الحداثة: الطريق إلى التّشيّؤ
فئة : مقالات
ثمة شبه إجماع بين الباحثين على صعوبة تقديم تعريف لمفهوم الحداثة، والتباس وغموض يكتنفان مدشن هذه القطيعة بين العصر الوسيط والعصور الموسومة بالحداثة، وقد يكون مرد هذه الضبابية التي تلف موضوعا شائكا كمفهوم الحداثة هو شساعة المجالات التي طالتها واخترقتها بنية التحديث[1]، وهو ما يجعل من العسير فعلا تتبع كل التحولات الحاصلة؛ في الفن واللغة والفكر الديني والفلسفي والاقتصاد والسياسة... إلخ. وبالتالي، استعصاء الحسم في تحديد قول فصل في ماهية الحداثة وما يحوم حولها من إشكاليات من قبيل أولى عتباتها وأول واعٍ بانبثاقها وسماتها الأساسية..
غير أن صعوبة التعريف ليست ناجمة عن عسر الإمساك بالإرهاصات الأولى لبروز المفهوم فحسب، بل إن التعريف مستعصي لطبيعة جوهرية في الحداثة، أو هكذا يطيب لمنظري المفهوم المعاصرين أن يضفوا عليها، فحسب أحد الفلاسفة المعاصرين الحداثة "مشروع لم يكتمل بعد"، بل وقد ذهب بعضهم إلى أن الحداثة في صيغتها الليبرالية هي نهاية التاريخ، وهذا التهويل بالذات هو ما يجعل الدلالة تنفلت من عقالها، وقد أشار إلى هذه المفارقة عبد الله العروي في كتابه «Islam et modernité»، فاستنادا إلى قاعدة هيجيلية تقرن فهم ظاهرة ما ببلوغها أوجها والوعي بفسيفسائها الكامل تاريخيا يتساءل عبد الله العروي عن إمكان تعريف الحداثة التي لم تكتمل بعد، بل وتُقدَّم كما لو كانت مسار مشروع بلا نهاية، هل نستطيع تعريف المجهول؟[2].
هذا على مستوى التعريف الماهوي؛ أي ما يكون به الشيء هو هو، لكن في المقابل هناك تقاطعات بين الحداثة ومفاهيم أخرى من قبيل العقلانية والذاتية والحرية، وهذه المفاهيم مترابطة بينها بشكل جوهري وكل منها يقود إلى الآخر، فاستخدام العقل يتطلب ثقة في النفس؛ أي تقديسا لحق الذات في التفكير، كما أن العقلانية تنسدل عن اختيار حر لا يخضع لأية وصاية، ومن هنا نفهم كيف أن كانط جمع بين كل هذه المحددات في تعريفه لمفهوم "التنوير"، إذ يختزل المفهوم في قدرة الإنسان على توظيف عقله في ممارساته الفكرية واليومية من غير خضوع لأية وصاية خارجية؛ أي الخروج من حضيض الطفولة الذي يزج الإنسان بنفسه فيه والعروج في منازل الرشد.
أحدثت الحداثة من خلال منهجها العقلي الصارم نقلة نوعية في تصورها للطبيعة وما تفرّع عن ذلك من نتائج مبهرة
وقد يبدو واضحا لقارئ تاريخ أوروبا، أن الغلو في العقلنة هي رد فعل على معارك ضارية دارت بين الإنسيين والتنويريين وخصومهم من رجال الدين[3]، وموجة العقلنة لم تطل الإكليروس فقط، بل كذلك من يسمون بالمدرسيين، وهؤلاء كانوا يتناولون قضايا "علمية" بمنهج نقلي كُتبي، لهذا نجد الفيلسوف "بيكون" أحد مؤسسي المنهج العقلاني التجريبي البديل لهذه "المدرسية" يصدر أحكاما قاسية عليهم، يقول عن الفلسفة القديمة: "إنها نوع منحط من المعرفة أنشأها المدرسيون الذي كان لهم ذكاء قوي وحاد، وأوقات فراغ طويلة، وقراءات قليلة التنوع (...) لكن ذكاءهم كان حبيسا في زنزانات كُتاب قلائل، أهمهم أرسطو حاكمهم المستبد"[4].
ويمكن أن نعد الفيلسوف الفرنسي ديكارت هو رائد المنهج العقلي، فهو الفيلسوف الذي أعلى من شأن العقل، واعتبره المعيار الوحيد للحسم في القضايا الفكرية، ويُعد "الشك المنهجي" بوابة هذا المنهج الجديد، فكأنه بذلك قد فتح أوراش مراجعة كل القضايا التي كانت تشغل العقل الأوروبي؛ التشكيك في حقيقتها وإعادة بنائها على أساس عقلي مشترك، ومن هنا قولته المشهورة: "العقل أعدل قسمة بين الناس"[5].
لكن "قنبلة" الشك المنهجي في أهم مسألة خلافية بين العقلانيين ورجال الدين؛ ألا وهي الفكر الديني، لم يفجرها ديكارت؛ فالمعروف عن هذا الأخير أنه كان يحابي رجال الدين، بل إن ديكارتيا آخر سيسير بمنهجه الشكي إلى أقصى مداه ويسقطه على دراسة النصوص الدينية، وذاك هو الفيلسوف الهولندي سبينوزا، يقول حسن حنفي في مقدمته التحليلية لكتاب سبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة": "لقد قيل دفاعا عن ديكارت أن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم، إنما هو موقف ذكي، اتخذه ديكارت حتى يحتوي رجال الدين من الداخل. ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة، يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في سبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه"[6].
لننطلق من آخر عبارة للمفكر المصري حسن حنفي عن تناثر شظايا ديكارت في العصر الحديث، لننظر إلى تجليات ذلك في مستويات مختلفة من المجالات التي طالتها العقلانية والشكل الذي صاغته الحداثة لها، وهي تخترقها وتعيد بلورتها من جديد. إن الحداثة قد حوّرت مفهوم المعرفة في حد ذاته وأعادت تقييمه وتقويمه، فإذا كانت المعرفة الحقة والمعتبرة في الماضي هي تلك التي تنحو نحو التجرد والتأمل، وتوظف العبارة الشعرية والأدبية للتعبير عنها، فإنه على العكس حطت الحداثة من هذا النوع من المعرفة، ورفعت من شأن المعرفة التقنية القائمة على الحوسبة والضبط الكمي والجمود والحياد القيميين والاستعاضة عن القيمة بالحساب من خلال معادلات رياضية دقيقة، والمعرفة الحداثية تقنية لا بمعنى أنها توظفها فقط في مسائلها الشائكة، بل بمعنى آخر وهو خضوع المعرفة نفسها لمتطلبات التقنية، وهذا ما يسميه "ماكس فيبر" بالترشيد كما سنرى في هذه المقالة، وهكذا "فالعلم الحديث تقني في جوهره؛ أي خاضع لما تقتضيه التقنية بالدرجة الأولى"[7].
كما أحدثت الحداثة من خلال منهجها العقلي الصارم نقلة نوعية في تصورها للطبيعة وما تفرّع عن ذلك من نتائج مبهرة، لقد كانت الطبيعة في الماضي فضاء مُلغزا ينظر إليه عادة برؤية سحرية خرافية حدّاً أدى إلى ظهور ما يسمى بالنزعة الإحيائية Animisme؛ أي الاعتقاد في وجود أرواح كامنة وراء كل جسم طبيعي أو ظاهرة ما طبيعية. أما الحداثة، ومع غاليلي غاليلو بالضبط، فقد نسف هذه الرؤية السحرية وعرى الطبيعة من كل قُدسية، وألغى كل تراتبية أنطولوجية موروثة من القرون الوسطى (مثل ما تحت القمر وما فوقه... إلخ)، إن الطبيعة مجرد أشكال هندسية قابلة للحساب والاستغلال واستخراج ما يكمن فيها من منافع قد تفيد في تجويد الحياة الإنسانية. لقد تحول مع عصر الحداثة موقف الإنسان من الطبيعة وانتقل من شعور الخوف والرهبة والتقديس، أو حتى النظر إلى الطبيعة كمنبع للاستيحاء الجمالي والشعري، إلى الرغبة الموضوعية في السيطرة والهيمنة والاستغلال. وشكل الكشف العلمي لعدم مركزية الأرض في الكون عاملا مهما اعتُبر بمثابة "ثورة ثقافية" لما كان له من تبعات خطيرة على الفكر، وأهمها بالذات هو ما أشرنا إليه من نزع القداسة عن الطبيعة، فالأرض مثل أيّ كوكب آخر من حيث مادته يسبح في فضاء لامتناهٍ، وهو امتداد متجانس وكمي بالخصوص، وهذه الكمومية نفسها تعد بؤرة الرؤية الحداثية للطبيعة، فهي لم تعد باكتشاف الجواهر والكيفيات، بل تعنى فقط بالكم والعلاقات القائمة والسببية القائمة بين مكونات الطبيعة، حتى يسهل التحكم فيها وإخضاعها لسيطرته.
وقد طال اختراق الحداثة لبنية التاريخ كذلك، ففي الماضي حيث يشكل الدين المرجع الأساسي لكل شيء، كان ينظر إلى التاريخ على أنه ظل لله في الأرض، فالانهزام في الحروب عقاب إلهي، والمنتصر الظافر لم ينل ذلك إلا لرضى الآلهة عنه، والكوارث الطبيعية هي الأخرى غضب إلهي. أما الرؤية الحداثية للتاريخ، فقد فصلت بين الميتافيزيقا والزمن؛ إن التاريخ سيرورة Processus وصيرورة تتحكم فيها عوامل موضوعية، قد تكون اقتصادية (ماركس) أو سيكولوجية (فرويد) أو مناخية وطبيعية (مونتسكيو)... إلخ. لكن الأهم من هذا هو ذلك التوتر العنيف الذي قام في عصر الحداثة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فقد كانت الرؤى اليوتوبية هي السائدة في ما مضى، ويُنظر عادة إلى نقطة ما تنتمي إلى الماضي بأنها المثال الذي يجب إعادة تشكيل التاريخ لينطبق ويتوازى معه؛ أي إن الماضي يصير معياريا. أما الحداثة، فقد أدارت وجهها بعنف وتعصب إلى المستقبل، ولم ترَ في الماضي إلا الجهل والخرافة والتخلف، ومن هنا ظهرت فلسفات ذات طابع إيديولوجي أكثر منها علمي آمنت بالتقدم المستمر، واعتبرت الحاضر نفسه لحظة ضاغطة وعابرة، نقطة مطاطة تقذف بنا دائما إلى الأعالى للارتقاء والتطور. إن عصر الحداثة قد ولى وجهه قِبل المستقبل وتنكر لكل ماضيه، وهذا ما يعبر عنه أحدهم بقوله: "عصر الحداثة هو العصر الذي يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل؛ فهو العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل وينفتح على الجديد الآتي، وبالتالي لم يعد يستمد قيمته ومعياريته من عصور ماضية، بل يستمد معياريته من ذاته، وذلك عبر تحقيق طبيعة جذرية مع التراث والتقليد"[8].
إنه من الواضح أن الحداثة قد علمنت كل شيء، فلم يعد لأي شيء متعال أي حضور في منظومته المتشابكة والمحكمة النسج، لكن خطورة هذه الرؤية ظهرت أبشع ما ظهرت في إسقاط الفكرة على الإنسان، لقد كان موقف الحداثة من الطبيعة صحيحا إلى حد بعيد؛ فالطبيعة مُسخرة حتى في الديانات التوحيدية كالإسلام للإنسان، وهو مطالب باكتشافها وتسخيرها لنفسه، لكن النظر إلى الإنسان من هذا المنظور الحسابي والعلماني قد ألغى خصوصيات كثيرة ميزته عن مكونات هذا الوجود، فبدءًا من داروين الذي اعتبر الإنسان شكلا أرقى لسلالات حيوانية، وهي النظرة العلمية التي طبقتها النازية في سياستها فكان لها تبعات وخيمة على مستقبل البشرية، إلى فرويد الذي اعتبر الإنسان كائنا جنسيا بالأساس، وهو ما تلقفته الإباحية المعاصرة، فقدمت الإنسان كركام من اللحم يركض لاهثا وراء اللذة. كانت النتيجة هي عدم الفصل بين الإنسان وباقي الموجودات، سواء في حاجياته الطبيعية أو في فيزيولوجيته. إن الفرق كمي لا نوعي، وهذا ما أدى إلى التسوية بين الإنسان والحيوان، وبعدها إلى المطابقة بينه وبين الشيء.
وما يقال عن الفرد يسري على الاجتماع كذلك، لقد غالى المجتمع الحداثي في تطبيق التقنية في تنظيم المجتمع، وهو ما يسميه ماكس فيبر بالترشيد، وقد عرفها عبد الوهاب المسيري بقوله: "الترشيد هو عملية علمنة تعني إعادة صياغة المجتمع والإنسان على هدي القوانين العلمية المادية الصارمة الكامنة في المادة والمتجاوزة للإنسان"[9]. وقد نلحظ أن هذا الواقع قد فرضه التمطيط المنطقي المسترسل بلا أيّ ضابط لمنهجيات علمية كالموضوعية مثلا، فقد كان من محامد المنهج العلمي الجديد هو فصل الذات عن الموضوع، من هنا فقد كان منتظرا أن يتم تغييب "الذات" بمعناها الديني والقيمي الأخلاقي في تنظيم المجتمع، وعدم الاكتراث إلا بالجانب المادي والتقني الظاهر، فكان من إفرازات هذا الوضع إخضاع الإنسان نفسه للتنقية كما أشرنا سالفا، يقول عبد الوهاب المسيري: "يحرص العلم الحديث على الموضوعية والتجرد من العواطف وعلى الحياد وعدم الاكتراث بالغائيات والأخلاقيات الإنسانية، ويظهر هذا في الهجوم الشرس على الطبيعة البشرية كمفهوم مرجعي للعلوم الإنسانية، وهو ما ينمي في الإنسان المقدرة على الانفصال عن المضمون الإنساني والأخلاقي"[10].
ومعلوم أنه في غياب أي وازع أخلاقي أو مرجعية قيمية ودينية تتلبس الأشياء وتختلط الأوراق، ذلك أنه لا يكون في أيدينا أي معيار من أجل التقييم، وهذا ما نلمسه في بعض الفلسفات المعاصرة التي لم ترَ غير "النسبية" حقيقة أحادية لا تنافسها في مرجعيتها أية حقيقة أخرى، وهذه نتيجة كارثية إذ "تؤدي إلى المساواة بين كل الأمور في جميع الوجوه وإلى تسويتها، وهذا يؤدي إلى ضمور الحس الخلقي وإلى تزايد المقدرة على الحكم على ما هو إنساني بمقاييس إنسانية"[11]
وقد أدرك الفكر الغربي الناقد الذي وقف على كارثية الترشيد بمفهومه الفيبري، خطورة العقل الأداتي التي ظهرت بعض انعكاساته في القرن العشرين من بروز أنظمة توتاليتارية شمولية لا يمكن الشك في خلفياتها الحداثية والتقنية، إلى الإبادات الجماعية، والحملات الاستعمارية التي كانت "المرحلة الأعلى من الرأسمالية" على حد تعبير "لينين"، لكن أخطرها كان على العقل نفسه، فالإنسان الذي تحول إلى رقم حسابي في معادلة رياضية، صار هو الآخر لا يفكر إلا بلغة الأرقام، وانتفت عنه بالتالي صفة الإنسانية ككيان معقد يندغم فيه بالإضافة إلى العقلي ما هو جمالي شعري وديني روحي وقيمي أخلاقي، إن الإنسان الغربي بعبارة فيلسوف ناقد منتم إلى مدرسة فرانكفورت كـ "هربرت ماركيوز" "إنسان ذو بعد واحد"، تتحكم فيه محددات خارجية وتصيغ له مشاعره وطموحاته، وهكذا فالحداثة التي أرادت القضاء على العبودية قد دشنت عالما مغلقا يخضع فيه لعبودية ناعمية لا ينتبه إليها، ذلك أن الإعلام وانتشار ثقافة الصورة قد اخترق الإنسان، وجعله مطاوعا لرغباته، وهذا ما يسميه عبد الوهاب المسيري بـ "التدجين".
إن الحداثة قد علمنت كل شيء، فلم يعد لأي شيء متعال أي حضور في منظومته المتشابكة والمحكمة النسج
إن الفكر الغربي الذي دشن عصر الحداثة بالعقلنة، قد أخضع الإنسان نفسه لهذا المنهج الترشيدي ما جعله يسقط سقطة رهيبة في آفة "التشيؤ"، فهو لم يكتف بتشيئ الأشياء ونزع الطابع السحري عنها، بل إن الإنسان نفسه في هذه المنظومة قد تحول إلى "شيء" تحت ضغط الإكراه الاقتصادي المتنامي والاشرئباب المستعر للربح، فأفرغه من حاجياته الروحية والأخلاقية، ويبدو أنه لم يتم الالتفات بعد إلى صيحات مدرسة فرانكفورت التي وقفت على هذا الانسداد الإنساني المضني، ودعت بالتالي إلى "عقل تواصلي" بدل "العقل الأداتي" (هابرماس) وإلى الانفتاح على الفنون والكتب المقدسة من العهد القديم والحديث (أدورنو وهركهايمر). وهي الصيحة نفسها المدوية لفيلسوف مغربي لا يفتأ يرددها في مؤلفاته بنقده للفصل بين العقل والإيمان والأخلاق والشرع، لكن من منظور خصوصية مجالنا التداولى الإسلامي، ودعوته بالتالي إلى تلبية حاجيات القلب نفسه، يقول طه عبد الرحمن في سياق حديثه عن العقل البديل: "إن العقل الموسع هو العقل الذي تزدوج فيه قوى الإدراك، بحيث تكون كل واحدة من هذه القوى الإدراكية عبارة عن قوتين اثنتين، إحداهما قوة خارجية أو حسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها وقوانينها، والثانية قوة داخلية أو معنوية تقف على البواطن والأسرار ويشترط فيها التحقق بالعمل الديني"[12].
إننا ندرك إدراكا قاطعا من المنظور التاريخي أن الحداثة قد أسهمت بتطبيقها للمنهج العقلاني والتقني في تحقيق رفاهية مادية للإنسان الغربي خصوصا؛ فالعالم الغربي على سبيل المثال لم يعرف منذ الثورة الصناعية أية مجاعة، من هنا فعلينا نحن كذلك أن نأخذ بقسط وافر من هذه الحضارة في جانبها المادي، لكن لابد من الحذر من تغول التقنية والرضوخ لإملاءاتها التي لا تستقر وتهدأ حتى تلتهم الإنسان نفسه، فتصير هي المؤله الوحيد، ويصير الإنسان هو أحد الأشياء التي تصنعها، وهذا ما انتبه إليه فلاسفة الغرب، يقول محمد سبيلا: "التقنية كما أوضح هيدجر ليست مجرد تطبيق للعلم عبر إرادة الإنسان، بل هي ما يحدد للعلم نمط معرفته المطلوب"[13].
إنه لابد من التفاتة إلى الأخلاق الإنسانية الأصيلة التي دافع عنها الأنواريون الأوائل ونتطلع لإرسائها بالتربية وقد صدق الرسول الكريم القائل: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولابد من إصغاء لأنين الروح الباحثة عن غذائها في زحمة الماديات "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها" [الشمس: 9-10].
[1] معلوم أن ليس كل تحديث حداثة، فالفكر الفلسفي يميز بين "الحداثة" و"التحديث"؛ الحداثة هي الروح والمعنى اللذان يسريان في كل إبداع من الإبداعات التي تسم العصر الحديث، بينما التحديث هو الجانب المادي من هذا الإبداع، وقد رأى محمد الشيخ أن الفرق بين الحداثة والتحديث كالفرق بين "المعاني" و"الأواني".
انظر: محمد الشيخ، ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟. (البيضاء: منشورات الزمن. 2006)
[2] يقول عبد الله العروي:
«Si l’ère moderne n’est pas encore achevée, comment se mettre d’accord sur sa signification? Allons plus loin et disons: et si la modernité était précisément un processus sans fin, comment pourrait-on la définir?».
Abdellah Laroui, Islam et modernité. (Beyrouth: Le centre culturel arabe. 2009) P 68
[3] انظر فصلا بعنوان: "مشهد ثقافي وديني جديد" في:
محمد حبيدة، تاريخ أوربا: من الفيودالية إلى الأنوار. (الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر. 2010) ص 85 وما بعدها.
[4] عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية: إشكالية التكون والتمركز حول الذات. (بيروت: المركز الثقافي العربي. 1997) ص19
[5] يقول ديكارت:
«Le bon sens est la chose du monde la mieux partagée»
Descartes, Discours de la méthode. Livre de poche. 2000. p67
[6] سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة. ترجمة وتقديم: حسن حنفي. مكتبة النافذة. 2005. ص 11
[7] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة. (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر. 2007). ص 8
[8] نفسه، ص 12
[9] عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان. (دمشق: دار الفكر. 2013) ص 134
[10] نفسه، ص 137
[11] نفسه.
[12] طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم. (بيروت: المركز الثقافي العربي. 2012) ص107
[13] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة. ص 8