهي التي تحالفت طويلاً مع الكنيسة. اقترنت الحداثة ببروز الفرديّة التي ترجمت فلسفيّاً في تصوّر الذاتيّة كما صاغها الفيلسوف ديكارت (Descartes) مثلاً. في إطار فلسفة الذاتية حدّدت الذات جوهراً روحانياً ماهيته الفكر؛ أي العقل. الإنسان كائن عاقل قادر على التفكير والتروّي والاختيار: اختيار الطريق إلى الحقيقة، واختيار الفعل المؤدّي إلى السعادة والخير. لم يكن الإصلاح الديني اللوثري والكالفيني، وهو بُعد آخر من أبعاد الحداثة، إلّا نتيجة لتطوّر العقلانيّة الذاتيّة. الفرد (المسيحي) كائن عاقل وحر، وهو قادر على إدراك مضمون النصوص المقدّسة، وعلى بلوغ الحقيقة المطلقة من دون وساطة رجال الدين (الإكليروس). من نافل القول إنّ الإصلاح الديني استند بصفة عامة إلى قراءة عقلانيّة للدين المسيحي تجسّدت في تأويل النصوص المقدّسة، وفي دراسة تاريخ المسيحيّة. لقد تبيّن للناس، بفعل تطوّر العقلانيّة وتقدّم المعارف العلميّة، أنّ الدين (المسيحيّة) ليس هو الرؤية الوحيدة الممكنة للعالَم، وأنّه ليس مرجعيّة أخلاقيّة مطلقة، ومن ثم لم يعد بالإمكان اعتباره مصدراً لمشروعيّة السلطة السياسيّة. نستطيع القول، إذن، إنّ الفكرة العلمانيّة بعناصرها المختلفة (الحريّة الفرديّة، الاستقلاليّة، العقلانيّة، أولويّة الحقوق، تنوّع الرؤى والاختيارات الروحيّة، الاعتراف بالآخر وقبول الاختلاف... إلخ) وُجدت، منذ بداية الفكر السياسي والأخلاقي الحديث المتحرّر تدريجيّاً من هيمنة التقليد اللّاهوتي-الفلسفي، وقبل أن يتمّ اصطناع مصطلح اللائكيّة نفسه، لذلك يمكن القول إنّ الحداثة السياسيّة علمانيّة في جوهرها.
لا يمكن فهم تصوّر العلمانيّة إذا لم ندرس مسار العلمنة في سياقاته التاريخيّة والسياسيّة والدينيّة والثقافيّة. يذهب الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) إلى أنّ مسار العلمنة تمثّل في حركة «الخروج من الدين». والعبارة، في نظره، لا تعني إلغاء الدين أو استبعاده من المجتمع، بل إنّها تدلّ على أنّ الدين لم يعد المرجعيّة التي منها تستمدّ السلطة السياسية المشروعيّة. لا يعني الخروج من الدين نهاية الدين مصدراً للاعتقاد، وفقدان دوره مرجعيّةً أخلاقيّة، بل يعني أنّ الديني لم يعد محدّداً للسياسي. «يجب ألّا نتخيّل تعويضاً مباشراً أو آنيّاً لنمط من المعتقدات ولصنف من الخطابات بآخر، فالدين لا يضمحلّ بين عشيّة وضحاها، إنّه ببساطة يأخذ وظيفته السياسيّة، سلطته المشرِّعة العليا. وهو في تنافس مع خطاب يتعارض جذريّاً مع مبادئه داخل عالم اجتماعي لا يحيط به ولا يضع معاييره، وإن كان المؤمنون يشكّلون العدد الأكبر منه وحتى أغلبيته»[1]. لقد مثّل الخروج من الدين ضرباً من الانقلاب على نمط لاهوتي-سياسي ساد طيلة قرون: الانتقال من نمط تفكير يرى أنّ السلطة العليا مستمدّة من مبدأ مفارق، أو ممنوحة من كائن أعلى، وهو ما تقره النصوص المقدّسة التي تضمّنت روايات الآباء والأنبياء المؤسّسين. يعني الخروج من الدين انتهاء التحالف القديم بين الكنيسة والإمبراطوريّة أو بين العرش والمذبح، ولكنّ انتهاء التحالف لا يعني انتهاء كلّ علاقة بين الكنيسة والمَلَكِيّة أو بين الكنيسة والدولة الحديثة. لم يعد الدين، بوصفه رؤيةً كليّة للوجود مفروضة على المجتمع، مقبولاً بوصفه حقيقةً أو مصدراً وحيداً للحقيقة. ومن المؤكد أن السبب الأساسي وراء ذلك هو بروز الذاتيّة وتغيّر طبيعة المجتمع: ليس المجتمع هو الكلّ الموحّد الذي يحدّد الدينُ هويّته ووجهته. لقد أصبح يُعرَّف بوصفه مجالاً للعلاقات والصراعات بين الأفراد وبين الجماعات. كما صار الفرد، بوصفه كائناً قادراً على التفكير والفعل، محورَ الإنتاج (الاقتصاد) وعنصرَ التعاقد الاجتماعي (السياسة) ومصدراً لتشريع والتقويم (الأخلاق). وعلاوة على ذلك، أصبحت له الكلمة الأخيرة فيما يتعلّق بالحقيقة الدينيّة وفهمها[2]. أدّى الإصلاح الديني البروتستانتي دوراً أساسيّاً في ذلك التحوّل الكبير، ومن ثم في تشكّل التصوّر العلماني للعلاقة بين السياسة والدين، بين السلطة الزمنيّة والسلطة الروحيّة. لقد تمّ، تدريجيّاً، حرمان الكنيسة والإكليروس من دور الوساطة الروحيّة بين المؤمنين والله.
عبّر بعض الفلاسفة من القرن السابع عشر عن ذلك التصوّر الجديد للعلاقة بين السلطة السياسيّة والسلطة الروحيّة. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر بيير بايل (Pierre Bayle) الفرنسي وجون لوك (John Locke) الإنجليزي. طرح بايل مسألة أسبقية حريّة الضمير على الحريّة الدينيّة التي استند إليها دعاة التسامح الديني. لمّا كان الإنسان حرّاً بحكم امتيازه بالعقل، ولمّا كانت حرّيته تأخذ أشكالاً مختلفة منها الشكل الديني يجب على السلطة القائمة، مهما كانت العقيدة التي تتبنّاها، أن تكون متسامحة مع المخالفين في العقيدة ومع الطوائف الأخرى. إنّ الحريّة الدينيّة ليست إلّا مظهراً للحريّة الأصليّة؛ أي حريّة الضمير. تلغي حريّة الضمير، التي دعا إليها بايل، الحاجة إلى التسامح لكونها تلغي دواعيه. لكلّ فرد إذن الحقّ في أن يعتقد ما يشاء، وأن يُعبّر عن عقيدته كما يشاء، ولمّا كانت جميع المعتقدات متساوية من حيث القيمة، لا مبرّر لأن تتسامح السلطة التي تتبنّى عقيدة رسميّة مع العقائد المغايرة الموجودة في المجتمع. عُدَّ موقف بايل الأقربَ إلى روح العلمانيّة، ولا شك في أن قيمة ذلك الموقف تكمن في اعتبار الحريّة الدينيّة نتيجة لحريّة الضمير ولا تكتسب في حدّ ذاتها أهميّة خاصّة.
يرى بايل أنّ الحق الطبيعي هو القانون الإلهي عينه الموضوع فينا، الذي لا نحتاج إلى وساطة، مهما كان نوعها، لاكتشافه. إنّ العقل وحده يستطيع اكتشاف ذلك القانون وترجمته في مستوى المعرفة وفي مستوى الأفعال الأخلاقيّة. وهو يستطيع التمييز بين ما يأتي من الله وما هو مِنْ وضع البشر؛ أي بين الدين الطبيعي والدين الوضعي. ولا يمكن أن يتحقق التسامح القائم على حريّة الضمير إلّا عندما تنتصر الكنيسة غير المرئيّة (الإيمان) على الكنيسة المرئيّة (الدين مؤسّسةً كهنوتيّة). إذا أردنا ألّا يكون الدين مطابقاً للتعصّب والاضطهاد، يجب ردّه إلى مجاله الأصلي؛ أي ضمير الفرد: «إنّ الاستعدادات الداخليّة للنفس هي التي تكوّن حقيقة الدين»[3]. يتمثّل موقف بايل النهائي من مسألة التسامح في الإقرار بأنّ أساس التسامح الحقيقي ليس الاعتقاد بصحّة دين معيّن، بل الضمير الأخلاقي الذي يتطابق مع ما يُقرّه الحقّ الطبيعي. ينتج عن هذا التأسيس الفلسفي للتسامح موقف سلبيّ من مشكلة الصراعات الدينيّة: ضرورة الخروج من حدود الدين الضيّقة بما هو مجموعة من العقائد الدوغمائيّة المناقضة للعقل. يجب ألّا نفهم من ذلك أنّ بيير بايل يدعو إلى الإلحاد. إنّه يؤكد على الفصل بين الإيمان والدين باعتباره مؤسّسة كهنوتيّة تُصادر حريّة الوعي ولا تعترف بحريّة الضمير. كما يقرّ بتصور الدين الطبيعي الذي تُترجَم مبادئه في الأفعال الأخلاقيّة الفاضلة. الدين الطبيعي هو النقيض الفعلي للأديان الوضعيّة الوثوقيّة القائمة على الإكراه والعنف.
ينتمي لوك إلى الفضاء العقلي نفسه الذي تشكّلت فيه المبادئ الفلسفيّة للعلمانيّة، وإن كان المبدأ الأبرز، الذي تجلّى بوضوح في كتاباته حول التسامح، هو مبدأ الفصل بين الديني والسياسي. أكّد لوك أنّه من الضروري الفصل بين الدولة والكنيسة، فالأولى اتّحاد سياسي يهدف الأفراد من ورائه إلى تحقيق مصالح زمنيّة، أمّا الثانيّة، فهي اتّحاد ديني تهدف جماعة من الناس بواسطته إلى تحقيق الخلاص الروحي. يقرّ لوك في رسالة التسامح بأنّه ضدّ الاستبداد السياسي والاضطهاد الديني: «من أجل ألّا يتّخذ أحدٌ ذريعة لاضطهادٍ أو قسوة منافية للمسيحيّة الحرصَ على الدولة واحترام القوانين، ومن أجل ألّا يسعى آخرون (...) بدعوى الدين، إلى الترخيص في الإخلاص والإفلات من العقاب على جرائمهم، ومن أجل ألّا يفرضَ أحدٌ على نفسه أو على غيره شيئاً بوصفه رجلاً مخلصاً للأمير أو بوصفه مؤمناً صادقاً، (...)؛ من أجل هذا كله ينبغي التمييز بين أمور المدينة وأمور الدين، وأن توضع حدود دقيقة عادلة بين الكنيسة والدولة»[4]. إنّ الانتماء إلى مجتمع، أو إلى كنيسة تتّبع مذهباً معيّناً، ليس أمراً طبيعيّاً، أي ليس ضروريّاً، ولكنّه مجرّد اتفاق وتواضع اجتماعي، ومن ثم لا يمكن لأيّة كنيسة أن تدّعي أحقيّة الوجود على حساب كنائس أخرى، كما لا مبرّر لاعتبار شكل معيّن من أشكال التنظيم السياسي الشكلَ الأمثل أو الأفضل. الكنيسة والدولة إذن كيانان مختلفان من حيث الطبيعة ومن حيث الغاية؛ لذلك ليس هناك دواعٍ منطقيّة أو مبرّرات عقليّة لتدخّل الديني في السياسي أو العكس. تلك هي الدعوى التي أراد لوك إثباتها من خلال دفاعه عن التسامح المحدود ضدّ المعترضين عليه. ولكن في الواقع كان ثمّ تداخل بين الكيانين وتداخل بين السلطة السياسيّة والسلطة الروحيّة، ففي فترات معيّنة من تاريخ أوروبا السياسي كانت الهيمنة للكنيسة التي استعملت سلطة الدولة ووظّفتها لأغراضها (الإمبراطوريّة المقدّسة، محاكم التفتيش، الحروب الصليبيّة). وفي فترات أخرى كانت الهيمنة للدولة التي طوّعت الكنيسة واستعملتها جهازاً إيديولوجياً[5]. لقد كانت دعوة لوك إلى الفصل بين الكنيسة والدولة حلّاً للمشكلة اللّاهوتيّة-السياسيّة التي تجلّت في الاضطرابات والقلاقل التي استمرّت في إنجلترا بين عام (1640) والثورة المجيدة عام (1689).
يُفهم التسامح بوصفه حلّاً عقلانياً للمشكلة اللّاهوتيّة-السياسيّة، فالاضطهاد يؤدّي إلى الاضطراب والفوضى التي يسعى كلّ مجتمع إلى تجنّبها. التسامح في نظر الفيلسوف الإنجليزي ضرورة سياسيّة قبل أن يكون اقتضاء عقليّاً. من المعروف أنّ لوك رفض التسامح مع الكاثوليك بدعوى أنّهم يدينون بالولاء لحاكم أجنبي، كما رفض التسامح مع الملحدين؛ لأنّهم في نظره ليسوا مؤهّلين للالتزام بالعهود والمواثيق، فمن ليس مؤمناً لا عهد له ولا يمكن الثقة بالتزامه.
يمكن القول إنّ نظريّة التسامح، كما تبلورت ملامحها مع لوك وبايل، كانت تمهيداً للعلمانيّة، نظاماً سياسياً واجتماعياً، ولاسيّما أنّهما أقرّا بالمبدأ نفسه؛ أي الفصل بين الفضاء الخاص والفضاء العام. يجب التفريق بين «تسامح محدود» كالذي عبّر عنه جون لوك، و«تسامح شامل» أو تام. يقوم التسامح الشامل على مبادئ ثلاثة: لا أحد يُكرَه على اعتناق دين بعينه، ولا أحد يُكرَه على عدم التديّن (الإلحاد)، ولا أحد يُكرَه على الإيمان. قد توحي هذه المبادئ بأن هناك تشابهاً بين التسامح الشامل والعلمانية، ومع ذلك يجب التمييز بين هذا النوع من التسامح والعلمانيّة «بإضافة مبدأين (آخرين): أولاً، تمتنع السلطة السياسيّة بصورة مطلقة عن التصريح بأيّ موقف إيماني أو غير إيماني، وهذا يعني إقصاء أيّ دين رسمي حتى وإن كان مدنيّاً؛ ثانياً، لا تشترك الطوائف سواء كانت دينيّة أم غير دينيّة في تشريع القوانين، ويجب أن يكون إصدار القوانين من خلال ممثلي المواطنين كأفراد وليس كطوائف»[6]. هل يمثل التسامح مبدأ للعلمانيّة؟ لا يمكن المطابقة بين التسامح التام والعلمانيّة، فالدولة المتسامحة تستند إلى دين أو عقيدة رسميّة، وإن أمكن للطوائف الدينيّة فيها أن تشترك في التشريع على عكس الدولة العلمانيّة التي تتميّز بالحياد العقائدي[7].
يمكن القول إنّ بروز فكرة التسامح الديني في القرن السابع عشر، وانتشارها فيما بعد، كان نتيجة للصراعات المذهبيّة والحروب الدينيّة التي طغت على التاريخ الأوروبّي، وخاصّة الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانتيين. في أغلب فترات التاريخ الأوروبي كان ثمّة تحالف بين السلطة الإمبراطوريّة والسلطة الملكية من جهة والكنيسة من جهة أخرى. لم تكن الهيمنة ونقيضها؛ أي الخضوع والتبعيّة، خاصّة بدين أو بمذهب ديني معيّن، فالدين الذي يهيمن في مكان وزمان ما يمكن أن يكون في وضع الخضوع في مكان وزمان آخر. في ذلك السياق المضطرب طرحت فكرة التسامح الديني حلّاً للصراع العقائدي والحرب الدينيّة. في زمن الثورة الفرنسيّة أعاد بعض المفكّرين تقييم التسامح الديني، فبدا أقلّ أهميّة من مبدأ حريّة الضمير. يقول كوندورسي (Condorcet): «لا تسمح أيّة ديانة في البلاد التي تكون فيها مهيمنة إلّا ببعض الآراء [...] لم تنقطع السلسلة، ولكنّها صارت أقلّ ثقلاً وأكثر تمدّداً. وفي النهاية، في تلك البلدان، حيث كان من المستحيل أن تَقهر ديانة معيّنة كلّ الديانات الأخرى، ظهر ما ستتجرّأ وقاحة العقيدة المهيمنة على تسميته بالتسامح؛ أي الرخصة المعطاة من قِبَل أناس لأناس آخرين لأن يعتقدوا ما يقرّه عقلهم، وأن يفعلوا ما يأمرهم به ضميرهم، وأن يقدّموا لإلههم المشترك التبجيل الذي يتخيّلون أنّه يرضيه»[8]. لا يمكن أن يكون التسامح الديني إذن تعبيراً عن المساواة، ولذلك هو لا يرقى إلى مرتبة المبدأ الأخلاقي العام، أو الواجب الأخلاقي بالمعنى الذي نجده عند كانط (Kant)، كما لا يمكن أن يكون قانوناً ضامناً لحريّة الضمير وحقّ التديّن. حقاً يختلف معنى التسامح الإيجابي، بوصفه استعداداً أخلاقياً للاستماع والحوار، بشكل محسوس، عن معناه القانوني-السياسي: تتسامح السلطة مع ما لا تريده أو مع ما لا تستطيع منعه، ولكن ما هو مسموح به يظلّ في وضعيّة دونيّة بالنظر إلى ما هو معطى معياراً. لذلك يمكن القول إنّ الدول التي تحترم حريّة الضمير مع تفضيلها رسميّاً ملّة أو ديناً معيّناً لا تحترم تماماً مبدأ المساواة بين المواطنين، فالإلحاد مثلاً لا يحظى فيها بالمكانة نفسها التي للأديان المعترف بها رسميّاً.
لا تعترف العلمانيّة بأيّ امتياز لأيّ دين أو عقيدة دينيّة أو رؤية للعالم. كلّ الرؤى من منظور العلمانيّة متكافئة، ولها المكانة نفسها في الفضاء الذهني المشترك لجماعة معيّنة. لما كان تنوّع التصوّرات والرؤى الرمزيّة يشكّل بُعداً من أبعاد الوجود الاجتماعي، فإنّ الاستقرار الاجتماعي والسلام المدني يتطلّب في مجتمع تعدّدي حياد الدولة إزاء كلّ الأديان والعقائد. يجب ألّا تكون للدولة أو للجمهوريّة العلمانيّة ملّة أو عقيدة أو دين رسمي يعلو على العقائد الأخرى، دينيّة كانت أو غير دينيّة. يجب التنبيه إلى أنّ العلمانيّة لا تُختزل في العلاقة بين مجال السياسي ومجال الاعتقادات الدينيّة؛ إنّها تشتمل أيضاً على مسألة حريّة الاعتقاد أو عدمه[9].
يحاجج الرافضون للعلمانيّة بالقول إنّها تتعلّق بإنسان مجرّد؛ أي إنسان لا وجود له في الواقع، ففي كلّ مجتمع يعتنق الأفراد معتقدات دينيّة معيّنة يمكن أن تتدخّل في التشريع الأخلاقي والقانوني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، واضحة أو خفيّة. يستنتج خصوم العلمانيّة أنّه لا يجوز ولا يمكن الفصل بين الديني والسياسي[10]. يستطيع العلمانيّون أن يوافقوا على إمكانيّة تأثير الدين في الوعي الفردي والجماعي، مع الاعتراض على خصومهم بحجّتهم ذاتها: يتناقض تعدّد الآراء الدينيّة واختلاف المذاهب والطوائف مع حماية الحريّة الفرديّة، كما يؤدّي إلى استحالة العيش المشترك، فكلّ جماعة دينيّة أو طائفة ستسعى إلى السيطرة على السلطة العامّة، وفرض معتقدها معتقداً رسمياً على الآخرين، وهو ما يؤدّي -لامحالة- إلى ممانعة الجهة المستهدفة، وفي نهاية المطاف إلى الاضطراب الاجتماعي. تُقدَّم العلمانيّة باعتبارها «فضاءً فارغاً تتطوّر فيه كلّ الاختيارات الممكنة»[11]. كيف نتصوّر إذن رابطاً اجتماعيّاً يقوم على تعليق كلّ الروابط؟[12] يمكن القول إنّ ما يجعل العلمانيّة رابطاً اجتماعيّاً وسياسيّاً هو أنّها تُمثل مَثَلاً أعلى يجمع ولا يفرّق، يوحّد المجتمع في إطار الجمهوريّة، ويحفظ، في الوقت نفسه، الفوارق والاختلافات. «العلمانيّة هي-لنذكّر بذلك- الإثبات المتزامن لثلاث قيم هي أيضاً مبادئ للتنظيم السياسي: حريّة الضمير القائمة على استقلاليّة الشخص واستقلاليّة فضائه الخاص، والمساواة التامّة بين الملحدين واللّاأدريين والمؤمنين من ذوي الاعتقادات المختلفة، والانشغال بكونيّة الفضاء العمومي. فالقانون المشترك ينبغي ألّا يرقّي إلّا ما يمثّل مصلحة مشتركة بين الجميع. مفهومةً، بحسب هذا المعنى، ليس للعلمانيّة أن تكون منغلقة أو منفتحة. عليها أن توجد ببساطة دون أن تنتهك المبادئ التي تجعل منها مثلاً أعلى للوفاق، منفتحاً على الجميع دون تمييز»[13].
لقد أدّى تقدّم مسار العلمنة في التاريخ الأوروبّي إلى تحوّل الدين إلى إيديولوجيا، وفقدانه الامتياز الذي كان يتمتّع به في الماضي. تحوّلت العقيدة الدينيّة إلى مجرّد رأي شخصي لا يخرج عن نطاق حريّة الضمير وحريّة التديّن. «لقد انحلّت الرابطة بين الاعتقاد الديني والنظام الاجتماعي، فالمؤمن الأكثر ورعاً لم تعد لديه فكرة الانتساب إلى نظام مسيحي أخويّ، أو بالأحرى إلى سياسة الله، ما دام مقتنعاً بأنّ الناس هم المسؤولون عن بناء المدينة الجامعة بوسائلهم الخاصّة. لقد بدا له أنّ خلط الإلهي بالشؤون الدنيويّة التافهة ضرب من الكفر، (...) نحن لا نشهد على نهاية الاعتقاد الديني، بل نعاين نهاية الدين كما عُرف قديماً بوظيفته المتمثّلة في تحديد الجماعات البشريّة»[14]. لا تعني نهاية الوظيفة التقليديّة للدين نهاية دوره في تكوين الوعي الفردي، وتشكيل تصوّرات المجتمع. انطلاقاً من هذه الفكرة، جرى الاعتراض على العلمانيّة مفهومةً بوصفها فصلاً تاماً بين الدولة والدين. تفترض الدعوة إلى تطبيق العلمانيّة بطريقة صارمة أنّ في الإمكان الاكتفاء بتعريف العلمانيّة بعبارات مثل «الفصل بين الكنيسة والدولة» أو «حياد الدولة» أو «التمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام»، غير أنّ معنى العلمانيّة ليس بسيطاً كما يبدو ظاهريّاً. يميّز جوسيان ماكلور (Jocelyn Maclure) وتشارلز تايلور (Charles Taylor) بين علمنة (laïcisation) النظام السياسيوعصرنة (sécularisation) المجتمع: «العلمنة هي المسار الذي بفضله تثبت الدولة استقلاليتها إزاء الدين، في حين أنّ أحد مكوّنات العصرنة أو الدنيوة هو التقليل من تأثير الدين في الممارسات الاجتماعيّة وفي توجيه الحياة الفرديّة. وإذا كانت العلمنة مساراً سياسيّاً يندرج ضمن الحقّ الوضعي، فالعصرنة ظاهرة اجتماعيّة تتجسّد في تصوّرات العالم وأنماط حياة الأشخاص»[15]. يقتضي فهم حقيقة العلمانيّة، إذن، التفطّن إلى اختلاف المسارين، كما أنّ الخلط بين البُعد الإجرائي للعلمانيّة وبُعدها الغائي من شأنه أن يجعل معناها ملتبساً أو مشوّشاً. «العلمانيّة هي نمط حوكمة سياسيّة تقوم على مبدأين أساسيين هما: المساواة في الاحترام وحريّة الضمير، ونمطين إجرائيين هما: الفصل بين الكنيسة والدولة وحياد الدولة إزاء الديانات وحركات الفكر الدنيوي»[16]. قد يحصل في الواقع فصل بين الغايات والوسائل فتؤخذ الأنماط الإجرائيّة للعلمانيّة على أنّها غاية في حدّ ذاتها. لقد كرّس مسار العلمنة في المجتمعات الأوروبيّة استقلاليّة الدولة إزاء الدين (حياد الدولة)، وكذلك استقلاليّة المجتمع المدني إزاء سلطة الدولة، واستقلاليّة الفرد إزاء الدولة والمجتمع معاً. تعني الاستقلاليّة أمرين أساسيين: استقلاليّة الفرد باعتباره مواطناً يتمتّع بحقوق «طبيعيّة» وظيفة القوانين والتشريعات حمايتها، واستقلاليّة المجموعة السياسيّة (الشعب) باعتبارها صاحبة الإرادة العامّة ومصدر التشريع. وبطبيعة الحال، مجال تحقق الاستقلاليّة، بهذه المعاني المختلفة والمترابطة، هو الديمقراطيّة الليبراليّة. إنّ ما يجعل «هذه الصيغة الليبراليّة لسياسة الاستقلاليّة قابلة للتصديق أنّ هذه الأخيرة لا تناهض الدين من حيث الجوهر (...)، إنّها تطلب من المؤمنين، بكلّ بساطة، أن يحتفظوا بإيمانهم الشخصي بالخلاص في العالم الآخر»[17].
ساد في البلدان الأوروبيّة نموذجان للعلمانيّة: الليبرالي والجمهوري. في النموذج الأوّل، العلمانيّة هي نمط للحوكمة هدفه تحقيق التوازن بين حريّة الضمير واحترام المساواة الأخلاقيّة بين جميع المواطنين. أمّا الثاني، فهو يقوم على فكرة الهويّة المدنيّة المشتركة علاوة على احترام مبدأي الحريّة والمساواة. لقد اختلف النظر إلى حياد الدولة بحسب اختلاف النموذج المتّبع، ففي التصوّر الليبرالي التعدّدي تُطالَب مؤسّسات الدولة بالحياد وليس الأفراد. وفي التصوّر الجمهوري يُطالب الأفراد بأن «يفرضوا على أنفسهم واجب التحفّظ والحياد، وذلك بالامتناع عن إظهار إيمانهم، سواء عندما يؤمّون المؤسّسات العموميّة، أم عندما يدخلون في الفضاء العمومي»[18]. من المعروف أنّ النموذج الليبرالي التعدّدي ساد في الدول الإنجلوسكسونيّة، أمّا النموذج الجمهوري، فقد تحقق بصورة خاصّة في فرنسا.
تتحدّد طبيعة العلمانيّة بالنظر إلى العلاقات التي توجد بين الدولة والدين. فإذا كانت «العلمانيّة الصلبة» يمكن أن تحدّ من حريّة التديّن باسم فهمٍ معيّنٍ لحياد الدولة وطبيعة المصلحة العامّة، فإنّ «العلمانيّة المنفتحة» تقوم على حريّة الضمير والتديّن[19]، كما أنّها تقبل بكنيسة رسميّة أو بدين رسمي.
[1] - M. Gauchet, La démocratie contre elle-même, p. 99
[2] - دومون، لويس، مقالات في الفردانيّة: منظور أنثروبولوجي للإيديولوجيا الحديثة، ترجمة بدر الدين عرودكي، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2006
[3] - Bayle, Ce que c'est que la France toute catholique, Ed. E. Labrousse, Paris, Vrin, 1973, p. 36
[4] - لوك، جون، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988، ص69
[5] - لوكلير، جوزيف، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص100-108
[6] - كنتزلير، كاترين، ما العلمانيّة؟، ترجمة محمّد الزناتي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2017، ص21
[7] - المرجع نفسه، ص22
[8] - Condorcet, Esquisse d'un tableau historique des progrès de l'esprit humain, Huitième époque, Garnier-Flammarion, p. 198-199. Cité par Pena-Ruiz, Qu'est-ce que la laïcité, p. 69
[9] - كنتزلير، كاترين، ما العلمانيّة؟، مرجع سابق، ص10
[10] - المرجع نفسه، ص29
[11] - المرجع نفسه، ص34
[12] - المرجع نفسه، ص35
[13] - Henri Pena-Ruiz, Histoire de la laïcité. Genèse d'un idéal, Paris, Gallimard, 2005, p. 134
[14]-Gauchet, La démocratie contre elle-même, p. 102
[15]-Maclure et Taylor, p. 24
[16]-Ibid., p. 33
[17] - غوشيه، مارسيل، الدين في الديمقراطيّة، ترجمة شفيق محسن، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2007، ص78
[18]-Maclure et Taylor, p.52
[19]-Ibid.,p.37